مفاهيم ينبغي أن تصحح (القسم الأول)
سالم عبد الله بابا شيخ
كنت قد كتبت مقالة بعنوان (كيف ندعو، ومن أين نبدأ)، فأردت أن أعقبها بمقالة على غرار المقالة السابقة، لكن بعض الأمور حالت بيني وبينها، وتأخر موعد تقديمها للنشر، وذلك لأنني كنت أرى أننا ابتعدنا عن الجادة الصحيحة، وابتعدنا عن جوهر الدين وفهمه فهماً صحيحاً ودقيقاً، وانشغلنا بأمور هي كالسراب، مقارنة بالدعوة الإسلامية السمحة المنجية للبشرية.
فالدعوة لا تأتي إلا بعد رسوخ الإيمان في القلوب، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والعمل الصالح، والقيام بالإصلاح، أي يجب أن نعرف بتلك الأشياء قبل قيامنا بالدعوة، ونجعل هذه الأشياء هي التي تعرّفنا بالناس قبل دعوتنا لهم إلى دين الله تعالى، حتى تكون الدعوة أكثر منطقية عند الناس وأقرب للقبول، أو على الأقل تصاحب الدعوة هذه الأشياء مصاحبة ظل الشيء للشيء.
فالمشاكل التي تعرقل الدعوة والعمل الجماعي، وتقلل تأثيرها – في نظري – تكمن في عدة أمور:
أولاً: في الخطأ الذي يدخل في المفاهيم والتصورات والأفكار والمواد التي تستخدم في الدعوة، وكذلك الآليات.
ثانياً: في الأخطاء التي تدخل في سلوكياتنا بين الناس والمجتمع؛ كأفراد وجماعات.
ثالثاً: في انشغالنا بالأمور الثانوية والروتينيات، وأن نحسب لأمورنا الدينية والدنيوية حسابات غيرنا، أو حسابات الجاهل العاصي، ونحذو حذوهم في كل شيء، ونحاول أن نتشبه بهم، ظناً منّا بأننا إذا فعلنا مثلهم فسوف نجاريهم في كل شيء، ونتصدى لهم، ونستطيع منازعتهم بنفس أساليبهم، بالرغم من أن طريقتنا مختلفة عن طريقتهم، وكذلك أساليبنا تختلف عن أساليبهم؛ نوعاً وكماًّ وكيفية. نعم، نأخذ بالأسباب المتاحة لنا، لكن يبقى طريقتنا وأساليبنا إيمانية ربانية.
فالمشاكل التي تأتينا من النوع الأول، تشل الحركة، وتقلل البركة، ولا نكاد نستطيع إنزال ما ندعو إليه على أرض الواقع، لفقدانه التناسب مع الإنسان وحياته ومجتمعه، وكذلك واقعه، كما أنها تفقد الدعوة خاصية العلاج للإنسان ولمشاكله المتنوعة، وبعبارة أخرى الفهم الخاطئ والسقيم للدين وللعمل الإسلامي والإصلاحي يجعل من المسلم عنصراً غريباً وغير مرحب به في مجتمعه وواقعه، فما يفسده أكثر مما يصلحه، وهو أقرب إلى الجهل منه للبصيرة، التي هي أساس الدعوة: [قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ](يوسف: ١٠٨).
وأما المشاكل التي تأتينا من النوع الثاني، فهي تبعد الناس عنّا، وتنفّرهم، وتعطيهم الانطباع السيء، وبالتالي تكوّن بيننا وبين الناس علاقات سيئة، لأن الناس بطبيعة الحال توزننا بسلوكياتنا وأساليبنا، بل الناس يعرفون بداهة أن صاحب الدعوة الدينية يجب أن يكون مثالياً، لذا يكبّرون أي صغيرة يأتي بها الداعي، ويعيبونه بها.
نعم ليس المسلم أو الداعي بمعصوم، لكن السلوكيات المنفّرة – والتي هي أساساً ليست من الدين، بل كسيت بكساء وغلاف ديني – من شأنها أن تفسد الدعوة والعمل أيما إفساد، لذا يجب أن ندرس سلوكياتنا المحسوبة على الدين حساباً دقيقاً، ونغربل هذه السلوكيات غربلة؛ على مستوى الجماعة والأفراد، بحيث لا يبقى منها إلا ما هو أصيل.
وأما المشاكل التي ترجع الى النوع الثالث، فلها تفسير بسيط، وهو أننا بأنفسنا قد أصبحنا كالمرض للدعوة وللعمل الجماعي، لأننا نسير عكس الاتجاه الذي تتجهه الدعوة الإسلامية، ونعمل ضد مقاصدها. لذا، نرى عدم تقدم الجماعات الإسلامية، بالرغم من مرور وقت طويل على وجودهم في بين الناس.
فالدعوة إلى الله تعالى، وإلى دينه، ليست عبارة عن تعليب الإسلام في علب صغيرة من الفكر أو الاجتهاد البشريين، وتأطيره، وتجميعه في فكرة معينة، وجمع الناس حولها، وتشكيل مؤسسة أو جماعة لها، ومعاملة الناس على هذه الأسس.
كما أنها ليست عبارة عن دراسة المصادر الإسلامية العقدية والفقهية، وما إلى ذلك، ونشرها بين الناس، ومحاولة تطبيق ما في الكتب والمذاهب على أرض الواقع.
وهي ليست عبارة عن محاسبة الناس على جهلهم وبعدهم عن الله تعالى، وعن دينه، وخلق الصراع معهم حسب نظرتنا الخاصة للدين وللحياة.
نعم، إن الدعوة الإسلامية ليست عبارة عن فعاليات تنظيمية، أو سياسية، أو حركية، للحصول على نتائج مادية، للوصول إلى منصة الحكم في المجتمع.
وهي ليست عبارة عن الدعوة لإرجاع الخلافة، أو تأسيس خلافة نمطية، كالنمط السابق في تاريخ المسلمين وأيامهم.
ولا هي مظاهر من إطلاق اللحى، وقصر الشوارب، ولباس خاص يميزك عن غيرك، ولا هي سلوكيات وألفاظ معينة تجعلك مختلفاً عن غيرك.
لا، إنها ليست تمسكاً بالفروعيات في الدين، وجعلها كأنها من أصول الدين، ومن جوهره ومبادئه، وخلق النزاع مع المجتمع عليها.
الدعوة الإسلامية – باختصار شديد – هي التفاني من أجل إيصال الهداية والخير إلى الغير، والصبر على تحمل المشاق في سبيل ذلك، والتضحية من أجل الناس، وبذل النفع المعنوي والمحسوس لهم، حتى يتقبلوا الهداية، ويدخلوا في دين الله طواعية. إنها – بكل بساطة – عملية إنقاذ؛ عملية إنقاذ الإيمان بالنسبة للمسلمين، وليست لأسلمة الشعوب الإسلامية.
إن الدعوة الإسلامية الصحيحة يجب أن لا تفتقد خاصيتي الرحمة، والتجربة الشخصية معها. فالمسلم رحيم، وفي الوقت نفسه هو نموذج مثالي في الواقع لما يدعو إليه، فهو قد مرّ بالتجربة الفعلية، وكوّن لنفسه شخصية مرموقة بين الناس، أي أصبح ممن يقتدى بهم، وصار المثل الأعلى الذي يشار إليه، ويتأسى به.
فعندما نقول إن الدعوة يجب أن لا تفتقد خاصية الرحمة، فإننا نقصد بهذا أن الأساس في إنزال الكتب، وإرسال الرسل، هو أن الله رحيم عباده، وأنه لم يرد تركهم في جهالاتهم وحماقاتهم وذنوبهم وعلاقاتهم السيئة التي تربطهم، وتعرضهم لخطر الخسران في الدنيا والآخرة.
فما دمنا نعرف أن الله تعالى أرسل – رحمة منه – رسوله محمداً (صلى الله عليه وسلم)، وأنزل على قلبه المبارك القرآن الكريم، ووصفه بالهدى والرحمة، ووصف رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالرحمة والرأفة، ووصفه بأنه حريص على هداية الناس، فعندئذ يجب علينا نحن أيضاً أن نكون رحمة للناس، وأن نكون حاملين للدعوة التي هي الرحمة في باطنها وظاهرها، وإيصالها للناس بالحرص منا على هدايتهم وإصلاحهم، ومشاركتهم في همومهم، وأن نلبي لهم حاجاتهم، ونقدم لهم العون المادي والمعنوي.
وعندما نقول خاصية التجربة الشخصية، فإننا نقصد بذلك أن المسلم يجب أن يكون قد زكى نفسه، وأصلحها، وهيئها بمقدار كبير للدخول إلى مواجهة الصعاب من أجل تغيير الإنسان، وتغيير واقعه. لأن شخصية المسلم ضرورية في نجاح الدعوة، فالشخصية الإسلامية التي يريدها الله تعالى هي سر الدخول في القلوب، وسبب الحصول على رضا الناس، فهي هوية المسلم أينما حل وارتحل، فهي تتكلم عنه دوماً قبل أن تتكلم الألسن، بل وهي شاهدة على نبله، وصلاحه، وصدقه، ومؤهلاته.
نعم، هناك جملة من الأخطاء الدعوية والحركية وقعنا فيها وتخبطنا فيها تخبطاً شديداً، فذقنا لأجلها المرّ، وتحملنا من أجلها الكثير والكثير من الصعوبات والمشاق، ولم تكن إلا أخطاء بشرية حسبناها ديناً وتديناً، وهدرنا من أجل تحصيلها الطاقات والجهود الجبارة خلال ما يقارب القرن بعد سقوط الدولة العثمانية.
لقد آن الأوان للمراجعة والتجديد في ميدان الفكر والأسلوب، والدعوة والوسائل، وحان الوقت أيضاً لعرض تلك الأخطاء، وبجرأة وصراحة، لأن هذه الأخطاء التي وقعنا فيها هي من صنيعة أفكارنا واجتهاداتنا، وليست من مبادئ هذا الدين في شيء، وإنما هي تصورات ومفاهيم قاصرة جعلنا منها ديناً، وجعلناها قضية تستحق التضحية والكفاح من أجلها، وبعض هذه الأخطاء – التي سنطرحها فيما بعد – هي عبارة عن قصور فهمنا للواقع وللدين والشريعة معاً في آن واحد.
في مفهوم الحاكمية لله تعالى:
لقد فهم الكثيرون الحاكمية فهماً خاطئاً، بحيث خلقنا لأنفسنا إشكالية كبيرة غير قابلة للحل، وشكلنا أيضاً لأنفسنا عقبة أمام الدعوة والعمل الجماعي، لا ترفع هذه العقبة أمامنا ما دمنا نحمل ذلك المفهوم الخاطئ للحاكمية في رأسنا وفكرنا. فحاكمية الله تعالى ثابتة له؛ سواء تحاكم الناس إلى حكمه أم لم يتحاكموا إليه، وسواء حكموا بحكمه أم لم يحكموا بحكمه. فحاكمية الله تعالى ليست شيئا مسلوباً منه سبحانه، حتى نحاول نحن جاهدين لإرجاعها إليه، كما يتصور البعض منا موضوع الحاكمية!
فالحاكمية كمصطلح ديني وعقدي أيضاً دخل في الفكر الإسلامي منذ نشأة الخوارج أيام الفتنة وإلى الآن، فمنذ أن رفع الخوارج شعارهم (إن الحكم إلا لله)، ابتلي المسلمون بهذه الفكرة. وللأسف، توسعت دائرتها على يد بعض العلماء والمفكرين، وتشددوا فيها كثيراً، كما قاموا بالدعوة إليها وتصويرها على أنها ركيزة مهمة للإيمان، وأنها الفيصل بين الإيمان والكفر والردة، ومن هنا فتح باب تكفير المسلمين.
فمفهوم الحاكمية؛ بالمفهوم القديم عند الخوارج، والجديد الآن، يتفقان ويتشابهان في كثير من أساسيات الفكرة ومسائلها، وحتى في الأسلوب نفسه، اللهم إلا في أشياء يسيرة، وهي بسبب اختلاف الأزمنة وتطور البشرية. وليس هنا موضع ذكر وجوه الاتفاق والاختلاف بينهما.
نعم، فكرة تفسير الحاكمية بالسلطة غيّرت مسار الدعوة، بل وأثرت على الحركة الدعوية والإصلاحية أثراً سلبياً، وقلبت المبادئ في الدين الإسلامي، وأصبحت من الوسائل التي تولّد الأفكار المتشددة والجماعات المتطرفة، التي تعيث في الأرض فساداً، وتحل الدماء والأعراض والأموال باسم الله واسم الدين، بل فتحت المجال أمام الدول العظمى كي تتدخل في العالم الإسلامي، وتنشئ مذاهب إسلامية هدامة تخدم مصالحها.
فالحاكمية أمر يتعلق بالجانب الربوبي، أي الذات الإلهية، ولا دخل لها بقضايا الحكم والسلطة وأمور السياسة. ولا يسعنا هنا أن نذكر طرق وكيفية مجيء كلمة الحكم والحاكم والتحاكم ووجوهها في القرآن الكريم، ومن أحب فلينظر في تلك الوجوه التي جاءت فيها هذه الكلمة ومادتها، لكن نظرة غير تقليدية، نظرة عميقة تتسم بالتمحيص والتحقيق والمقارنة، فعند ذلك يتبين لك الوجوه والفروق.
ولو أننا نظرنا إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، نرى بأنه – عليه الصلاة والسلام – لم يسمّ سلطته وإدارته في المدينة بالحكومة، فضلاً عن أن يسميها حاكمية لله، لكن جاء استعمال هذه الكلمة كمصطلح على ألسنة المتأخرين من الناس. ولما قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق، أريد بها باطل)، فإنه كان يشير إلى اختلاف الأفهام بين الصحابة وغيرهم في فهم الحكم والحاكمية. وكذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يسم (المدينة)، التي كانت مقر نفوذه وإدارته، بالدولة، بل كان – عليه الصلاة والسلام – لما خيّر بين النبوة والعبدية، وبين النبوة والملك، اختار النبوة والعبدية، في إشارة إلى كون الأمرين مختلفين تمام الاختلاف. وأيضاً أنه كان (صلى الله عليه وسلم) يشاور غيره من الأصحاب، وأصحاب الرأي، في إدارة الأمور، وإصلاح الشؤون، واتخاذ المواقف، ما يعني أن إدارة شؤون البلد أمر طبيعي من الأمور الطبيعة للمجتمع البشري، لا دخل له بمفهوم الحاكمية لله تعالى، إذ لو كان كذلك لم يكن ينبغي له مشاورتهم، بل كان عليه انتظار الوحي، كما كان يفعل فيما كان من شأنه أن يحكم الله تعالى فيه بأمر.
وعليك أن تفرق معنا بين حاكمية الله تعالى وبين حكمه تعالى، إذ لو طبّق كلّ من في السموات والأرض أوامر الله تعالى كنفس واحدة، فالحاكمية لله لا بتطبيقهم لأوامره، ولو أنهم لم يطبقوا أوامره كنفس واحدة، تبقى الحاكمية له تعالى وحده رغم عصيان جميع الخلق لأوامره سبحانه.
فحاكمية الله تعالى ترجع إلى كونه تعالى ربّاً، وأمّا حكمه، فحكمه حق وعدل بلا ريب، وهو داخل في مطلق أمره تعالى لنا في حياة التكليف، فالسلطة وسيلة لرد البشرية إلى إرادة الله تعالى، والسير على مبدأ الخير في كل شيء، كما ولتطبيق الأوامر الإلهية الواضحة والمحكمة في مسائلها الجزئية التي لا تحتمل الاجتهاد.
فالتطبيق منا لأوامر الله تعالى لا تعني الحاكمية لله تعالى، فحاكميته شيء وتطبيقاتنا وامتثالاتنا شيء آخر؛ فالحاكمية هي بمعنى أن الله تعالى بيده كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله، أو بمعنى أن الله تعالى ينزل حكمه لعباده في أمور معينة، ومن أحسن حكماً منه سبحانه وتعالى؟
لكن يبقى الناس مخيرين بين التطبيق وعدم التطبيق، ففي كلتا الحالتين لا دخل لتطبيقنا بمفهوم الحاكمية، ولا دخل للسلطة بمفهوم الحاكمية أيضاً.
ومن المؤسف أن الكثير من المسلمين أدخلوا موضوع الحاكمية بموضوع التكفير والردة، وربطوا القتل وتحليل الدماء والأعراض والأموال بموضوع التكفير، ظلمات بعضها فوق بعض. فلا دخل للسلطة، و لا لتطبيقنا، بمفهوم الحاكمية، كما لا دخل لنا في موضوع التكفير، لأنه من شأن الله تعالى، وهو من الأمور الأخروية، ولا ربط بين القتل والكفر أيضاً.
فمن باب المفارقة: أن الحاكم (السلطة)، إذا لم يحكم بحكم معين من الشريعة، كفّر، عند من يتشدد في موضوع الحاكمية. ولكنهم إذا سئلوا أن رجلاً ارتكب كبيرة هل يكفر؟ فيجيبون بـأنه لا يكفر، وهذا تناقض! لكن الخوارج كانوا أكثر صدقاً منهم، حيث عبروا عن وجهة نظرهم بوضوح، فكفروا مرتكب الكبيرة! وبطلان مذهبهم معلوم عند من له أدنى علم، وأدنى نظر في الدين وأصوله!
ولو أننا سردنا تاريخ المسلمين منذ هجرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، حتى سقوط الخلافة العثمانية، لقال الذي يتصور السلطة بحاكمية الله بأن هذه القرون كانت على إثبات الحاكمية لله تعالى، مع أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه فرّق بين الخلافة الراشدة، وبين ما يأتي بعدها، وسمّاه بالملك، والملك هو الملك، أي الإدارة المجردة التي تفتقد الرشد الديني لأمور الناس، ولفظ الملك لا يحتمل تأويلاً آخر، فلا يتعب واحد منا نفسه بالبحث عن تأويل والتواء حتى يتماشى مع فكرته وتصوره.
ثم إننا نرى في تاريخ ما يسمى بالخلفاء، بعد عصور الخلافة الراشدة، ما يخالف الإنسانية، فضلاً عن مبادئ الإسلام، ونرى فيه الظلم الفظيع، والاستبداد الشنيع، والاضطهاد المريع، والفسوق، والفجور، وشرب الخمور، والتمتع بالجواري، إذن هل من الصواب عدّ وتسمية كل هذه الفترات الزمنية للخلفاء والملوك المفسدين بأنها حاكمية الله تعالى، فقط من أجل الأسامي والمظاهر، لأنها دينية؟!
السؤال هو: ما الفرق بين حكام اليوم وملوك المسلمين في الماضي؟ على أي أساس جعلنا هؤلاء لا يتحاكمون إلى حكم الله تعالى، ولا يحكمون بحكمه، وأما أولئك في الماضي، فكانوا يتحاكمون إلى حكم الله، ويحكمون بحكمه؟! مع أن الفرق بينهم فقط يكون من جهة الزمن والشكل، لا المضامين.
ولنوضح أكثر: لما تحولت الخلافة الراشدة إلى الملك، كان لا يزال هناك كثير من الصحابة على قيد الحياة، ولم يقوموا بالثورة ضد هذا التحول، بل وبايع أكثريتهم، إذ لو كانت السلطة تعني الحاكمية لما رضوا بهذا التحول، وما كان ينبغي لهم، فما كانوا ليتهاونوا في مثل هذه الأمور، خاصة إذا كان يتعلق بالكفر والإيمان وتغيير الدين والشريعة! بل ولم يرو على ألسنتهم ذكر الحاكمية ودعوة الناس إلى كفر من لم يتحاكم إلى الله، اللهم إلا ما يروى عن الخوارج، ونحن نعرف جيداً موقف الصحابة منهم.
وقومة الحسين – رضي الله عنه – ضد بني أمية وملكهم، ما كانت على أساس الحاكمية والدعوة إليها، بل كانت لإرجاع الأمر شورى بين المسلمين في اختيار الخليفة، وعدم ترك المشاورة في إدارة أمور العباد والبلاد، وما عرفنا أنه – رضي الله عنه – كفّرهم ونادى بالحاكمية المطلقة لله تعالى.
وخلاصة القول: إن الأحكام الخاصة اليقينية في القرآن الكريم حق لا ينبغي الخروج منها، أو تبديلها بغيرها، وإن السلطة وسيلة لخلق أرضية مناسبة لتطبيق تلك الأحكام الخاصة، ولتحقيق مبدأ العدل في إدارة شؤون البلاد والعباد.
وهناك سؤال يطرح نفسه هنا، وهو: هل وجود الحكومة، أو إدارة شؤون الناس، أمر ديني وحق إلهي لا دخل للإنسان فيه ، أم أنه أمر طبيعي من مقتضيات المجتمعات البشرية؟
الجواب واضح.. تنصيب الحاكم وتكوين السلطة لإدارة أمور الناس والبلاد، أمر طبيعي، لأن الحياة البشرية تقتضي ذلك، لكن الدين شأنه أن يأتي فيدخل الإصلاح في الإنسان، وفي شؤونه، وأنظمته، ومشاريعه؛ فيأتي الدين فيصلح العقائد والتصورات، ويأتي الدين فيصلح العادات والتقاليد، ويأتي الدين فيصلح التصرفات والمعاملات، ويأتي الدين فيصلح الفرد وخلقه، وكذلك يأتي فيصلح الأنظمة الحاكمة، فيأمرها بالعدل والإحسان.
فالدين له مجالان؛ مجال لا يترك للإنسان بأن يتدخل فيه، لأنه قد حسم الأمر بشأن قضية ما؛ كالمحرمات القطعية في القرآن مثلاً. وأما المجال الآخر، فالقرآن ترك للإنسان بأن يحكم فيه حسب ما يراه صالحاً ومناسباً، لكن في حدود العدل والخير، وبعبارة أخرى: حسب القضايا الكلية والمفاهيم الشاملة التي جاء بها الدين الإسلامي؛ كالعدل والخير والإحسان والإصلاح والحق وما إلى ذلك.
ولو نظرنا فيما حدث بين موسى – عليه السلام – وبين فرعون، نرى أنه لم يكن من أجل كون فرعون حاكماً، حتى يحاول موسى – عليه السلام – خلعه وعزله عن منصة الحكم، وينصب نفسه حاكماً بدلاً عنه، بل نشب بينهما الصراع من أجل إقرار العدالة. فموسى – عليه السلام – حاول إيصال الهدى لفرعون، من جهة، ومن جهة أخرى، أراد قيام العدالة والمساواة الممكنة بين الأقباط واليهود، فلا يظلم أحد الآخر على أساس عرقي أو طائفي أو ديني.
وكذلك قصة يوسف – عليه السلام -، لم نعرف أنه دخل في صراع بينه وبين الملك في زمانه من أجل السلطة، إذ العدالة كانت موجودة بنسبة لا بأس بها، لأن القرآن لم يذكر ذلك، بل طلب – عليه السلام – مهمة ومنصباً في حكومته وسلطته، حتى يقوم بتدارك الأمر وإصلاحه في جانب معين من أمور الحكم.
ففي قصص الأنبياء – عليهم السلام – نلاحظ ببساطة ونرى أنهم كانوا يحاولون إصلاح الأكابر وأصحاب النفوذ، كما كانوا – عليهم السلام – من جانب آخر يحاولون إصلاح الناس والأفراد، كما وأنهم كانوا يدعون الناس إلى القضايا الكلية والمهمات من الأمور.
ولو كان الخليفة أو الحاكم يمثل حاكمية الله، لاقتضى ذلك أن لا يتوفى الله تعالى نبيّه محمداً (صلى الله عليه وسلم)، لأنه هو المعصوم الذي لم يجعل لنفسه شيئاً ونصيباً مع أوامره تعالى، وغيره ليس بمعصوم أبداً. فيلزم من هذا المفهوم الخاطئ أن يكون الشخص الذي يتولى أمور الدولة أو السلطة أن يكون معصوماً، وإلا لم يصح لنا بأن نطلق على سلطته حاكمية الله! أو ليس هذا من الشرك أصلاً، حسب أبجدياتهم واعتقادهم؟!
ربما يسأل سائل، ويتقدم علينا قائل، فيقول: إننا لا نسمي السلطة بحاكمية الله، بل السلطة تحكّم حكم الله تعالى بين الناس، وتجعلهم يتحاكمون إليه، كما وتحكمهم بحكم الله تعالى.
ونقول: ها أنتم قد فرّقتم بين الحاكمية وبين كون السلطة وسيلة لتنفيذ حكم الله تعالى، وإقامة العدالة بين الناس، وتوفير الأمن لهم. المشكلة هي الخلط بين هذين الأمرين، فحاكمية الله شيء، وحكمه شيء آخر.
فهذه الوسيلة لا تحل محل الله، ولا تحل محل حاكمية الله تعالى، وليست السلطة ظل الله على الأرض، كما يتصور البعض. كما أن هذه الوسيلة ليست بمعصومة، حتى تمنع التغيير فيها، فلم تكن خلافة أبي بكر، ولا خلافة عمر، وعثمان، وعلي، وابنه – رضي الله عنهم جميعاً – نسخة واحدة، ولا صورة واحدة، ولا متكافئة، ولا متشابهة، وهناك اختلافات في قيامهم بإدارة الأمور بين هذا وذاك، فما بالك بخلافة غيرهم، حيث الأهواء والزلل؟!
هذا، وهناك مسألة مهمة يجب الإشارة إليها، وهي أن حكم الله تعالى ليس خاصاً بوضع العقوبات للجنايات، ووضع الحدود للمعاملات، ونخرج حكم الله تعالى في التصورات، وفي النبوات، وفي الأخلاقيات، وفي العبادات والسلوكيات، من مسمى الحاكمية! لماذا إذا ذكرنا الحاكمية، تتوجه أفكارنا نحو السلطة والنفوذ؟! ولماذا فرّقنا بين الذين هم في المنصب العالي في السلطة، وبين الذين هم في الوسط، أو الذين في الأسفل من الناس، في إطلاق حكم التكفير عليهم، حسب الفكر السائد حول مفهوم الحاكمية؟!
الجواب هو لأننا خلطنا بين حاكمية الله وبين حكمه، وخلطنا – أيضاً – بين الأنظمة الظالمة التي يجب إزالتها، وإقامة نظام عادل مقامها، وبين صيرورة المرء كافراً لتركه التحاكم إلى الله، أو عدم الرضى بحكمه. فهناك فرق كبير بين هذين الأمرين، والمسافة بينهما شاسعة، فالكفر لا يخضع للإكراه والإجبار، مهما تنوع، أي إننا لا نستطيع منعه، وإنما الذي يجب الوقوف بوجهه هو الظلم، والذي يجب تغييره هو الأنظمة الظالمة. فهذا هو نوح – عليه السلام -، لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يدخل معهم في صراع سلطوي أبداً، لماذا؟!
لأن مشكلة قوم نوح كانت في العقائد والتصورات قبل كل شيء. وأما موسى – عليه السلام -، فمنذ اللقاء الأول دخل فرعون في صراع معه، لأنه كان هناك ظلماً قائماً، فموسى – عليه السلام – كان ينادي بوقف هذا الظلم.
ففي مجال العقائد، أو الأصح الدين، المجال واسع جداً، ولا يدخل فيه الإكراه والصراع: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ](البقرة: ٢٥٦)، وإنما يؤمر المؤمن فيه بالصبر والمجادلة بالتي هي أحسن، وبعد الصبر يؤمر بالهجرة، وإذا دخلوا في المحاربة، فعند ذلك للمسلمين ردعهم وجهادهم والدفاع عن أنفسهم والذود عن كيانهم.
لكن في مجال محاربة الظلم، المجال ضيق، كما قال تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ](البقرة: ١٩٣)، إلا اللهم إذا أدى الوقوف ضد الظالم، ومحاولة تغييره، إلى مفسدة أكبر، فعند ذلك يرجح ويفضل اختيار أدنى المفسدتين، كما ذكر العلماء هذه المسألة في كتبهم، في باب خلع الخليفة، وما إلى ذلك.
فالسلطة وسيلة، ويجب على المسلمين أن يسعوا إلى السلطة، ويحافظوا على نفوذهم، ولكن لا بطابع ديني. فالدعوة يجب أن تكون دينية صرفة، من كل وجه، ولا يخالطها شيء من السياسة، وأما العمل السياسي للوصول إلى السلطة، فيجب أن يكون القائمون عليه، وممارسوه، أناس متدينون، لكن من الخطأ أن يكون ذلك باسم الدين، أو يمارس باسمه. وتنبغي الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين اسم الدين، وبين الاسم الديني، حتى لا يشكل ذلك على المسلمين، ويخلق بينهم خلافات وصراعات وعداوة، ويشتبه الأمر عليهم، كما يحدث ذلك في عصرنا، ونشعر ونحس بذلك بشكل لا يدخل فيه شك.
الحق في هذه المسألة أن السلطة ضرورية للحفاظ على الدين، ونظامه التشريعي والقضائي، وكذلك مجتمع المسلمين، ولكن لا دخل للسلطة بموضوع الحاكمية، كما بيّنا. وكفْرُ من لم يحكم بما أنزل الله، هو من أمور الآخرة، وحساب الكفار على الله. فالسلطة عليها السعي لتطبيق الشريعة، ومراعاة المصلحة العامة والخاصة، حسب مبادئ الدين وسننه، بل وحسب الأمور التي ميزتها التجربة البشرية، كما أنها تسعى لجلب المنافع ودفع المفاسد والمضار، عمن هم في عهدتها.
لكن أيضاً يجب الحذر كل الحذر من استخدام أو استعمال الوسائل الموهومة أو الزائفة أو الباطلة للوصول إلى هذه الوسيلة، فالغاية من حكم الشـريعة هي خلق نظام شامل عادل محسن يشمل الجميع، حتى يعيش الناس في ظل هذا النظام في أمان على دينهم ودنياهم، وأما الدين فله النطاق الأوسع، والمعنى الأعم، والحيز الأعظم، حتى السلطة ليس لها التدخل فيه، وما الشـريعة ونظام الحكم بالنسبة إلى الدين الإسلامي، ومبادئه ككل، إلا جزء يسير.