مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (القسم الثاني)

 أ. د. عماد الدين خليل*

11. تحطيم جدران المادية

وثمة مسألة أخرى لا تقل خطورة: أن الكشوفات العلمية الأخيرة حطمت جدار المادة، وأطلّت -وهي توغل في صميم الذرة – على عالم الروح، الكامن في بنية العالم، وتركيب الأشياء. إن العلم هنا يلتقي مع الدين مرةً أخرى.

ولقد سبق لألبرت اينشتاين أن قال: “الدين بدون علم أعمى، والعلم بدون دين كسيح”([1])، فاختصـر المسألة بكلماتٍ قلائل. ولقد جاءت مقولته تلك استناداً إلى اعتماد العلماء، في الربع الأول للقرن العشـرين، على نظريتين اثنتين: النسبية والكم، وتولدت منهما – بالفعل – معظم فيزياء القرن العشـرين، “لكن بسـرعة وبساطة اعتمدت الفيزياء الحديثة نظرية ليست كالنماذج المعتادة، وبدت أنهاأفضل بكثير للعالم المادي، وبدأ الفيزيائيون يدركون أن غالبية النظريات الأساسية للواقع تتطلب إعادة صياغة جذرية وفقاً للاكتشافات الجديدة، حيث تعلموا إعادة النظر في بحوثهم وفقاً لطرق لم تكن مألوفةً، ولم تكن متوقعة من قبل، وبدا الأمر قلباً للمنطق رأساً على عقب لصالح مفاهيم أكثر قرباً إلى الروحانيات منها إلى الماديات. وبالكاد أدرك الفلاسفة نتائج هذه الثورة، ووجد الكثيرون من عامة الناس أيضاً، ممن كانوا يبحثون عن معانٍ أكثر عمقاً لوجودهم، أن معتقداتهم عن العالم تتناغم مع الفيزياء الحديثة على نحو أفضل، وبدوره وجد الفيزيائي أن أفكاره أخذت تلقى تفهماً أكثر لدى علماء النفس والاجتماع، لدى معالجتهم لموضوعاتهم، وللمفارقة فهم الذين يدعمون بشدة المقاربة الشمولية”([2]).

“لطالما لمست – يقول بول دافيز – في محاضرات عامة ألقيتها، وأحاديث كثيرة أدليت بها، حول الفيزياء الأساسية، شعوراً متزايداً بأن أساس الفيزياء أخذ يشق طريقه نحو تقدير جديد للإنسان، ولمكانته في الكون. إن التساؤلات العميقة حول الوجود: كيف بدأ الكون؟ كيف ينتهي؟ ما الحياة؟ وما العمل؟ كلها ليست بالجديدة، وإنما الجديد حصـراً هو أننا، أو لعلنا، بتنا أخيراً على عتبة الإجابة عنها. ويعود تحقيق ذلك الاحتمال المثير إلى التقدم المذهل الذي أتيح لنا، ليس من قبل الفيزياء الحديثة فحسب، بل بفضل علم الفضاء الحديث أيضاً”([3]). “إنني أرى العلم يطرح مساراً مؤكداً نحو وجود الإله… فالحقيقة تبقى بأن العلم يتقدم بالفعل إلى منطقة كانت تعد سابقاً قضية محض دينية، وأن بإمكانه معالجة المسألة بجدية. ويشير ذلك – في حد ذاته – إلى اتساع نطاق الفيزياء الحديثة، وحجم نتائجها بعيدة المدى… وليس من دافع وراء إخراج هذا الكتاب، سوى قناعتي بأن هناك في العالم ما هو أكثر كثيراً مما تراه العين”([4]).

“لقد شهد الجزء الأكبر من التاريخ الإنساني، تحوّل الرجال والنساء إلى الدين، ليس من أجل التوجيه المعنوي فحسب، وإنما أيضاً بحثاً عن أجوبة لأسئلة أساسية حول الوجود: كيف خلق الكون، وكيف ينتهي؟ وما أصل الحياة والجنس البشري؟”([5]).

يقول (ستيفن هيلز) 1761-1677)م(: “طالما تأكد لنا أن الخالق الحكيم قد وضع، في صنع كل شيء، النسب الأكثر دقةً للأعداد والوزن والقياس، وبطريقة توضح احتمال الحصول على معرفة طبيعة تلك الأجزاء من الخلق، ولهذا يجب إخضاع كل ما نلاحظه إلى الترقيم والوزن والقياس”([6]).

“إن الإله جدير بالثناء لخلقه قوانين الطبيعة، وخلق الأشياء، الذرات، الناس، ضمن أشياء أخرى تشتغل عليها كافة هذه القوانين. إن سيناريو (الوليمة المجانية) يزعم أن القوانين هي كل ما نحتاجه، ويمكن للكون بعدها الاعتناء بنفسه، بما يشمل خلقه أيضاً”([7]).

“إن وجود العقل – على سبيل المثال – كشـيء مجرد وكلي وذي نمط منظم وقدرة تحررية أيضاً، يدحض فلسفة الاختزال، التي حولتنا جميعاً إلى لا شيء، سوى كوم من الذرات المتحركة”([8]).

12. التحدّي الحاسم:

فلنتابع جانباً من التحدي الكبير الذي يطرحه القرآن الكريم: [أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا](النازعات: 29-27). [الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَـرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصـَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصـَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ](الملك:4-3). [أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ{17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ](الغاشية:18-17). [قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ](المؤمنون:87-86). [أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ…](الإسراء:99). [مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً](الكهف:51). [أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ](يس:81). [لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ](غافر:57). [أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ](النحل:17). [وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](الروم:27). [قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…](يونس:101). [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ…](لقمان:11).

ويمضـي القرآن الكريم لكي يتحدث عن مبدأ التسخير، الذي أريد به تقديم الخدمات لبني آدم على الأرض، وتيسير الحياة، وهو مبدأ ينطوي على بعد حضاري، خاصةً إذا أضيف إلى مبدأي: الاستخلاف، والاستعمار؛ بدلالته اللغوية لا الاصطلاحية. والمهم أن جانباً من الخلق الكوني أريد به التسخير المشار إليه: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ](الأنعام:97). […وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ](الأعراف:54). [… وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ…](النحل:12). [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](الجاثية:13). [وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ](النحل:16). [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً…](لقمان:20). [وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ](العنكبوت:61). [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء…](البقرة: 22).

وللقرآن الكريم وقفات، ذات دلالة بالغة، على الجد المطلق الذي خلقت به السماوات والأرض، وعلى الحق الذي قامتا عليه، والهدفية من خلقهما، ومغزى إيجاد هذا البناء الهائل في اتساعه، والمعجز في معماره المحكم، والذي لا يخترقه الخلل والانحراف، ولا تحكمه العبثية بأي معيار من المعايير، وبأية درجة من الدرجات مهما دقت وضؤلت.. إن الله – جلّ في علاه – هو الخالق الأوحد الذي لا شريك له في الملك، الآمر الناهي، العليم الخبير بنواميس ما خلق، وبدقائقه التي لا تندّ عن علمه الشامل المحيط.. إنها رؤية عادلة تقوم على المغزى الذي خلقت من أجله السماوات والأرض، والذي يليق بجلال هذا الدين وإعجازه، ويكتسح كل أنماط العبث، والغثاء، والفوضى، واللاجدوى، والتخبط، والضلال، التي أسرت بها نفسها معطيات الغربيين؛ منذ عهود اليونان وحتى العصـر الحديث، وتقلبت عبر العديد من الفلسفات، التي تسلّم إحداها الأخرى، وتقودها إلى مزيد من الضلال، فيما يمكن أن نلحظه بوضوح أشد في مذاهب كالسريالية والوجودية والعبثية الطليعية…إلخ

أما كتاب الله، فإنه يبحر بالجد والحسم القاطع، في زاوية مغايرة لهذا العبث بنسبة 180درجة، فلنتابع بعضاً مما يقوله هذا الكتاب المعجز: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ](الأنبياء:18-16). [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ](المؤمنون:115). [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ](ص:27). [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ](الدخان:39-38). [مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى…](الأحقاف:3). [مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً](الكهف:51). [وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ…](المؤمنون:71).

ها هنا نجد أنفسنا إزاء الجد في أقصـى درجاته وضوحاً وحسماً وتألقاً.. فليس ثمة في خلق الكون أيما فرصة على الإطلاق للعبث.. ليس ثمة أية مساحة على الإطلاق للعب.. ليس ثمة أي مجال على الإطلاق للهو.. بل هو الحق المطلق، الذي يقذف به على الباطل الذي يتخيله المخاليق، فيدمغه، فإذا هو زاهق.. فلم يكن خلق السماوات والأرض باطلاً، وحاشا لله.. ذلك ظن الذين كفروا.. أولئك الذين جرفتهم ظنونهم وأهواؤهم إلى الضلال، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.. وصدق الله العظيم.. وجلّت قدرته المعجزة على خلق الكون بهذا القدر المدهش من الانضباط والإحكام..

إنها الرحلة المنطقية المرسومة بحساب دقيق، والماضية إلى أجلها المسمى في علم الله الأزلي.. كل صغيرة وكبيرة.. كل شيء في هذا العالم – على الإطلاق – بعناية الله – جلّ في علاه-؛ بدءاً وصيرورةً وانتهاءً.. فليس ثمة أية مساحة على الإطلاق للعبث واللعب واللهو الذي يتخيله أدعياء الفكر الطليعي؛ من الكتاب والأدباء والفلاسفة العبثيين، الذين تسوقهم ظنونهم وأهواؤهم إلى الإبحار في الاتجاه المعاكس تماماً لنواميس الكون والعالم.. ومن ثم يجيء التنديد بهم وبمقولاتهم.. فها هو ذا كتاب الله يخاطبهم ويقرّعهم بأقصـى صيغ التنديد والويل: [… وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ](الأنبياء:18). [… فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ](ص:27).

13. بين الجد والرؤية العبثية:

ليس ثمة لعب أو لهو، وحاشا لله.. إنما هو الحق الذي خلقت به السماوات والأرض، وأقيم عليه بنيانهما المعجز.. وإنما هو الأجل المسمى، الذي سيؤول إليه كل شيء في هذه المنظومة الهائلة من الخلق.. وإنما هو جدل الحق والباطل، وانتصار الحق، وضياع الباطل.. وإنما هو الويل والثبور والهلاك لكل الذين غطي على أعينهم، وطمس على قلوبهم، فلم يعودوا يرون (الغاية) النهائية لمبدأ الخلق، أو يعاينوا مصائر الأشياء والأقوام والجماعات.

إنه القصد المحكم من خلق الكون والإنسان، والفرصة المحددة بأجلها للحياة الدنيا.. وبعدها، سيكون ما يكون في علم الله الأزلي؛ من انقلاب كوني عظيم، تتغير به الخلائق والأشياء.. ويقف الإنسان عارياً أمام حساب الله العادل، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض.

إنه الجد الذي تقوم عليه السماوات والأرض، وتمنح الحياة والموت للإنسان مغزاها، لأن الذي سيجيء بعد ذلك هو الذي سيحدد المصائر والمقدرات، وهو الذي يسوق الإنسان إلى جنة أو نار، استناداً إلى طبيعة تعامله مع هذا الجد، وخضوعه لسننه ونواميسه، أو تمرده عليهما..

إنه أشبه بالمعادلات الرياضية أو الفيزيائية الصارمة التي لا تقبل مماحكة ولا جدلاً، والتي تخلو مقولاتها من أية لمسة من لهو أو لعب، والتي تضع الموازين القسط لكل صغيرة أو كبيرة في بنية الكون والحياة. وإنها الموازين الكبرى التي خلقت بها ولها السماوات والأرض والحياة، والتي سيرت بها السماوات والأرض والحياة، والتي ستؤول إليها السماوات والأرض والحياة: [وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ](الرحمن:9-7).. فما من صغيرة ولا كبيرة في سلوك الإنسان في هذا العالم، إلا وهي محالة على هذا الميزان الكبير، الذي خلقت به وله السماوات والأرض.

إن مفردات هذه الآيات تعكس هذا الجد الكامل في الخلق، والذي إذا أحلنا عليه الرؤى والمذاهب والمعطيات الوضعية الكافرة التي لا تعترف بالله، وترفض الإيمان بالأديان المنزلة من عنده سبحانه وتعالى، يتبيّن مدى عبثها وتناقضها وتهافتها ولعبها ولهوها! ولكن على حساب مَن هذا كله؟ أليس على حساب الإنسان نفسه؟ فها هي الأمم والجماعات والشعوب التي اتّبعت هؤلاء الأرباب من صناع الإلحاد، واستعبدت أنفسها وعقولها لأهوائهم وظنونهم وعبثهم، تخسـر الكثير الكثير من الجهد والزمن، وهي تلهث وراء هؤلاء الآلهة المزعومين، ثم ما تلبث أن تنفض يديها منهم، بعد إذ يتبين لها كذبهم ودجلهم وتألههم في الأرض.

وتجيء بعدها دورة جديدة من الضياع.. من أجيال المستعبدين، الذين أسروا أنفسهم في عبادة الزعماء والأرباب، والذين ما يلبثون هم الآخرون أن ينكشف لهم الزيف والخداع، فينفضوا أيديهم ويتمردوا على الآلهة والأرباب!!

تلك هي، بإيجاز شديد، مأساة البشـرية الضالة، التي لم تفتح بصائرها جيداً على (الجد) الذي خلقت به السماوات والأرض، والتي طمس على أعينها فظنت الأمر لعباً ولهواً، فما لبثت أن تعرضت للتعاسة والضياع.. ولن تجد نفسها وأمنها وسعادتها المفقودة، إلا بأن تتمرد على هذه الرؤية العوراء، التي لا تكاد ترى شيئاً من قصدية الخلق وغائيته وموازينه الثقيلة، فتنصت بسمعها وبصـرها وعقلها وقلبها وفؤادها للإنذار الإلهي، الذي يعلن بأكثر الكلمات قوة ووضوحاً وحسماً أن حياة الإنسان في هذه الأرض مرسومة بالدقة والجد، محكومة بالموازين القسط، ومسيّرة صوب يوم الحساب: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ](المؤمنون:115).

ومع كتاب الله، ثمة شبكة خصبة من شهادات العلماء والفيزيائيين وفلاسفة العلم الحديث، تؤكد – جميعاً – جدية الخلق الكوني، وغائيته، وتكنس في طريقها غثاء وعبث الأدباء الذين يحكمون بالظن والهوى، وليس بأدوات العلم ومنهجيته، كما يفعل العلماء.

فمن الواضح تماماً أن هناك عمليات معينة تقوم بها بعض الأجسام الحية بناء على تصور مسبق لغاية ما، وتصور طريقة معينة لبلوغها وتحقيقها. ولا يمكن حل المشكلة إذا جرى تجاهل فكرة الغاية، لمجرد أن هناك عمليات أخرى يقوم بها الجسم الحي، ويمكن تفسيرها في نطاق قوانين الفيزياء والكيمياء. إن وجود المشكلة، في حد ذاته، لم يعترف به، بل جرى رفضه باستمرار.

بناء على ذلك، فإننا نجد صعوبة تفسير النشاط الحيوي بعيداً عن (النظام الغائي) الذي يضبط أنشطته، ويسيّرها إلى هدفها المرسوم.. ومحاولة غير مجدية من علماء الحياة لاستبعاد الغائية، واعتماد أساليب العمل في حقول الفيزياء والكيمياء، التي ترفض الاتكاء عليها.. تلك الأساليب التي قد تحقق بعض النجاح، ولكنها لا تحل المشكلة من أساسها.. إذ يبقى التعامل مع الحياة هو غيره مع الذرات والجزيئات.. ومن ثم يطرح (وايت هيد) تحفّظه حول ضرورة الاعتراف، بشكل أو بآخر، بوجود تصور مسبق لغاية ما، يفسـر العملية الحيوية. كما أن الخطأ يكمن في موقفنا من المشكلة، في (كون العقول ضعيفة) – كما يعبّر (سوليفان) – هذا الموقف الذي يسعى إلى معالجة الحياة بعيداً عن فكرة العلة النهائية. وهذا أمرٌ له مخاطره، ولا يمكن أن يكون مبرراً لتجاهل مشكلة حقيقية.

هذا إلى أن نظرية الانتقاء، أو الاصطفاء الطبيعي – على فرض التسليم المطلق بها – لا يمكن أن تفسـر، ولا أن تبرر، إلا على ضوء وجود علة، أو قوة ما، تسوق الحياة والأحياء في سلم التطور صوب الأحسن والأرقى.. وإلا غدت العملية في أساسها لغزاً مبهماً، الأمر الذي دفع بعض العلماء إلى البحث عن بعض المفاتيح، مثل: (القوة الحيوية)، أو (قوة التحقق)، أو (الروح)، وما إلى ذلك. لكنهم لم ينجحوا في تعريف هذه المصطلحات، وتحديد مضامينها، بحيث يمكن استخدامها في الأغراض العلمية، وبقيت المصطلحات شاهداً على أن المفاهيم الأساسية الحاضرة لعلم الحياة، غير كافية. ولو قالوا: الله، لحلّت الأحاجي والألغاز، ولوجدوا أنفسهم يتحركون في الطريق الصحيح لفهم معادلة الحياة المعجزة!!

فها هو ذا العلم يقول كلمته، ويعلن من قلب المختبر، أنه بدون تصور غائي للحياة والعالم والإنسان، فإنه ليس ثمة أمل في فهم الحياة والعلم والإنسان.. إن العلائق والاستطرادات السببية قد تفسـر جزئيات من هذه الأقطاب، ولكنها لا تحل قضاياها الكبرى.. إن المادية التاريخية نفسها، توأم الديالكتيكية، تجد نفسها مسوقة إلى نوع من الغائية يتحرك من خلالها التاريخ نحو الأحسن، وهي لو أعطت الجماعة البشرية، أو الطبقة، الحرية المطلقة في صياغة ظروفها التاريخية، وصنع مستقبلها، لذهبنا معها إلى رفض الغائية، ولكنها تمنح مساحة واسعة في حركة التاريخ لما تسميه بالضـرورة التاريخية.. الحتمية التاريخية. وما دام الأمر كذلك، ما دام أن هناك شيئاً ما خارج وعي الإنسان وإرادته، يتحرك بعقلانية صوب الأحسن، فلا بدّ أن في الأمر غاية ما، هي التي تسيّر التاريخ – وفق المادية التاريخية نفسها – في هذا النظام الفذ العجيب، صوب غاياته الإنسانية.

14. لا بدّ للخلق من خالق:

لقد كتب الكثيرون عن معجزة الخلق، وقطع حشود من العلماء أعمارهم؛ بحثاً وتنقيباً، لكي ما يلبثوا أن ينتهوا إلى إحدى المسلمات الكبرى في تاريخ العلم: إنه لا بدّ للخلق من خالق.. مسألة لا تقبل لجاجةً ولا إنكاراً.. إن الخلق ما دام على هذه الدرجة من النظام والضبط والدقة والتوافق والحركة المرسومة والهدف المقصود، والارتباطات الهادفة، فإنه لا بدّ أن يكون صدوراً عن إرادة فوقية قادرة مدبرة.. إنها مسألة محسومة برياضيات العلم ومعادلاته.. والشواهد كثيرة، والنتائج التي يتمخض عنها السعي العلمي الجاد لا تعد ولا تحصـى.. ومع ذلك، فسوف نعرض لعدد فحسب من النتائج والشواهد التي يمكن أن تكون مجرد نماذج لمئات، بل ألوف غيرها، في هذا المجال.

15. ليس ثمة حقيقة نهائية في العلم:

والحق أنه ما من حقيقة نهائية في العلم البشـري، والعلماء الكبار أنفسهم، بعد قضاء أعمار كاملة في ساحات المختبر، وبين أجهزته، انتهوا إلى هذه النتيجة: إن معطيات العلم مجرد احتمالات قد تخطئ وقد تصيب، وإن كشوفاته هي وصف للظاهرة، وليست تفسيراً لها.

يقول (سوليفان): “لقد أصبح العلم شديد الحساسية، ومتواضعاً نسبياً. ولم نعد نلقى الآن أن الأسلوب العلمي هو الأسلوب الوحيد الناجح لاكتساب المعرفة عن الحقيقة. إن عدداً من رجال العلم البارزين يصـرون – بمنتهى الحماس – على حقيقة مؤداها: أن العلم لا يقدم لنا سوى معرفة جزئية عن الحقيقة، وأن علينا لذلك أن لا نعتبر، أو يطلب إلينا أن نعتبر كل شيء يستطيع العلم تجاهله مجرد وهم من الأوهام. إن الحماسة التي يظهرها رجال العلم هؤلاء، فيما يتعلق بفكرتهم القائلة أن للعلم حدوداً، ليست مما يثير العجب في حقيقة الأمر”([9]).

ويقول: “لقد قبل جسم جديد – يقصد الكهرباء – في الفيزياء، لا نعرف عنه شيئاً سوى بنيته الرياضية (Mathematical Structure). وقد بدأت، منذ ذلك الوقت، تدخل في الفيزياء أجسامٌ أخرى بنفس الشـروط. ووجد أن هذه الأجسام تلعب دوراً يماثل بالضبط ذلك الذي تلعبه الأجسام القديمة، فيما يتعلق بتشكيل النظريات العلمية. لقد أصبح الآن واضحاً أن معرفة طبيعة الأجسام التي نتحدث عنها لم تعد مطلباً لازماً بالنسبة للفيزياء، بل تكفي بنيتها الرياضية. وهذا بحق هو كل معرفتنا حولها. وقد جرى التحقق الآن من أن معرفة البنى الرياضية هي كل المعرفة العلمية المتوفرة لدينا، حتى فيما يتعلق بأجسام نيوتن المألوفة، وأن اقتناعنا بأننا نعرف هذه الأجسام بصورة قريبة، ما هو إلا مجرد وهم”([10]).

ويتساءل: “لماذا على الإنسان أن يفترض بأن الطبيعة يجب أن تكون شيئاً يستطيع مهندس القرن التاسع عشر أن يستحضره في ورشته؟”([11]).

ونقرأ في كتاب (عقائد المفكرين في القرن العشـرين): “أن العلماء التجريبيين عادوا إلى القوانين الطبيعية التي تحكم الحرارة والحركة والضوء، وكل ما في عالم المادة من كهارب وذرات، فوجدوا أن لها قانوناً هو الخطأ والاحتمال. أما القائمون بهذه التجربة، فقد كانوا ثلاثة من أقطاب العلوم في مطلع القرن العشـرين: ماكس بلانك (Max Plank) البولوني، وورنر هايزنبرج (W. Heisenbeng) الألماني، وشردونجر (Schrodinger)  النمسوي، والأوّلان منهم صاحبا جائزة (نوبل) في العلوم الطبيعية عن سنة (1918م)، وسنة (1932م)، والثالث مكمل النظريات التي اشتهر بها الأولان، وحجة لا تعلو عليه حجة في مسائل الطبيعيات على العموم.. إن التجربتين – يقول هايزنبرج – في أية قاعدة من قواعد العلم الطبيعي، لا تأتيان بنتيجة واحدة، بالغاً ما بلغ المجرب من الدقة، وبالغاً ما بلغ المسبار من الإتقان”([12]).

ويختتم (سوليفان) الفصل الثالث القيم من كتابه (حدود العلم)، بقوله: “لقد بحثنا حتى الآن في حدود العلم باعتباره أسلوباً لاكتساب المعرفة حول الحقيقة. وقد رأينا كيف أدت الحساسية الجديدة للعلم إلى الإقرار بأن ادعاءاته السابقة قد بولغ فيها كثيراً. لقد جعلت الفلسفة المبنية على العلم، من المادة والحركة الحقيقة الوحيدة. وبهذا العمل قد جرى استبعاد جميع العناصر الأخرى الواقعة في مجال خبراتنا. هذه العناصر التي تحمل، كما يتراءى لنا، المغزى الأكبر، والتي تجعل الحياة في النهاية جديرة بأن تعاش، قد جرى استبعادها على أنها محض أوهام”. ثم يخلص إلى القول: “إن دوافعنا الدينية لا يمكن أن يقنعها أي شيء أقل من الاعتقاد بأن للحياة مغزى خارقاً. وهذا الاعتقاد هو بالضبط ما جعلته الفلسفة القديمة أمراً مستحيلاً. وهكذا يمكن أن نستنتج أن الأهمية الحقيقية للمتغيرات التي حصلت في العلوم الحديثة، ليست في قدرتها المتزايدة على دفع عجلة تقدم الإنسان، بل في تغيّر الأسس الميتافيزيقية التي تقوم عليها”([13]).

إن العلم الحديث لم يعد يرفض الحقيقة الدينية، أو يشكك فيها، كما حدث في القرون السابقة. وهو يعترف بأن ليست له الكلمة النهائية في موضوع هو أكبر من حجمه بكثير. ثم يعود لكي يؤكد أن الحياة البشـرية لا تستحق أن تعاش، إذا ما نحن جرّدناها من بعدها الكبير الذي يتجاوز حدود المادة والحركة.. يعود العلم لكي يتعانق مع الدين، ويتوظف لديه، ذلك هو الانقلاب الكبير الذي شهدته فلسفة العلم المتمخضة عن الكشوف الأخيرة في مجال البحث العلمي، وبخاصة الطبيعة والذرة وطريقة عمل الدماغ البشري!!

ولقد تأكد أنه حتى على مستوى العلوم التي تعالج الظواهر المادية الجامدة، فإنه ليس ثمة يقين مطلق، ليس ثمة سوى الحقائق النسبية، والافتراضات، والمتغيرات. فلو اعتبر ما يقدمه العلم على أنه الحقيقة النهائية، فإن الإنسان نفسه لن يكون سوى ناتج عرضي مشتق من آلات رياضية هائلة، لا عقل لها، ولا غرض. وهناك من العلماء إنسانيون إلى درجة أنهم يجدون مثل هذه النتيجة مضطربة، وحتى أولئك العلماء المتعصبون للنظرة القديمة، فإنهم يظهرون في بعض الأوقات رغبة ملحة في ألّا تكون الأمور على هذا الشكل الذي يعتقدونه. إذن، أن لا ندهش إذا وجدنا أن الاكتشاف القائل: بأن العلم لم يعد يجبرنا على الإيمان بتفاهتنا بالضـرورة، قد لاقى ترحيباً وتحليلاً حتى من بعض رجال العلم أنفسهم([14]).

16. انتهى عصر الوثنية العلمية:

لقد انتهى العصـر الذي اتخذ العلم فيه إلهاً؛ عصـر الوثنية العلمية التي مسخت الإنسان وأذلته، وحولته إلى مجرد تابع ذليل للقوانين والنظريات، بل إلى مجرد ناتج عرضي تافه مشتق من آلات رياضية هائلة لا عقل لها ولا غاية. إنه حتى العلماء المتعصبين للنظرة القديمة، حتى هؤلاء لم يعودوا يرتاحون لهذا التصور الشنيع: الإنسان وهو يتحول إلى ناتج عرضي في كون لا هدف له ولا غاية!.. لقد انتهى عصـر الإيمان بتفاهة الإنسان، وأخذ العلم – وقد جاوز طفولته، وخطا نحو الرشد – يقود البشـرية نحو الحرية، متجاوزاً بها عصـر العبودية الرهيب. وإن هذا المصير الأكثر إضاءةً، لاقى ترحياً وتهليلاً من بعض رجال العلم أنفسهم!!

لقد جاءت أول إشارة إلى أن مفاهيم نيوتن لم تعد تفي بالغرض، عندما حاول بعض العلماء أن يصوغوا نظرية ميكانيكية للضوء، وأدت المحاولة إلى ابتداع الأثير، وهو عمل يعدّ من أقل ما أنتجته العبقرية العلمية قبولاً. واستمرت المحاولة أجيالاً طويلة، وظهرت خوارق من العبقرية الرياضية في محاولة تفسير خواص الضوء ضمن مفاهيم نيوتن، وأصبحت الصعوبات مدعاةً لليأس أكثر من أي وقتٍ مضـى. وبدت مفاهيم نيوتن وكأنها قد أصبحت قابلةً لأن تقهر، بعد أن نشـرت تفسيرات (ماكسويل) بأن الضوء ظاهرة كهربائية مغناطيسية. وكأن الأثير قد أصبح في هذا الوقت معقداً إلى درجة لم تعد تقبل التصديق. لم يكن معقداً فقط، بل كان بشعاً أيضاً، والبشاعة في النظريات العلمية شيء لا يستطيع رجل علم أن يتسامح تجاهه([15]).

إن كل ما نعرفه عن الكهرباء، أنها الطريقة التي تؤثر بها في أدواتنا القياسية. والوصف المضبوط لسلوك الكهرباء على هذه الشاكلة، يعطينا مواصفاتها الرياضية. وهذا بحق هو كل ما نعرفه عنها.. لقد أصبح الآن واضحاً أن معرفة طبيعة الأجسام التي نتحدث عنها لم تعد مطلباً لازماً بالنسبة للفيزياء، بل تكفي معرفة بنيتها الرياضية، وهذا بحق هو كل معرفتنا حولها. وقد جرى التحقق الآن من أن معرفة البنى الرياضية هي كل المعرفة العلمية المتوافرة لدينا حتى فيما يتعلق بأجسام نيوتن المألوفة، وأن اقتناعنا بأننا نعرف هذه الأجسام بصورة قريبة ما هو إلا مجرد وهم([16]).

وذلك هو مصداق الأطروحة القرآنية في هذا الصدد: أن العالم محكم التركيب، لأنه من صنع الله سبحانه وتعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](القمر:49). [الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ…](السجدة: 7). [إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء](آل عمران:5). وأن المشكلة تكمن في القدرة البشـرية نفسها على فهم العالم.. وذلك هو التحدي الذي يدفع الإنسان إلى مزيد من الجهد للكشف عن سنن العالم ونواميسه.. باختصار أن الكون لم يكشف النقاب عنه بعد، وسوف لن يكشف بشكل نهائي (وهذا ما توحي به اكتشافات العلماء آنفي الذكر في حقل الفيزياء الذرية)، لأنه يوم يكتشف الكون والعالم أمام وعي الإنسان وإدراكه، فلن يكون هناك جهد أو إبداع.

في أواخر عام (1981م)، صدر في إنكلترا كتاب يحمل عنواناً طريفاً هو (التطور من الفضاء) (Evolution From Space)، قام بتأليفه عالم الفلك الشهير (سير فريد هويل)، وعاونه في ذلك أستاذ هندي يدرس في (جامعة كارديف). ويعترف الأستاذان بصـراحة، في ذلك الكتاب، بأنهما ملحدان، ولا ينتميان لأي دين أو عقيدة، وأنهما يعالجان أمور الفضاء وحركات الكواكب بأسلوب علمي بحت، ومن زاوية عقلانية لا تحفل ولا تتأثر بأي موقف ديني. ويدور الكتاب حول مسألة احتمال وجود حياة على الكواكب الأخرى، ويتناول بالبحث الدقيق الفكرة التي سادت، في بعض الكتابات التطورية، عن ظهور الحياة تلقائياً من الأوحال، نتيجة لبعض الظروف والتغيرات البيئية. ومع أن هناك نظريات معارضة لهذا الاتجاه، وهي نظريات أخرى ترى أن احتمال ظهور الحياة من هذه الأوحال، أو الطين، الأولى، لا تزيد عن 10:1، فإن (هويل) يرى – بعد حسابات رياضية معقدة وطويلة ودقيقة – أن هذا الاحتمال لا يزيد بحالٍ عن 40.000:10:1، أي واحد إلى عشـرة أمامها أربعون ألف صفر، مما يعني أنه لا تكاد توجد فرصة ظهور الحياة عن طريق التوالد التلقائي من هذا الطين. وبالتالي، فإن الحياة لا يمكن أن تكون نشأت عن طريق الصدفة البحتة، وأنه لا بدّ من وجود عقل مدبر يفكر ويبدل لهدف معين. وعلى الرغم من اعتراف المؤلفين الصـريح – كما قلنا – بإلحادهما، فانهما لا يجدان أمامهما مفراً من أن يكتبا الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان: (اللهGOD-)([17]).

إن هذا الخط الجديد من العلماء، وبموازاة حشد من فلاسفة العلم، من مثل: وايتهيد، وسوليفان، وكاريل، وغيرهم، أبحروا باتجاه معاكس لمعطيات القرون السابقة؛ قرون الفصام النكد، الذي أقامته الكنيسة والإلحاد، بين العلم والدين، ودعوا إلى احترام القيم الإنسانية، لكونها تمثل عوامل تسـريع في الكشف العلمي، والتحام أكثر حميمية بخالق العالم والطبيعة والكون.

17. شيء عن مفهوم التسبيح:

هذا الجد والحسم الذي يؤكده كتاب الله في خلق الكون وغائيته، يقودنا بالضـرورة إلى قضية سجود الخلائق الكونية، وتسبيحها الدائم لخالقها العظيم.. إنها واحدة من الحقائق المؤكدة التي يشير إليها كتاب الله، في أكثر من موضع، دون أن يحدد طبيعة هذا السجود والتسبيح، أو يحدثنا عن كنهه: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً](الإسراء:44). [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ](النور:41). [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](الحديد:1، الصف:1). [وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ…](الرعد:13). [… يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](الحشر:24). وانظر: (الجمعة:1، التغابن:1). [.. وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ](الأنبياء:79). [إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِـيِّ وَالْإِشْرَاقِ](ص:18). [وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ](الرعد:15). [أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ. وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ](النحل:49-48). [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ…](الحج:18). [وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ](الرحمن:6).

وسواء كان هذا التسبيح والسجود والصلاة إعلاناً عن الطاعة والخضوع والانتظام في سلك المنظومة الكونية، التي تدير آلتها الجبارة إرادة الله وحده، أم كان تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، أم كان شكراً وعرفاناً وتقديراً للمنعم العظيم، فالأمر سواء، إنما هو – في كل الأحوال – ينطوي على بعد غيبي، قد لا تقدر أجهزة الإنسان الحسية والعقلية إدراك أبعاده، كأي أمر غيبي. ولكن يخطر على البال هنا ما كشفت الخبرات الفيزيائية والكوزمولوجية في مجال ما يشبه أن يكون وعياً حراً لحركة النيوترونات والبروتونات، وما يقابلها من حركة السدم والمجرات والنجوم.

حقاً، إن إدراك الطرائق التي تعمل بها الذرات والأجسام لمما يصعب تحقيقه.. ومهما تقدم العلم، وخطا خطواته العملاقة، فسيظل جانب من أكثر جوانب التركيب المادي بعيداً عن التكشف النهائي، مستعصياً على البوح بالسرّ المكنون.

ومهما يكن من أمر، فها هو العلم الحديث، في كشوفاته الأخيرة، يؤكد الحقائق الأساسية الآتية: ليس بمقدور العلم التوصل إلى الحقائق النهائية.. وليس بمقدوره أن ينفي الدين، أو أياً من الخبرات الإنسانية اللامادية الأكبر حجماً منه.. إن ما يجهله ليس أقل حقيقة من معطيات العلم نفسه!

يؤكد، بالمقابل، أهمية التجربة الدينية وضرورتها للحياة البشـرية، ويكشف العلم عن البطانة الروحية للعالم، فيلتقي ثانيةً مع الدين.

إن الكشوف العلمية الحديثة جاءت، كما يقول (سوليفان): “لكي تقطع الطريق على تلك المناقشات التي قامت لتثبت أن أياً من التفسيرات (الدينية) ما هي إلا مجرد وهم. لقد فعلت هذا عندما أظهرت أن العلم لا يعالج إلا ناحية جزئية من الحقيقة، وأنه لا يوجد أدنى سبب يبرر الافتراض بأن كل ما يجهله العلم، أو يتجاهله، هو أقل حقيقة مما يعرفه”([18]).

ثمة مسألة أخرى لا تقل خطورةً.. إن الكشوفات العلمية الأخيرة حطمت جدار المادة، وأطلت -وهي تتوغل في صميم الذرة – على عالم الروح الكامن في بنية العالم وتركيب الأشياء.. إن العلم يلتقي ها هنا مع الدين، مرة أخرى، والحقائق كثيرة، ويكفي أن نشير إلى بعضها:

إن بعض العلماء يرون أن الموجات الإلكترونية التي تشكل بنية المادة، كما هو معروف حتى الآن، يمكن أن تكون موجات احتمالية (Waves of Probability) من غير وجود مادي، مهما كان نوع هذا الوجود([19]). ويتفق علماء آخرون، مثل (أدينغتون) و(جينز)، على أن الطبيعة النهائية (Ultimate Natural) للكون هي طبيعة عقلية([20]). وفي هذا يقول أدينغتون: “إن مادة العلم هي مادة عقلية، ويردف أن المادة العقلية ليست منتشـرة عبر المكان والزمان، بل إن المكان والزمان جزء من المخطط الدوري، الذي هو – في نهاية المطاف – مشتق من المادة العقلية نفسها”. أما (جينز)، فيذهب مسافة أبعد، ويعتبر العالم كله طبيعة عقلية كاملة، بل يجعله فكرة في ذهن الله – جلّ في علاه –([21]).

وأحدث النظريات التي طرحها عدد من كبار العلماء في مطلع السبعينيات، ونشرت خطوطها العريضة مجلة (العلم والحياة) الفرنسية([22])، تقول بالمقابل أو المعادل اللامادي للتراكيب المادية في البنية السديمية والذرية على السواء، وأنه ما من إلكترون أو بروتون أو نيوترون، أو جسم كوني كذلك، إلا وتتواجد قبالته معادلاته اللامادية.

ومعنى هذا أن أكثر النظريات الفيزيائية حداثةً، تقدم تأكيداً أشد على تهافت المادية، وتشير – بلسان العلم المختبري، ومعادلاته الرياضية المركبة – إلى التواجد الروحي في قلب الكون، وفي صميم الذرة. وإننا لنقف هنا خاشعين أمام واحدة من جوانب الإعجاز القرآني، تلك المجموعة الكريمة من الآيات التي حدثتنا عن (تسبيح) الكون والذرات للخالق العظيم.

18. حول المنظور والمغيّب:

إن الخلق الكوني ينطوي، في حقيقة الأمر، على بعدين لا ينفصل أحدهما عن الآخر: المنظور والمغيّب، ونحن إذا استطعنا أن نصل إلى نتائج مقاربة في تعاملنا مع المنظور، فإنه يصعب علينا، بل يستحيل، الإحاطة علماً بالجانب المغيب.. ولكن، وكما أثبتت أحدث معطيات العلم في العصـر الحديث، وجود الغيب في صميم البناء الكوني، وحضوره المؤكد، فنحن بالتالي لا نستطيع، وليس بمقدورنا أن ننفي كل ما تراه حواسنا من ظواهر وموجودات.

لقد أكدت الكشوف الفيزيائية والكوزمولوجية الأكثر حداثةً، العمق الغيبي للظواهر الطبيعية الكبرى، وكيف أن العالم المادي لا يعدو أن يكون قشـرة سريعة الانكسار، فبعد تفجير القنبلة الذرية، ومن بعدها الهيدروجينية والنيوترونية، تأكدت هذه الحقيقة، وأن ما وراء القشـرة الهشة، تحتها تماماً، على بعد خطواتٍ منها، مخفية عن العيان، ومنطوية في عالم الغيب، قوى هائلة تفوق التصور، وتؤكد الحقيقة القرآنية التي طالما أشار إليها كتاب الله مراراً وتكراراً، من أن عالم الغيب أشد ثقلاً وحضوراً من العالم المشهود. والظاهرة لا تقتصـر على الغيب الفيزيائي وحده – إذا صح التعبير – ولكنها تمتد لكي تشمل الخلائق كافة، والقوى والطاقات الهائلة التي ينطوي عليها الكون، مروراً بالملائكة والجان، ووصولاً إلى كلمة الله، التي إذا أرادت شيئاً فإنما تقول له: (كن فيكون)!

أية قوة هائلة، مطلقة الأسار، غير محدودة، تنطوي عليها كلمة (كن) هذه؟! أية فاعلية جبارة لا يقف أمامها شيء، تملك هذه القدرة اللامحدودة على الخلق والإنشاء؟:  [قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً](الكهف:109). [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](لقمان:27).

والعقل البشـري الذي لا يزال، رغم كشوفه المدهشة، طفلاً يحبو عند حافات الكون، لن يكون بمقدوره إدراك ما تعنيه كلمة (الغيب)، وما تنطوي عليه من قوى خلاقة هائلة غير محدودة.. هايزنبرغ وشرودنجر واينشتاين وبور وماكس بلانك، والفيزيائيون والكوزمولوجيون الذين جاءوا بعدهم، فتحوا في القشـرة المنظورة ثغراتٍ ضيقة جداً، فرأوا الأعاجيب.. ترى ماذا لو رفع الغطاء كله؟ وما الذي سنراه؟!

إن إحدى الخصائص الأساسية التي تفرق الإسلام عن سائر المذاهب البشـرية، تكمن في النظرة إلى المعمار الكوني.. فالإسلام يراه بنياناً مركباً يتضمن المادي واللامادي، المنظور والغيب، الظاهر والباطن، الذي يمكن أن نتعامل معه بالحواس، والذي لا يمكن التعامل معه إلا بوسائط أخرى غير حسية؛ بدءاً بالعقل، وانتهاء بالوحي الإلهي، مروراً بقوة الروح.. هذا بينما تراه المذاهب الأخرى بنياناً مسطحاً ذا وجهٍ واحد، ومضمون غير مزدوج، فهو ذلك البنيان المادي المنظور، الظاهر، الذي تقدر الحواس على التعامل معه، والكشف عن أسراره ومعمياته!

يرى الإسلام في المعمار الكوني طبقتين: تبرز إحداهما بمواجهة الحواس، وتغيب الأخرى عن الرؤية المباشرة فقط، ولكنها في حقيقة الأمر ليست موجودةً فحسب، أو مؤكدةً فحسب، ولكنها أكثر ثقلاً وحضوراً وتأثيراً في الصيغة النهائية للمعمار الكوني، وفي المعطيات التي يتضمنها، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. وترى المذاهب البشـرية، التي بلغت أقصـى حدتها وتسطحها (في المادية الديالكتيكية)، في المعمار الكوني طبقةً واحدةً، ليس وراء كتلتها المادية، وجرمها الثقيل ذي الذرات والجزيئات والأحجام والمساحات، أي شيء على الإطلاق.. والذي ينتمي لهذا الدين، يحتم عليه -منذ اللحظة الأولى – أن يتجاوز هذه النظرة الأحادية المسطحة اللاصقة بالمنظور، صوب العمق: البعد الآخر للمعمار الكوني، والتيقن الكامل بأن هناك، فيما وراء هذه الطبقة المنظورة، طبقة أخرى غير منظورة، لكنها أكثر وجوداً وحضوراً وتأثيراً.

إنه الغيب الذي يحيط بالطبقة المرئية، يتخللها، يقف وراءها، يمتد إلى جذورها البعيدة، ويتطلع صوب الآفاق التي لا تطولها هذه الطبقة مهما علت شرفاتها، وامتدت أدوارها في السماء.. هذا الغيب الذي ينعكس حضوره على الوجود الكوني بأشكال وصيغ مختلفة، بدءاً من معجزة الخلق والتشكل التي يحقق فيها الغيب حضوره بصيغة منظور مادي، وانتهاء بدمار هذا المنظور وتفتته عند يوم الحساب، وبفعل قوة الغيب نفسه، مروراً بكل الصيغ والمعطيات اللامادية التي تملأ ساحة المعمار الكوني، تعجّ بها ردهاته وممراته وأروقته، بل إنها تتخلل جزئياته وذراته.

إن الله الخالق – سبحانه وتعالى-، والروح المنبعثة عن نفخة الله – جلّ في علاه-، والوحي الذي ينقل تعاليم السماء للأرض، لئلا يضل الإنسان ويضيع.. كلّها من الغيب.. وعلى المسلم أن يسلّم بها، ويطمئن لها عقله وقلبه ووجدانه، لأن مجرد انتماءه للإسلام، يعني قدرته على كسـر جدار المرئي القريب، والطموح بعيداً فيما وراءه صوب البعد أو الوجه الآخر للمعمار الكوني.

وإن الملائكة والجن والشياطين هي من الغيب الذي يتحتم أن نسلّم به، والذي يعكس تأثيراته المرئية وغير المرئية، بما يؤكد حضوره وفاعليته.. وإن طاقات الإنسان اللاحسية، بما فيها الخيال، والتذكر، وما يسمى بالحواس ما وراء الخامسة، وطرائق عمل العقل.. إلخ، لهي من الغيب الذي يتخلل الإنسان نفسه، ويمكنه – في الوقت ذاته – من مدّ الجسور بينه وبين الطبقة المغيبة من المعمار الكوني.

بل إن حركة الذرات المادية نفسها، ما يجري في مساراتها غير المرئية، ونيوتروناتها وبروتوناتها، ما يتدفق في فوتونات الأحزمة الضوئية، ما يخفق في جذب المغناطيس وانبعاثات الكهرباء.. لهي كلها، بشكل من الأشكال، حالة غيبية لا زالت مستعصية، كالروح نفسها، على التحليل النهائي الذي يخضعها للمختبر ويجعلها أمراً مرئياً وملموساً.. يتيح للإنسان أن يحيلها إلى المادي المنظور.

إن الانتماء للإسلام يعني التسليم بهذه الحقيقة حتى قبل أن يؤكدها العلم، وقبل أن تعبر عن نفسها عبر معطيات النشاط البشـري، وأفعاله الحضارية.. يسلم بها لأن الله سبحانه وتعالى يقول بوجود الطبقتين في معمار الكون، ويخرج به عن خداع الحواس، وأسر المحدود، والاعتقاد الضال بأن هذا المعمار لا يعدو ان يكون طبقة واحدة.

ومنذ الكلمات الأولى في كتاب الله، نلتقي بهذه الحقيقة، هنالك حيث يرتبط الإيمان بالغيب بسائر الممارسات الإسلامية التي يتعاشق معها، بل حيث يغدو الأساس الذي تقوم عليه رؤية المسلم، ويستند إليه سلوكه اليومي، وتبنى عليه أنشطته ومعطياته.. تلك هي العلامة الفارقة، والإشارة الحاسمة، والحدّ الفاصل بين الإيمان وبين الكفر، بين الإسلام وبين سائر المذاهب والرؤى والتحليلات.

طبقتان في المعمار الكوني، فليس ثمة بعد واحد، مسطح، ممسوخ، كما يريد الوضاعون أن يصوروا، وإنما هو البعد المركب، الغائر، والعميق، الذي يعكس الحقيقة النهائية كما خلقها الله سبحانه وتعالى، والذي يعبر عن السـرّ الإلهي الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في هذا المعمار الهائل.

والقرآن الكريم نفسه، في مقابل هذا كله، ينعى على الوضعيين رؤيتهم المسطحة هذه، وعلمهم التافه الهزيل، ونظرتهم القاصرة إلى الكون، فيصمهم بأنهم: [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا…](الروم:7)، ومن ثم، فإنهم لا يرون إلاّ المرئيات القريبة، فأما ما وراءها، من يتحكم بها ويصوغها، فإنهم عاجزون عن رؤيته. ومن أجل التغطية على عجزهم هذا، على قصورهم وانحسارهم، يلجأون إلى خدعة سهلة، لكنها مكشوفة، فيرفضون الاعتقاد بوجود طبقة أخرى للمعمار الكوني، وعالم آخر غير العالم الذي تلمسه الأيدي، وتسمعه الأذان، وتراه العيون.. بل إنهم يمضون، إلى ما هو أبعد من هذا، ومن أجل مزيد من التضليل، ومزيد من الاقتناع بصدق موقفهم، في الوقت نفسه، فينظّرون رؤيتهم هذه، يفلسفونها، ويقدمونها في إطار مذهب أو نظرية أو فلسفة، بل إن بعضهم يبلغ به الغرور أن يسعى لربطها بالعلم المختبري، رغم أن هذا العلم هو بحدّ ذاته أداة غير صالحة للحكم على الغيب، ورغم أنه – عبر العقود الأخيرة – أخذ ينحني للبعد الغيبي، ويقرّ بثقله وحضوره في صميم النسيج الكوني، بصيغة أو بأخرى.

ذلك معنى أن نسلّم بحقيقة المعمار الكوني ذي الطبقتين، وإلاّ فإن ألف فلسفة أو مذهب وضعي، أو تنظير، لا يفعل إلا بأكثر من أن يبني بين الإنسان وبين رؤيته العلمية المؤمنة للكون، سداً من الخرافات والأوهام والأضاليل والأهواء والظنون.. [وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً](النجم:28).

19. سرّ السماوات والأرض:

ولأنّ الله – جلّ في علاه-: [… يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](الفرقان:6). يجيء فعله بكلمة (كن) قادراً على أن يصنع كل شيء.. على أن يفكك ويشكل.. على أن يهدم الكون ويبنيه من جديد في دقائق ولحظات، بل في جزء لا نقدر على قياسه من الزمن.. (كن فيكون)، وصدق جلّت قدرته، وتعالت عظمته.

والحق أن في القرآن الكريم تعابير وكلمات، نمرّ بها حيناً مروراً سريعاً، فلا ندرك بعدها الحقيقي، ولا نمدّ أبصارنا في أعماقها المدهشة.. لكننا بين الحين والحين، ووفقاً (لوضعيتنا) الذهنية والنفسية، نتوقف عند بعضها، وعند ذاك ندرك المعنى الحقيقي لقوله تعالى: […تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ…](الزمر:23). [… الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](الفرقان:6). أي سر كبير هذا الذي يقوم عليه بنيان السماوات والأرض؟ أي سرّ شامل رهيب هذا الذي يتخفى وراء كتل الكون الرهيبة الهائلة، وذراته الصغيرة المتناهية، على السواء؟ أي سرّ عظيم هذا الذي يضبط وينظم ويوجه ويحرك خلائق الله جميعاً، في أبعد الآفاق وأقربها؟ أي سرّ عظيم هذا الذي يتفجر بوجه الشمس المحرق، ويتساقط به شلال الضوء القمري الحالم، وتتنادى به وتتهامس وتومض نجوم السماء؟ بل أي سرّ هذا الذي به نتنفس، ونأكل، ونمشي، ونفكر، وتخفق قلوبنا، وتهتز أرواحنا؟ ثم أي سرّ هذا الذي به وحده نضحك ونبكي، ونفرح ونحزن، ونحيا ونموت؟!

هل نقول – متجاوزين – إنه سرّ التكوين الرياضي والطبيعي للكون؟ والبيولوجي والفسلجي للحياة.. والنفسـي والميتافيزيقي للروح؟! ومن ثم، فإن الله – جلّ في علاه – الذي يعلم هذا (السـرّ)، الله الذي هو صانع هذا (السـرّ)، قدير في أية لحظة، وبقوة الكلمة المريدة، على أن (يفعل) ما يشاء؛ تحليلاً وتركيباً، تثبيتاً وتغييراً، في أية من هذه المساحات الكبيرة الثلاث: الطبيعة، والحياة، والروح. وهكذا نكون ساذجين، حمقى، بمجرد أن نتساءل دهشين: كيف سيبعثنا الله من قبورنا، وكيف سيحاسبنا ويسوقنا إلى جنة أو إلى نار؟!

إذا جاز لنا أن ننكر على رجل كهايزنبرغ؛ أو اينشتاين، أن يفجر الذرة التافهة، ويدمّر بها أعظم مدن الأرض، لأنه عرف (سرّها)! وإذا جاز للنملة، أو الدودة، أو الصـرصار، أن ترفض مقدرة رجل مثل (مندل) على أن يتحكم في ألوانها وخصائصها، لأنه عرف (سرّ) معطياتها الوراثية!.. جاز لنا أن نتساءل بالسذاجة نفسها: كيف سيبعثنا الله من قبورنا، وكيف سيحاسبنا ويسوقنا إلى جنة أو إلى نار؟ وإذا كانت قدرة الله – سبحانه وتعالى – لا تلمس، ولا ترى، فإن الطاقة الدماغية لأولئك العلماء لا تلمس هي الأخرى ولا ترى!

ونعود – مرةً أخرى – إلى الآية القرآنية المعجزة: [… الَّذِي يَعْلَمُ السّـِرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](الفرقان:6).. فإذا ما أتيح لكم – عبر لحظات الصفاء النفسـي، والهزة الروحية، والنفاذ الذهني- أن تتأملوا أبعد النجوم في مساراتها، وأحجامها، التي لا يطالها الخيال، والتي ظلت تمارس دورها؛ ضبطاً وحركة ونظاماً، ملايين الملايين من السنين الضوئية، وإذا ما أتيح لكم أيضاً، عبر اللحظات نفسها، أن ترقبوا قلب بني آدم، هذه المضغة الصغيرة من اللحم، وهو يدق بانتظام وطمأنينة عشـرين أو ثلاثين أو أربعين ألف يوم، مما لا تبلغ عشـر معشاره أدق وأعظم ساعة في العالم.. وإذا ما أتيح لكم أن تلحظوا النبتة الصغيرة، وهي تشق قشـرة الأرض لكي تستوي – بعد قليل- على سوقها، خضـراء، مطمئنة معطاء.. إذا ما أتيح لكم هذا وذاك، ومئات غيره من مواقف الدهشة والإعجاب والنفاذ في صميم خلق الله وإبداعه وجماله، قدرتم على أن تقفوا أمام كلمات الله وجلين، مقشعري الجلود.. لأنه جلّ جلاله: [… الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](الفرقان:6)!!

إن الانقلاب الكوني الكبير يوم القيامة، قد يقربنا بعض الشـيء: تلك الآيات التي تحدثنا عن انفطار السماء، وانتشار النجوم، وتكوير الشمس، ودك الجبال، وتسجير البحار.. إن علينا أن نقف طويلاً عند عبارة (مفاتح الغيب)، وعبارة (السـرّ في السماوات والأرض)، ونتجاوز تسطيح التفاسير القديمة، ونستدعي أكثر الكشوف الفيزيائية والكوزمولوجية جدة وحداثةً، لكي ندرك جانباً من أبعادهما المدهشة والمذهلة، ولكي يتبين لنا – بحق – أن كتاب الله سبحانه وتعالى، وكما حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقضـي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد). “إن حقيقة الغيب من مقومات التصور الإسلامي الأساسية، لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية، ومن قواعد الإيمان الرئيسية، وذلك أن كلمات (الغيب) و(الغيبية) تلاك، في هذه الأيام، كثيراً – بعد ظهور المذهب المادي – وتوضع في مقابل (العلم) و(العلمية)! والقرآن الكريم يقرر أن هناك (غيباً) لا يعلم (مفاتحه) إلاّ الله، ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل، وهذا القليل إنما آتاه الله به بقدر ما يعلم هو –سبحانه- من طاقته، ومن حاجته، وأن الناس لا يعلمون – فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ظناً، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً. كما يقرر -سبحانه وتعالى- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سنناً لا تتبدل، وأنه علّم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن، ويدرك بعضها، ويتعامل معها، في حدود طاقته وحاجته، وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقيناً وتأكداً أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق، دون أن يخل هذا بسنن الله التي لا تبديل لها، بحقيقة (الغيب) المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولاً”([23]).

إن الذين يرفضون الغيب من الملاحدة والعلمانيين، لا يفرقون بينه كبطانة للكون والعالم والإنسان، كبعد آخر مؤكد للوجود، بل كقاعدة لهذا الوجود، في أسبابه ومعطياته ونتائجه وغاياته النهائية، وكعلم يقيني مطلق خاص بالذات الإلهية، وبين الرجم بالغيب، أي الموقف المتخبط الضال الذي ينطوي على قبول النتائج دون أسبابها، والغايات دون مقدماتها، واعتماد الأساليب الملتوية النقيضة – ابتداء – للعلم، والمنهج، والمنطق، والتجريب، فيما يقودهم – في كثير من الأحيان – إلى الضـرب على غير هدىً في تحليل الظواهر والأشياء، والوصول إلى استنتاجات لا تقوم على أي أساس من العلم اليقيني الصحيح.

والقرآن الكريم يهاجم بصـراحة هذا الأسلوب الملتوي، قبل وبعد أن يرفضه ملاحدة القرنين الأخيرين: […وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ…](الكهف:22). وبالتالي، فهو يرفض كل ما يتمخض عن (الرجم بالغيب) من نتائج ومعطيات، ومن مذاهب ومبادئ، وعقائد وضعية، اتهمها الخصوم بأنها معلقة في سماء الأحلام، غير ممكنة التطبيق على أرض الواقع، بسبب من قيامها على الظنون والأوهام والتخمينات الخاطئة، والأحلام والمثاليات.

وكلنا نذكر التهمة التي وصم بها مهندسو الماديتين الديالكتيكية والتاريخية فلسفة (هيغل)، عندما أطلقوا عليها لقب (الفلسفة المثالية) التي تمشـي على رأسها، أي تحاول التعامل مع الظواهر والأشياء بشكل معكوس، واستبدلوها بالواقعية الاشتراكية، التي تمشـي على بطنها بحثاً عن لقمة العيش، وكأن الحياة لا تتجاوز إحدى اثنتين: العقل أو المعدة!!. كما أطلقوا على الاشتراكيات التي لم تسلم قيادها لهم، اسم (الاشتراكيات الطوباوية)، أي المثالية التي لا تستطيع أن تنزل إلى أرض الواقع، وهاجموا الغيبيات، وحاولوا إلغاءها نهائياً من القواميس.

وثمة فرق كبير شاسع بين (الغيب) و(الغيبية)، وفق هذه الرؤية الضبابية التي لا رصيد لها في عالم الواقع، وبين الغيب الذي يعد قاعدة التأسيس الإيماني في هذا العالم. ذلك أن الله – سبحانه وتعالى – الذي لا تدركه الأبصار، هو من الغيب، وظاهرة النبوة التي تتلقى التعاليم عن الله -سبحانه وتعالى-، عبر الكتب المنزلة من السماء، هي من الغيب، والجنة والنار، هي من الغيب، والملائكة والجان والشياطين، هم من عالم الغيب، والقدر خيره وشره هو من الغيب.. إلخ.. إلخ.. بل إنه حتى الظواهر العلمية؛ كالطاقة والحركة والضوء والجاذبية، هي – في ماهياتها، وليس في ظواهرها – من الغيب.

ولقد وردت كلمة (الغيب)، بهذه الدلالات، فيما يزيد عن الخمسين موقعاً في كتاب الله.. وكلها تؤكد المفاهيم نفسها، التي تتعارض ابتداء مع ما ذهب إليه الغربيون وأتباعهم في تفسيرهم للغيب. ولكن، إذا كان القرآن الكريم قد بنى التصور الديني على أساس الغيب، باعتباره المصدر اليقيني للمعرفة، فإنه أكد – في الوقت نفسه – على ضرورة وأهمية (التجريب)، واعتماد (الحواس)، وتعميق صلة (العقل) بما حوله؛ في حقول النفس والطبيعة والعالم والحياة، لاكتشافها وتسخيرها لخدمة الحضارة البشـرية ورقيها، وتحقيق فكرة (استخلاف) الإنسان على الأرض، من أجل أداء دوره الحضاري فيها.

ونحن نجد هذه (المسؤولية) الملقاة على عاتق الحواس والعقل في الآية: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصـَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً](الإسراء:36). وهنالك ما يزيد على خمسين وسبعمائة آية – على وجه التقريب – دعت المسلمين إلى ضرورة اعتماد الطاقات الحسية والعقلية والتجريبية، لاكتشاف قوانين الطبيعة والحياة، وتسخيرها لخدمة الإنسان، فيما قاد المسلمين إلى اكتشاف منهج البحث الحسـي التجريبي، الذي تدين له حضارة الغرب المعاصرة بالكثير الكثير، وفيما يؤكده كبار مؤرخي العلم من الغربيين أنفسهم، من أمثال: (الدومييلي) الفرنسي، و(جورج سارتون) الأمريكي.

20. الغيب والتجريب معاً:

إن تأكيد القرآن الكريم على الإيمان (بالغيب)، لم يمنعه من التأكيد على التجريب والاختبار والنشاط العقلي، والممارسة العلمية، بل على العكس، يتساوق معه، يوازيه، ويعتمده في تعميق الإيمان بالغيب، كتسخير يقيني للوجود الكوني والبشـري على السواء، بما فيه من دقة وضبط وتوافق وانتظام. يؤكد هذا أن ما قدمه القرآن الكريم حول بعض القوانين والسنن الكونية من معطيات (في حقول الطبيعة والحياة والفلك.. إلخ)، جاءت الكشوف العلمية أخيراً لكي تعززها، وتوضح أبعادها التي خفيت عن أذهان أجيال كثيرة في الماضي.. وهذا هو مصداق الآية الكريمة: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ](فصلت:53).

21. معجزة الخلق والنظام:

وهذا يقودنا إلى الإرادة الإلهية الكلية الشاملة، التي تملك القدرة المطلقة على الخلق والأمر، والتي بيدها ملكوت كل شيء، أن تبني هذا الكون المحكم؛ في جانبيه المنظور والمغيّب، وأن تتجاوز به التناقض أو الانهيار أو الزوال، وأن توحي في كل سماء أمرها، وأن تمسك بمقاليد السماوات والأرض، وتسوقها عبر أزمان لا يعلم مداها إلا الله – سبحانه وتعالى – في هذا المسار المحكم الذي تراه عيوننا، وتسمعه آذاننا، وتلمسه أيدينا، وتسلّم به عقولنا وأفئدتنا.. فقط إذا عرفنا كيف نفتت الران الذي يحيط بهذه الأفئدة والقلوب، ونجعلها تتفتح على هذه المنظومة المعجزة والمدهشة من الحقائق الكونية، التي تشهد جميعاً بأن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له – جلّ في علاه-: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ](فصلت:12-11). [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](الروم:22). [وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ…](الروم:25). [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ](الحج:70). [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ](لقمان:16). [يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ](سبأ:2). [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ](سبأ:3). [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ](يس:82). [رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ](الصافات:5). [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ… إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](الشورى:12). [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى](الأحقاف:33). [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ. وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ](الأحقاف:50-49). [قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ](المؤمنون:89-88). [وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ](الزخرف:84). [فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ ُرْجَعُونَ](يس:83).

في واحدة من أكبر المدن الآسيوية: (كوالا لامبور) عاصمة ماليزيا، أحدث عطل موقوت في شبكة الترافيك لايت، لم يتجاوز الدقائق المعدودات، إرباكاً هائلاً في المواصلات، وبالتالي في المسار اليومي للأنشطة المزدحمة المتشعبة كافة.

فماذا لو حدث عطل كهذا في مسارات النجوم والسدم والمجرات، عبر الكون العريض؟ ما الذي سيتمخض عنه، فيما ينذر بالويل الذي لا يحيط بأبعاده أشد الناس قوةً في الخيال؟

ملايين السنين، بالحسابات الضوئية، وحركة الكواكب والأقمار والنجوم والسدم والمجرات، تمضي في مساراتها المرسومة، دون أن تتحرك قيد أنملة عما أريد لها أن تمضي فيه: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ](ياسين:40-38).

إنها يد الله سبحانه القديرة، المريدة، الفاعلة، من يمسك بالكون، ويحميه من الفوضى والتسيب والارتطام، والإجهاز على كل شيء: [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً](فاطر:41). ولطالما حدثنا كتاب الله، في مواقع عديدة من آياته البينات، عن هذا الإحكام الكوني، ولفت أنظارنا إلى المشيئة المطلقة التي تقف وراءه (فيما سبق وأن أوردنا شواهده المزدحمة).

عطب في المكائن والآلات الكبيرة يمكن السيطرة عليه.. عطل في شبكة الترافيك يمكن إصلاحه وإعادة الأمور إلى نصابها.. لكن العطب الكوني، إذا قدر له أن يقع، فلن يكون بمقدور قوة في العالم أن تتداركه، وستقف أقوى دولة في الدنيا عاجزة يائسة مستسلمة أمام تحدّيه القاهر المخيف.

فكيف بعملية بناء الكون نفسه؟ أية قدرة مطلقة تمكنت من تصميمه وإنجازه؟ [مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً](الكهف:51).. هذا هو الجانب الآخر من المشهد الكبير، الذي طالما لفت القرآن الكريم أنظارنا إليه: خلق الكون!

إننا إذن أمام معجزتين كبيرتين: خلق الكون، والإمساك بنظامه المحكم.. وليس ثمة تفسير للمعجزتين سوى وجود الله – سبحانه وتعالى – الذي لا يعجزه شيء في السماوات والأرض، والذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون.. وكل التفاسير المادية الكافرة، التي سعت – ولا تزال – إلى إبعاد الوجود الإلهي عن الخلق والصيرورة الكونيتين، لا تعدو أن تكون تخبط عميان، و(سخفاً طائشاً)، إذا استعرنا عبارة (سوليفان) في (حدود العلم)، وهي جميعاً تدعو للسخرية، ولا تنطوي على أي قدرٍ من الإقناع لكل من يملك ذرة من بصيرة أو عقل.

وها هنا، عبر هذا الفارق الكبير بين المنظور القرآني لخلق الكون، بدءاً وصيرورةً وانتهاءً، وهدفاً ومغزى، وبين معطيات المخاليق، التي طاشت بها السهام حتى بلغت دهاليز (الجنون والدجنة) – إذا استخدمنا عبارة (فاولي)، في كتابه: (عصـر السريالية) – وتجاوزتها إلى قتل الله – وحاشاه –، وقتل الإنسان، كما فعلت تيارات الحداثة، وتركت ساحات الكون يهيمن عليها العبث، والفوضى، واللاجدوى، كما أجمع عليه رواد الطليعية والوجوديون والدادائيون والسـرياليون، وذبحت بسكينها؛ الملطخة بمعطيات العقل البشـري المحدود، الثوابت والمعتقدات، وأدخلت البشـرية دوامة القلق والتشاؤم واليأس والعذاب، والهروب إلى المغيبات، والانتحار، كما تشهد ساحات الدول المعاصرة الأكثر تقدماً: الولايات المتحدة واليابان والسويد.. حيث أعلنت فضائياتهم عن تخصيص ثلاثين مليار دولار لملاحقة حالات الاكتئاب والانتحار، في الساحة اليابانية، وحيث يصاب عشـرة بالمائة من الأمريكيين بداء الاكتئاب المركز، الذي يسوقهم إلى تناول العقاقير المغيبة، وفيما تشهده السويد، رغم التقدم الأسطوري لهذه البلدان على مستوى المدنية.. إنه خراب الروح، وغياب الهدف النهائي للحياة الدنيا، وضياع الإيمان باليوم الآخر، الذي توضع فيه الموازين القسط، ويتحقق الإنسان بالحياة الحقيقية الأبدية.. حياة بالطول والعرض والعمق.. فيما يمنح الأمل العميق بجدوى المسعى البشري في العالم..

ها هنا يمكن أن نستعيد التحدي القرآني مرة ومرتين وعشـرين مرة: [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ؟…](لقمان:11).. لا شيء!

إننا لو تأملنا الفارق بين صنع الله – سبحانه وتعالى – وصناعة العبيد، لوجدناه فارقاً في النوع، وليس في الدرجة، فارقاً حاسماً لا ينطوي على أية مقاربة بين قدرات الخالق والمخاليق!.. إن كل ما يفعله هؤلاء هو أنهم يلجأون إلى المادة الأساس، أو الأوليات، التي وضعها الله سبحانه وتعالى بين أيديهم، فيبدلون في نسبها وأحجامها، أو يسوون نتوءاتها وتعاريجها، لكي تكون أكثر ملاءمة لوضعهم البشـري، أو أنهم يكشفون عنها النقاب، بينما هي موجودة ابتداء، حاضرة مركوزة في فطرة الكون والناس والأشياء..

إن كل ما فعله هؤلاء، في حقول العلوم الصـرفة، أنهم كشفوا النقاب عن السنن والنواميس التي وضعها الله – سبحانه وتعالى – في تكوين العالم.. وفي العلوم التطبيقية.. وظفوا ما أعطاهم الله إياه من سنن ومواد خام، لم يستطع أي واحد منهم، ولن يستطيع، أن يخلق خلية، أو حجيرة واحدة، من العدم.. لن يستطيع أن يهب الحياة للجمادات، ويمنحها الحركة.. إنهم يجيئون إلى عالم أحكم الله – سبحانه وتعالى – صنعه، وأغدق على خلقه بنعمه، وخيراته، فهم لا يفعلون بأكثر من التغيير والتبديل في النسب والأبعاد، ولا يصنعون بأكثر من أن يكشفوا النقاب عن السنن، التي شاءت إرادة الله – سبحانه – أن تكون مغطاة، من أجل تحفيز الإنسان على البحث والكشف والتنقيب والفاعلية والتحضر.

إن الأشياء الكبيرة يصنعها الله – سبحانه وتعالى-، والبشـر لا ينجزون سوى الأشياء الصغيرة، ولا يقومون – إذا صح التعبير – سوى بالأمور التكميلية: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ…](الزمر:67). [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً…](البقرة:29). [… وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ…](الأنعام:101). [أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ..](الأعراف:185). [… وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً](الفرقان:2). [وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً…](فاطر:11). [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ](يس:71). [أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً](مريم:67). [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](القمر:49). [… أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ…](فاطر:40). [أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ. أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ](الواقعة:59-48). [أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ](النحل:17). [وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ](النحل:20). [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ](الطور:35). [ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ…](الأنعام:102).

على مدى خمسين عاماً والعلماء السوفييت – بأمر من الدولة – يعملون في مختبراتهم ومعاملهم لتخليق الحياة من المادة الميتة، والهدف واضح، أن تتأكد علمياً معطيات المادية الديالكتيكية، التي أصبحت عقيدة الحزب الشيوعي والدولة السوفيتية، والتي ألغت الله – سبحانه وتعالى – من الصيرورة الكونية، وجعلت المادة تخلق نفسها، وفق وهم المتغيرات الكمية، التي تتحول بقدرة قادر إلى متغيرات نوعية!! خمسون عاماً؛ أعلن العلماء في نهايتها عجزهم المطلق عن تحقيق المطلوب، وألقوا السلاح أمام معجزة الحياة!

العبرة بالخلق الأول من الموات، كما أكد عليه القرآن الكريم، وبإعادة الحياة للموات مرة أخرى، كما أكد القرآن الكريم أيضاً، وليس ببناء تشكيلات، وإقامة منظومات إبداعية، من المادة الحية، التي لم يكن لأحد من البشـر أي دور في بعثها على الإطلاق: [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ](البقرة:28).

خاتمة:

لقد سميت هذا البحث (مدخلاً) إلى بناء الكون في المنظور القرآني، وهو لا يعدو أن يكون تمهيداً لبحوث شاملة، ينفذها مجموعة من الباحثين المختصين بالعلوم القرآنية، وبعلم الفيزياء الكونية (الكوزمولوجي)، وأحسب أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي يقوم بمهمة كهذه من أجل ملء الفراغ في هذا الموضوع الذي تفرقت به السبل.. هذا إلى تناوله من قبل العديد من الباحثين في سياق الفكر الإسلامي المعاصر.

إن أية مقارنة جادة بين معطيات القرآن الكريم، بخصوص بناء الكون، وبين كشوفات العلوم الفيزيائية والرياضية المعاصرة، لا بدّ أن تضع في حسبانها مبدأ إحالة هذه الكشوف على المعطيات القرآنية، وليس العكس، بحالٍ من الأحوال.. ذلك أن علم الله الخالق والمالك – جلّ في علاه – هو غير معطيات الباحثين من علماء الفيزياء والرياضيات.. في الحالة الأولى نجدنا قبالة حقائق مطلقة يتحتم التسليم بها، وفي الحالة الثانية قبالة علوم تزداد بمرور الوقت قدرة على تجاوز ظنيتها، والالتحام الجاد بالحقائق الكونية.. وفي هذه الحالة، كما أكد هذا البحث مراراً وتكراراً، سيكون اللقاء الحميم بين الدين والعلم.. بين ما أكده كتاب الله، وما كشفت عنه العلوم المعاصرة بعد رحلة متطاولة في فيزياء الكون، لكن هذا لا يمنع من أن تكون هناك ثمة ثغرات، أو مساحات، لم يصل فيها أصحابها مرتبة اليقين المطلق، كما يؤكدون هم أنفسهم، وكما وردت الإشارة إلى بعضهم في صفحات هذا البحث.

لقد كتبت أبحاث كثيرة، استهدفت الإفادة من معطيات العلم الحديث، لتعزيز الإيمان بالله ورسالاته عموماً، وبالإسلام وكتابه الكريم على وجه الخصوص.. كما أن عدداً من التفاسير المعاصرة للقرآن مارست الأسلوب ذاته، بهذا القدر أو ذاك. وقد اتخذت تلك الأبحاث والمحاولات اتجاهات أساسية ثلاثة؛ تمثل أولها في فحص البنية الدقيقة المحكمة للكون على ضوء كشوفات العلم الحديث، وتأكيد القول بأن هذا الاعجاز البنائي لا يمكن أن يتحقق إلا على يد قدرة مريدة مدبرة ومتفردة، هو الله سبحانه وتعالى، وهذا ما نجده في أبحاث عديدة؛ من مثل (العلم يدعو للإيمان) لموريسون، و(الله يتجلى في عصـر العلم) لجماعة من العلماء، و(مع الله في السماء) لأحمد زكي، وغيرها.

وتمثل ثاني تلك الاتجاهات في شرح وتحليل مجموعة الإشارات القرآنية إلى هذا الإحكام في بناء الكون. والقرآن الكريم يعود المرة تلو المرة لكي يؤكد هذه الحقيقة الكبيرة الخطيرة، ويدعو الإنسان إلى التمعن فيها، وإدراك أبعادها، التي كادت لبداهتها ووضوحها أن تغيب عن العيان.

وأما ثالث الاتجاهات، وأكثرها ارتباطاً بالموضوع، فيتمثل بالمحاولات العديدة، الخصبة، لتفسير الآيات، والمقاطع القرآنية، التي كشفت عن عدد من الحقائق المتعلقة ببناء الكون، ما كان الإنسان يومها بقادر على الكشف عنها، وجاء العلم أخيراً لكي يزيح عنها النقاب، ويؤكد بأساليبه الخاصة، صدق المقولات القرآنية. ونستطيع أن نعثر على نماذج للاتجاهين الأخيرين في مؤلفات: عبد الرزاق نوفل، ونديم الجسـر، ومصطفى محمود، ووحيد الدين خان، ومحمد قطب، ومحمد رشيد رضا، وطنطاوي جوهري، والنديم، وموريس بوكاي، وزغلول النجار، والزنداني.. وغيرهم.

إنّ الذي يقرأ كتاب الله، في محاولة للإحكام بطبيعة موقفه من (العلم)، يجد نفسه أمام حشد من الآيات البينات، ممتدة وفق أبعاد أربعة، توازي المسألة العلمية في اتجاهاتها كافة. يتناول أولها مسائل تتعلق بطبيعة العلم وآفاقه وأهدافه، فيما يعرف بفلسفة العلم ونظرية المعرفة. ويتناول ثانيها منهج الكشف عن الحقائق العلمية المختلفة. ويعرض ثالثها لمجموعة من السنن والقوانين والحقائق في مجالات العلم المختلفة، وبخاصة الطبيعة والجغرافيا وعلوم الحياة، فيما يسمى بالعلوم المحضة، أو الصـرفة. ويدعو رابعها لاستخدام هذه السنن والحقائق، التي كشف عنها المنهج التجريبي في البحث، من أجل ترقية الحياة وتنميتها على طريق خلافة الإنسان لإعمار الأرض، فيما يعرف بالعلوم التطبيقية (التقنية).

وما من شك في أن هناك ارتباطاً وثيقاً ومحكماً بين هذه الأبعاد، يقود أحدها إلى الآخر. فالفلسفة تحلل أهداف العلم، والمنهج يقدم طريقة عمل للكشف عن الحقائق: السنن والنواميس التي تحكم الكون والعالم والحياة، وتحمي صيرورتها الزمنية ذات النظام المعجز.. وهذه السنن والنواميس تمنح الإنسان –بدورها- المعادلات التي يتمكن بها من أن يدخل إلى صميم التركيب المعجز هذا لبنية الكون والعالم والحياة، من أجل اعتماد تلك السنن والحقائق لتنفيذ قدر من (التطبيقات) العلمية، تمضـي بالحضارة البشـرية قدماً صوب الأحسن والأرقى، وتتيح للإنسان التحرر من شدّ الضـرورات، لكي يكون أكثر قدرةً على محاورة السماء، وتلبية حاجاته الروحية، التي بها يتميز الإنسان عن سائر الخلائق، ويتمكن من تنفيذٍ أكثر امتداداً لمقتضيات خلافته (العمرانية) في العالم.

وإنه لأمر بديهي أن تتعانق معطيات القرآن ومعطيات العلم، وتتوازيان، لا أن تتضادا، وتقوم بينهما الحواجز والجدران. ذلك أن مصدر العطاء واحد، وهو الله – جلّ وعلا – صانع السنن والنواميس ومنزل القرآن.. ليس هذا فحسب، بل إن الإنسان، باعتباره معنياً بالاثنتين معاً؛ الإنسان بما أنه المستخلف في هذا العالم، واليد التي تسعى لإعماره، يقود إلى هذا اللقاء الأكيد بين كتاب الله وسننه في هذا العالم. وكيف يستطيع الإنسان أن يؤدي دوره، في إطار تعاليم القرآن وشرائعه، إن لم يتحرك –ابتداء- لفهم هذا العالم والكون، والكشف عن سننهما ونواميسهما؟!.

يقول الباحث الإنكليزي (روم لاندو)، في كتابه (الإسلام والعرب)([24]): “في الإسلام لم يول كل من الدين والعلم ظهره للآخر، ويتخذ طريقاً معاكسة، لا، وبالواقع أن الأول كان باعثاً من البواعث الرئيسية للثاني”([25]). ويقول: “العلم الإسلامي لم ينفصل عن الدين قط. والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسية. ففي الإسلام ظهرت الفلسفة والعلم معاً إلى الوجود، لا ليملآ محل ألوهية الدين، ولكن لتفسيرها عقلياً، لإقامة الدليل عليها، وتمجيدها… إن المسلمين وفقوا، طوال خمسة قرون كاملة، إلى القيام بخطوات حاسمة في مختلف العلوم، من غير أن يديروا ظهورهم للدين وحقائقه، وأنهم وجدوا في ذلك الانصهار عامل تسـريع ونجاح، لا عامل تعويق وإحباط”([26]).

وهذا البحث، الذي كان في الأصل مطولاً، لا تستوعبه صفحات المجلة، إنما يمثل واحدة من الحلقات الثلاثية التي قدم لنا كتاب الله منظوره المعجز لخطوطها العريضة. وثمة حلقتان أخريتان عملت عليهما لإتمام الصورة، قد يتاح لهما النشـر مستقبلاً، وهما: (مدخل إلى بناء العالم في المنظور القرآني)، و(مدخل إلى نهاية التاريخ في المنظور القرآني)[27].. هذا الكتاب المعجز الذي لا تنقضـي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد.


* دكتوراه في التاريخ والحضارة الإسلامية من جامعة عين شمس بالقاهرة … أستاذ متمرس في كلية آداب جامعة الموصل – العراق. البريد الإلكتروني  Imadaltalib@yahoo.com

[1]   دافيز، الله والفيزياء الحديثة، مرجع سابق، ص 6.

[2]   المرجع السابق، ص 7.

[3]   المرجع السابق، ص9.

[4]   المرجع السابق، ص .16

[5]   المرجع السابق، ص 19.

[6]   المرجع السابق، ص 173.

[7]   المرجع السابق، ص 254.

[8]   المرجع السابق، ص 268.

[9]   سوليفان، حدود العلم، مرجع سابق، ص 33-32.

[10]   المرجع السابق، ص  36.

[11]   المرجع السابق، ص 45-44.

[12]   عقائد المفكرين، مرجع سابق، ص 60-58.

[13]   سوليفان، حدود العلم، مرجع سابق، ص 54-52.

[14]   المرجع السابق، ص 33.

[15]   المرجع السابق، ص 34-33.

[16]   المرجع السابق، ص 36.

[17]   أبو زيد، أحمد. “هل مات دارون حقاً”، مجلة العربي الكويتية، (تموز، 1962م).

[18]   سوليفان، حدود العلم، مرجع سابق، ص 49-48.

[19]   المرجع السابق، ص41-40.

[20]   المرجع السابق، ص45.

[21]   المرجع نفسه، ص48-47، المرجع السابق، ص48-47.

[22]   ينظر بالتفصيل: الترجمة العربية في مجلة (النور) المغربية، العدد الثامن، السنة الرابعة، (1977م).

[23]   قطب، سيد. في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، ط35، 2005م، ج7، ص 1114-1113.

[24]   الإسلام والعرب، ترجمة: منير البعلبكي، الطبعة الثانية، بيروت: دار العلم للملايين، 1977م.

[25]   المرجع السابق، ص 246

[26]   المرجع السابق، ص 281-280.

[27]  تنويه: البحثان اللذان أشار إليهما د. عماد؛ نشرا في أعداد سابقة من مجلة (الحوار). انظر: العددين (183)، و(185) من المجلة.

العدد ١٨٧ ǀ ربيع ٢٠٢٤ ǀ السنة الحادية والعشرون

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى