بين الجهل والتضليل: قراءة في ضياع البوصلة الإسلامية

هاوين أنور عبد الله - بنت الكورد

نافذة على الواقع: حين يُختطف الدين من أهله:

حين يغيب نور الوحي عن العقول، تُرسم للإسلام خرائط مشوّهة لا تمتّ إلى هدي القرآن والسنة بصلة.. نُسقط عليه أهواءنا، ونُلبسه ثوبًا من نسيج العاطفة والجهل، لا من نور الفهم والعلم. وهذه ليست أزمة عابرة، بل مأساة متجذّرة في عجزنا عن مدارسة كلام الله وكلام نبيه محمد ﷺ، وفي بساطة عقولنا التي تغرق في الحماس، وتفتقر إلى البصيرة.

نعيش اليوم زمن تشوّه في فهم الدين وشكله العملي.. وأكثر ما يؤلم أن ذلك التشوّه لا ينشأ من عدوّ غريب فحسب، بل ينبع في أحيان كثيرة من داخل صفوف أمتنا: من جهلنا بديننا، ومن ميلنا إلى الحكم على الأمور بعواطف جياشة دون هُدى العقلِ ومنهجِ العلم.

الجهل حين يتزيّا بثوب العلم

الجهل بالدين — كلّه أو جزء كبير منه — يترك أثرًا فتّاكًا على مصائر الناس والمجتمعات.. فهو الذي أضاع علينا معرفة تاريخنا وحاضرنا، فخضعنا لأقوال المتعلّمين السفهاء الذين يتزيّون برداء العلم، وانجرفنا خلف شعاراتهم، بينما نفرنا من كلام العلماء الربّانيين، أهل الذكر، الذين صدّقهم الله فصدّقوهم، وكانت أفعالهم ترجمانًا لأقوالهم.

فحين نجهل قدر العلماء، ونستهين بخبرة أهل الذكر الذين حفظوا التراث ونقّبوا في مصادر الشريعة، نكون عرضة للانقياد وراء متشدّقين لا تمت أقوالهم للحق بصلة.. وهنا تكمن الخسارة الكبرى: نخضع لأقوال المتعالمين، وننفر من حكماء الأمة الذين تُصَدِّقُ أفعالُهم أقوالَهم، ويهدونَا إلى الوسطية والاعتدال.

من الحماس الأعمى إلى فخاخ التضليل:

إضعاف المعارف الدينية يصنع لدى البعض أحكامًا سطحيّة، ويزرع فيهم نزعةً إلى الحماس الأعمى؛ حماسٌ لا يقترن بالعمل الصالح المدروس، بل يتحوّل إلى تطلعات خالية من الأساليب، وأحكام تغلبُ عليها العاطفة والاندفاع.

والنتيجة أن شبابنا — بل حتى غالبية الناس — قد يقعون فريسةً لآليات تضليل محكمة، فيتحوّل بعضهم إلى أدواتٍ تُستغلّ لأهداف لا علاقة لها بحفظ الدين أو نصرة الأمة.

نحن قوم نحلم ولا نعمل، نجهل الحق وندّعي حبه، نرفع رايات لا نفهم معانيها، ونردد شعارات لا نفقه مقاصدها.. وهكذا وقعنا في براثن مصائد الأعداء الذين يعرفون حقيقتنا أكثر مما نعرف أنفسنا، فصنعوا لنا فخاخًا باسم الإسلام والجهاد، فوقع فيها شبابنا، وتحولوا إلى أدوات قتل في جسد الأمة، وهم يظنّون أنهم في رباط وجهاد.

غياب المرجعية: حين تُهمل السنن وتُنسى السيرة:

إن مشكلة الضياع هذه مكمنها الأساسي هو إهمال القرآن والسنة والسيرة النبوية كمصادر مركزية للفهم والتطبيق، وعدم مدارسة حركة التاريخ وفهم السنن الإلهية.. فإذا جفّت هذه المراجع، بقيت مواعظ العلماء الربّانيين حبيسة الرفوف، لا يُسمع لها إلا نادرًا.

وكل كلمة صادقة من هؤلاء العلماء — إن أُعرض عنها الناس — تكون خاسرة، والخسارة تعمّ الناس والمجتمعات والمآلات.. وإن قبلوها، كانت سبيلًا إلى إصلاح عميم، ومحافظة على دين الله، ونيل العزّة.

تشويه الإسلام: بين الداخل والخارج:

لنكن واضحين: هناك من يعمل على تشويه صورة الإسلام واستغلال غياب الوعي لصناعة فوضى باسم الدين.. إن وقائع العنف والتطرّف التي تُرتكب باسم الإسلام تبرز مدى حاجة الأمة إلى وعي نقدي، وإلى فصل واضح بين الدين ومَن يستغله سياسيًا أو أيديولوجيًا.

كما أن ما نراه من خلط بين أهداف القوى الدولية والإقليمية وبعض التنظيمات الإرهابية، يتطلب قراءة يقظة وتحليلاً رشيدًا، لا تبنّي ادعاءاتٍ دون تمحيص، ولا تفنيدًا عاطفيًا سطحيًا.

داعش: نموذج التزييف المركّب:

(داعش) مثال صارخ على هذا التزييف: صناعة أمريكية أوروبية صهيونية ماسونية شيعية، ومدعومة أيضًا من قبل بعض الحكومات العربية.. مهمتها قتل المسلمين السنة، وتخريب المدن السنية وتسليمها للشيعة أو لبني صهيون.

هذه ليست أوهامًا، بل حقائق لمن قرأ واستمع لأقوال العلماء الربانيين، أهل الذكر والعلم، الذين جاهدوا بكلمة الحق، لا طلبًا لسلطة أو شهرة، بل نصرةً لدين الله ليحكم في الأرض بالعدل والرحمة.

ثلاث خطوات للنجاة:

نحن مدعوّون إلى ثلاث خطوات عملية وملموسة:

1 – العودة إلى مصادر الشريعة: القرآن الكريم، السنة النبوية، والسيرة، بفهم علمي منهجي، لا بانطباعات سطحية أو تأويلات عاطفية.

2  – استعادة مكانة العلماء الربّانيين: ذوي العلم والورع، والاعتماد على حكمهم واستشارتهم، بدلًا من الانصياع لمن يتزيّون برداء العلم.

3  – مواجهة التضليل بالتربية والتفكير: عبر برامج تثقيفية تعيد للأمة وعيها النقدي، وتجهّز الشباب بأدوات التمييز بين الحق والزيف.

ختام مسك: جهاد الجهل أول المعركة:

إصلاح الواقع ليس دعوة إلى اليأس، بل نداء للعمل والاجتهاد بالعلم والحكمة، وبإخلاص لوجه الله تعالى.. هذا الإخلاص يمنح الإنسان وعيًا ناضجًا، ويتحرّر به من تصلّب الرأي الذي يُفقده فهم عمق الدين ولطف منهجه ومرونة توجيهاته.

ومن يفعل ذلك يكون بحق مخلصًا لرسالته في حفظ دين الله، ونصرة الأمة، وتمكين أهل الله.

ونعيد مرارًا وتكرارًا:

إن أخطر ما يواجه الأمة ليس سلاح العدو، بل جهلها بما أنزل الله، وانقيادها خلف من يضل ويُضلّ.

فكل كلمة حق من أهل الذكر هي جهاد، وكل صمت عنهم خيانة.

ومن كان صادقًا مع الله، مخلصًا في طلب الحق، فإن الله سيهديه إلى الصراط المستقيم، ويكشف له زيف الشعارات، ويفتح له أبواب البصيرة.

فالإسلام لا يُنصر بالحماس، بل بالعلم والفهم والعمل؛ ولا يُحفظ بالشعارات، بل بالصدق والوعي.

ومن أراد أن يكون في رباط، فليبدأ بجهاد الجهل، فإن أول المعركة أن تعرف عدوّك، وأول النصر أن تعرف دينك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى