إسرائيل قاعدة عسكرية وأداة وظيفية للغرب
أ. د. فرست مرعي

في الثاني من (نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917م)، وقبل احتلال بريطانيا لفلسطين بشهر كامل، أصدر وزير الخارجية البريطاني البروتستانتي آنذاك اللورد “آرثر جيمس بلفور” (1916 – 1919م)، في عهد رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد لويد جورج”، التصريح الشهير الذي أصدرته الحكومة البريطانية، والذي تعلن فيه تعاطفها مع الأماني والأحلام اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في (فلسطين)، وحين صدر هذا الوعد كان أعضاء اليهود لا يمثلون أكثر من 5% من مجموع السكان في فلسطين.
وكان مما جاء في هذا الوعد الشهير، الذي أُرسل إلى اللورد (إدموند روتشيلد)، أحد زعماء وأثرياء الحركة الصهيونية البريطانيين: “يسعدني أن أُنهي إليكم، نيابة عن حكومة جلالة الملك، التصريح التالي: “تعاطفًا مع أماني اليهود الصهاينة التي قدّموها ووافق عليها مجلس الوزراء، إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف نبذل ما في وسعنا لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهومًا بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق أو الأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى”.
ومنذ العصر الكولونيالي (= الاستعماري) في القرن التاسع عشر، وإدراك بريطانيا الإنجيلية نفسها كقوّة عسكرية وصناعية صاعدة (= القوّة البحرية الأولى في العالم)، أصبحت مقولات كبار مصلحيها وخبرائها الاستراتيجيين؛ من العسكريين والسياسيين، تترى بضرورة إسكان اليهود في فلسطين، لتحقيق هذه النبوءات.
ففي عام (1839م)، قال اللورد (أنطوني أشلي)، الإصلاحي الإنجيلي، في خطاب له: “إن اليهود رغم أنهم غلاظ القلب، وغارقون في المعصية، وينكرون اللاهوت، فإنهم ضروريون بالنسبة للأمل المسيحي في الخلاص”.
وفي عام (1841م) كتب ضابط الأركان البريطاني في الشرق الأوسط “هنري تشرشل” (107- 1869م)، إلى رئيس مجلس الممثلين اليهود في بريطانيا “موسى مونتغيور” (1784 – 1885م)، قائلاً: “لا أستطيع أن أُخفي عنك رغبتي الجامحة في أن أرى شعبك يحقّق مرة أخرى وجوده كشعب. إنني أعتقدُ أنه يمكن تحقيق الهدف بدقة، ولكن لا بد من توافر أمرين لا غنى عنهما؛ أولا إن على اليهود أنفسهم أن يتحمّلوا الأمر على الصعيد العالمي، وبالإجماع، وثانياً: إن على القوى الأوروبية أن تساعدهم، وبكلمة واحدة، يجب وضع سوريا وفلسطين تحت الحماية الأوروبية، وحكمهما بالمعنى وروح الإدارة الأوروبية. لا بد أن يصل الأمر إلى هذا الحد في النهاية. يا لها من فائدة عظيمة، بل كم هي ضرورية، عندما تُناقش وتُناقش القضية الشرقية أخيرًا بهذا النور الجديد المُلقى حولها، أن يكون اليهود مستعدين ومستعدين ليقولوا: “ها نحن هنا جميعًا ننتظر، متلهّفين للعودة إلى تلك الأرض التي تسعون إلى إعادة تشكيلها وتجديدها. نشعر بالفعل بأننا شعب. لقد انتشر الشعور بيننا، واشتعل وأصبح طبيعة ثانية؛ أن فلسطين تطالب بعودة أبنائها. لا نطلب سوى استدعاء من هذه القوى التي يعتمد مصير الشرق على نصائحها للبدء في المهمة المجيدة المتمثلة في إنقاذ بلدنا الحبيب من التأثير المُدمّر لقرون من الخراب، وتتويج سهوله ووديانه وقممه الجبلية من جديد بكل جمال ونضارة ووفرة عظمته البكر.”
ورغم هذه المقولات التي نراها تصدر عن زعماء الحركة الصهيونية؛ من المسيحيين الإنجيليين قبل اليهود، فقد ظلّ تاريخ الحركة الصهيونية متعثرًّا قبل ظهور (هرتزل)، وظلّت الصهيونية فكرة غير قادرة على التحقّق، لأن وقود هذه الحركة – وهم اليهود أنفسهم – لم يكونوا متحمّسين للهجرة من أوروبا إلى فلسطين، واستمر ذلك حتى ظهور الصحفي النمساوي (ثيودور هرتزل) (1860 – 1904م) مؤسس الحركة الصهيونية.
ومن جهته، يرى الأكاديمي والمفكّر المصـري “عبد الوهاب المسيري” (ت 2010م)، في كتابه القيم “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”: أن هرتزل حلّ الإشكالية القديمة بضـرورة إحياء مشروع إعادة اليهود لفلسطين بطرق عملية، وبيَّنَ التنظيرات التي سبَقَه إليها الصهاينة المسيحيون. ويقول: إن هرتزل قام “بوضع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، استنادًا للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم هذه الحضارة، ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي.. ولم يكتف بوضع العقد، وإنما قام بتأسيس المنظّمة التي طرحت نفسها كإطار تنظيمي يمكن من خلاله توقيع العقد مع الحضارة الغربية”.
وأشار (هرتزل)، في المؤتمر الصهيوني الأول عام (1897م)، إلى ضـرورة التفاهم التامّ مع الوحدات السياسية المعنيّة، حتّى يتمّ الحديث عن حقوق الاستعمار، والمنافع التي سيقدمها الشعب اليهودي برمّته، مقابل ما يُعطى له. ويتأمّل المسيري في هذا “العقد الصامت” بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، وإدراك الطرفين الأهمية النفعية المادية المتبادلة لكل منهما، وأن هذا العقد سيتضمن تعهّد الحركة الصهيونية بإخلاء أوروبا، أو على الأقل الفائض البشري اليهودي، وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي، وداخل دولة وظيفية.
وتتحقق نتيجة ذلك عدّة أمور مهمّة، على رأسها: أن “يؤسّس المستوطنون – في موقعهم الجديد – قاعدة للاستعمار الغربي، وتتعهّد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الاستراتيجي، ومنها الحفاظ على تفتُّت المنطقة العربية، وستقوم الحركة الصهيونية بالسيطرة على الشباب اليهودي، وحشد يهود الغرب – المعروفين بثرائهم – ليدعموا هذا المشروع الغربي”.
ونظير ذلك “سيقوم الغرب ككل برعاية هذا المشروع ودعمه، كما أنه سيساعد الحركة الصهيونية في الهيمنة على يهود العالم الغربي.. ويمكن القول إن الحل مُتضمّن في تعهّد الدول الغربية بضمان بقاء الدولة الوظيفية (اليهودية، في فلسطين المحتلة)، الأمر الذي يعني استعدادها لاستخدام الآليات المألوفة المختلفة ضد السكان الأصليين؛ من طَرد أو إبادة أو محاصـرة”، على حدّ وصف المفكّر المصـري “عبدالوهاب المسيري”.
و”الوعود البلفورية” مصطلحٌ سكّه المسيري للإشارة إلى مجموعة من التصريحات التي أصدرها ساسة الغرب، يدعون فيها اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، ويعِدُون بدعمه وتأمينه مقابل أن يقوم اليهود بخدمة مصالح الدول الراعية. بالإضافة إلى ذلك، تنحو الحضارة الغربية منحى “التماسك العضوي”، أي إن عدم التجانس والاختلاف يصبح سلبيًا كريهاً، وعدم قدرة هذه الحضارة على التوصّل إلى إطار تتعامل من خلاله مع الأقليات، وخاصة اليهود، إلا من خلال “التهميش”، وجعلهم “جماعة وظيفية”.
ويعدّ “نابليون بونابرت” (1769 – 1821م) من أوائل القادة الغربيين الذين أصدروا وعدًا بلفوريًا، وهو أيضًا أوّل مَن غزا المشرق العربي والإسلامي في العصر الحديث.. وسنلاحظ في هذا الوعد أن فرنسا “تُقدّم فلسطين لليهود، في هذا الوقت بالذات. وهذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرّر لآلاف السنين.. تدعوكم فرنسا للاستيلاء على إرثكم، بل لأخذ ما تمّ فتحه، والاحتفاظ به، بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء”.
لا يختلف تصـريح نابليون عن وعد بلفور، فنابليون يعتبر أعضاء الجماعات اليهودية شعبًا غريبًا عن وطنه، مما يعني إسقاط المواطنة عنه، وهو شعب مرتبط بفلسطين.. ورغم وجود عبارات مثل “الشعب الفريد”، والذين عاشوا “تحت قيد العبودية والخزي منذ ألف عام”، و”ورثة فلسطين الشرعيين”، فإننا سنجد حقيقة الدوافع الخفية لنابليون في تشريعاته داخل فرنسا!.
فلم يكن (نابليون) يكنّ كثير الحب والاحترام لليهود، بل إن الهدف من وراء تحفيزهم للهجرة إلى (فلسطين) هو تفريغ (فرنسا) منهم، بسبب المشكلات التي كانت قد بدأت في الظهور بسبب هذا الوجود، عشيّة الثورة الفرنسية.. والأمر الثاني: أن يكونوا “جماعة وظيفية” في خدمة المصالح الفرنسية.. وهذا ما قاله ملك إيطاليا لهرتزل، وقد وافقه على رأيه.
وهناك أيضًا وعد بلفوري ألماني، صدر بعد عدّة أشهر من إنشاء الحركة الصهيونية؛ فقد تمكن (هرتزل) من لقاء أحد كبار المسوؤولين الألمان الذي تحدّث مع القيصر عن الموضوع، وصدر خطاب من (دون إيلونبرج) باسم حكومة القيصر إلى هرتزل في (سبتمبر/ أيلول 1898م).
وممّا جاء في الخطاب: “إن صاحب الجلالة على استعداد أكيد ليناقش الأمر (توطين اليهود) مع السلطان (العثماني)، وأنه سيسعده أن يستمع إلى مزيد من التفاصيل منكم في (القدس). يحبّ جلالته أن يخبركم باستعداده أن يأخذ على عاتقه مسؤولية محميّة (يهودية) في حالة تأسيسها. وجلالته حينما يكشف لكم عن نواياه، فهو يعوّل بطبيعة الحال على مقدرتكم على الكتمان”.
ولم يكن هدف قيصر ألمانيا “فيلهلم الثاني- وليم الثاني” (1888 – 1918م) مختلفًا عن هدف “نابليون” من قبله، ففي تعليقه على تقرير سفير ألمانيا في (سويسرا)، عن المؤتمر الصهيوني الأوّل سنة (1897م)، يورد الأسباب التي دعت ألمانيا إلى تأييد المشروع الصهيوني، ومنها أن توطينهم سيعمل على رخاء فلسطين، وإنعاش الخزانة العثمانية حليفة ألمانيا. ولم يكن وقتها يدرك الرفض القاطع من السلطان “عبد الحميد” لهذه الأفكار والوساطة الألمانية. وكان (فيلهلم) يرى أن طاقة اليهود ستوجّه إلى أهداف أكثر نبلاً من استغلال المسيحيين، وأن إفراغ ألمانيا من اليهود الذين فيها، “وكلما عجّلوا بالذهاب. كان ذلك أفضل، فلن أضع أية عراقيل في طريقهم”.
ويعلّق المسيري أيضاً على هذا الوعد؛ بقوله: “لعلّ موقف القيصـر من اليهود، بما يتّسم به من كرهٍ عميق لهم، وترحيب شديد بالتخلّص منهم، واستعداد تام لتوظيفهم في خدمة المصالح الألمانية، لا يختلف كثيرًا عن موقف نابليون من قبله، أو موقف بلفور من بعده”.
لا يختلف هذا التصريح عن تصريحات كل من نابليون، وقيصر ألمانيا، من قبل. ولكن يضاف إليه ما يمكن وصفه بالمكر الإنكليزي، حين ادّعوا أن هذا التصريح لن يخل بـ”الحقوق المدنيّة للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين”. وبالرجوع لبلفور نفسه، الذي كان قد تولّى رئاسة وزراء بريطانيا بين عامي (1903 – 1905م)، فإننا سنراه يهجم على اليهود المهاجرين لبلاده، لرفضهم الاندماج مع السكان، واستصدر لأجل ذلك تشريعات تحدّ من الهجرة اليهودية، لخشيته من شرٍّ قد يلحق ببلاده.
ومن اللافت أن المادة (401) من قانون أميركي صدر عام (1940م)، تنصّ على أن أي مواطن يصوّت في انتخابات سياسية في دولة أجنبية، يفقد جنسيّته الأميركية على الفور. إلا أنه في عام (1967م) استُثني من هذا القانون يهود الولايات المتحدة.. وصدر هذا القرار عن مجلس القضاء الأعلى بأغلبية صوت واحد فقط، كان صوت العضو اليهودي في المجلس “بايس أفرديم”.
وكما يقول الباحث اللبناني” محمد السمّاك”، في كتابه (الصهيونية المسيحية): إنه كما يتمتع يهود الولايات المتحدة بهذا الاستثناء، من دون سائر المواطنين الأميركيين، فإن إسـرائيل أيضاً تتمتع بمعاملة استثنائية، من دون سائر دول العالم. فعندما احتلّت إسرائيل، في عام (1967م)، بالقوّة المسلحة، سيناء في مصر، والجولان في سوريا، والضفة الغربية، وقطاع غزة، بما فيها القدس في فلسطين، استُثنيت من تطبيق القانون الدولي، الذي يعدّ احتلال ومصادرة أراضي دولة أخرى بالقوّة العسكرية عملاً غير شرعي.. فالقانون يُطبّق على كل دول العالم، عداها. ويعود هذا الموقف الأميركي، والغربي الإنجيلي، من إسرائيل، إلى إيمان دينيّ يؤكد أن وجودها – في حدّ ذاته – معبّر عن إرادة إلهية، ويُجسّدها.
وعندما شذّ الرئيس الأميركي الأسبق الجنرال “دوايت آيزنهاور” (1953 – 1961م)، عن هذه القاعدة، واعترض على احتلال إسـرائيل صحراء سيناء في عام (1956م)، إثر مشاركتها في حرب السويس مع بريطانيا وفرنسا (العدوان الثلاثي)، اعتُبر موقفه اعتراضًا على إرادة الربّ.
وتجنّبًا لهذه المواجهة، سكت الرئيس الأسبق “ليندون جونسون” (1963 – 1969م)، في عام (1967م)، على الحرب الإسرائيلية التي وجّهتها للأقطار العربية في مصر وسوريا وفلسطين، بل سكت عن استهداف الصهاينة للسفينة العسكرية الأميركية” ليبرتي”، الذي أدّى إلى مقتل 34 بحّارًا أميركياً، وإصابة 171 آخرين بجروح مختلفة. ويرصد السمّاك، في كتابه السابق، أن إسرائيل حينما غزت لبنان عام (1982م)، كان بين قواتها جنود يهود أميركيون، ذلك بأن اليهودي الأميركي لا يتمتع فقط بحقّ التصويت السياسي خارج الولايات المتحدة، ولكنه يتمتع أيضًا بحقّ العمل العسكري داخل صفوف القوات الإسرائيلية المسلّحة، وهو امتياز لا يتمتع به أي مواطن أميركي آخر.
فالدفاع عن إسرائيل ليس مجرد عمل عسكري يتمّ بقرار سياسي، إذ إن ربط الدفاع عن إسرائيل بعقيدة دينية، يجعل أيّ اعتراض، أو أيّ عرقلة للدفاع عنها، ومؤازرتها، اعتراضًا على إرادة إلهية، وعرقلة لهذه الإرادة.
ومن المواقف المعبّرة عن ذلك، قول الرئيس الأميركي الأسبق “جيمي كارتر” (1977 – 1981م): “إن قيام إسرائيل في عام (1948م) يعني العودة أخيراً إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين. وإقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية، والتنفيذ الجوهري لها”.
هذه النبوءة التوراتية القديمة هي جزء لا ينفصل من عقيدة المسيحية البروتستانتية، التي جاءت كعملية تهويد كبرى للمسيحية، وأصبح الترابط العضوي والفكري بين الجانبين منذ القرن السادس عشر الميلادي، وحتى اليوم، لا يكاد ينفصل.
أمّا الرئيس “رونالد ريغان ” (1981 – 1989م)، ففي سعيه لكسب الأصوات اليهودية، حرص على زيادة الروابط مع المؤسسات اليهودية الصهيونية في الولايات المتحدة، قبل موعد الانتخابات الرئاسية. وقام ريغان بتعيين اليهودي (مارشال بيرغر) مسؤولاً عن التنسيق بين لجنة الحملة الانتخابية، والمجموعات اليهودية في الولايات المتحدة. وعين اليهودي “ألبرت شبيغل” رئيساً لحملته الانتخابية، وأخذ “شبيغل” يعرض لليهود سجل “ريغان” المؤيّد لإسرائيل، ومنها حضور “ريغان” تجمّعات مؤيّدة لإسرائيل خلال حرب الأيام الستة (= حرب حزيران) في عام (1967م)، عندما كان حاكماً لكاليفورنيا. وخلال حملته الانتخابية زار “ريغان” المنظمة اليهودية “بناي بريث” في “واشنطن”، في (3 سبتمبر/ ايلول عام 1980م)، وألقى خطاباً قال فيه: “إن إسرائيل ليست أمّة فقط، بل هي رمز، ففي دفاعنا عن حقّ إسرائيل في الوجود، إنما ندافع عن ذات القيم التي بنيت على أساسها أمّتنا”.
وبعد سقوط شاه إيران “محمد رضا بهلوي” عام (1979م)، وقبل انتخابات الرئاسة الأمريكية، أدلى “ريغان” بتصريح لجريدة “الواشنطن بوست”، في (15 أغسطس/ آب 1979م)، جاء فيه: “إن أي منظمة إقليمية مؤيّدة للغرب، لن تكون لها أي قيمة عسكرية حقيقية دون أن تشترك إسرائيل فيها بشكل أو بآخر”.
وكان أهمّ موضوع في الحملة الانتخابية للمرشح “ريغان”، هو مزاعمه بعجز إدارة “كارتر” في تقدير أهمية (إسرائيل) كرصيد استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.. ففي مقالة له في “الواشنطن بوست”، ذكر بأن وضع الولايات المتحدة ستكون أضعف في المنطقة بدون الأرصدة السياسية والعسكرية التي توفرها إسرائيل، كقوة مستقرّة، وكرادع للهيمنة الراديكالية.
فضلاً عن ذلك، كانت هناك أسباب اقتصادية تدفع دول أوروبا الغربية إلى منع تمركز يهود شرقي أوروبا، القادمين من روسيا ورومانيا، في غربها ولا سيما في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة فيما بعد.
في عام (1985م) وقف مندوب إسرائيل “بنيامين نتنياهو” في الأمم المتحدة، قائلاً: “لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ (2000م) عام، تفجّرَ من خلال المسيحيين الصهيونيين”.
تُلخّص هذه المقولة من “نتنياهو” حقيقة العلاقات الصهيونية المسيحية اليهودية.. فالصهيونية لم تكن قطّ حركة يهودية فقط، بل كان مبدؤها وداعمها الأكبر المؤمنين بها من المسيحيين الإنجيليين؛ لأهداف دينية متعلّقة بتسريع عودة المسيح، عند اشتعال معركة “هيرمجدون”، التي لن تحصل إلا بوجود اليهود في (فلسطين).
كما لا يمكن نسيان اعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس كعاصمة أبدية لإسرائيل في عهد الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) الأولى عام (2017م)، واحتفاله رسمياً بالعيد اليهودي – الحانوكاه – في البيت الأبيض مع أركان إدارته، وبحضور بعض الحاخامات اليهود الأمريكيين، في (7 ديسمبر / كانون الأول عام 2017م). كما يشير أحد المقالات إلى زيارة نائب الرئيس الأمريكي السابق “مايك بنس” لإسرائيل في (21 يناير/ كانون الثاني 2018م)، ومن ثم تفقّده لحائط البراق – ما يسمّى بـ(حائط المبكى) – لابساً القبعة اليهودية (= الكيباه)، كما كان سلفه الرئيس (ترامب) قد فعل الشيء نفسه في زيارته الأخيرة إلى إسرائيل.. وأشار الأمريكيون أيضاً إلى أن الحائط الغربي – حائط المبكى (حائط البراق) -، الذي يقع في القدس الشرقية، سيكون جزءاً من دولة إسرائيل في أيّ اتفاق سلام.
وكان الرئيس الفرنسي (ماكرون) قد احتفل بالعيد اليهودي (الحانوكاه)، رغم الادعاء بأن فرنسا عَلمانية حتّى النخاع. وعدّها العديد من السياسيين والمؤرخين والمراقبين الفرنسيين بأنها مخالفة صريحة للعلمانية الفرنسية.
منظمة الأيباك اليهودية الأمريكية، ودعمها اللامحدود لإسرائيل:
منظمة “الأيباك”، هي اللجنة الأميركية – الإسرائيلية للشؤون العامة(الأيباك)، واختصارها (AIPAC)، تُمثّل اللوبي الذي يستخدمه يهود الولايات المتحدة الأميركية في العاصمة – واشنطن-، من أجل توفير الدعم لإسرائيل، بكافة أشكاله. وهذه المنظمة تأسست العام 1954، وتعتبر من أقوى جمعيات الضغط داخل الولايات المتحدة.
والمبادر إلى تأسيسها هو “يشعيا غيفن”، عضو المجلس الصهيوني الأميركي، في عهد الرئيس الأميركي “دوايت إيزنهاور”، لكن تمّ تغيير اسمها لاحقاً، وهي مسجلة رسميا بموجب القوانين الأميركية كجماعة ضغط (لوبي) للقيام بمهمة الدعاية لدعم إسرائيل باسم الطائفة اليهودية الأميركية. إذ إنه قام في العام 1951م بالتشاور مع بعض زعماء اسرائيل آنذاك، أمثال: موشي شاريت (= وزير الخارجية الاسرائيلي آنذاك)، وآبا ايبان (= مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة)، وتيدي كوليك (رئيس بلدية القدس)، بهدف السعي المباشـر إلى تأسيس لوبي صهيوني أميركي لزيادة الدعم المالي لإسرائيل، التي كانت في بداية عهدها، والتي كانت تواجه صعوبات مالية، خاصة في مطلع الخمسينيات، جرّاء توافد المهاجرين اليهود إليها. واتّخذت اللجنة في عام 1959 اسم (اللجنة الإسرائيلية – الأميركية للشؤون العامة)، وتم تسجيلها رسمياً بموجب قوانين جماعات الضغط الأميركية المحلية.
تتشكّل اللجنة التنفيذية لـ أيباك من جميع الطوائف اليهودية الرئيسية في الولايات المتحدة، ولها جهاز دائم للعمل، وتضم أيضاً في عضويتها – إضافة إلى يهود – أعضاء من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.. وتبلغ ميزانيتها السنوية أكثر من 67 مليون دولار، ولها 18 مكتباً، موزّعاً في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
عدد أعضاء أيباك المؤيّدين يصل إلى أكثر من مئة ألف شخص في أميركا، إضافة إلى آلاف المتطوعين، كما تضم طواقم من المفكرين والباحثين، بعضهم خبراء في السياسة الأميركية الداخلية، وتقوم بتقديم تقارير مالية فصلية كل ثلاثة أشهر إلى وزير الخارجية، ورئيس مجلس النواب. وتعمل هذه اللجنة بشكل واضح بأسلوب الضغط على الإدارة الأميركية، والمؤسسات الأميركية الأخرى، من أجل توفير الدعم المالي لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تعميق التحالف الأميركي – الإسرائيلي، ومنع حصول تقارب أو تحالف بين الإدارة الأميركية وإحدى الدول العربية، أو مجموعة من الدول العربية، في حالة وجود ضـرر لإسرائيل من جراء هذا التحالف. وتؤكّد هذه اللجنة أن وجود إسرائيل في منطقة الشرق الاوسط الاستراتيجية مهم جداً لحماية المصالح الأميركية الحيوية في هذه المنطقة، وللمساهمة الفعالة في التصدي للنفوذ السوفييتي (قبل انهياره). وبعد ذلك بدأت اللجنة تُشدد على أن إسرائيل تواجه بقوّة كل أشكال الإرهاب في العالم، وبالتحديد في الشرق الأوسط، وأيضاً فإن إسرائيل تعمل لمنع أخطارٍ، من الممكن أن تحصل في هذه المنطقة المهمة في خارطة الاستراتيجية الأميركية. وبالمقابل، تؤكّد اللجنة على أن إسرائيل هي دولة تسير وِفق النظام الديمقراطي، وهذا يتوافق مع المصالح الأميركية العالمية. وتشدّد على أن إسرائيل تختلف عن جاراتها الدول العربية، التي تفتقر إلى أُسس النظام الديمقراطي، وهي بهذا تؤكد بصورة قاطعة أن إسرائيل قريبة من الولايات المتحدة أكثر من أية دولة عربية. وتسعى اللجنة إلى الضغط على الكونغرس الأميركي لمنع إصدار أيّ تشريع جديد قد يؤذي إسرائيل، أو يؤثّر على العلاقات الأميركية – الإسرائيلية. وتضغط اللجنة من أجل نيل المزيد من الدعم المالي، بواسطة تعميق العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والولايات المتحدة، لزيادة الدعم بواسطة الهبات والقروض. وتتحول القروض مع الوقت إلى هبات، بحيث إن (أيباك) تسعى إلى شطب الديون الإسرائيلية المتوجّبة للإدارة الأميركية.
أمّا من الناحية العملية، فإن اللجنة تقوم بتزويد كل عضو من أعضاء الكونغرس بوثائق وبيانات حول كيفية التصويت في الكونغرس أثناء عرض اقتراح أو مشروع له علاقة بإسرائيل. ويعمل أعضاء (الأيباك) في الضغط على أعضاء الكونغرس، بواسطة اللجوء إلى الزيارات الخاصة، ودعوتهم إلى لقاءات واحتفالات وموائد، وما أشبه ذلك من أساليب التقرب والاستمالة. ولا تكتفي اللجنة بهذه الأساليب، بل إنها تتقرب أكثر إلى رؤساء اللجان العاملة داخل الكونغرس، في سبيل ترتيب وتنظيم عمليات الاقتراع على قرارات ومشاريع قوانين لها علاقة بإسرائيل. ولا يتوقف نشاط هذه اللجنة في نيل التصويت الملائم لأهدافها، بل إنها – وعلى الفور بعد تحقيق ما تريده من أعضاء الكونغرس – تقوم بتكريمهم، والكتابة عنهم في بياناتها ونشراتها المختلفة.
ورغم التعديلات التي أُدخلت على قوانين التبرع الفردي للمرشحين السياسيين، وحصـرها بألف دولار، إلا أن (أيباك) قامت بتأسيس لجان من مجموعة أفراد، تستطيع كل لجنة أن تتبرع بمبلغ خمسة آلاف دولار. وبلغ عدد هذه اللجان ما يزيد عن الخمسين.. وسعت (أيباك) إلى عدم إظهار اللجان على أنها خاضعة لها، أو للوبي اليهودي، كي لا تُثار مسألة الضغط اليهودي على المؤسسات الأميركية، أو أنها تسعى من أجل تفضيل فئة على غيرها في الولايات المتحدة، أو خارجها.
ونجحت (أيباك) في إسقاط عددٍ من أعضاء الكونغرس، أو إفشالهم في الانتخابات، حال قيام هؤلاء بدعم دولة عربية، أو دعم القضية الفلسطينية. وتوفّر (أيباك) خدمات أُخرى لأعضاء الكونغرس، مثل كتابة خطاباتهم بلغة مثيرة، ومبنية وفق أُسس مدروسة، تتضمن دعماً لإسرائيل وقت الضرورة، وكذلك توفّر لهم معلومات حول الشرق الأوسط، من خلال النشرة التي تقوم بإصدارها بشكل دوري، تحت اسم (Near East Report).
ومن جهة أخرى، فإن تكتيك العمل لدى (أيباك) هو توزيع نشرات وبيانات عن نشاطاتها، وأسماء أعضاء الكونغرس الذين سيتم تجنيدهم، ووعدهم بالوقوف إلى جانبهم في عملية الانتخابات.. ولا تكتفي (أيباك) بهذه الخطوات، بل إنها تقوم – بالتنسيق مع لجان وهيئات صهيونية ويهودية أخرى – في سبيل دعم إسرائيل. وتعرّضت (أيباك) إلى هجمات من معارضي سياستها، أو بعض توجهاتها، خاصة عندما اعترضت على قيام الإدارة الأميركية ببيع الأسلحة إلى بعض الدول العربية. وسمعت أصوات داخل الولايات المتحدة تقول إن هذه اللجنة تتدخل في شؤون الولايات المتحدة الداخلية لصالح دولة أخرى. وكذلك تعرضت (أيباك) إلى معارضة من بعض الجهات الإسرائيلية، بأنها تسعى إلى العمل بشكل مستقل عن سياسيي إسرائيل. ورغم المعارضة هذه، أو أشكال النقد الموجه إلى هذه اللجنة، إلا أنها تعرف دائماً كيف تحافظ على خيوط العلاقة التوفيقية بين كونها جسماً أميركياً، وجسماً مؤيّداً لإسرائيل.
وتهتم (أيباك) بتنظيم مؤتمرات لأعضائها، والمؤيدين لها، لتقديم تقرير شامل حول أعمالها ونشاطاتها، ورؤيتها المستقبلية. وتقوم بتقديم برنامجها السنوي العام إلى الهيئات الرسمية الأميركية، وعلى الأخص الإدارة الأميركية، والكونغرس، وهيئات الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ومنذ فترة ليست ببعيدة، شـرعت (أيباك) في الدخول إلى الجامعات للتأثير على الهيئات الطلابية، وعلى المحاضـرين، وذلك حينما شعرت بازدياد نفوذ هيئات وحركات أممية ومدنية وإسلامية وعربية، تدعم الحقوق المشـروعة للشعب الفلسطيني. وفي المقابل تحاول زيادة الضغط على الأوساط المسيحية الراديكالية، والأصولية، المختلفة (البروتستانتية، المعمدانية، والإنجيلية) حلفائها الرئيسيين؛ لكسبهم إلى جانب المؤيدين لإسرائيل (حقّها في العيش في منطقة الشرق الأوسط)، وإبعاد الكنائس المسيحية (الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والآرثوذكسية المشرقية غير الخلقدونية)، وبعض الطوائف والمنظمات اليهودية غير الصهيونية، عن القضية الفلسطينية وعدالتها.. بل أكثر من ذلك، فإن (أيباك) تقوم – في جملة ما تقوم به من نشاطات – بتصوير العرب والمسلمين بالتخلّف، والتطرف السياسي والأخلاقي، وإلصاق تهمة الإرهاب بكل ما هو من قيم وشيم الإسلام.
وتجدر الإشارة إليه أنه في فترة حكم “بنيامين نتنياهو”، الّتي شهدت أجندة يمينية مُتطرفة، أسفرت عن مُعاداة الحزب الديمقراطي، فقد قاد حملة لمُناصرة “ترامب”، ممّا دفع الأيباك إلى الانجرار خلفه.. كذلك عندما كان “جو بايدن” نائبًا للرئيس “باراك أوباما”، قاد “نتنياهو” حملة شـرسة ضد الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعّه “أوباما”، وقد شملت الحملة هجوماً يمينيًا ضد كل الديمقراطيين.. وقامت “الأيباك”، المُلتزمة بدعم سياسات الحكومات الإسرائيلية، بمُناصرة “نتنياهو” في حملته هذه، الأمر الذي أغضب العديد من الديمقراطيين، الذين اعتبروا هذا انحيازًا سياسياً للجمهوريين.. كذلك، أصبح هناك تصوّر لدى النخبة السياسية الأمريكية بأنّ “الأيباك” أصبحت لوبياً يهوديًا مُنحازاً إلى حزب الليكود الإسرائيليّ، من جهة، وإلى الجمهوريين والمُحافظين في الولايات المتحدة، من جهةٍ أخرى.. لذا حاول “نفتالي بينيت”، في بداية فترته لرئاسة الحكومة الإسرائيليّة الانتقالية – الّتي استمرّت لعام واحد فقط، وهو عام 2022 – رأب هذه التصدعات بين أيباك والنّخبة الأميريكيّة، في محاولة لتصويب علاقات “الأيباك” بالديمقراطيين، لا سيّما تحت إدارة “بايدن”.
يشار أنّه بالرّغم من حجم تأثيرها، إلّا أنّه هناك أيضًا منظّمات أخرى، مثل “اتّحاد مسيحيين لأجل إسرائيل”، أو ما يُسمّى الإنجيليين الأفنجيليين، الّذي يحدّ من مكانتها كأكبر لوبي مُناصر لإسرائيل من داخل الولايات المتحدة.
تأثير أيباك على عملية “طوفان الأقصى” 2023- 2025م:
ارتبطت “أيباك” خلال العقد الأخير بحزب الليكود الإسرائيلي، والحزب الجمهوري الأمريكي، ارتباطًا وثيقًا.. إذ يتوقع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” سيطرة الحزب الجمهوريّ الأميريكيّ على السياسة الأميركية في المستقبل القريب، بينما لا يزال أغلب اليهود الأميركيين ديمقراطيين. تدعم أيباك حكومة نتنياهو بشدّة. كما تنفق الكثير من الميزانيّات في سبيل إسقاط أي سياسي أميركي تعدّه ناقدًا لسياساتها وسياسات نتنياهو. من جهة أخرى، لذلك يخشى كثير من أعضاء الكونغرس إغضاب “أيباك”، ممّا يجعلها منظّمة رادعة لتوجّهات أعضاء الكونغرس المناهضة أو الوسطيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة.
بدأت مواجهة النائب الديمقراطي “بوكان” مع “أيباك”، بعد أن صوّت مجلس النواب في 25/10/2023م، عقب تمرير قرار يتعهد بدعم ثابت لإسرائيل، وهو ما يعكس موقف الولايات المتحدة من الحرب الفلسطينية الإسرائيلية 2023. هذا القرار لم يأخذ بالحسبان عدد الضّحايا المتزايد من المدنيين في غزة. كذلك، هذا القرار مهّد الطريق لتصويت لاحق على 14 مليار دولار إضافية من المساعدات العسكرية لإسرائيل غير المشروطة.. صوّت 8 ديمقراطيين، ونائب جمهوري واحد، ضدّه. لاحقًا نشرت المنظمة على منصة “إكس” تغريدة تتهم هؤلاء النواب بمعاداة السامية. كما وصفوا بوكان بأنّه يحاول استبقاء “حماس” في السلطة.. ردّ “بوكان” بالنّفي على هذه الادعاءات، ووصف “أيباك” بالكاذبة. وقال بأن: “الولايات المتحدة ترسل مليارات الدولارات سنوياً لمساعدة إسرائيل، كيف لا نساعد في إطعام ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون في سجن مفتوح في غزة، الذين ليسوا من حماس؟ نحن لا ندعم الحركة، نحن لا ندعم قتل الأطفال فقط، وهو ما يبدو أن أيباك تدعمه”. وبعد بضعة أيام، بدأت أيباك حملة على النائبة “ألكساندريا أوكاسيو كورتيز”، التي تتنافى توجهاتها التقدمية مع توجهات المنظمة، وعدّتها “خائنة”.
كما هاجمت أيباك النائب الجمهوري “توماس ماسي”، لتصويته ضد القرار الذي صوّت لأجله بتاريخ 25/10/2023م، واصفة إياه بأنه “معادٍ للسامية”. ورد النائب بالقول: “إنّ هذا التشويه الذي لا أساس له يهدف إلى تخويفي للتصويت لإرسال 14 مليار دولار من أموالنا إلى دولة أجنبية”.
وفي السياق نفسه، في أعقاب المظاهرات الّتي انطلقت في أرجاء الولايات المتحدة دعمًا للقضيّة الفلسطينيّة، اتّهم المتظاهرون ضدّ الحرب الفلسطينيّة الإسرائيليّة 2023 عضوي مجلس الشيوخ “تشاك شومر” و”كيرستن غيليبراند”، وزعيم الأقلية في مجلس النواب “حكيم غيفريز”، بتلقي تبرعات كبيرة من “أيباك”، والتواطؤ في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة. في المقابل، ردّدت مجموعة مناصـرة لإسرائيل هتافات رافضة لإعلان وقف إطلاق النار في غزّة. وفي تشرين الثاني من عام 2023م، طلب الرئيس الأميركي “جو بايدن”، مبلغًا إضافيًا قدره 14.3 مليار دولار من الكونغرس، من أجل تقديم الدعم العسكري لإسرائيل. ومنذ الحرب الفلسطينية الإسرائيلية 2023 شهدت الولايات المتحدة العديد من الحراكات في مناطق مختلفة من البلاد. وكان من أبرز تلك التحركات ما شهدته العاصمة واشنطن ومدينة نيويورك، حيث طالب المشاركون الإدارة الأميركية بالتراجع عن الموقف الداعم وغير المشروط لإسرائيل في حربها على قطاع غزة.
ومن جانب آخر، فقد شهدت الدورة الانتخابية لعام 2022م، حملة إنفاق(AIPAC) الفائقة التي حطمت الأرقام القياسية، من خلال طرح عشرات الملايين من الدولارات في عمليات شراء الإعلانات ضد المرشحين التقدميين، في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، لصالح مرشحين أكثر تحفظاً، وأكثر دعماً لإسرائيل.. كما شنّت أيباك هجمات بلا هوادة على النائبتين المسلمتين: رشيدة طليب، وإلهان عمر.. كما نشرت سابقًا إعلانات تعرض وجه “إلهان” بالفوتوشوب بجوار صواريخ حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الّتي أسفرت عن تلقي النائبة ذات الأصول الصومالية تهديدات بالقتل. وحتى بعد توبيخ – نادر –، أدان فيه “نانسي بيلوسي”، و”ستيني هوير”، – اللذان كانا آنذاك أكبر ديمقراطيين بارزين – هذه الإعلانات، رفضت “أيباك” إزالتها، بل موّلت استمرار عرضها لعدّة أشهر لاحقة.
في شهر أيار/ مايو 2022م، تم الكشف أيضًا عن أن أيباك تنفق الملايين، عبر مجموعة بديلة (مشروع الديمقراطية المتحدة (UDP)- الذي لم يذكر إنشاءه من قبل أيباك – لهزيمة الديمقراطيين التقدميين، وخاصة المرشحات اللاتي قد يتحالفن معهن، مع “فرقة” من أعضاء الكونغرس التقدميين، المكونة من “ألكسندريا أوكازيو كورتيز” و”إلهان عمر” و”رشيدة طليب”.
أنفق الحزب الديمقراطي المتحد 2.3 مليون دولار ضد المرشحة “سمرلي”، في السباق التمهيدي للكونغرس الديمقراطي، في ولاية بنسلفانيا. أيدت “سمرلي” وضع شـروط للمساعدات الأمريكية لإسرائيل، واتّهمت الدولة بارتكاب فظائع في غزّة، وقارنت الإجراءات الإسرائيلية بمعاملة الشباب السود في الولايات المتحدة. كما أنفق الحزب الديمقراطي المتحد مليوني دولار في الانتخابات التمهيدية لمجلس الشيوخ في ولاية كارولينا الشمالية، لدعم الرئيسة الحالية “فاليريا فوشي”، ضدّ “نداء علام”، أوّل امرأة أمريكية مسلمة تشغل منصبًا منتخبًا في ولاية كارولينا الشمالية، والمديرة السياسية لحملة “بيرني ساندرز” الرئاسية لعام 2016.. كلا المرشحين معتمدان من قبل الفريق.
وقد أنفق الحزب الديمقراطي المتحد مبلغًا إضافيًا قدره 1.2 مليون دولار لمساعدة عضو الكونغرس الديمقراطي عن ولاية تكساس، “هنري كويلار”، في مواجهة تحدٍّ من “جيسيكا سيسنيروس”، محامية الهجرة البالغة من العمر 28 عامًا، والتي أيّدتها الفرقة أيضًا. ووصف “كويلار” (منظمة العفو الدولية) بأنها “معادية للسامية”، بعد نشـر تقريرها الذي يتّهم إسرائيل بجريمة الفصل العنصـري، بالاتّفاق مع منظمة (هيومن رايتس ووتش)، وغيرها من جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية والدولية.
وقد وصف “لوغان بايروف”، المتحدث باسم “جي ستريت”، أيباك بأنها “منظمة واجهة جمهورية”.. وهي حقيقة قال إنهم يحجبونها أثناء “محاولة إقناع الناخبين الديمقراطيين بمن يجب عليهم دعمه”.. وأضاف: “يبدو مشروع الديمقراطية المتحد غير ضار… لكن السبب وراء توافقهم مع مرشحين معينين هو أنهم أكثر توافقًا مع مواقفهم الأكثر تشدّدًا بشأن إسرائيل”.
تجدر الإشارة إلى أنّ موقع أيباك يفتخر بأنّ 98% من المرشحين الذين دعمتهم قد فازوا في انتخاباتهم، وأنّ لجان التمويل التابعة لها قد دشنّت بالفعل هجوماً ضد مناهضي إسـرائيل في الكونغرس. وحجزت أوقات بثّ إعلانات سياسية تستهدف عددًا من المعارضين لإسرائيل؛ مثل: النواب: رشيدة طليب، وجمال بومان، وسمر لي. وتودّدت المنظمة إلى المرشحين المنافسين لهؤلاء النواب في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، في محاولة لإنهاء حياتهم السياسية الأميركية، بهزيمتهم في انتخابات 2024. هذه الهجمات لم تخف النائب “بوكان”، الذي استمر في نقده لأيباك، وقال: إن “السبب في ضغطي عليها هو أنها أصبحت خطيرة، فهي تتظاهر بحيادها الحزبي، لكنها أصبحت جماعة ضغط يسيطر عليها الحزب الجمهوري.. لقد حان الوقت لكشف حقيقتهم، بدلاً من الخوف منهم”.
حملة أمريكية لمقاطعة أيباك:
إن جرائم الإبادة والتجويع والهجرة، التي مارسها الإرهابي “نتن – ياهو” بحقّ أهالي قطاع غزّة، ربّما كان الداعي الإنساني لإطلاق العديد من المنظّمات اليهودية الأميركية، والآلاف من العمّال وطلبة الجامعات المؤيّدة للقضية الفلسطينية، وللتنديد بهجمات إسرائيل على قطاع غزّة. وقد تجمّع العمال المؤيّدون للسلام أمام مكتبة نيويورك، ثم ساروا نحو مقر عام منظمة أيباك، إذ انتقد المتظاهرون السياسيين الذين يحصلون على تبرعات من “أيباك”، وطالبوا أعضاء الكونغرس الأمريكي بوقف تلقي التبرّعات من جماعات الضغط المؤيّدة لإسرائيل. كما طالبوا بوقف فوري لإطلاق النار في الحرب الهمجية التي تشنّها إسرائيل على غزّة، بدعم أمريكي؛ رغم التنديد العالمي. واتهموا عضوي مجلس الشيوخ “تشاك شومر” و”كيرستن جيليبراند”، وزعيم الأقلية في مجلس النواب “حكيم جيفريز”، بتلقّي تبرّعات كبيرة من “أيباك”، وتواطؤهم في الحرب على غزّة.
كما قامت شبكة مؤسسات فلسطينية أميركية، بحملة جماهيرية في الولايات المتحدة، تدعو فيها إلى مقاطعة مجموعة الضغط السياسي المؤيّدة لإسرائيل (أيباك). تنتشر هذه الحملة في عشرات المدن الأميركية من بينها: واشنطن، شيكاغو، نيويورك، نيوجيرسي، إنديانابوليس، سان فرنسيسكو، وميلواكي.. كما أظهرت لقطات فيديو منتشرة على منصة “إكس”، إشعال المتظاهرين قنابل دخان أمام منزل العُطَل لـ”مايكل توتشين” رئيس أيباك في “لوس أنجلوس”، وسكب المتظاهرون طلاءً أحمر خارج المنزل، بحسب صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.
جاءت هذه الحملة ضد آيباك على خلفية التراجع في مكانة إسرائيل حتى بين اليهود الأميركيين، الذين باتوا يرفعون شعار: “يجب إنقاذ إسرائيل من نفسها”.. كان اليهود الأميركيون سابقًا ينتقدون حكومات إسرائيل على سياساتها المتطرفة، وعلى الاستيطان، ولكنهم يعترضون على الخطّة القضائيّة الّتي يقوم بها “نتنياهو”، إذ يعدّونها انقلابًا على الديموقراطيّة، وإضعافاً لجهاز القضاء.. فبحسب ادّعاءهم أنّ الخطة جاءت بالأساس لتعزيز سلطة اليمين، وإفشال تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.. ويشيرون إلى أنّ الدعم غير المشروط الذي تمنحه أيباك لإسرائيل، يُلحق ضررًا بمستقبل إسرائيل، ويتسبّب في انفضاض الكثير من اليهود عن إسرائيل، كما أنه يزيد من موجة العداء لإسرائيل ولليهود في الولايات المتحدة.
كذلك تشير الفئة الّتي تدعم مقاطعة أيباك إلى أنّ الدعم المالي والسياسي المقدّم إلى الحكومة الإسـرائيلية يجعلهم شركاء في جريمة الفصل العنصري (الأبارتهايد)، التي ترتكب بحق الفلسطينيين.. وأشارت المتطوّعة في الحملة “سييرا راميرز” إلى القول: “إن أيباك لا تدعم فقط التطرّف ضد الفلسطينيين، لكن في الولايات المتحدة أيضًا. ولها تأثير مبالَغ فيه على السياسة الأميركية”.
وغني عن القول أنّ استطلاع رأي معمّق أجرته المنظمة اليهودية “رابطة مكافحة التشهير”، أسفر عن أنّ “معاداة السامية” – في شكلها الكلاسيكي المتطرّف – بدأ في البروز مرة أخرى في المجتمع الأميركي. حيث يتمّ اتّهام اليهود بأنهم “سـرّيون وأقوياء للغاية، ويعملون ضدّ مصالح الآخرين، ولا يشاركونهم القيم”.. وبحسب نتائج الاستطلاع، يعتقد ما يقرب من 4 من كل 10 أميركيين، أنّه من الصحيح في الغالب – أو إلى حدّ ما – أن “اليهود أكثر ولاءً لإسرائيل من أميركا”.. ونحو 7 من كل 10 أميركيين يعتقدون – بحسب الاستطلاع – أنّ اليهود مترابطون مع بعضهم البعض أكثر من باقي الأميركيين.. كما أظهرت أنّ أكثر من الثُلث الّذين أجري عليهم الاستطلاع، يعتقدون أنّ اليهود لا يشاركونهم نفس القيم.. كما يعتقد حوالي 1 من كل 5 أميركيين أنّ اليهود يتمتعون بنفوذ كبير في الولايات المتحدة، ولا يهتمون بالآخرين، كما أنّهم أكثر استعدادًا من غيرهم من الأميركيين لاستخدام ” طرق مشبوهة للحصول على بغيتهم”.. إحدى النتائج الصّادمة لمُعدّي الاستطلاع، أنّ %40 من الأميركيين – على الأقل – وافقوا على أنّ “إسرائيل تعامل الفلسطينيين، كما عامل النازيون اليهود”.
أعضاء الكونغرس والتواطؤ مع إسرائيل:
كما أثارت أيباك مع البيت الأبيض، عبر سنوات نشاطها، خلافات أدّت إلى فشل العديد من الشراكات بين الطّرفين. مثل: أزمة بيع الولايات المتحدة طائرات الإنذار المبكر، المعروفة “بأواكس”، عام 1981، للمملكة العربية السعودية؛ وقضية ربط إدارة الرئيس جورج بوش الأب ضمان منح قروض بقيمة عشرة مليارات دولار لإسرائيل عام 1991، لوقف الاستيطان الإسرائيليّ.. كذلك، كان هناك أزمة حول حلف مكافحة الإرهاب، الذي أقامه الرئيس جورج بوش الابن مع بعض البلدان عربية، عام 2001م.
في سنة 1992م قام رئيس الأيباك “ديفيد ستينر” بتقديم استقالته، عندما تمّ إجراء تسجيل صوتي له يتباهى فيه بتأثيره السياسي في الحصول على المساعدات للكيان الإسرائيلي.. وممّا يجدر ذكره أن من قام بالتسجيل الصوتي هو يهودي يدعى “هاييم كاتز”، حيث قال: “كيهودي، فإنه أمر يهمّني في حالة وجود مجموعة صغيرة ذات قوة غير متجانسة. أعتقد أن هذا يؤذي الجميع، ومن ضمنهم اليهود.. إذا أراد ديفيد ستينر أن يتكلم عن التأثير القوي للأيباك، فلا بدّ للعامّة أن يعرفوا ما يقول”.
ادّعى “شتاينر” أيضًا أنه اجتمع مع “جيمس بيكر” – وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك -، وقال: “عقدت معه صفقة. حصلت، بالإضافة إلى الثلاثة مليارات دولار، على أنهم يبحثون عن الأصوات اليهودية، وسأفعل ذلك”. أخبره بكل ما يريد سماعه… إلى جانب ضمانات القروض البالغة 10 مليارات دولار، والتي كانت شيئًا رائعًا، و3 مليارات دولار من المساعدات الخارجية والعسكرية، وحصلت على ما يقرب من مليار دولار من الأشياء الجيدة الأخرى التي لا يعرف الناس عنها حتّى”. وادّعى “شتاينر” أيضًا أنه “يتفاوض” مع إدارة كلينتون حول من ستعيّنه كلينتون وزيرة للخارجية، ووزيرة لوكالة الأمن القومي.. صـرّح “شتاينر” أن أيباك كان لديها “عشرات الأشخاص في حملة [كلينتون]، في المقرّ الرئيسي… في “ليتل روك”، وسيحصلون جميعًا على وظائف كبيرة.”
كما أعلنت وزارة العدل في أيّار من عام 2005 أن “لورانس أنتوني فرانكلين”، وهو عقيد في القوات الجوية الأمريكية، يعمل كمحلّل بوزارة الدفاع في البنتاغون، في مكتب “دوجلاس فيث”، قد تمّ القبض عليه، واتّهم من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتجسس، بتقديم معلومات سـريّة إلى إسرائيل.. حدّدت الشكوى الجنائية، المكوّنة من ستة تهم، أيباك بالاسم، ووصفت اجتماع غداء زُعم أن “فرانكلين” كشف خلاله معلومات سـرية للغاية لاثنين من مسؤولي أيباك.
وقد اعترف فرانكلين بأنه مذنب في نقل أسرار حكومية إلى “ستيفن روزن” و”كيث وايزمان”، وكشف للمرة الأولى أنه قدّم معلومات سرية مباشرة إلى مسؤول حكومي إسرائيلي في واشنطن، في 20/1/2006م، وحُكم عليه بالسجن لمدة 151 شهرًا – ما يقرب من 13 عامًا – وغرامة قدرها 10000 دولار. كجزء من “اتفاقيّة الإقرار بالذنب” وافق فرانكلين على التعاون في التحقيق الفيدرالي الأكبر، وتمّ إسقاط جميع التهم الموجهة ضد موظفي أيباك السابقين في عام 2009م.
وتمّ على إثرها طرد مدير سياسة أيباك “ستيفن روزن”، وكبير محلّلي الشؤون الإيرانية في آيباك “كيث وايزمان”، من قبل أيباك، وسط تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي حول ما إذا كانوا قد نقلوا معلومات أمريكية سرية تلقوها من “لورانس فرانكلين” إلى حكومة إسرائيل. وقد تمّ اتّهامهم لاحقًا بالتآمر بشكل غير قانوني لجمع معلومات سرية تتعلق بالأمن القومي، والكشف عنها لإسرائيل. وافقت آيباك على دفع الرسوم القانونية للدفاع عن وايزمان، من خلال الاستئناف، إذا لزم الأمر، ولكن تمّ إسقاط التهم لاحقًا.
كما ثارت زوبعة إعلاميّة في عام 2006م، بعد أن قام استاذان جامعيان أمريكييان، هما: “ستيفن والت”، من جامعة هارفارد، و”جون ميرشيمر”، من جامعة شيكاغو، عقب نشر دراسة زعما فيها أنّ “أيباك” دفعت السياسة الخارجية الأمريكية بشكل كبير لتبنّي سياسات مؤيّدة لإسرائيل، ولكنها لا تخدم المصالح القومية الأمريكية. أمّا المدافعون عن “أيباك”، فقد صرّحوا بأنّه يجب السماح لأيباك بالعمل بحُرّيّة، كما يسمح لباقي جماعات الضغط في الساحة الأمريكية، معتبرين أن تصوير جماعات الضغط اليهودية بأنها قوّية وغنيّة هو بمثابة محاولة للإساءة لها، وأن هذه الاتهامات تروّج لوجود مؤامرة، وهذا يُعدّ “معاداة للسامية”.
فضلاً عن ذلك، أن أحد الخلافات الرئيسة بين أيباك والرئيس الأسبق باراك أوباما، كان موضوع الاتفاق النووي الإيراني الذي توصلت إليه واشنطن مع طهران عام 2015.. وكشف الرئيس الأميركي “أوباما” أنّ المنظمة أنفقت عشرين مليون دولار لإسقاطه، عبر الحملات الإعلامية، وممارسة ضغوط في الكونغرس.
* * *
وعلى أيّ حال، فالذي حدث في الأشهر الأخيرة بعد عملية 7 اكتوبر 2023م (طوفان الأقصى)، هو أنّ المشروع الصهيوني فقد الأمان والاستقرار الذي صنعه على مدى قرنٍ ونصفٍ.. المشروع الصهيوني كأنه اليوم فقط قد بدأ.. اهتزاز كامل في ماضيه، خلخلة في حاضـره، شكّ في مستقبله، احتمالات الكسب تتساوى مع احتمالات الخسارة، رهان صعب، مقامرة من نوع جديد، لا سيّما عندما وصل الأمر بمحكمة العدل الدولية أن أدانت رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)، ووزير حربه السابق (يواف غالانت)، بارتكاب مجازر حرب بحقّ الشعب الفلسطيني.
وأخيراً، يبدو أن بعض زعماء أوروبا بدأوا ينظرون إلى الكيان الإسرائيلي الوظيفي بنظرة أخرى، بعد الضغط الشعبي الهائل، وبعد أن بانت حقيقة هذا الكيان المغتصب أمام أنظار العالم قاطبة، سيّما وأن الذي يحكم الكيان الإسرائيلي عصابة يمينية متطرّفة جداً، لا تألوا جهداً في القضاء على كل بشر وحجر في قطاع غزّة، والضفة الغربية، بل وحتى في سوريا ولبنان واليمن، وكل من يتصدّى لمشروعهم، ولا يألون قتلاً وذبحاً وتشريداً وتهجيراً وتجويعاً في هذا الشعب الأعزل، أمام أنظار زعماء وشعوب العالم المتمدن المتحضـر!، في مقابل أن العديد من الساسة الأوروبيين؛ من البرلمانيين ورجال الدين، بما فيهم بعض اليهود، وغيرهم من أعضاء المجتمع المدني، أصحاب الضمائر الحية، وقفوا وقفة مشـرّفة وإنسانية أمام حملة الإبادة والمجازر الوحشية الصهيونية، وداعميهم من زعماء ورؤوساء وزارات دول كأمريكا وإيطاليا وآلمانيا الملطّخة أيديها بجرائم الهولوكوست ضد اليهود الألمان والبولنديين والتشيك والمجريين العزّل، وكأنهم ينتقمون من ماضيهم السيء المليء بالإجرام والعنف والقسوة تجاه مخالفيهم في العرق والدين والمذهب، عن طريق دعم الآلة العسكرية الجهنمية الصهيو – غربية ضد الفلسطينيين الأبرياء العزّل، حيث يتساوى أمامهم الضحية والجلاد، بل وصلت الأمور إلى الطلب من الجلاد إيقاع المزيد من القتل والذبح والترويع بالفلسطينيين كحالة نفسية لا شعورية تصيبهم كلما ذكروا الهولوكوست، وكأنهم بهذا العمل الشيطاني الخبيث يحاولون إراحة أنفسهم وضمائرهم المثقلة بالسادية وتأنيب الضمير، فضلاً عن قلقهم الوجودي من زوال كيانهم الغاصب الإحلالي مثلهم في ذلك مثل نظام الفصل العنصري (الآبارتهايد) في جنوب أفريقيا؛ لذلك بدأ بعض قادة الدول – التي زرعت هذا الكيان السرطاني في قلب الجسم الإسلامي – بمراجعة أنفسهم، ليس عن طريق إدانة آلة القتل والذبح والتشريد الصهيونية، ولكن عن طريق التلويح بأنه إذا لم يتوقف العنف (= مساواة الجلاد والضحية!!)، فإنهم سيعترفون بدولة فلسطينية قابلة للبقاء أمام الكيان الإسرائيلي، والأمثلة واضحة لفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وبلجيكا وأستراليا وكندا.
أمّا غيرها من الدول الأوروبية؛ كإيرلنده وإسبانيا، فمواقفها مشكورة، بسبب كاثوليكيتها كعقيدة مسيحية، ضد اليهود كقتلة السيد المسيح! ومعرفتهم بجذور الحركة الصهيونية، لأن إسبانيا طردت جميع يهودها في القرنين السادس والسابع عشر، حيث آواهم المسلمون من العرب والبربر والعثمانيين، على حدٍ سواء، وهذا جزاء سنمار.
وما الهجوم الإسرائيلي الأخير على (الدوحة)، عاصمة قطر) بقصد القضاء على زعماء حركة (حماس)، الذين كانوا في معرض إجراء مباحثات معهم بشأن وقف إطلاق النار في غزّة، إلا إحدى صفحات الغدر والخيانة تجاه (قطر)، وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، التي كان بعضهم قد طبّع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، وعقد معهم الاتفاقيات والمواثيق الإبراهيمية! التي ذهبت أدراج الرياح مع أول صاروخ سقط على الدوحة؛ بل وصل الإسفاف والاستخفاف الإسرائيلي بكل القيم: [لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً] بعدم احترام داعميهم الأمريكان الذين يملكون أكبر قاعدة عسكرية في (قطر)، وجعل موقفهم حرجاً، لا سيّما بعد فشل القصف الإسرائيلي من تحقيق النتائج المرجوة.. ورغم ذلك، فقد أصـرّ الساسة الأمريكيون على القول – بكل صفاقة -: “أمن إسـرائيل فوق كل اعتبار”، وكان من المفروض أن يتوجّه وزير الخارجية الأمريكي “بومبيو” إلى (قطر) لتقديم الاعتذار لشعب وحكومة قطر، ولكنه بدلاً من ذلك زار إسـرائيل، وزار حائط البراق (= حائط المبكى)، وزار مستعمرة استيطانية في الضفة الغربية، كدعم لجهود نتنياهو في ضمّ الضفة الغربية إلى كيانه، بعد تدمير غزّة، وأعلن – باسم أمريكا – دعمها ومساندتها اللامحدودة لأمن أسـرائيل، في تعزيز آلة القتل الإسرائيلية الهمجية الرعناء في إبادة سكان غزّة وتشريدهم المستمر، وتجويعهم ضمن قطاع غزة المحاصـر المجوع المهجر المشرد المنكوب، أمام أنظار العالم الحر، وغير الحر، برمته!؟؟؟، [ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون…]، فهل يأخذ الساسة العرب الدرس، أم لا يزالوا يهرولون نحو سـراب التطبيع!، مع إصـرار نتنياهو على القول باستحالة قيام دولة فلسطينية؟ والله غالب على أمره.
العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون