الانتماء التزام لا إلزام
د. يحيى عمر ريشاوي

الانتماء إلى الوطن والأرض خُلق أصيل وفطري لدى الإنسان، ينشأ بحكم عيشه في بلد وجزء محدّد من الجغرافيا، فيتكون لديه ارتباط وجداني بهذا الوطن وأرضه. بل إن تجربة الغربة والعيش في بلد آخر تُعيد إلى النفوس جذوة الحنين، وتُوقظ الحب للوطن من جديد، ليظلّ المغترب يبحث عن فرصة للعودة إلى أرضه والتنعّم بمائها وهوائها.
وحين يتجلّى دفء هذا الانتماء، تشعر به في مواقف عديدة: عندما يخوض فريق بلدك مباراة رياضية ضد فريق آخر، أو حين يحقّق وطنك إنجازاً، ويصبح حديث وسائل الإعلام، فترتسم داخلك مشاعر الفخر والاعتزاز، حتى لو كنت بعيداً عنه بآلاف الأميال. عندها يغمر قلبك إحساس بالسعادة والانتماء العميق.
كثيراً ما يتعاظم هذا الإحساس حتى يبلغ مرتبة الدفاع المستميت عن راية الوطن وأرضه، وتقديم الروح في سبيل حمايته من الأعداء.
بعد الانتفاضة ضد نظام البعث، تجدّدت مشاعر الانتماء لدى مواطني كوردستان، وغدت مصدر فخر قومي لهم، واتّسع وهج الولاء للوطن.. غير أن الحرب الداخلية شكّلت جرحاً قاتلاً لتلك المشاعر النبيلة؛ فبدلاً من الانتماء الموحّد في مواجهة العدو الخارجي، انقسمت الولاءات بين الرايات الحزبية، فصارت صورة الانتماء للوطن مشوّهة باهتة.
تجربة الاقتتال الداخلي، ومرحلة الإدارتين، تركت أثراً بالغ السلبية في وعي الشباب، إذ ضيّقت آفاق انتمائهم الوطني، وجعلت الوطن ضحية صـراع المصالح الحزبية الضيّقة.
اللجوء إلى القوى الأجنبية، فساد الإدارتين، الحزبية المفرطة، هدر المال العام، الاستحواذ الحزبي على الاقتصاد، تحويل الانتماء إلى الأحزاب بدلاً من الوطن.. كل ذلك خلق هُويّة غريبة عن الانتماء الحقيقي، حتى غدا أحياناً محطّ تهكّم وسخرية.
إلى جانب ذلك، فإن سوء إدارة الدولة، وأزمات الرواتب، والمعيشة، وتردّي الخدمات من ماء وكهرباء وطرق، إضافة إلى صراع المصالح بين الحزبين الحاكمين، جعلت المواطن الكوردي يشعر وكأنه غريب في وطنه. بل وصل الأمر ببعضهم إلى تمنّي عودة زمن النظام البعثي، وإعادة نشـر خطابات صدام حسين الديكتاتور وصوره!
لهذا لم يعد من الممكن اليوم أن تُطالب الفرد قسـراً بالانتماء للوطن، أو أن تعاتبه على ضعف ولائه؛ فذلك المواطن ليس خائناً أو عديم الإحساس، بل هو ضحية سياسة فاشلة، وحكم سيء.. فالانتماء شعور يُغذّى ويُبْنى تلقائياً، وليس شيئاً يُفرض بالإكراه، أو الأوامر الفوقية.
العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون