الكورد والإسلام من الهامش إلى الريادة

د. هادي علي

 لقد دخل الكورد التاريخ من أوسع أبوابه، وكان لدخولهم تأثير فعال؛ فالإسلام -باعتباره الرسالة السماوية الخاتمة – جاء ليتمم سلسلة الرسالات الإلهية، ويكمل حلقة الوصل بين الإنسان وخالقه، وليكون – من جهة أخرى – دعوة عالمية لتحرير البشرية من الظلم والجور، ومن براثن الأنظمة المستبدة، إلى رحاب العدالة والحرية.. ولذلك، يمكننا القول بثقة تامة: إن الإسلام يمثل مشروعاً أصيلاً لتحرير الإنسان، وإنقاذ الأمم.

ومن هذا المنطلق، خرجت هذه الرسالة الخالدة من الجزيرة العربية إلى سائر أرجاء المعمورة، في وقت كانت فيه شعوب العالم – ومنها الشعب الكوردي، وبلاده (كوردستان) – ترزح تحت نير إمبراطوريتين عظميين؛ هما الإمبراطورية الساسانية شرقاً، والبيزنطية غرباً.. وكانت كوردستان – في أغلبها – تحت سيطرة الساسانيين، ومسـرحاً لصـراعات مدمّرة بين هاتين القوتين العظميين.

لكن بفضل جيوش المسلمين، وتحديداً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تم إسقاط هاتين الإمبراطوريتين، وتحرير شعوب تلك المناطق من ظلمهما، وتأسيس نظام عالمي جديد، ظل قائماً – بدرجات متفاوتة – حتى أوائل القرن العشـرين.. ومنذ ذلك الوقت، أصبح الكورد جزءاً حيّاً من العالم الإسلامي.

قبل الإسلام، ورغم حفاظ الكورد على هويتهم القومية ضمن بيئة جبلية وعرة، ساعدتهم على العزلة النسبية، فإنهم لم يمتلكوا دوراً حضارياً مميّزاً في ظل الدولة الساسانية والزرادشتية، بسبب التهميش الذي تعرّضوا له.. لكن بعد دخول الإسلام، ونتيجة لسياسات الفتح، والعدالة، التي حملها الدين الجديد، بدأت مرحلة جديدة في التاريخ الكوردي.

يتجلّى هذا التحوّل الكبير في الحوار الشهير الذي جرى بين ربعِي بن عامر، ممثّل جيش المسلمين، وروستم فرخزاد، قائد جيوش الفرس، قبيل معركة القادسية سنة 15 هـ، حين سأله روستم: “ما الذي جاء بكم؟” فأجابه ربعي بكل وضوح: “جئنا لنحرّر الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.

هذا الحوار يلخّص الهدف الجوهري من دعوة الإسلام، والتي فتحت الطريق أمام جميع الشعوب، ومنها الكورد، لدخول مسـرح التاريخ الحضاري، والمشاركة في بناء عالم إسلامي قائم على العدل والمساواة.

وبعد هزيمة الساسانيين والبيزنطيين، انفتحت الأبواب أمام شعوب المنطقة لتشارك في نهضة إسلامية شاملة. ولم يتأخّر الكورد عن هذه المشاركة، بل كانوا من أوائل من ساهم فيها.. ومع الوقت، تبوّأ الكورد مناصب إدارية وعسكرية مرموقة في الدولة الإسلامية، لا سيّما في العصر العباسي، وتحديداً في القرنين الخامس والسادس الهجري.

وعندما احتل الصليبيون بلاد الشام وفلسطين، وارتكبوا مجازر في القدس والمسجد الأقصى، كانت الأمّة الإسلامية في صدمة كبرى.. ووسط هذه الكارثة، برز دور الكورد مجدّداً، وتمثّل ذلك في الأسـرة الأيوبيّة الكوردية، وفي الدولة التي أسّسها صلاح الدين الأيوبي.

كانت عائلة الأيوبيين، وهي أسـرة كوردية ترجع أصولها إلى (دوين)، قد انتقلوا إلى تكريت، ومن بعدها إلى الموصل بسبب ظروف سياسية، وأصبحت لاحقاً جزءاً فاعلاً من إدارة وقوات الدولة الزنكية التي حكمت الموصل وكوردستان وبلاد الشام. وبعد استشهاد عماد الدين زنكي، تسلّم نجله نور الدين محمود الحكم، واتّخذ من دمشق عاصمة له، ليكون قريباً من الجبهات ضد الصليبيين.

وفي هذا السياق، تولّى نجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، ولاية بعلبك، بينما أصبح شيركوه، عمّ صلاح الدين، قائداً عاماً للجيوش الزنكية.. كل هذه المعطيات مهّدت الطريق أمام بروز الدور الكوردي في ذلك العصر الحاسم.

وبعد وفاة نور الدين، ظهر نجم ساطع في سماء الإسلام، هو صلاح الدين الأيوبي، الذي وحّد مصـر وبلاد الشام واليمن والحجاز والسودان، وأنهى حكم الفاطميين، وأنشأ جيشاً قوياً، ونجح في تحرير معظم الأراضي المحتلة، بما فيها القدس والمسجد الأقصـى.. وقد كتب بذلك أعظم ملحمة في تاريخ الإسلام، وخلّد اسم الكورد في ذاكرة الأمّة.

لقد كان هذا الدور التاريخي الذي أدّاه الكورد في عهد الأيوبيين، ولا يزال مصدر فخر لكل المسلمين، وللشعب الكوردي بشكل خاص، حيث أثبتوا أنهم قادرون على قيادة الأمّة في أوقات الشدّة، وأنهم لا يقلّون شأناً عن أيّ شعب مسلم آخر في الدفاع عن القيم والمقدسات.

والجدير بالذكر أن الإسلام كان على الدوام باباً مفتوحاً أمام جميع الشعوب والأمم، لتمكينها من أداء دورها الحضاري، ليس فقط على المستوى المحلي، بل على مستوى الأمّة الإسلامية جمعاء.

دام حكم الدولة الأيوبية – والتي تُعرف أحياناً بالدولة الكوردية – قرابة 80 عاماً.. ورغم أن ورثة صلاح الدين لم يتمكنوا من البقاء طويلاً في الحكم، إلا أن أثرهم السياسي والحضاري ظلّ باقياً في مصر وبلاد الشام وفلسطين.

إن مساهمة الكورد في ظلّ الإسلام، وفي أحداث التاريخ الإسلامي، وفي بناء الحضارة الإسلامية، وحتّى يومنا هذا، هي كنز ثمين، وإرث غني ينبغي أن يُستلهم في كل عصـر، ليكون منارة تهدي النخبة السياسية والثقافية نحو إعادة بناء الذات في إطار الجغرافيا والتاريخ.

ولا يمكن الحديث عن هذا التاريخ دون الإشارة إلى العلماء والدعاة والشعراء والمفكرين الكورد الذين تركوا بصماتهم في جميع الميادين، فكانوا من كبار علماء الشـريعة، ومن رواد التصوّف، وبرزوا في مجالات الأدب والسياسة والفكر، وخرجوا من رحاب المساجد إلى فضاء الأمّة، وكانوا نجوماً في سماء الإسلام.

وبناء على ما سبق، يمكن القول إن التاريخ الحقيقي للكورد يبدأ بعد الإسلام، حيث أصبحوا عنصـراً فاعلاً في التاريخ والحضارة، دون أن يتنازلوا عن هويتهم القومية واللغوية.

ولهذا، فإن وصف التاريخ الكوردي بـ(الهجرة نحو الشمس)، أو (کۆچی ھەتاوی)، هو وصف دقيق، لأن دخولهم الإسلام كان لحظة انتقالهم من الظلّ إلى الضوء، ومن التهميش إلى التأثير، ومن السكون إلى الحضور الفاعل على مسرح التاريخ.

العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى