الإِعلام الفرعوني
د. عبد الباري رؤوف سليمان الملاح - مركز الرشد المجتمعي/ الموصل - العراق

بسم الله الرحمن الرحيم
[وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصـْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصـِرُونَ ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين ، فجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ](الزخرف/ 51-56).
الصـراعُ بين الحقِ والباطلِ قائمٌ منذ أن أمر اللهُ تعالى آدمَ عليه السلام، والشيطانَ، بالهبوط إلى الأرض، وِإلى يوم القيامة، [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ](طه/123). وقد ذكر الله تعالى لنا في قصص القرآن العظيم خلاصة تجارب الأمم السابقة في هذا المجال، كي نقتفي صوابهم، ولا نكرر أخطاءهم.. وقد أخذت قصة فرعون وقومه، مع موسى وقومه من بني إسرائيل، مساحةً واسعةً في هذا القصص، فقد وردت كلمة (موسى) في 132 آية، توزّعت ضمن 37 سورة من القرآن الكريم. ووردت كلمة (فرعون) في 67 آية، ضمن 27 سورة، حسب (برنامج آيات).
ومن هذا القصص القرآني نستلّ اليوم شعاعاً من نورها، هو موضوع بصيرتنا، أسميناه (الإِعلام الفرعوني)، نتدبّر تحت ضوئه آيات كريمات بيّنات توضّح دور الإعلام كدعامة أساسية من دعائم حكم الفراعنة والطواغيت.. لنقرأ ونتدبّر هذه الآيات الست القليلة العدد، الكثيرة الدلالة، من (سورة الزخرف).
[ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ]: إن تعبير المناداة في القوم، يحمل معنى تسخير واستنفار كل وسائل الإِعلام المتوفّرة لديهم للدعاية والتمجيد لفرعون ومُلْكه، والتقليل من شأن موسى عليه السلام ودعوته. إن اختيار القرآن الكريم لهذا الأسلوب في التعبير، في مخاطبة فرعون لقومه، وتسجيله كحدث يستحقّ الذكر في مطلع هذه الآيات، لهو دلالة واضحة على أهمية معناه في صـراع الحق والباطل. هذا المعنى الذي يقول إِن الفراعنة والطغاة، وفي كل العصور، يعتمدون الإِعلام المضلّل كأحد دعائم حكمهم الأساسية للسيطرة على عقول الناس، وتضليل أفكارهم، ولبس الحق بالباطل، وتبرير جرائمهم، وغير ذلك ممّا يدخل في واجبات الإعلام الفرعوني، والتي سنحاول استخلاص بعضِ منها من آيات (سورة الزخرف)، ومن غيرها من آيات الكتاب الحكيم.
والظاهر أن مناداة فرعون في قومه جاءت – وكما هو واضح من الآيات التي قبلها – بعد أن أحسّ فرعون بخطر دعوة موسى على مُلكه وعرشه، إِذ رأى المعجزات البيّنات تجري على يد موسى عليه السلام، وخشـي أن تأخذ هذه المعجزات طريقها إلى قلوب قومه، كما يفعل كل فرعون، وطاغية، عندما يعلو صوت الحقّ ضدّه.
لننظر الآن إلى ما بعد المناداة: [وقال ياقومِ]، سبحان الله! فرعون الذي طغى وبغى وظلم قومه، يقول [ياقومِ]، كلمةٌ حلوةُ بأن ينسب القوم إلى نفسه، فهو منهم، وهم منه! وكأن ما سيقوله ويدّعيه هو لمصلحة قومه، وفي سبيلهم.. وهو أسلوب كل فرعون في كل عصـر.. ثم بعد ذلك يعلن، بأسلوب الاستفهام: [أليس لي ملك مصـر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون]؟!
فهو يُشهِد قومه على عظيم ملكه وسلطانه، ليصدّهم عن دعوة موسى – عليه السلام -، لذلك تراه يحاول توجيه أبصار الناس إلى مُلكه لمصـر، وسلطانه عليها، وعلى مقدّراتها، كي يبقى الناس خاضعين طائعين له، فلا يلتفتون إلى دعوة موسى وآياته التي أرسله الله تعالى بها. وهذا قد يكون ما يقصده فرعون في تعقيبه [أفلا تبصـرون]، فكأنّه أحسّ أن أبصار القوم بدأت تتجه إلى موسى عليه السلام.
إِنه تقرير من الله تعالى أن نظرة الفراعنة والطغاة إلى البلاد والعباد هي نظرة واحدة، وادّعاء واحد، نظرة امتلاك البلاد والتحكّم في خيراتها ونعمها التي أنعم الله بها على الناس كافة.
- هذا هو الجانب الأول من واجبات الإِعلام الفرعوني، والمتمثّل في التمجيد الشخصـي للفراعنة، ورسم الهالات الملونة حولهم، وصنع البطولات المزيّفة لهم، وتحشيد الدعم، وادّعاء الملكية والسلطان لهم.
- أمّا الجانب الثاني من واجبات الإِعلام الفرعوني، فهو قذف أصحاب الحقّ بتُهمٍ محبوكةٍ ومدروسةٍ، وتحشيد الرأي ضدّهم، ولَبس الحق بالباطل، مستعينين في ذلك بوسائل إعلامية مختلفة، يتيحها لهم وجودُهم في السلطة. فهذا فرعون موسى ينادي عبر وسائل إعلامه: [أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين، فلولا ألقي عليه إسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين] تصغير وتهوين من شأن موسى عليه السلام بشتّى الطرق، فهو يستغلّ ما كان معروفاً عن موسى قبل خروجه من مصـر بوجود لَكنةٍ في لسانه، ثم يعلن أن موسى لم يأت بأسورة من ذهب، كدليل على الملك والسلطان، وعدم مجيئه بالملائكة متتابعين.. وهذا كلّه يعدّ من أساليب التضليل الإِعلامي، وإلّا ما كان فرعون ليؤمن لموسى، وقد جاءه بالآيات البيّنات.
وضمن هذا الجانب يبرز سلوكُ الإعلام الفرعوني في لصقِ التُهم بموسى عليه السلام والمؤمنين، وذلك في آياتٍ كثيرةٍ في القرآن الكريم.. لنقرأ ونتدبر قول الله تعالى في (سورة طه): [وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ، قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى، قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ُضُحى]..
لقد جاء موسى عليه السلام فرعون بالآيات البيّنات، ولكنه كذّب وأبى، وهذا هو الموقف الحقيقي الفعلي تجاه دعوة موسى عليه السلام.. أمّا الموقف الإعلامي المعلن، فتذكره الآيات التي بعدها: [قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ] يتّهم فرعون موسى بتهمة طالما اتّهم بها كلُّ فرعون كلَّ موسى: [لتخرجنا من أرضنا].. إن فرعون يتهم موسى بأنه جاء ليخرجه هو وقومه من أرض مصـر، طمعاً في ملكها وخيراتها وثرواتها.. سبحان الله! أليست هذه تهمة قديمة جديدة تتكرّر على مرّ العصور؟! إن الفراعنة يستخدمون إعلامهم لصنع قضية، أو إظهار رموز يجمعون ويستقطبون الناس حولها، والتحشيد ضد المؤمنين بدعوات الرسل.. وليس أكثر جذباً، ولا أقرب قبولاً، من الأرض، والوطن، والتراب، رموزاً تستهوي مشاعر الناس، وتستثير عقولهم.. وإنهم حين يدعون أقوامهم لحماية هذه الرموز، فإنهم يدعونهم حقيقةً – وبهذه الأسماء – لحماية سلطانهم وملكهم.. إن الفراعنة وملَئهم يعلمون أن العبودية لله تعالى تعني زوال سلطانهم وتعبيدهم الناس، وبمعنى آخر إخراج الناس من عبادتهم إلى عبادة الله وحده، ولهذا فهم يقاومون دعوات الرسل وأصحابها، بوسائلهم الإعلامية، وأدواتهم القهرية..
وإذ نحن بصدد الوسائل الإِعلامية، نقول: إن الإعلام الفرعوني اتّهم موسى عليه السلام أوّلاً بمزاولة السحر، وهي تهمة مقبولة في مجتمعهم آنذاك، فقد كان السحر معروفاً ومنتشـراً.. وهكذا الفراعنة والطواغيت في كل عصـر تجتهد وسائل إعلامهم في كيل التهم لأصحاب الدعوات، ممّا هو متداول ومقبول في عصـرهم، فتراهم يختارون أسماءً واتّهاماتٍ تتوافق مع (مودة) العصر الذي هم فيه.
واتّهم الإِعلام الفرعوني موسى ثانياً بأنه يريد إِخراج القوم من أرضهم للسيطرة عليها.. وبهذا، فإن إِعلام فرعون في الاتّهام الأوّل يشكّك في الوسيلة التي يتّبعها موسى – عليه السلام -، وفي الاتّهام الثاني يشكّك في الغاية من دعوته. إنها طريقة فرعونية في التشكيك في الوسيلة، وفي الغاية، وهي طريقة إعلإِمية قديمة جديدة كذلك، في مواجهة أصحاب الحق.. وفي هذا الإطار أيضاً تأتي تهمة إعلام فرعون لموسى عليه السلام بالتآمر، كما سياتي في سياق هذه الآيات من (سورة طه)، وغيرها من الآيات الكريمات.. وقد قرّر القرآن الكريم هذه الحقيقة في مواضع متعدّدة، في سياق عرض المواجهة بين موسى عليه السلام وبين فرعون، منها:
[قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ] الأعراف/109.
وإذا تتّبعنا آيات (سورة طه) نرى أن فرعون تحدّى موسى عليه السلام بأنه سوف يأتيه بسحر مقابل، وأعطى لموسى تحديد موعد المواجهة، زيادةً في التحدّي له.. وقد اختار موسى عليه السلام يوماً من أيام احتفالاتهم، وهو (يوم الزينة)، حيث يجتمع الناس ويحتشدون.
- إِنها ظاهرة يوم الزينة، سمةٌ أخرى من سمات الإِعلام الفرعوني، حيث تقام مراسيم الاحتفالات والمهرجانات، ويبدو أنها ظاهرة مألوفة في المجتمع الفرعوني، ويستخدمها الإِعلام لتغطية الظلم والطغيان الواقع على الناس، فيطغى صوت الطبول على صـراخ المعذّبين، ويذهب صوت المزامير بأنين المظلومين.. إِن هذه الظاهرة هي السمة الثالثة من سمات الإِعلام الفرعوني، وهي واجب مشترك بين إعلام الفراعنة والطواغيت في كل عصـر ومصـر.
[فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ، قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ] (طه/ 60-61).
جاء يوم الزينة وقد جمع فرعون كلَّ ساحرِ عليمٍ، وحلّت ساعةُ التحدّي، وأراد موسى – في تلك الساعة – أن يهزّ نفوسهم، ويشقَّ صفوفَهم بكلمة حقٍّ يلقيها في ساحتهم، قبل أن يلقي عصاه، فقال: [وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ](طه/ 61).. وقعت هذه الكلمة الصادقة في ساحة فرعون موقع الصاعقة في ساحة الحرب، فقد ترجرج الصفّ الفرعوني إلى درجة التنازع بينهم: [فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ](طه /62)، ممّا دعاهم إلى عقد اجتماع مغلق، للاتفاق على رأي موحّد: [وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ].. وهكذا يبرز دور الإعلام الإسلامي (أو قل الموسوي) وأهميته، مقابل الإعلام الفرعوني.. إنه لا بد للحق – من بعد القوّة التي تحميه – من لسانٍ مبينٍ، وصوتٍ مسموعٍ؛ فالبيان أشدُّ على الأعداء من نضحِ النبال، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن شعراء الدعوة الإسلامية: (هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نضحِ النبل).. ثم انفضّ المجلس الفرعوني عن بيانٍ يؤكّد التهمة السابقة لموسى وهارون عليهما السلام بأنّهما ساحران يريدان إخراج فرعون وقومه من أرضهم، وتبديل حكم فرعون الأمثل. ثم دعا إلى توحيد الجهود ورصّ الصفوف، وأن هذا اليوم هو يومُ تحدٍّ، يفلُح ُويعلو فيه من يَغلِب.
[قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ](طه/63-64).
لننظر إلى التضليل الذي يعتمده الإعلام الفرعوني، وخاصةً في مواقف التحدي والمجابهة مع الحقّ. انظر إلى قول الملأ من فرعون: [وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ].. لقد أصبح الحكم الفرعوني هو الطريقة المثلى في الحكم، وأصبح الطغيان الفرعوني هو الطريقة المثلى في التعامل مع الناس، وأصبح الاستبداد الفرعوني هو الطريقة المثلى في العدل.. وإذا كان هذا الكلام من كلام النجوى خاصاً بالملأ من قوم فرعون، ممّا قاله بعضهم لبعض في المجلس المغلق، فهو يعبّر عن رأيهم وموقفهم وحالهم، فهم المقرّبون من فرعون، المتسلّطون على رقاب الناس باسمه، وبأمره، وهم المتنعّمون دون الناس بملكه وسلطانه، فالطريقة الفرعونية هي حقّاً عندهم – ولهم – الطريقة المثلى.
- أمّا إذا كان هذا الكلام معلناً للناس، فهو يمثّل جانباً آخر من واجبات الإِعلام الفرعوني، والذي يتمثّل في قلب الحقائق، ولبس الحق بالباطل. إنه – وقياماً بهذا الواجب – ينسب البيان الإعلامي للمجلس الفرعوني الطريقة الفرعونية (المثلى) في الحكم، ينسبها إلى القوم: [وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ]، فكأنها طريقة الحكم التي اختارها الناس بإرادتهم، وليست مفروضةً بالقهر عليهم، وهو بهذا يدعوهم لحمايتها، والذود عنها.. وقد حكى القرآن الكريم ما يؤكّد هذا الواجب للإعلام الفرعوني في مواضع عديدةٍ، منها ضمن المواجهة الإعلامية الأخرى بين مؤمن آل فرعون وبين فرعون في (سورة غافر):
[وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ](غافر/26).
[يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ](غافر/29).
هل هناك بعد الفرعونية من فساد؟ ولكن صاحبها – وعلى سبيل التضليل – يقول لقومه: إِني أخاف أن يبدّل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد.. إنه فرعون يخاف على الناس من موسى عليه السلام أن يُبدّل دينهم.. والدين هو النظامُ والمنهجُ وطريقةُ الحكم.. ثم يأتي الادّعاء الغريب والمذهل: [أو أن يظهر في الأرض الفساد].. إِنها قابلية على الأداء الكاذب، لا تتهيأ إِلاّ للفراعنة، ووسائل إِعلامهم، على مرّ العصور.. ذلك أن هذا الادّعاء يجعل الأَسوَد أبيض، والأبيضَ أسود.. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يضيع تمييز الألوان بينهما، فلا يبقى مقياس لشيء، ولا مكان لمبدأ.
ولسنا بصدد عرض كل الآيات – في هذه البصيرة – التي جاءت في قصة موسى وفرعون، فهي تحمل جوانب مختلفةً في صـراع الحقّ والباطل، ولكننا بصدد إبراز ما يخصّ الإِعلام الفرعوني فيها، وهو جانب بارز في قصة الصراع هذه.
- هكذا نستمرّ مع أحداث هذه القصة من (سورة طه)، لنقف أمام موقف فرعون بعد إيمان السحرة بربّ هارون وموسى، حيث قال :
[قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ](طه/71).
آمن السحرةُ أنفسُهم إيماناً عظيماً، تجلّى في موقفهم تجاه فرعون وبطشه.. وأسقط في أيدي فرعون، فما كان منه إلّا أن شَهَر عن وسائله الإعلامية والقهرية معاً، فها هو يتّهم ويتوعد: [قال آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطِّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل].. لقد أنكر عليهم إيمانهم، وخروجهم عن أمره وسلطانه، ثم اتّهمهم جميعاً بالتآمر عليه، وعلى ملكه، وأن موسى هو كبير السحرة الذي علّمهم السحر.. وهكذا تكون تهمة التآمر تهمةً فرعونيةً اتّفق عليها، وينعق بها إِعلام الفراعنة والطواغيت ضد الأنبياء وأتباعهم، كلما واجه الحقّ الباطل، وفي كل مكان وزمان.
- والآن نعود إلى آيات (سورة الزخرف)، التي بدأنا بها، والتي فصّلها الله تعالى عن فعل فرعون، وردِّ فعل قومه، فقال تعالى: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين، فجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ](الزحرف/54)..
لقد آتى الإعلام الفرعوني أُكُلَهُ، وراجت افتراءاتُه وادعاءاتُه بين الجماهير المستعبدة، وصدّقوها، فأطاعوا أمر فرعون.. ولكن كيف يكون ذلك، وهم يعرفون ويذوقون من فرعون ظلماً وطغياناَ؟! إنهما أمران يقرّرهما الله تعالى في هذه الآيات، جعلا قومَ فرعون يصدّقونه ويطيعونه: الأمر الأول هو الاستخفاف، وهو وليد الاستبداد، حيث يعمد الفراعنة والطغاة إلى قطع سبل المعرفة عن الناس، إلّا عن طريقهم، وحجب الحقائق عنهم، ونشـر وترويج ما يخدمهم؛ حقّاً أو باطلاً، فلا يرى الناس إلّا ما يُرونهم، ولا يسمعون الّا ما يُسمعونهم، ولا يفكّرون – إن سمحوا لهم – إلّا بما يوافقهم.. وبهذا يَنتج عن الاستبداد غشاوةٌ على الأبصار، وصممٌ في الآذان، وتحجرٌ في العقول.. إنها مقولة فرعونية تعطّل الحياة، وتسخّر البلاد – شعوباً وثرواتٍ – لخدمة شخص فرعون.. مقولةٌ أنزلها الله تعالى من اللوح المحفوظ، وسجّلها في الذكر الحكيم، لتُتلى على مرّ الأجيال: [قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ، وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ]، إنها مقولةٌ فرعونية تقتل الحياة بكل جوانبها.. الأمر الثاني، في سبب طاعة القوم لفرعون، هو: فسوق القوم أنفسهم: [إنهم كانوا قوماً فاسقين]، فما كان لفرعون أن يستخفّ قومَه، لولا أنهم قوم فاسقون خارجون عن طاعة الله تعالى ورسله.. ما كان له، ولا لغيره من الفراعنة والطغاة، أن يستخفّوا أقوامهم، لولا أن أقوامهم هؤلاء قد تركوا مبادئ ربّهم، وتعاليم رسلهم، فاختلّت مقاييسهم، وسفّت عقولهم، وانطمست نفوسهم.. بعد كل هذا تأتي سنةُ الله تعالى: [فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين، فجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ].. سبحان الله على هذا التعقيب، وهذه النتيجة: فلما آسفونا (أي أغضبونا أشد الغضب) – كما تقول التفاسير – بعد أن استمروا في طاعة فرعون، وعصيان ربِّهم، جاء هذا العقاب.. إن طاعة الناس للفراعنة والطواغيت، وركونهم اليهم – خوفاً أو طمعاً – هو السبب الرئيس في تمكّنهم في الأرض، ولهذا استحقّ قوم فرعون جميعاً هذا العذاب العاجل في الدنيا قبل الآخرة: [فأغرقناهم أجمعين].. ومن ثم – وهذا هو بيت القصيد – يذكّرنا ويحذّرنا الله تعالى بأن ما قد حصل لفرعون وقومه حاصل لكل طاغية، ولكل قوم مثلهم: [فجعلناهم سَلَفاً ومثلاً للآخرين].
- والآن، ولكي نرى أن الإعلام الفرعوني – على مرّ العصور، قبل الميلاد، وبعد الميلاد – ينفخون في بوقٍ واحدةٍ، مع اختلاف أفواه النافخين، نستعرض بعضاً مما جاء في القرآن الكريم عن إعلام طواغيت قريش، واعلام اليهود، ضد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودعوته:
[وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ](الزخرف/31)..
[وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشـَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين] (النحل/103).. [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السّـِرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا، وقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشـِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا](الفرقان/ 4-8).
آيات (سورة الفرقان) تذكر أربعةَ اتّهاماتٍ وجهها إعلام الذين كفروا إلى رسول الله ودعوته.. ومعلوم من أحداث السيرة النبوية أن هذه الاتّهامات جاءت بتخطيط واتّفاق سادة قريش، وأُلقِيَ كلٌّ منها في مكانه وزمانه.. وهذه الاتّهامات هي:
1- [إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ].. اتّهام أن ماجاء به رسول الله هو افتراء – حاشاه -، وأنه يتلّقى العون في هذا من قومٍ آخرين، فهو – صلى الله عليه وسلم – إذن مرتبط بجهات خارجية – كما يقال -، ومتآمر معهم.
2- [وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا].. اتّهام ثانٍ بأن ما جاء به رسول الله من قرآن هو أساطير وقصص لأقوام غابرين اكتتبها هو، ويمليها عليه صباح مساء ناس آخرون.
3- [وقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشـِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا].. في هذا الاتّهام تقليل من شأن شخص رسول الله في أنه بشـرٌ يأكل ويمشـي في الأسواق، وليس معه ملك، وأنّه – صلى الله عليه وسلّم – لا يملك كنزاً، وليس له جنّةٌ – أو كما يقال في أيامنا هذه: مزرعة – دليل وفرة المال والسلطان.. وهم في هذا يريدون التأثير على أفكار الناس، وصدّهم عن دعوته.
4 – [وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا].. اتّهام وتشكيك.. اتّهام لشخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأنه مسحور، وأن ما يقوله ناتج عن هذا السحر المفروض عليه.. وجاء هذا الاتّهام بأسلوب التشكيك، ومحاولة فتنة الذين آمنوا عن دينهم: [إن تتّبعون]، فهو كلام موجّه إلى المؤمنين.
5 – إنها كلّها اتّهاماتٍ فرعونية تتكرر على لسان عبيد الطواغيت ضد أصحاب الحقّ وعباد الله تعالى.. وتُغنينا آيةٌ واحدةٌ عن استقصاء ما ورد في القرآن الكريم عن حقيقة وحدة موقف الإعلام الفرعوني والطاغوتي، على مرّ العصور، تجاه دعواتِ الرسل وأتباعها، فلنقرأ:
[ما ُيقالُ لَـكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ] (فصلت/43).
إن الله تعالى يُقرّر، وبشكل واضح، أن ما يقال لرسول الله من اتهامات وأباطيل لا يخرج عمّا قيل للرسل من قبله.. وفي هذا تثبيتٌ للرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولأتباعه، إلى يوم القيامة، وربطٌ على القلوب في مواجهة أهل الباطل وإعلامهم.. وفيه تقرير من الله تعالى في موقف هذا الإعلام، والذي يمثّل بوق الأقاويل، وحائك الأباطيل، ضد الرسل جميعاً، وأتباعهم، إلى يوم القيامة.
- إذا استقرأنا تاريخ الصـراع بين الحقّ والباطل في عصـرنا الحاضـر، لوجدنا أن أفواه أهل الباطل – في الداخل والخارج – تنفخ في نفس البوق الذي نفخ فيه أصحابهم في العصور السابقة، وتكرّر نفس الاتّهامات والأباطيل والأقاويل؛ منها ما هو بنفس الألفاظ، ومنها بألفاظ حديثة تتماشى مع معطيات هذا العصـر، مثل تهم العمالة، التخلّف، الرجعية، معاداة السامية، الإرهاب، وغيرها كثير.. وفينا سمّاعون لهم.. نعم، من بيننا نحن المسلمين من يردد هذه الأقاويل، ويتّهم بها المصلحين في الأرض، الذين يعملون لإعلاء كلمة الله في الأرض.. ومرةً أخرى نقول ما قاله ربنا تعالى:
[مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِك]..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون