التصوف بين عالمين

بقلم: المهندسة هاوين أنور عبد الله - بنت الكورد

 ومن باب ذكر التصوف وما نراه من جعلهِ لحمةَ الحركة الإبراهيمية المزمع اتخاذها ديناً عالمياً أممياً، ينوب عن الإسلام الحق – كما يتصوّرونه ويخططون له – لغرض إزاحته تماماً من على وجه البسيطة – وفي تصميم باهرٍ جذّاب من قبل مهندسي النظام العالمي، الذين توصّلت عبقرية مخططاتهم – الفريدة من نوعها – إلى تشكيل ناطحة سحاب هائلة، كل طبقة من طبقاتها مشتملة على تصميم ونسق محدّد، لتستطيع استيعاب حشود الجموع البشـرية من أديان وعقائد ومذاهب وتصوّرات وميول شتّى، تدار من قبل ذلك النظام الذي تعتمد عليه الدولة العالمية العميقة!!

    ونرى مجموعاتها الإسلامية تُنصب على واجهتها أناس سماتهم تشـي أنهم من جماعة الصوفية الإسلامية المتكئة على طرق مشايخ بعقول ديدنها التبعية، وعلوم لها بعض من سمت الإسلام، ولبوس هي أزياء تميّزوا بها خلال سنوات عديدة وعقود مديدة، ومظاهر تدّعي الرقّة، وتبكي باسم الحبيب، ضرباً في كينونته الشـريفة، ورسالته العالمية المنيفة ! وتتميّز بتحرّكها ضمن طقوس محدّدة من أناشيد وأذكار وأدعية ورقصات؛ قد تكون دائرية أو منحنية قوية الانحناء، حتى لتتماوج جدائل شعورهم مع انحناءات أجسادهم، بصور تنفر منها الفطرة السليمة والعقول الحكيمة..

فهذا عالمهم التصوّفي، الذي تنحصـر مفاهيم تعبّدهم لله على تلك الحركات والطقوس البدائية، التي لم يأت بها الإسلام حتماً، ولا يرتضيها أبداً!

ومن جهة أخرى، نرى تصوّفاً مجدياً نافعاً ولازماً محتّماً على المؤمنين، من حيث يبدأ إسلامهم بتحقيق شعائره، ليس لفائدة أبدانهم فقط، بل ولإنضاج إيمانهم قبل كل شيء، وترسيخه بمفاهيم وحدانية الله، واليقين باليوم الآخر، وخضوعهم – وإلى النهاية من حياتهم – لما يحدّد لهم موجبات الطاعة، وضبط مدركات عقولهم، وتوازنها في الخضوع للنقل في ثوابت الدين، والتوعية لمتطلباته التي راعها الشـرع الحنيف، ومن ثم الوصول إلى درجة الإحسان في ترقية الروح، وإيصالها الى قمة الوضوح في الرؤية في أن نرى الله، أو أن يرانا هو..

هذه عناصر الدين التي تلزم الإنسان المؤمن أن لا يصل إلى درجة أن يشطط وينحرف، عن طريق ميله للإفراطٍ أو التفريط في أي جانب من جوانب الدين، يخرجانه من دائرة الصراط المستقيم؛ فخارطة الدين واضحة، ومساره بيّن واضح، لا يتوانى عن تربية النفس البشرية التي تمتلك كل مقوّمات الخيرية المودعة فيه – ومن نوازع الشـر أيضاً – والتي تتأثر بعوامل عديدة معيّنة في القرآن والسنّة النبوية الشريفة، ومنها: عوامل الخلّة، والبيئة، ودرجة امتلاك الوعي، ومقدار تمكّن العلم الشـرعي في التأثير على الوجدان والعقل والسلوك، ومن ثمّ المعرفة بدهاليز النفس البشـرية ودروبها ومخابئها وأدوائها وأمراضها؛ فالنفس الإنسانية – وكما قلنا – من صفاتها الميل الفطري إمّا الى الفجور والشرور، أو إلى التقوى والطهر والنماء والزكاء.. قال تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا](سورة الشمس:1-10).

   لا بد لنا أن نذكر أن الأنبياء كانت لهم أزكى النفوس وأطهرها، بما كانوا عليه من طاعة لله، ودوام ذكره، والعمل بما أمر به، دون تقصير وتهاون وإغفال.. وجاء من بعدهم من هم الأمثل: يعملون بكل إخلاص على شاكلتهم، ويتعبدون وفق المنهاج الرباني، ولا يزيدون..

ولنا في تاريخنا الإسلامي المشـرّف عباداً لله أدركوا أن للعصور المتأخرة عن بعثة النبي – عليه الصلاة والسلام – بعض لوثات وضعف تصيب النفس بالأوشاب، والعقل بالأخلاط، والقلوب بالكدورات.. فكان واقع الحال يدفعهم إلى إنقاذ القلوب لتخليتها من أمراضها، وتصفيتها من أخلاطها، ومن ثم تحليتها بمعاني الإيمان والتوحيد واليقين بما عند الله، فاهتمّوا بهذه الحالات أيّما اهتمام، وكان ذلك من أوّليات أعمالهم، وأفضل عطاءاتهم، التي ما خلا عصـر من عصور الإسلام منها..

لقد امتاز منهج المتقدمين في الجملة بالتعويل على الكتاب والسنة، واعتبارهما مصدري التلقي والاستدلال الوحيدين، وما أكثر الأسماء التي نعرفها من هؤلاء الجهابذة، الذين ملؤوا صفحات التاريخ الإسلامي بأسماء لامعة لن ننساها أبداً، إذ إن لهم الفضل في توجيه القلوب والنفوس إلى خير ما يمكن أن يكون عليه الفرد المسلم، والمجتمع المسلم.. ومن هؤلاء: الفضيل، والجنيد، والگيلاني.. وغيرهم الكثير..

  أمّا في العصـر الحديث، فالأسماء كثيرة، ممن بدأ بحفظ حواسّه، ومراعاة أنفاسه، ليكون حصـراً لمعرفة الله، وسبباً للتقرّب إليه، والوقوف عند حدود شـرعه، الذين كانوا بأخلاقهم وسلوكهم غيثاً يروي القلوب الصادية لزلال دعوة التوحيد، يبدأ بمعرفة النفس الإنسانية، والعمل عليها، ثم الانتشار في أرض الله لنشر كلمة الحق:

ومنهم الإمام البنا، الذي انتهج نفس ما انتهجه السلف الصالح من مسالك التصوّف الحقيقي في تزكية النفس، وتخليتها، ثم تحليتها بأطايب ما يوافق شـرع الله من قرآن وسنة نبوية، وبطرائق لا تتمادى أو تحيد عمّا سار عليه أفاضل السلف من الزهد والعبادة الخاشعة والورع والتقوى، ممّا قيدوا أنفسهم بأطار السنة النبوية، ولم يخرجوا عنها ألبتة..

وكان مرسي الشهيد أحد هؤلاء، عندما قدّم للأمّة مثالاً أسطورياً يجسّد تلك التربية الإيمانية القرآنية المحمدية الراقية للنفس البشـرية، ممّا يقيها نزعات الدنيا، أو شطحات غلاة المنتسبين للطرق الصوفية، ممن ينشرون في الأرض الفساد العقائدي .

ولقد اصطبغت أعمال المتصوفة هؤلاء بصبغة سياسية ساطعة، وانتهجها بديع الزمان النورسي أيضاً، والذي دعا إلى ثورة حقيقية تبدأ بتربية النفس؛ تلك التربية الربانية النقية الخالية من الشوائب، ودعا أيضاً إلى انقلاب حقيقي في تبيان مفاهيم الدين التي أوشكت أن تمحى حقيقتها، وتنقطع أواصرها بين الشعوب التركية وبين القرآن والسنة، بعد تسلّط العلمانية الأتاتوركية وتفرّدها في إشغال عقل المسلم هناك، وإبعاده عن كل ما يمّت للدين بصلة. ومن ناحية أخرى، تأثير الموروثات الصوفية، التي كان الصوفي ابن العربي قد أسّس لأسسها، واقتعد لقواعدها، في مدينة (قونية) التركية، واحتضنها السلاجقة، ورحبّوا بمفاهيمها، ورعوا عوامل انتشارها بين طبقات الشعب، حتى استلمها جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي، فأوقدوا مشاعلها، وغذّوا العقول والنفوس بمقاصدها، وبما أتوا بها من قصائد وأشعار روحانية، تحوّلت فيما بعد إلى ترانيم وطقوس صوفية، واتّسع تأثيرهم حتى أوغل في المجال السياسي، ليتّخذ السلاطين من شيوخهم مقام المرجع السياسي، وكانوا ينظرون إليهم نظرة الاحترام والتبجيل، ويعتمدون على آرائهم فيما ينوون القيام به من عمل عسكري أو إنجاز سياسي!!

وفي الجهة المقابلة، كان المتصوّف المتصنّع في العهد الحديث، الذي استخدم التصوّف وسيلة للانتشار السياسي في بقاع تركيا والعالم العربي، بل في بلاد الغرب أيضاً، ممّا جنّد لبثّ تلك المفاهيم الباطنية والسياسة الخفيّة، لخدمة أسياد الغرب، وكما فعله متصوّفة بلادنا العربية، من تسطيح للدين، وتسلّط على عقول الجماهير، لتقزيم الدعوة الحقيقة لدين الله، وبالذات إزاحة الصادقين من على الساحة الدعوية والسياسية، التي كانت تشكّل خطراً داهماً لوجودهم على سدّات الحكم.. فالعمل الإسلامي السياسي الذي تتبنّاه الطائفة المنصورة هو الإسلام الذي يتجاوز الإصلاح الفردي، إلى الإصلاح الاجتماعي والحضاري والتغيير الكوني.. وجعل الإسلام يحكم بقوّة، بدلاً عن حكم الكفر والشـرك والعلمنة، التي تعاني منها البشرية أشدّ المعاناة والعذاب!!

وقد غدت الصوفية بمجملها – عدا التصوّف الذي تكلّمنا عنه آنفاً- ، صنيعة سياسية خليطة من الأفكار والطقوس والخرافات النابعة من الثقافة اليهودية، وجذور ما في أسفار العهد القديم والتلمود.. ومعاني وتصوّرات الرهبنة النصـرانية، التي فيها تسعى الذات الإنسانية للوصول إلى مقام الذات الإلهية.. وكذلك الطقوس الهندية والباطنية الشيعية البكداشية.. فضلاً عن مسالك ونظرات سياسية أضيفت من قبل متنفّذي السياسات الخفية للدولة العميقة.. وذلك لمحاربة الإسلام الحقيقي، وصناعة دين أسموه بالديانة الإبراهيمية، جعلوا من يقودها بعض ممّن يسمّون بمشايخ التصوف، كبديل عن السلفية، ومنهج الإخوان السياسي.. هذه الصناعة المنكرة، المكوّنة من خليط من مزابل الأفكار البالية للعقل الإنساني، التي يريدونها بديلاً للإسلام الحقّ، لمحاربته وإلغاء وجوده، وكأنما الإسلام هو حصيلة فكر بشري، كما يظنّون!!

وما يهمّني في هذا المقال هو: الحذر من الحركة الصوفية المسمّاة بالإبراهيمية التي هي تمهيد السبيل لتحقيق أهداف الدجّال في محاربة دين الله الحقّ! ومن بعده – وبعيداً عنه -؛ التمسّك بالصوفية الحقيقية التي تعنى بتربية النفس المؤمنة وتزكيتها، كما هو واضح في آيات الذكر الحكيم، وأخلاقيات رسولنا الكريم – عليه الصلاة والسلام – من مجاهدة للنفس الأمّارة بالسوء، والتي هي أعظم الجهاد، وأكثرها أهمية وحاجة، والتي قد تخلّينا عنها في العقود الأخيرة من عمر دعوتنا الطيّبة، ممّا أدّى إلى تراجعنا وتقهقرنا تراجعاً واضحاً بيّناً بعد نكسة ربيعنا العربي الإسلامي، واستغراقنا في الاهتمام بأمور دنيانا، ونسياننا لِمَعَادِنا، حتّى تلوّثت تلك النفوس الطاهرة بطينيّة الأحداث، ونجاسة الثورات المرتدة المضادّة، فتهاوت وتهاونت، وانطفأت في دواخلنا شموع الأمل، دون إدراك مِنّا، فما عادت تعمل للآخرة كما كنّا نعمل، ولم تعد أنفاسنا تتعلّق بحيوات دعوتنا المباركة، وكان تراجعنا إلى الخلف، وارتدادنا حدّ الخوف، وقست قلوبنا، وحقّ لنا أن نخاف نسياننا لعهدنا مع الله..

وفي تصوّري لن تستعيد تلك النفوس عافيتها إلا بالدخول الى مصحّات التصوّف الحقيقي ومستشفياتها، لعلاج تلك الأنفس المريضة والواهنة، وإحيائها بدروس التخلية والتحلية، للوصول إلى مقام العمل بإخلاص، والغرق في محيطات حبّ الله، وإعادة النبضات الحقيقة الى تلك القلوب شبه الميّتة، التي تكاد أن تتحوّل إلى صخر جلمود.. 

التصوف ليس علماً يُحفظ، بل حالٌ يُعاش، وأدبٌ يُظهر التقرّب إلى الله بذكره، والثبات على طريقه، ونبذ الأنا في حضـرته.. هو أن ترى الدنيا مزرعةً للآخرة، لا جنةً لأهوائك.. فمن اغترّ بزخارفها انطفأت تطلّعات روحه، ومن عرف حقيقتها استضاء بنور الحق..

التصوّف هو إلغاء الذات في حضـرة ذات الله، والسير على خطى كماله بالاهتداء بأخلاقه وأسمائه وصفاته العُلى.

إنه طريق الاستقامة في الدنيا، الموصل إلى الصراط المستقيم في الآخرة. من سلكه بصدقٍ هنا، طار هناك كالبرق الخاطف، لأن معرفة الله في الدنيا هي الوسيلة التي تُرقّي الروح وتُهديها إلى المقام الأعلى.

وبنظر القلب أوقنُ أن طوفان الأقصـى ليس إلا مدرسة ربانية عظيمة، تصوغ معاني التصوف الحقّ في أسمى جوهره، وتغرس فينا أبعاده، وتُرينا بجلاء متطلباته وآلياته. فالحمد لله على حكمته البالغة، ونعمته الهادية.

العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى