مشروعية الانتخابات النيابية وصفات الشخص المنتخب
د. دحام إبراهيم الهسنياني

مع اقتراب موعد انتخابات مجلس النواب في العراق في يوم 11/11/2025، تكثُر التساؤلات عن الصفات التي يجب أن تتوفر في الشخص الذي سننتخبه.
وقبل الكلام عن صفات المنتخب والمرشح، أذكر بعضاً من المواضيع الأساسية المتعلقة بموضوع الانتخابات.
الانتخابات شـرعت لمصلحة العباد:
ولنعلم أن الشـريعة الإسلامية مبنيّة على مصالح العباد، ومن يستقرئ نصوص الشـريعة وأحكامها يتبيّن أن أعظم مقاصد الإسلام؛ بل هو المقصد الأساس: تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل؛ وذلك بجلب المصلحة لهم، ودرء المفسدة عنهم، في أمور معاشهم ومعادهم، بما يتحقّق معه سعادتهم في الدارين.. وبهذا صـرّح المحقّقون من علماء الإسلام.. يقول العزّ بن عبد السلام: “إن الشـريعة كلها مصالح: إمّا درء مفاسد، وإمّا جلب مصالح”([1]). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن الشـريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها”([2]). وقال تلميذه ابن القيم: “الشـريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، وحِكَم كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشـريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشـريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدالّة عليه، وعلى صدق رسوله أتمّ دلالة وأصدقها.. فالشـريعة التي بعث الله بها رسوله هي قطب العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة”([3]).
وشـرعت الانتخابات لمصلحة العباد، والدين كلّه إنما هو جلب مصالح الناس، ودرء المفاسد عنهم، وشـَرْعُ الله مصلحة كله، فحيثما كانت المصلحة فثَمّ شـرع الله.
جاء في بيعة العقبة الثانية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خاطب الأنصار أن يخرجوا منهم اثني عشـر نقيباً، يكونون كفلاء على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم النقباء؛ تسعة من (الخزرج)، وثلاثة من (الأوس)([4]).
ونلاحظ أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعيّن النقباء، إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفلاء؛ والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري، وأراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يمارسوا الشورى عملياً من خلال اختيارهم نقباءهم.
وفي هذا التطبيق في العصـر النبوي يلحظ ظهور الإرادة الحرة، والرضا بالاختيار للنقباء.
والانتخابات وسيلة شـرعية لاختيار النواب، تمثّل إحدى آليات قاعدة الشورى، التي تقرّرها الشـريعة الإسلامية بالأدلّة الكثيرة، بل سبق الصحابة – رضوان الله عليهم – بالعمل بهذه الآليّة في بداية التاريخ. والنواب سابقاً عُرفوا باسم “العرفاء”، وهم الذين يتولّون أمر سياسة الناس، وحفظ أمورهم، فكان (صلى الله عليه وسلم) يرجع إليهم لمعرفة آراء الناس في القضايا العامة، وكان يقول: (ارْجِعُوا، حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ)([5]).
وهؤلاء النقباء والعرفاء كانوا نتيجة انتخاب اجتماعي تلقائي، ناجم عن مكانتهم وأهليتهم، من جهة، وعن رضى الناس بهم، من جهة أخرى، فلم يكن أحد يرسلهم إليهم، أو يفرضهم عليهم، بل كانوا هم الذين يخرجونهم منهم.
وجاءت سنّة الخلفاء الراشدين وفقاً للسنّة النبوية، فكان الخلفاء إذا أرادوا أن يستشيروا في أمر ديني أو دنيوي، جمعوا هؤلاء النقباء والعرفاء واستشاروهم.
اختيار الأصلح؛ أصواتكم أمانة فأعطوها لمن يستحقّها:
الاختيار أمانة، وخاصة إذا تعلّق بولاية، وفي ذلك قال الله (سبحانه وتعالى): )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا((النساء: 58)، فالخطاب في الآية للولاة وأصحاب القرار، بما فيهم الأعضاء النواب، أن يراعوا الأمانات، ويحكموا بالعدل، فإنّ إضاعة الأمانة والعدل نذير بهلاك الأمّة وخراب الديار.
قال القرطبي: “والأظهر في الآية أنها عامّة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، وردّ الظلامات، والعدل في الحكومات”([6]).
ومن أعطى صوته لمن لا يستحق، فقد خان الله ورسوله، وضيَّعَ أمانته، قال الله (سبحانه وتعالى): )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ((الأنفال: 27). ومن هذه الأمانات اختيار الأصلح وانتخاب الأرضى لله، وخاصة إذا تعلّق الانتخاب بتولية ولاية؛ كانتخاب حاكم، أو نائب في البرلمان، أو تولّي شأن من شؤون المسلمين.
قال ابن تيمية: “يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتمّ مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بدّ لهم عند الاجتماع من رأس… ولأن الله أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يتمّ ذلك إلا بقوّة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمع والأعياد، ونصـر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا روي: “أن السلطان ظلُّ الله في الأرض… فالواجب اتّخاذ الإمارة ديناً وقربة يُتقرَّب بها إلى الله؛ فإن التقرّب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات”([7]).
وإذ حمل الإنسان هذه الأمانة، وتحدّى الموجودات كلها، التي أشفقت من حملها، فإنّ من البرّ بنفسه، والكرامة لإنسانيّته، أن يرتفع إلى هذا المستوى الكريم، وأن يرعى هذه الأمانة حقّ رعايتها، وأن يؤديّها إلى أهلها، وهو الله (سبحانه وتعالى)؛ وذلك بالتعرّف على الله، والإيمان به أولاً، ثم الاستقامة على طريق الحق والخير على ما شـرعه الله ورسمه.. وأداء هذه الأمانة على وجهها، هو ضمان وثيق لأداء الأمانات كلّها، لأن كلّ أمانة بعد هذا هي بعض من تلك الأمانة الكبرى، وأثر من آثارها.. فما بين الناس والناس من أمانات ماديّة، وعقود، وعهود.. هو ممّا يندرج تحت هذه الأمانة، وينضوي إليها..
وإذا كان الانتخاب توليةً، فالتولية أمانة.. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من استعمل رجلاً من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين)([8]).. فالانتخاب في هذه الحالة تولية، واستعمال لرجل على جماعته([9]).
ويقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): (إذا ضيّعتِ الأمانةُ فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة)([10]).
قال ابن حجر: “إن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلَّدوا غير أهل الدين، فقد ضيّعوا الأمانة التي قلّدهم الله (سبحانه وتعالى) إيّاها”([11]).
ولا بدّ لكل شخص أن يدلي بصوته، ويختار من هو المناسب، لأن القعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر، لأنه كتمان للشهادة، فلا يجوز له أن يتبرّأ أو يحاول كتمان الشهادة؛ كما قال الله (سبحانه وتعالى): )وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ((البقرة: 283)، وهذه العبارة توحي بأن كتمان الشهادة من الكبائر؛ وقد قال الله (سبحانه وتعالى): )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ( (البقرة: 140).
قال السمرقندي في تفسيره: “فهذا وعيد للشاهد على كتمان شهادته، لكيلا يكتمها”([12]).
يقول سيد قطب: ويتكئ التعبير هنا على القلب، فينسب إليه الإثم، تنسيقاً بين الإضمار للإثم، والكتمان للشهادة، فكلاهما عمل يتمّ في أعماق القلب.. ويعقّب عليه بتهديد ملفوف، فليس هناك خافٍ على الله.. )وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(.. وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب!([13]).
فالمشاركة في الانتخابات النيابية أمر مشـروع، وحق دستوري، وواجب وطني، وأمانة ينبغي على المواطن أن يحافظ عليها، ويؤدّيها بالشكل الصحيح، إلى جانب أنها شهادة سَيُسأَلُ عنها أمام الله (سبحانه وتعالى)، لقوله تعالى: )سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ((الزخرف: 19).
فلا بد من وضع واختيار الشخص المناسب في المكان المناسب، ومن ثم كان حرص الإسلام على الثروة البشـرية، والمحافظة عليها، والعمل على تنميتها: جسمياً وعقلياً وروحياً وعلمياً ومهنياً، وكانت الموازنة بين الدين والدنيا، دون إفراط أو تفريط.
ولتحقيق ذلك لا بدّ للناخب من التحرّي والاجتهاد في معرفة متطلّبات الترشيح، وكفاءة المرّشحين، لا تعصّباً للعشيرة أو القرابة، ولا تقديماً للمصالح الخاصة على المصالح العامة.. فعن يزيد بن أبي سفيان، قال: قال لي أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تُؤْثِرهم بالإمارة، ذلك أكثر ما أخاف عليك، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً لَهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَمَنْ أَعْطَى أَحَدًا مِنْ مَالِ اللَّهِ شَيْئًا فَحَابَاهُ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وبَرَأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ)([14]).
(صـرفاً)؛ توبة؛ أو نافلة؛ (ولا عدلاً)؛ أي: فريضة؛ يعني: لا يقبل الله فريضتهم قبولاً تكفّر به هذه الخطيئة.
الصفات الشرعية للشخص المنتخب:
والحقيقة أننا إذا أردنا أن نبحث في شـريعتنا الغرّاء عن معايير انتخاب الأشخاص الذين سيحملون هموم الوطن والمواطن، سنجد المعايير واضحة ودقيقة، لكن لا بد من الصفات التي يجب أن تتوفر في الشخص الذي سننتخبه.
وسأركز على أربعة صفات مستوحاة من القرآن الكريم، وهذه الصفات هي:
1- الحفظ، 2- العلم، 3- القوة، 4- الأمانة.
1- صفة الحفظ:
فأولى هذه الصفات: الحفيظ.
إن الإنسان الحفيظ هو من يعنى ويقدّر حجم المسؤولية الكبيرة التي بين يديه، ولا سيّما حقوق الناس، والعمل بكل ما أوتي من قوّة على حفظها وصونها، وعدم التفريط بها.
قال السعدي: “أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محلّه، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصـرّف في جميع أنواع التصـرّفات. وليس ذلك حرصاً من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ، ما لم يكونوا يعرفونه”([15]).
2ــ صفة العلم:
أمّا الصفة الثانية، وهي العليم؛ فيجب أن يكون النائب ذا معرفة واطّلاع، سواء على كيفية صياغة القوانين والتشـريعات، وصولاً إلى الإلمام بحقوق الناس، ودراسة الآثار المترتبة من أيّ تشـريع عليها، ومعرفته بما هو في صالح الدولة والشعب.. فالنائب هو منصب تكليفي، وليس تشريفياً.
فالمرشح لعضوية مجلس النواب يجب أن يكون لديه من العلم والحكمة ورجاحة الرأي ما يمكّنه من القدرة على الأداء، وأن يكون عيناً ساهرة لمكتسبات الوطن ولحقوق المواطن، وفق الأمانة التي أخذها على عاتقه، والميثاق المجتمعي الذي أوصله إلى قبة البرلمان، في إطار مسؤوليته المتعلّقة بالرقابة والتشريع.
3- صفة القوّة:
وثالث صفة هي القوّة، فيجب أن يكون النائب قوّياً في الطرح، ولا يخاف من شيء.. ولا نقصد بالقوّة هنا العضلات واللسان، بل قوّة استخدام الأدوات الدستورية الموضوعة بين يديه، واستغلالها الاستغلال الأمثل لما فيه صالح البلاد والعباد.
القوّة هي قوّة البدن، وقوّة الفكر، والفطنة والكياسة، وسرعة البديهة، وحسن التصـرّف، والأمانة أمانة الدين، وهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأزمان والأعمال.. ولا بد من إعداد الإنسان المؤمن القوي بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا، وذلك تحقيقًا لحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ)([16]).
جمع الحديث النبوي هنا بين القوّة والأمانة، لأن الأمانة من الإيمان، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
قال النووي: “والمراد بالقوّة هنا: عزيمة النفس، والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسـرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشدّ عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى، في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله (سبحانه وتعالى)، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها، ومحافظة عليها، ونحو ذلك”([17]).
ومن هنا، فإن التوجيه النبوي للاهتمام بالجسد يهدف إلى بناء جسم المسلم بناءً سليماً، ليكون قوياً قادراً على القيام بمسؤولياته في الحياة تجاه نفسه وأمته، فإن المؤمن القوّي خير وأحبّ إلى الله (سبحانه وتعالى) من المؤمن الضعيف، وحتى يسخّر طاقاته في طاعة ربّه ومرضاته، وخدمة مجتمعه، بل والإنسانية جمعاء، بما يعود عليهم بالخير الوافر في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
والقوة – في مثل عمل البرلمان – هي قوّة استخدام الأدوات الدستورية الموضوعة بين يديه، واستغلالها الاستغلال الأمثل لما فيه صالح البلاد والعباد.. والقوّة الواجب اختيارها هنا هي القوّة العلمية، وقدرة المترشّح على إيصال الصوت بالحكمة والموعظة الحسنة.
4- صفة الأمانة:
والصِّفة الرابعة: «الأمانة»، وهي أهمّ صفة يجب أن يتحلّى بها المرشّح للانتخابات.. والأمانة ثقيلة، عرضت على السماوات والجبال فلم يحملنها، ولا يوجد في ديننا عمل بدون مقابل، فإمّا إن يكون عملاً عليه أجر، أو عملاً عليه وزر.. وعلى من يترشّح أن يعي ذلك، ولا يقع ضحية لنقطة ضعفه كإنسان، بل يجب أن يقدّر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وعاتق المجلس.
يقول الله (سبحانه وتعالى) في محكم كتابه في قصة يوسف: )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( (يوسف: 55)، وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوّة والأمانة.
يقول الزمخشـري: “اجعلني على خَزَائِنِ الأرض “ولّني خزائن أرضك” إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصـرّف، وصفاً لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولّونه، وإنما قال ذلك ليتوصّل إلى إمضاء أحكام الله (سبحانه وتعالى) وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن ممّا لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أنّ أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحبّ الملك والدنيا”([18]).
إن القوّة والأمانة هي التي حملت يوسف (عليه السلام) على أن يعرّض نفسه لتحمّل المسؤولية في وقت الشدّة، فالأمّة قادمة على سبع شداد سمتُها الجوع، وشعارها شدُّ الأحزمة.. ولما تقدّم لم يقل إني نبيّ كريم، بل قال: )إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(، فهذا قوام القوّة في هذه المهمّة. فسيدنا يوسف (عليه السلام) وصف نفسه بالحفظ والعلم، ولم يذكر أهم الصفات التي انفرد بها عن غيره، وهي النبوّة، ممّا يؤكّد أن معيار اختيار مثل هذه المهمّة الاقتصادية – التي تعادل وزارة الاقتصاد أو المالية، أو غيرها من مهام الدولة المالية – هو الأصلح لأداء هذه المهمّة.
ولقد احتاج إلى أن يعرض نفسه في أمّة لم تكن تعرف قدر رجالها.. لقد رأى أن تحمّل المسؤولية في وقت الشدائد من خصائص الرجال الذين يرون تحمّلها مغرماً لا مغنماً.
يقول سيد قطب: طالب يوسف (عليه السلام) بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيراً ممّا ينهض بها أحد في البلاد؛ وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت، وبلاداً من الخراب، ومجتمعاً من الفتنة.. فتنة الجوع.. فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته.. قوّته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه: )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(… والأزمة القادمة، وسنون الرخاء التي تسبقها، في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة، وضبط الزراعة والمحاصيل، وصيانتها.. وفي حاجة إلى الخبرة، وحسن التصـرّف، والعلم بكافة فروعه الضـرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب، وفي سني الجدب، على السواء.. ومن ثمّ ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمّة التي يرى أنه أقدر عليها، وأن وراءها خيراً كبيراً لشعب مصـر، وللشعوب المجاورة: )إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(… ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه، فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل، وشعوب كذلك تجاوره، طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع.. فليس هذا غنماً يطلبه يوسف لنفسه، فإن التكفّل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية، لا يقول أحد إنه غنيمة([19]).
وفي قصة سيدنا موسى (عليه السلام) في (سورة القصص): )قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ(. (القصص: 26).
القويّ الأمين مطلبٌ لكل منصب، وهدف لكل ولاية، ومقصد لكل عمل، وهما خلّتان بهما تحسن الأعمال، وتصلح الأحوال، وفيهما يرغب الرجال.. إذا تولّى المناصبَ من تحقّق فيه ذلك، فالخير منتظر.. وإذا تولّى المناصب من تخلّف عنه ذلك، فقد وسّد الأمر إلى غير أهله.
إن الأمّة إنّما تشكو أكثر ما تشكو من الذين تخلُّفت فيهم هاتين الصفتين، فالقويّ إن لم يكن أميناً كانت قوّته في الشـرّ، والأمين إن لم يكن قوياً لم يكن ذا أثر.. ولذا كان عمر يقول: (أشكو إلى الله جلد الفاجر، وعجز الثقة)، فإن لم يكن قويا ولا أميناً، فذلك بليّة البلايا.
يقول ابن تيمية: وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوّة والأمانة، كما قال الله (سبحانه وتعالى): )إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ(، والقوّة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوّة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب.. والقوّة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل، الذي دلّ عليه الكتاب والسنّة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.. والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وترك خشية الناس.. وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حكم على الناس، في قوله (سبحانه وتعالى): )فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( (المائدة : 44)([20]).
ويبقى القوي الأمين عملةٌ نادرة، ورقمٌ صعب، فالناس كالإبل المائة حين تبحث عن الراحة لا تكاد تجدها، وقد قيل: (إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك، وتمّ مرادك).
من خلال الآيات الكريمة نرى أن أهم الصفات الواجب توافرها فيمن يتصدّر للعمل العام، هي أن يكون حفيظاً، وعليماً، وقويّاً، وأميناً، ويكون الإنسان حفيظاً وحكيماً عندما يضع الشيء في محلّه، وأن يكون موضعاً للثقة والأهلية.
قال (صلى الله عليه وسلم): (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)([21]).
وفي رواية: (مَا مِنْ أمِير يَلي أُمُورَ المُسلمينَ، ثم لا يَجْهدُ لهم، وَيَنْصَحُ لهم، إلا لم يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ)([22]).
فقد يكون السبب في التطلّع إلى الصدارة، وطلب الريادة، هو الغفلة عن عواقب التقصير في هذه الصدارة وتلك الريادة، وذلك أن عواقب التقصير في هذا الأمر في الدنيا إنما هي إفساح المجال أمام الباطل وجنده، ليفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل، وأمّا في الآخرة، فهي التقييد بالأغلال والسلاسل، والحرمان من الجنة، والإلقاء في النار، والعياذ بالله.
وأخيراً: المرشّح لعضوية مجلس النواب يجب أن يتصف بالقوّة بمختلف معانيها، وبالأمانة بمختلف دلالاتها، مراعيا المصلحة العامة.
فما أحوجنا لكي نختار من المرشحين القويّ الأمين، الحفيظ العليم؛ القويّ في الصدح بالحقّ، القويّ في الحجّة والمنطق، والقويّ في مقارعة الفساد والفاسدين، والأمين على مبادئه، الأمين على تحقيق برنامجه الانتخابي، والأمين على الأمانة والثقة التي وضعها الشعب فيه.
وأعضاء مجلس النواب بهذه الصفات المذكورة سابقاً، يتوقّع منهم أن يقوموا بواجباتهم التي انتخبوا من أجلها أتمّ القيام، حتى يكونوا العقل المدبّر، والعين الساهرة، واللسان الجريء بالحقّ في البرلمان؛ الذي تلتقي فيه قامات الأمّة، وتقرّر فيه القوانين الأساسية التي يلزم بها المواطنون كافة.
([5]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب إذا وهب شيئاً لوكيل، رقم (4318).
([6]) الجامع لأحكام القرآن: 5/256.
([7]) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 129.
([8]) رواه الحاكم في مستدركه: 4/92، حديث رقم (7023)، وقال صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى: 10/201 (20364)، والطبراني في الكبير: 11/94 (11216).
([9]) الانتخاب في الفقه الإسلامي، د. ناصر العمر.
([10]) رواه البخاري في كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه، رقم (59) عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، وأحمد في المسند، رقم (8729).
([12]) بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي: 1/212.
([14]) رواه الإمام أحمد في مسنده: 1/6، رقم (21)، والحاكم النيسابوري في مستدركه: 4/104، رقم (7024) وقال: صحيح الإسناد.
([16]) رواه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، رقم (2664)، والنسائي في الكبرى رقم (10461)، وابن ماجه رقم (79) باب (القدر) من كتاب الإيمان.
([17]) شرح صحيح مسلم للنووي: 16/431.
([20]) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 12.
([21]) رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب من استُرعي رعية فلم ينصح، برقم (7150)، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، برقم (142).
([22]) رواه البخاري في الأحكام، باب من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم رقم (142) في الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، وفي الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل.
العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون