هنري كوربان مؤرِّخاً لجابر بن حيَّان وكيميائه.. حوار مع الأستاذ الدكتور جزيل عبد الجبار الجومرد

أجرى الحوار: د. نبيل فتحي حسين

استعرض المستشـرق الفرنسـي الشهير هنري كوربان H. Corbin (1903-1978م) في دراسته عن أبي عبد الله جابر بن حيَّان الكوفي المعروف بالصوفي (ت نحو 200هـ/815م)، والتي ضمَّنها كتابه “تاريخ الفلسفة الإسلامية([1]) ثلاثة موضوعات رئيسة مهمة، هي: الاختلاف التاريخي حول حقيقة وجود جابر وحقيقة مؤلَّفاته، ونظرية جابر عن الميزان، ونظريته عن ميزان الحروف. وهي محاور، تبادلنا النقاش في بعض جوانبها مع الأستاذ الدكتور جزيل عبد الجبار الجومرد، أستاذ التاريخ الإسلامي المتمرس في كلية التربية/ جامعة الموصل، فكان هذا الحوار.

   – كيف تنظرون – بشكل عام – إلى ما كتبه كوربان عن جابر؟

الدكتور جزيل الجومرد: إنَّ الحكم على ما كتبه كوربان عن جابر يقتضـي أنْ ننظر إلى نص كوربان كاملاً في سياقه التام، وهو أمر توحيه هواجس مبررة، خاصة وأنني أزداد قناعة، يوماً بعد يوم، بأنَّ أي نص من كتاب، مهما كان صغيراً، لا يمكن فهمه دون الاطلاع على مجمل الكتاب الذي اجتزىء منه النص. وفي قناعتي، فإنَّ أي عمل مكتوب يمثِّل وحدة متكاملة، لا يمكن استيعابها إلا بالاطلاع على مجمل العمل.. أي جزء، مهما احتوى من خبر متكامل – كما يبدو لقرَّائه – فهو ليس متكاملاً، ما لم يُفهم على ضوء مجمله.. وفي نص كوربان بعامَّة، فإنَّ الإصـرار على ما هو إسماعيلي، بدا لي مبالغاً فيه.. إنَّ العلاقة التي تحدث عنها كوربان، بين التشيُّع والإسماعيلية، بدت لي مموهة غير واضحة الحدود.

   وعلى الرغم من أننا لا نعرف الكثير عن مُتَرجِمَيْ الكتاب: نصير مروَّة وحسن قبيسـي، إلا أنْ تكون مراجعة الترجمة قد تمت بواسطة كل من: الإمام موسى الصدر، والذي كان رجل سياسة بمعنى الكلمة، والأمير عارف تامر، وهو كبير كُتَّاب الإسماعيلية في لبنان، وفي المشـرق بوجه عام، فهذا يثير احتمالية أنْ يكون الرجلان قد فرضا على المفردات إسقاطات من نوع ما، إذ من المستبعد أنْ يكونا مجرد مراجِعَين لكتاب مترجم، يتحدث عن الأئمة الشيعة، وصلتهم بالإسماعيلية، دون تدُّخل ما.. وللحقيقة فقد بدا لي كوربان، وهو يتحدث عن أئمة الشيعة، ثمَّ عن الإسماعيلية، وكأنه يوجِّه خطابه في حديث ودِّي مع الصدر وتامر!

– وماذا عن اللذَينِ اشتركا مع كوربان في تأليف الكتاب، أعني: صديقه سيِّد حسين نصـر، الذي عُني بالتصوُّف والتشيُّع معاً، وتلميذه عثمان يحيى، الذي عُني بالتصوُّف تحديداً؟ هل يمكن أنْ يَقْبَل رجل أكاديمي، شيعي، اثنا عشـري، مثل نصـر، مبالغة في الحديث عن الإسماعيلية؟ وهل يمكن القول إنَّ نصوصاً تُنتَج في أجواء مثل هذه، يمكن أنْ تثير حولها علامات استفهام كثيرة؟

الدكتور جزيل الجومرد: إنَّ رجلاً مثل نصـر يُعَدُّ نِدَّاً لكوربان، ونحن لا نعرف، بالضبط، حجم ما أسهم به في كتابة نص كوربان، وينبغي لنا أنْ نتساءل: ما الذي قيل تماماً في النص الأصلي الفرنسـي للكتاب، وليس النص العربي الذي بين أيدينا؟ هذا ما لا نعرفه.. ولكن – وكما تفضلت – فإنَّ نصوصاً تُنتَج في مثل هكذا أجواء يمكن أنْ تثير حولها علامات استفهام كثيرة، وإنْ كان العمل، أساساً، يسعى جاهداً لحلِّ ألغازٍ غاية في الغرابة.. إنَّ الخطاب الجابري، وهو خطاب أشك في وجود فهم متكامل له، سواء أكان لجابر واحد أم )لجوابر) عدَّة، يصنع عالماً رمزياً يُحيِّد عالم الدنيا كلها، ويحتكر إمكانية التواصل وفق مفاتيحه فقط.. النص الجابري يصنع عالمه، الذي لا يعلم أحد سوى الله – سبحانه وتعالى – من هم المتواصلون عبره!

– ينبغي أنْ لا ننسـى أنَّ عبدالرحمن بدوي تنبَّه، مبكراً، إلى الحضور الشيعي اللافت في الكتاب، عندما أشار إلى أنَّ كوربان بالغ في هذا الكتاب مبالغة شديدة في إبراز نصيب الفكر الشيعي، على حساب الإجحاف الغريب بالفكر السني!([2]).

الدكتور جزيل الجومرد: هذه ملاحظة دقيقة، وقد تكشَّف لي صدقها، مرَّة ثانية، بعد أنْ التفتُّ إلى نصِّ كوربان، بوحي من تساؤلاتكم. ولا بُدَّ أنَّ بدوي كان قد قرأ النسخة الفرنسية من الكتاب، ولا أظنه يعوِّل في إصدار أحكامه على نص تُرجم إلى العربية.

– لننتقل إلى مناقشة بعض ما ورد في نص كوربان.. يقول كوربان في معرض ترجمته لجابر: “إنَّ الرغبة في إظهار ما يُفسّـِر التقليدَ والعرف، وما يدلُّ عليه هذا التقليد، هي أشد خصباً وفائدة من الانتقاد التاريخي المتطرِّف الذي يطأ أرضاً غير ثابتة لا تلبث في كل لحظة أنْ تنخسف وتغور”([3]). إنَّ كوربان يقدِّم هذا الرأي، وهو في سبيل التحدث عن رجل كثر الجدل بشأن وجوده، وبشأن حقيقة مؤلَّفاته، ليس في زمن النَّديم (ت 380هـ/990م)، صاحب أقدم ترجمة لجابر فقط([4])، وإنما على طول تاريخ الحديث عن مؤسس الكيمياء العربية([5]). ألا يبدو هذا الموقف غريباً نوعاً ما، وهو يصدر عن مستشـرق؟ ألا يتعارض هذا مع ما تقولون به دائماً من أنَّ الاستشـراق يستفزُّنا… يدخلنا إلى تفاصيل الظواهر التاريخية… يوفِّر تمارين رياضية للفكر والذهن، تنهكه أحياناً؟

الدكتور جزيل الجومرد: يبدو أنَّ كوربان يدعو إلى تفسير التقليد والعرف، وإلى خصب ما ينتجه هذا التفسير، لما في الموروث من ممكنات تفاعل خصب، ولا أظن أنَّ ذلك يتعارض مع ما يمتاز به الاستشـراق من استفزاز وولوج إلى الظواهر التاريخية، وتوفير تمارين رياضية منهكة للفكر والذهن.

– ولكنَّ كوربان يقول هذا الكلام تمهيداً لقبولـه بكل ما يتعلَّق بسيرة جابر من قضايا أساسية أثارت جدلاً كبيراً بين المؤرخين في الماضي والحاضـر: حقيقة وجوده، صلته بالإمام الشيعي السادس أبو عبدالله جعفر بن محمَّد، المعروف بجعفر الصادق (ت 148هـ/765م)، حجم مؤلَّفاته.. وغيرها، إذ يظهر أنَّ كوربان لا يقبل بالتشكيك في هذه الموضوعات، وإنما يسلِّم بصحة كل ما ورد بشأنها، بناء على أنَّ ذلك أفضل ممَّا يسميه بالانتقاد التاريخي المتطرف!

الدكتور جزيل الجومرد: إذا كان ذلك يعني أنَّ كوربان لا يرغب في خوض غمار الأسئلة المُلحَّة التي يتميز بها الاستشراق، فهذا يعني أنه يرى أنْ لا غبار على التفاصيل التي تنقلها الروايات التقليدية، وهذا شيء غريب حقاً، إلا إذا كان يعتقد أنَّ النقد المغالي أتلف القيمة الحقيقية للموروث الجابري، وشكَّك وعرقل البحث المجدي للمادَّة الموروثة التي تحتمل مقاربات أكثر جدوى من مجرد التشكيك المتطرف دون الخوض في زبدة الموضوع.

– سأذهب إلى تفسير آخر، ولا أعرف مدى جودته: كان كوربان أحد الذين استغرقهم الاستشـراق، واستغرقهم التشيُّع، وقرأتُ أيضاً أنه اعتنق الإسلام، ولا أعرف مدى صحة ذلك.. ألا ترون أنَّ ذلك يمكن أنْ يقود إلى مواقف من هذا النوع، خصوصاً عندما يتم الحديث عن موضوعات تتصل بالتشيُّع، والتصوُّف، والغلو؟ ونحن نعرف أيضاً أنَّ بدوي تحدَّث، يوماً من الأيام، عن نزوع موجِّه لفكر كوربان، يصفه بأنه ثيوصوفي إشـراقي عرفاني موغل في الأسـرار والتهاويل، يستند إلى الوجدان والتجربة الصوفية، ويشيح عن النزعة العقلية([6]).. رجل بهذه المواصفات ألا ترون أنه يمكن أنْ يتساهل في التعامل مع الروايات التاريخية، إذا وجدها تعزِّز ميوله؟

الدكتور جزيل الجومرد: بالتأكيد. وأود أنْ أنبِّه هنا إلى أنَّ كوربان – أساساً – لم يكن يوماً من الأيام مرجعاً في تحليلاته ونقده لقُراء الاستشـراق، مقارنة بمستشـرقين آخرين، كما أنَّ انغماسه في التشيُّع يبعده حتى عن نمطية المستشـرقين، حين يتعاطفون، لا أنْ يصبحوا أولياء الأمر! والحقيقة أننا يمكن أنْ نتناول بالبحث أولئك الذين عُنوا بالتصوُّف من المستشـرقين، مثل: آرثر جون آربري، ولويس ماسينيون، وآنا ماري شيمل، وأحدهم بالتأكيد كوربان.. فهؤلاء تماهوا مع التصوُّف، وعاشوه، أكثر ممَّا عُنوا بدراسته دراسة تحليلية أكاديمية نقدية فيلولوجية. وغالباً ما يكون كوربان قد ورث عن ماسينيون ذلك الاهتمام بالتشيُّع والتصوُّف، وإنْ كان لا يضاهيه في ذلك، فماسينيون استغرقه التصوف والحلول، وإنْ كنتُ لا أعلم إلى أي مدى أوغل في الغنوص القديم.

– تأسيساً على ذلك، هل يمكن القول: إنَّ التماهي مع الميادين المعرفية التي تركِّز على الجوانب الروحية أكثر من الجوانب العقلية – كالتصوُّف مثلاً – سيكون، أحياناً، على حساب الالتزام بالمنهج الأكاديمي الدقيق الصارم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تجدونه تفسيراً كافياً لقبول كوربان بصحة كل ما يتعلَّق بسيرة جابر ومؤلَّفاته، ممَّا أثار جدلاً واسعاً في الماضي والحاضر، ولا يزال؟

الدكتور جزيل الجومرد: نعم، ولكنَّ الأمر يختلف من مستشـرق إلى آخر.. وهنا، نجد أنَّ كوربان يتفاعل مع خطاب جابر، كمعطًى معرفي، ويُنتج تصوُّراته بناءً على ذلك. ويظهر بوضوح أنه لا يهتم بالأسباب والمسبِّبات، ونقد مصادر سيرة جابر.

– ولكن ألا يشكِّل ذلك ضعفاً في عرضه لسيرة جابر؟ هو أفاض في تحليله للفكر الجابري، فتحدَّث عن نظرية الميزان، وشـرح مفهوم ميزان الحروف، ونبَّه إلى أهميته في مجال فلسفة اللغة العربية، وتركت طروحاتـه آثارها في خارج الحدود الجغرافية لفرنسا، وتحديداً في إسبانيا، حيث اعتمدها بشكل مباشر المستشـرق الإسباني كروث إيرنانديث([7])، وقيَّم، يوماً من الأيام، بعض طروحاته عن الميزان، مؤرخ العلوم التركي الشهير فؤاد سزكين([8])، ولكن تبقى علامة الاستفهام المثيرة للاستغراب هي تسليمه الكامل بصحة كل ما يمكن عَدُّه السيرة التقليدية لجابر!

الدكتور جزيل الجومرد: يبدو لي أنَّ ما يعني كوربان من الموروث الجابري هو مضمونه. وهذا ما يحسن التفاعل معه. ومن هنا فإنَّ الشكوك حول تاريخية وجود جابر، كفرد في زمن، وفق إطار زمني محدد، لا تهمُّه، وإنْ كان التسليم بمثل هذا الفهم لطبيعة تعامل كوربان مع الـ(Corpus) أو (الموروث الكتابي) لجابر، يقتضـي أنْ نجد هذا التوجُّه الذي يقوم على الاهتمام بمضمون الموروث الجابري حاضـراً في ثنايا نتاج كوربان كله عن جابر.

   والحقيقة أننا في مشكلة مع زمن جابر، وأقصد بذلك: متى كان موجوداً تاريخياً، وأقل من ذلك، ربَّما، إشكالية: أين كان موجوداً، جغرافياً؟ وإنَّ عدم معرفتنا بذلك تجعل كل ما يمكن أنْ نفهمه عن الرجل، وسيرته، وأثره الحضاري، قيد الاحتمال، بل ولا يمكن البناء عليه في فهم انسيابية الفعل الحضاري الإسلامي المبكر. إنَّ عدم وجود جابر، من ناحية معرفتنا، في سياقه الزمني والمكاني الجغرافي، الصحيح، يجعل كل علمنا المزعوم به، وبتراثه، لا قيمة سياقية حضارية له.. وبالتالي فقد نعرف أنَّ رجلاً اسمه جابر، عاش يوماً ما في الكوفة أو بغداد أو غيرها من المدن الإسلامية، وكان له – زعماً – كتب في العلوم، ولكننا لا نستطيع الحديث عن مشايخه، ومعلِّميه، وتكوين معرفته، وتكوين علمه، وأثره فيمن تلاه أو جاوره في المكان – جغرافياً -، لأننا لا نعرف يقيناً زمنه ومكانه.. إنَّ تحديد زمن وجود جابر، ومكانه، ضـروري جداً لتكون معرفتنا به ذات قيمة في فهم التاريخ الحضاري الإسلامي المبكر، وفهم التوزيع الجغرافي المعرفي للعصـر الذي عاش فيه.

– هذه مشكلة تعود إلى زمن النَّديم، الذي نبَّه إلى أنَّ هناك من يشكِّك بوجود جابر التاريخي، ودافع عن هذا الوجود… ثم جاء الجِلْدَكي (ت 743هـ/1342م)، وهو كيميائي متأخِّر، استخلص سيرة جابر اعتماداً على ما ورد في مؤلَّفاته هو.. وهذا ما نبَّه إليه كوربان.. واتَّخذ كوربان ما استخلصه الجِلْدَكي دليلاً على وجود الرجل التاريخي([9]).

الدكتور جزيل الجومرد: أنا أرى أنه ينبغي أنْ نتَّبع منهجاً دقيقاً للاستدلال على وجود جابر، وعلى هويَّته، ثم على مكانه، لأنه بحاجة إلى أنْ يوضع على المشـرحة من جديد، بعد إسقاط كل النظريات والاجتهادات، والبدء من النصوص الأولى، وإلا فإنَّ قضية ما يمكن تسميته بـ(المعضلة الجابرية) لن تمكننا من ترتيب البناء الحضاري المعرفي للإسلام المبكر ترتيباً يوثق به.. وأرى أنَّ علينا، أيضاً، أنْ نُخضع ما استخلصه الجِلْدَكي للنقد النصِّـي القاسي، بالمقارنة مع مجموع الأعمال المنسوبة لجابر، بدل الاقتناع بنتاج قلمه، بسهولة، على أنه سيرة ذاتية لجابر.. أمَّا فيما يخصُّ إيرنانديث، فأرى أنه لا يقدِّم شيئاً أكثر من تكرار كلام كوربان مختصـراً، وبالتالي فلا شيء جديداً عنده.

   إنَّ أنموذج كوربان يعني أنَّ ملامح الصورة الأوَّلية التي نكوِّنها عن مستشـرق ما تتأثر بطبيعة الموضوعات التي يكتب فيها، وكل مستشـرق إنما نكوِّن تصوُّراتنا عنه من خلال أوجه اهتمامه، وطرائق مقاربته لموضوعاته.

– في سياق حديث كوربان عن ميزان الحروف، كيف تنظرون إلى الترتيب الذي يقدِّمه جابر للحروف الرمزية الثلاثة، ومعناها، وهي: العين (رمز الإمام، الصامت، علي)، والميم (رمز النبي، الناطق، المعبِّر عن الشـريعة، محمَّد – عليه الصلاة والسلام -، والسين (سلمان الفارسي)، وهو ترتيب يخالف الترتيب الرمزي للشيعة الإثني عشـرية، والإسماعيلية الفاطمية (ميم. عين. سين)، وينسجم مع الترتيب الذي يعتمده الإسماعيلية الأولى أو إسماعيلية ألموت (عين. سين. ميم)، وهو ترتيب يتقدم فيه سلمان الفارسي على النبي محمَّد – عليه الصلاة والسلام –([10])

الدكتور جزيل الجومرد: إنَّ فلسفة جابر وعقيدته تقوم على التلاعب بموضعة الحروف. والحروف نفسها – بوصفها رموزاً – لا تكتسب قيمتها من ذاتها، أي من كونها حروفاً ضمن سلسلة الحروف العربية الثمانية والعشـرين، وإنَّما ممَّا تحتويه من مزيج معطيات متفاعلة، مصدرها معرفة صاحب الرؤية. وهذا يقودنا إلى مصدر المعرفة، ومن ثم فلسفة منهج صناعتها أو تكوينها.. ولكنَّ التساؤل الذي يفرض نفسه هو: لماذا هذا التباين بين الترتيب الجابري، والترتيب الشيعي الاثني عشـري، خاصة وأنَّ الروايات التقليدية تنصُّ على أنَّ جابراً هو تلميذ جعفر الصادق، الإمام السادس من أئمة الشيعة الاثني عشـرية؟ وأنا أرى أنَّ هذا اختلاف خطير بين الاثنين، ولا تأويل له إلا أنَّ جابراً قيَّم وظيفة كل فاعل من الأسماء الثلاثة تقييماً مختلفاً. وأقول هنا: الوظيفة وليس المكانة، فلو كانت المكـانة هي المقصودة، فإنَّ جابراً – دون شك – سيكون، حينها، ناشزاً جداً في محيطه الأيديولوجي، اللهم إلا إذا افترضنا أنْ يكون أحد النسَّاخ قد عبث بالحروف، وهذه مسألة يُفترض أنْ تُعالج قبل تمضية وقت طويل في إيجاد التأويلات.

– تأكيداً لما تفضَّلتم به آنفاً، يشير كوربان إلى اختلاف في المهمة، فسبب تأخُّر النبي (ميم) على الإمام (عين) والحجة (سين)، عند الإسماعيلية، هو أنَّ النبي “يشغل مهمة الداعي الذي يدعو الناس نحو الإمام، الذي يمثِّل المعنى المستور لهذه الشريعة”([11]).

الدكتور جزيل الجومرد: نعم، وهذا بحد ذاته عجْز عن إمكانية التواصل المباشـر مع الله (سبحانه وتعالى)، وبالتالي درجة داخل دائرة الإشـراك، لم يُتحها النبي محمَّد – عليه الصلاة والسلام – في أيٍّ من أحاديثه.. ولكنَّ (المستور) هو جزء من عقيدة التقيّة.

– هل یمكن أنْ نفترض عدم وجود تباین بين جابر وأستاذه الإمام جعفر الصادق، على اعتبار أننا إذا قبلنا بفكرة أنَّ جابراً كان إسماعيلياً، فإنَّ الإمام الصادق إمام من أئمة الإسماعيلية أيضاً، وبالتالي فهو – وفقاً لجابر – ممن يقول بالترتيب الجابري للحروف (عين. سين. ميم)؟

الدكتور جزيل الجومرد: أنا لا أنظر إلى المسألة هكذا، وإذا لم نقل بوجود تباين، فهذا يعني أنَّ الزعم بترتيب الشيعة الاثني عشـرية للحروف (ميم. عين. سين) غير صحيح، أو أنَّ الإمام جعفر الصادق أخفى شيئاً ما، بإقرار ترتيب ظاهري مقبول، وإخفاء ترتيب ناشز، هو ما يصـرِّح به جابر بالنيابة، ربَّما من باب التقيَّة.. وإذا قلنا بالتقيَّة، فلن يعود هناك ثوابت البتة في ما يُعوَّل عليه لرسم معالم مذهب أهل البيت. ممَّا يعني أنه من الأفضل أنْ نبحث عن تفسير للتناقض، خير من أنْ نزجَّ بأنفسنا في اجتهادات غير محمودة النتائج.

– عندما راجعتُ كتاب “الماجد” لجابر، وهو الكتاب الذي جرى فيه الحديث عن الحروف الثلاثة، وجدتُ أنَّ كل حرف منها يحتاج إلى بحث مستفيض لمعرفة ما الذي يريد أنْ يقوله جابر بشأنه… ولكن، وبشكل عام، لم أجد جابراً يتحدث عن أدوار أو وظائف أو مهام، قدر حديثه عن منازل، وصفات، ومزايا. وللحقيقة فإنَّ صعوبة الكتاب، ورمزية لغته، لم تمنحني جرأة على إصدار رأي، ولو سريع، حول كيفية حديث جابر عن الحروف الثلاثة. يقول جابر: “إنَّ الماجد هو الذي قد بلغ بنفسه وكدِّه وكدحه من العلم إلى منزلة الناطقين، فصار ناطقاً ملاحظاً للصامت. وصارت منزلته من الصامت منزلة السين من الميم، وذلك على رأي أصحاب العين، لا على رأي أصحاب السين. وأما على رأي أصحاب السين، فكمنزلة العين من السين…”([12])، ويقول في موضع آخر: “والماجد فليس هذه حالـه، بل بحيث كونه أفضل بكثير من الميم، إذ قد بلغ منزلة الميم من غير مجاورة للعين، ولا مراعاة منها، ولا ألف ولا صحبة ولا تقويم ولا رجوع وتشبُّه بالعين إلا في الفضيلة التي بلغها بنفسه، لا بتثقيف مثقِّف، ولا تقويم مقوِّم”([13])، ويقول أيضاً: “… وكان أيضاً الماجد ثُلثاه ظلماني، وثُلثه نوراني، وكان الميم رُبعه ظلماني…”([14])… وغيرها.

الدكتور جزيل الجومرد: هذا كلام غلوٌّ في السـرية والغموض، يعكس لغة مرمَّزة، وإنْ سلَّمنا بأنَّ الترميز متَّفق عليه بين أعضاء (أخويَّة) معيَّنة، فعندها لن يبقى هناك من نتيجة تُرتجى لمحاولة التكهُّن بدلالات الرموز، ما لم نعثر على قائمة متداولة بين نخبة معينة بدلالات تلك الرموز. والحقيقة فإنَّ النموذج الذي يقدِّمه جابر يعكس الحاجة لقراءة جملة نتاجات لشخصيات قلقة عرفها تاريخ الإسلام، مثل: أبو بكر أحمد بن علي الكزداني الصوفي، المعروف بابن وحشيَّة (عاش في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي)، الذي يظهر وكأنه يقدِّم فی كتابه الكبیر “الفِلاحَة النبطيَّة” خطاباً أكثر تماسكاً وأقل خروقاً ممَّا عليه فتات جابر، وبالتالي فربَّما يتيح ذلك فرصة تأطير ذلك الفتات وحصـره في هيئة متماسكة يمكن فهم فجواتها؛ وأبو عبدالله الحسين بن منصور الحـلَّاج (ت 309هـ/921م)، وأبو بكر محمَّد بن زكريا الرَّازي (ت 313هـ/925م)، وذلك في كتابه الشهير “الحاوي“، وبالتالي فهو الساحر، وليس الطبيب.. إنَّ جابراً ليس مجرد كيميائي (ساذج)، كما يريده الكيمياويون الحقيقيون، وقد صـرتُ أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأنه لم يمارس الكيمياء بالشكل الذي نعرفه، إنما الكيمياء عنده تكمن في قوى الحروف، ولـذا فكيمياؤه اللغة. ومن هنا يزداد اعتقادي بأنَّ جابراً كان من ذوي المعرفة الغنوصية، إذ اللغة أداة من أدوات ترميز المعرفة، وحتى الاعتقاد بسحريتها.. وأحسب أنَّ هناك تداخلاً، ربَّما مبِّكر جداً، اختفى بعد فترة من الزمن، وهي صلة بين التصوُّف والغنوص، أو مشتركات مبكِّرة احتاجت وقتاً لكي يتم تمييز التصوُّف الذي نعرفه عن المعرفة الغنوصية، والتي ربَّما عاشـرت بواكيرها السحر.. وهنا، فإنَّ الكيمياء قد تكون وجهاً من أوجه السحر تلك، ولكن مرور الزمن ميَّزها عن بعضها.. وللحقيقة فإنَّ كل الأسـرار تكمن في رحم اللغة، ولا يمكن حلُّها من خلال الدراسات التاريخية، وإنما عبر التأصيل اللغوي، فهو الذي يصوغ الرواية التاريخية الحقيقية لاحقاً..

   جدير ذكره أننا لو نظرنا بالمقاييس النحوية إلى لغة جابر لوجدناها غير سوية، فهي ليست ملتوية فحسب، وإنما كثيرة الأخطاء النحوية والإملائية، وهي تُشعر القارئ أنه أمام نصٍّ سبق صاحبُه عصـر وضع قواعد اللغة، وسار في الكتابة على هواه! ولا يبدو أنَّ نصوص جابر هي نصوص كيميائية، بل نصوص غنوصية، يتعامل صاحبها مع الكيمياء لغوياً لا اختبارياً.. ومن المؤسف أننا نفتقد اليوم من يستطيع من علماء العربية أنْ يقيِّم لغة جابر وأمثالـه، نحوياً وأسلوبياً، ويجزم ما إذا كانت صحيحة القواعد، أو أنَّ الفوضى تعتورها.

– ولكن ألا يجرِّد استخدام اللغة الرمزية من الكيمياء صفة العلم؟ أو بعبارة أخرى: هل ينسجم استخدام اللغة الرمزية مع علم يُفترض فيه أنْ يكون عقلياً؟

الدكتور جزيل الجومرد: لا بُدَّ من التذكير بأنَّ اللغة الرمزية استُخدمت في أدبيات الفرق السـرية، أو من قبل رجال دين بعض الطوائف الدينية، وهي غير اللغات الميِّتة التي ضاعت إمكانية قراءتها لأسباب شتّى.. ولا أعتقد أنَّ اللغة الرمزية هي على الضدِّ من عقلانية المعرفة أو العلم، بل أرى أنَّ ذلك على العكس، فقد يكون الرَّمز في اللغة لعلم ما، هو زيادة في الحيطة من أذى معادي العقلنة المبالغ فيها، والتي قد يرافقها شك وجرأة، وغير ذلك. وقد يكون ممكناً، ربَّما، فهم بعض نصوص إخوان الصفا على هذا الأساس.

– بحكم اهتمامكم بتاريخ العلوم.. هل استُخدمت اللغة الرمزية في التراث العلمي العربي، كأنْ يكون ذلك في كتب الطب والرياضيات – مثلاً – أو غيرها؟

الدكتور جزيل الجومرد: لم أعثر يوماً، فيما قرأته، على إشارات حول استخدام اللغة الرمزية في الطب، ولكنك تعلم أنَّ الرياضيات، بحدِّ ذاتها، تكاد تكون لغة رمزية.. أمَّا اللغة الأدبية، أو الشعر – بالذات – وأقصد النظم، فقد استُخدمت في عرض الكثير من الأعمال العلمية الطبية، خاصة، وذلك على شكل أراجيز.

– هل جعلتكم هذه القراءة لأنموذج جابر، تطوِّرون من تصوُّراتكم عن كوربان، فضلاً عن جابر نفسه؟

الدكتور جزيل الجومرد: نعم، هي كذلك تماماً، فقد ازددتُ معرفة أعمق بكليهما، وازددتُ فهماً لتفاصيل موقف كوربان، واتَّضح لي موقفه المتعاطف، وحيثيات انسجامه مع التشيُّع أولاً، ثم مع التشيُّع الإسماعيلي ثانياً، ما لم تكن الترجمة العربية متصـرِّفة بالنصِّ الأصلي للكتاب، كما أنني وعيت الأسلوب المشفَّر لجابر، وآليات تشفيره لخطابه.. ولا أظنُّ أنَّ لجابر صلة بالكيمياء التي نعرفها، فهو تماماً، كما ألمح كوربان، وأرى أنَّ أسـراراً تختبئ وراءه، هي أسرار المعرفة العتيقة.. معرفة السحرة والهرامسة.. إنَّ تراثه الكبير، والمنشور منه خاصة، يجتذب الرغبة في دراسته دراسة معمَّقة، تضع نصب عينيها الإجابة عن الأسئلة الكثيرة المكدَّسة. ولا شك أنَّ جابراً غنوصي، معقّد الرؤية، يعيش عالماً من صنعه، وصنع أمثاله، يستعير مفرداته من عالم الآخرين، ليكسبها مواصفات ذات دلالات معقّدة جداً، تعيد تفسير الكون من حولنا، فتجعلنا في نظره أكثر وعياً بالكون ووحدة الوجود.. وأحسب أنني أرى الصوفي الشهير الحلَّاج تجسيداً لذلك الوعي، فالحلَّاج تجسيد مادي للغة جابر.. إنَّ التواشج المعقّد بين الأشياء في لغة جابر، قدَّمه الحلَّاج كما لو أنه هو مثاله المادي.. جابر بقي خارج عالم لغته، في حين دخل الحلَّاج إليه.. إنها خطوة نحو الصدام مع المنظومة المعرفية التقليدية. اللغة عند جابر ليست وسيلة بل غاية، وهي لا تقوم بعرض فلسفته، بل تحتويها، وتصبح هي هي..!! الأشياء تتماهى في عالم جابر الذي هو اللغة، وبنيته الحروف وميزانها.

   وأود أنْ أقول أخيراً إنْ أنموذج جابر يجعلني الآن أكثر فهماً لمبرِّرات أهل السنة في عدم التعامل مع النصوص العقلية.

قائمة المصادر والمراجع:

أولاً/ المصادر الأولية:

* جابر بن حيَّان، أبو عبدالله الكوفي (ت نحو 200هـ/815م):

1- مختار رسائل جابر بن حيَّان. عني بتصحيحها ونشرها: پاول كراوس. القاهرة: مكتبة الخانجي ومطبعتها، 1354هـ.

* النَّديم، أبو الفرج محمَّد بن إسحاق (ت 380هـ/990م):

2- كتاب الفِهْرِسْت. تحقيق: جوستاف فلوجل. لايبزج: 1871-1872.

ثانياً/ المراجع الثانوية:

أ/ الكتب العربية:

* بدوي، عبدالرحمن:

3- موسوعة المستشرقين. ط5. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015.   

ب/ الكتب المعرَّبة:

* إيرنانديث، كروث:

4- تاريخ الفكر في العالم الإسلامي. ترجمة: عبدالعال صالح. مراجعة: جمال عبدالرحمن. تقديم: عبدالحميد مدكور. ط2. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016.

* سزكين، فؤاد:

5- تاريخ التراث العربي. ترجمة: عبدالله بن عبدالله حجازي. مراجعة: مازن يوسف عماوي. ط1. المملكة العربية السعودية: مطابع جامعة الملك سعود، 1986م. م4.

* كوربان، هنري. بالتعاون مع. نصر، السيِّد حسين، ويحيى، عثمان:

6- تاريخ الفلسفة الإسلامية. ترجمة: نصير مروَّة، وحسن قبيسي. راجعه وقدَّم له: موسى الصدر، وعارف تامر. ط2، بيروت: عويدات للنشر والطباعة، 1998.

ج/ البحوث والمقالات:

* صالح، أحمد زكي:

7- “الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيَّان”. مجلة الرسالة. العدد 368. 22 يوليو، 1940. ص1204-1206.

8- “الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيَّان”. مجلة الرسالة. العدد 369. 29 يوليو، 1940. ص1235-1237.

9- “الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيَّان”. مجلة الرسالة. العدد 370. 5 أغسطس، 1940. ص1268-1270.

10- “الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيَّان”. مجلة الرسالة. العدد 371. 12 أغسطس، 1940. ص1299-1302


([1]) بالتعاون مع، السيِّد حسين نصر، وعثمان يحيى، ترجمة: نصير مروَّة، وحسن قبيسي، راجعه وقدَّم له: موسى الصدر، وعارف تامر (ط2، بيروت: عويدات للنشر والطباعة، 1998)، ص202-209.

([2]) عبدالرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين (ط5، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015)، ص485.  

(3) كوربان، المرجع السابق، ص203.

(4) للاطلاع على ما ورد عند النَّديم من آراء مختلفة حول حقيقة وجود جابر، وحقيقة مؤلَّفاته، والرد عليها، يُنظر: أبو الفرج محمَّد بن إسحاق النَّديم، كتاب الفِهْرِسْت، تحقيق: جوستاف فلوجل (لايبزج: 1871-1872)، ص354-355.

(5) للاطلاع على آراء المستشرقين المُحدثين والمعاصرين بشأن حقيقة وجود جابر، وحقيقة مؤلَّفاته، يُنظر: أحمد زكي صالح، “الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيَّان“، مجلة الرسالة، العدد 368 (22 يوليو، 1940)، ص1204-1206؛ العدد 369 (29 يوليو، 1940)، ص1235-1237؛ العدد 370 (5 أغسطس، 1940)، ص1268-1270؛ العدد 371 (12 أغسطس، 1940)، ص1299-1302.

([6]) بدوي، المرجع السابق، ص482، 484.

([7]) يُنظر: تاريخ الفكر في العالم الإسلامي، ترجمة: عبدالعال صالح، مراجعة: جمال عبدالرحمن، تقديم: عبدالحميد مدكور (ط2، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016)، م1، ص251-253.

([8]) يُنظر: تاريخ التراث العربي، ترجمة: عبدالله بن عبدالله حجازي، مراجعة: مازن يوسف عماوي (ط1، المملكة العربية السعودية: مطابع جامعة الملك سعود، 1986م)، م4، ص214-215.

([9]) يُنظر: كوربان، المرجع السابق، ص204؛ وقارن: إيرنانديث، المرجع السابق، م1، ص252.

([10]) كوربان، المرجع السابق، ص207. 

([11]) المرجع السابق، ص165-166.

([12]) أبو عبدالله جابر بن حيَّان الكوفي، كتاب الماجد، منشور ضمن: مختار رسائل جابر بن حيَّان، عني بتصحيحها ونشرها: پاول كراوس (القاهرة: مكتبة الخانجي ومطبعتها، 1354هـ)، ص118.

([13]) المصدر نفسه، ص119.

([14]) جابر بن حيَّان، المصدر السابق، ص119.

العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى