إعادة ضبط معيار الدور التركي، بالتزامن مع ظهور ملامح الأنظمة اللامركزية
الدكتور شوان زنكنة

تشابكتْ مساعي الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط، وتصاعدتْ وتيرتُها بشدة مع بدايات شهر آب الجاري، ووقعتْ سلسلةٌ من الأحداث المترابطة، تركتْ بصمتها على المستقبل السياسي والاقتصادي للمنطقة، بل ويبدو أنها سترسمُ خارطتَها أيضاً، ويمكن تلخيصُ هذه الأحداث بما يلي:
1- وقَّعتْ أذربيجان وأرمينيا اتفاقَ سلامٍ بوساطة أميركية في 8/8/2025 خلال اجتماع مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتضمَّنَ الاتفاقُ حقوقًا حصريةً للولايات المتحدة في تطوير ممر (زنغزور) عبر أرمينيا، والذي يربط أذربيجان بمنطقة نخجوان.. وقد تم تحييد الدور التركي في هذا الحدث، وسحب البساط من تحتها، بعد أن بذلت جهوداً مضنية لرعاية عملية السلام بين أذربيجان وأرمينيا، والاستحواذ على منافع ممر زنغزور.
2- زارَ (هاقان فيدان) دمشق، الخميس، 7/8/2025، قبيل اجتماع الحسكة، والتقى بالرئيس الشرع، وناقشَ معه الاتفاقيةَ الاقتصادية، وسبُلَ تعزيزها، واتفاقيةَ 10 مارس المُبرم بين مظلوم عبدي؛ القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، والرئيس الشرع، والوضعَ في السويداء، وطبيعةَ التعامل مع إسرائيل، وجاءتْ هذه الزيارةُ للتأكيد على صلادة العلاقة بين النظامين التركي والسورية، وإبقاءِ حكومة الشرع تحت التأثير المباشر لتوجهات الحكومة التركية.
3- عَقْدُ مؤتمرِ الحسكة الذي نظمتْه قواتُ سوريا الديمقراطية، بقيادة مظلوم عبدي، الجمعة 8 آب، تحت عنوان “وحدة الموقف لمكونات شمال وشرق سوريا”، وقد عُقِدَ بمشاركة ممثلين عن بعض العشائر العربية، إضافةً إلى مشاركة افتراضية عبر تقنية الفيديو، لكلٍّ من شيخ الدروز في السويداء (حكمت الهجري)، ورئيس “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا” (غزال غزال)، ودعا البيانُ الختامي للمؤتمر، إلى دستور ديمقراطي، يرسّخ التنوعَ القومي والثقافي والديني، ويؤسّس لدولة لا مركزية، تَضمنُ مشاركةً حقيقيةً لكافة المكوّنات السورية، في العملية السياسية والإدارية.
4- أثارَ مؤتمرُ الحسكة غضبَ الحكومة السورية، التي أعلنت السبت، 9 آب، رفضها المشاركة في أية مفاوضات جديدة، مع قوات سوريا الديمقراطية، خصوصاً اجتماعات باريس، أو مفاوضات اللجان المشتركة بين الطرفين.
5- اللقاءُ المفاجئُ الذي عُقِدَ مساء الإثنين، 11/8/2025، بطلبٍ من الحكومة السورية بين مسؤولة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية (إلهام أحمد) ووزير الخارجية السوري (أسعد الشيباني)، وهو لقاءٌ أعقبَ إعلان الحكومة مقاطعة اجتماعات بين الجانبين كانت مقررة في باريس بسبب “مؤتمر الحسكة”.. وقد تركّزَ اللقاء على إيجاد صيغة مناسبة لمفهوم اللامركزية، من دون تحديد جدول زمني لتطبيقها.. وتشير مباحثاتُ اللامركزية بين الطرفين إلى هشاشةِ مساعي الحكومة التركية لفرض إرادتها على حكومة الشرع، ومحاولات إبقائها في محورها المتشدّد، من جهة، وظهورِ ملامحِ وبوادرِ صورةِ النظام السياسي الذي سيحكم سوريا مستقبلاً، من جهة أخرى.
6- الاجتماعُ الذي عقدَه وزيرُ الخارجية الأردني (أيمن الصفدي)، ونظيرُه السوري (أسعد الشيباني)، والمبعوثُ الأمريكي إلى دمشق (توماس باراك)، في عمّان، عاصمة الأردن، الثلاثاء، 12/8/2025، وذلك لبحث سبل دعم سوريا وإعادة بنائها، على الأسس التي تضمنُ أمنَها واستقرارها وسيادتها، وتلبّي طموحات شعبها، وتحفظ حقوق كل السوريين.. واتفق الأطراف الثلاثة على الاستجابة لطلب دمشق تشكيلَ مجموعةِ عملٍ ثلاثيةٍ، لإسناد الحكومة السورية في جهودها لتثبيت وقف إطلاق النار بمحافظة السويداء وإنهاء الأزمة فيها. وجدير بالذكر أن نشير، بهذا الصدد، إلى عدم دعوة تركيا إلى هذا الاجتماع المختصّ بالقضايا الأمنية السورية وترتيباتها المستقبلية.
7- سعيُ الولاياتِ المتحدةِ لتحقيقِ اتفاقٍ بين إسرائيل وسوريا لإنشاء ممر إنساني من إسرائيل إلى السويداء، فقد نشر موقع (أكسيوس) الأمريكي الثلاثاء، 2025/08/12، خبراً قال فيه إن إدارة ترامب تحاول التوسط في اتفاق لإنشاء ممر إنساني يمتدُّ بين إسرائيل ومدينة السويداء في جنوب سوريا، لتوصيل المساعدات إلى المجتمع الدرزي في السويداء.. وأضاف الموقعُ أنّ اتفاقًا بين الحكومتين السورية والإسرائيلية على ممر إنساني يمكن أن يساعد في إصلاح العلاقات، وربما إعادة الزخم وراء المساعي الأمريكية لدفع خطوات إضافية نحو احتمال تطبيع العلاقات مستقبلًا.. وكانت الأردن قد رفضت طلباً أمريكياً سابقاً لفتح ممر إنساني إلى السويداء من الأراضي الأردنية. وإذا تحققت مساعي أمريكا بهذا الشأن، فإن ذلك يعني تحييداً للدور التركي والسوري في جنوب سوريا، وتعزيز النفوذ الإسرائيلي فيه.
8- وصولُ وفدٍ سوري برئاسة وزير الخارجية إلى (أنقرة)، لإجراء مباحثات مع تركيا الأربعاء، 13/8/2025، وكان كلٌّ من وزير الدفاع السوري (مرهف أبو قصرة)، ورئيس جهاز الاستخبارات (إبراهيم سلامة)، يُرافقان الشيباني في زيارته لأنقرة.. ويبدو أن مباحثات الشيباني مع إلهام أحمد حول النظام اللامركزي قد أثارتْ غضبَ ومخاوفَ تركيا، مما دفعَها لاستدعاء هذا الوفد، وإعادة ضبط معاييرها.. وقد أعلنت الخارجية السورية، أثناء تواجد الوفد في أنقرة، أن الحكومة السورية تؤمن باللامركزية الإدارية، وترفض اللامركزية السياسية.. ورغم هذا التراجع في الموقف السوري، تحت تأثير الخارجية التركية، إلا أن الإدارة الذاتية قد اعتبرت مفاوضات اللامركزية خطوة في غاية الأهمية نحو شكل من أشكال الكونفدرالية اللامركزية، علماً بأن الإدارة الذاتية كانت قد رفضت طرحاً سابقاً من نظام الأسد، بوساطة روسية، حول اللامركزية الإدارية.
9- وصولُ الأمينِ العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني (علي لاريجاني)، يوم الإثنين، 11/8/2025 إلى العاصمة بغداد، في زيارة رسمية تستمر ليومين، وقَّعَ خلالها اتفاقيات أمنية جديدة مع الحكومة العراقية، تضمّنت دخولَ قواتٍ إيرانية إلى الأراضي العراقية.
تُوحي هذه الزيارةُ بتفاقم وتيرة الترقُّبِ الإيراني لهجومٍ عسكري أمريكي وإسرائيلي عليها، في القريب العاجل، كما صرّح بذلك لاريجاني، السبت، 16/8/2025، تعليقاً على الاتفاقية الأمنية، إذ قال: “مسألةُ اختراقِ العدو للداخل الإيراني جديّةٌ للغاية، ويجبُ مواجهتُها”، لذلك، تسعى إيران إلى جعل العراق ساحةً لمعركتها مع أمريكا، خاصّةً وأنها أعادتْ ترتيبَ مواقفِ وولاءاتِ وإعداداتِ ميليشيات الحشد الشعبي.
هذه المعركةُ المصيرية، للنظامين الإيراني والعراقي، سترسمُ مستقبلَ العراق السياسي، الذي سيكون نظاماً كونفدرالياً متحرِّرًا من الهيمنة الإيرانية، السياسية والاقتصادية.
10- لقاءُ ترامب وبوتين في (ألاسكا) الجمعة، 15/8/2025، بهدف تحقيق تقدّمٍ في عملية السلام بأوكرانيا، التي لم تتحقّق، ولن تتحقّق في المدى المنظور.. وليس إطراءُ ترامب لهذا اللقاء، واعتبارُه مثمراً، وتصريحُه بوجود لقاءات أخرى قريبة، إلا مناورةً سياسيةً لإدارة البيت الأبيض، تهدفُ تحييدَ الدورِ الروسي في الصراع الأمريكي الإيراني، ومنعَ التنسيق الروسي السوري الأمني في سوريا، الذي ترعاهُ تركيا.
كانت تركيا قد بذلتْ جهودًا كبيرة لجعل إسطنبول مقراً لهذا الاجتماع، ولكنْ يبدو أنّ مساعيها باءتْ بالفشل، بعد أنْ سحبتْ أمريكا من تحتها البساطَ، وجعلتْ ألاسكا مقرًّا للاجتماع.
واضحٌ، مما سبقَ، أنّ المنطقة تمرُّ بتغييرات جذرية حقيقية في المدى المنظور، على خلفية مساعي القوى الفاعلة المتشابكة، والتي يمكن أن نستقي منها الحقيقتَينِ الناصعتَينِ الآتيتَينِ:
أ- أنّ أمريكا وإسرائيل أعادتَا معاييرَ الدورِ التركي في الشرق الأوسط إلى ضوابطها السابقة، وحصرَتَا هذا الدور في بسط النفوذ الاقتصادي والسياسي في شمال العراق وسوريا، ضمن تحالفٍ استراتيجي كوردي-تركي.
2- أنّ شكلَ النظام السياسي في العراق وسوريا، سيكون لامركزياً، وفق تفاهمات وطنية، تنظّمُ الحياةَ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بصيغة تحفظُ حقوقَ المكونات واستقلاليةَ قراراتها.. وسيتمُّ إقرارُ نظام الحكم فيهما بعد تخطّي كافة العقبات، في المدى المنظور.