حين يقتادنا الجهل ويفترسنا النظام العالمي – الجهل السياسي… تيهٌ يعمي الأبصار
هاوين أنور عبد الله - بنت الكورد

نحن أمةٌ صارت يقتادها الجهل من عنقها، فيسوقها إلى هاوية مظلمة لا يُرى قاعها ولا أبعادها.
نعيش في عالمٍ تحكمه ذئاب كاسرة تتقاسم الأرض والسماء والبحار، تتسلّط على العقول والنفوس بأساليب لا يدركها عقل سطحي، ولا يتخيلها ذهن لم يتعمق في خفايا الأمور ودهاليزها السحيقة.
أكثرنا لا يعرف عن عالم السياسة إلا صدى الأخبار المضلِّلة، ولا عن موازين القوى إلا ما تروّجه شاشات الخداع وأدوات التزييف والترويج الكاذب.. وحين يشتد البلاء، لا نملك سوى جلد بعضنا بعضًا، وبالأخص بعض قادتنا الذين نتوسّم فيهم الخير، فنحاكمهم بجهلٍ فاضح يكشف أننا لم نبذل الجهد الكافي لفهم حقيقة مجريات الأمور، ولم نتعمّق في الوقائع، ولم نحاول كشف ما وراء المواقف والأحداث من قوى وجماعات تتحرك في الظل والظلام.. لأننا ببساطة لا ندرك حجم الوحش الذي يتحكم في حياة الإنسان اليوم، في زمننا الموبوء بسطوة الشيطان وأعوانه، وهم يمارسون قوتهم وجبروتهم بلا رحمة، بلا رادع من عقل وحياء ورحمة ودين.
لعبة القوة في العالم… واقع لا يرحم
الساحة السياسية الدولية ليست لوحة بسيطة أو منشوراً عبثياً يُقرأ بخبر عاجل أو شريط عابر، إنها غابة كثيفة تتحرك فيها قوى عظمى بعنجهية واستكبار، تتحكم في الموارد، تعبث بمصائر الشعوب، وتزرع قواعدها العسكرية على اليابسة وفي الجزر والمضائق، تبسط أساطيلها في البحار، وتُحكم قبضتها على الفضاء عبر الأقمار الصناعية، وتغرس أذرعها الاستخباراتية في كل زاوية من عالمنا، لا سيّما في الدول العربية والإسلامية.
هذه القوى لا تكتفي بالقوة الصلبة، بل تملك المال والشركات العابرة للقارات، والتحالفات السرية، وصفقات السلاح، وأدوات الحرب السيبرانية.. تمتلك ترسانات نووية وباليستية وبيولوجية وكيميائية تجعل أي مواجهة مباشرة معها مقامرة وجودية.
ميزان القوى… الأرقام لا تكذب
عام 2024، بلغ الإنفاق العسكري العالمي نحو 2.7 تريليون دولار.. وحدها الولايات المتحدة أنفقت نحو 997 مليار دولار، أي أكثر من ثلث إنفاق العالم.
أما إسرائيل، فحافظت على تفوق نوعي في التكنولوجيا العسكرية، مع ترسانة نووية مؤكدة، وإن كانت لا تعترف بها رسميًا.
في المقابل، جاءت تركيا في المرتبة 17 عالميًا، بإنفاق عسكري يقدر بـ 25 مليار دولار فقط، أي أقل بكثير من خصومها الكبار.. قوة إقليمية معتبرة، لكنها بعيدة عن مستوى أمريكا، أو أوروبا، أو حتى إسرائيل، في ميزان القوة الشاملة.
تركيا بين الواقع والمزايدات
الواقع الاجتماعي والثقافي والفكري لتركيا – بسبب قرن من حكم العلمانية – هشٌّ ومترنح.. هذا النسيج المهترئ يضعف قدرات الدولة في مواجهة أزمات عالمية عظمى.
تركيا عضو في (حلف الناتو) منذ 1952، ما يمنحها مظلة ردع، لكنه يقيّد قراراتها في النزاعات الكبرى.. قواعد مثل (إنجيرليك) تُظهر التشابك العميق مع (واشنطن)، ما يجعل أي خطوة عسكرية ضد مصالحها، أو مصالح حلفائها، محفوفة بالمخاطر الكبرى.. ورغم اقتصادٍ نامٍ وكبير، إلا أنه يعاني التضخم وتذبذب العملة وارتباطه بالأسواق العالمية، مما يحد من قدرتها على مواجهة حرب طويلة أو صدام مفتوح مع قوى أكبر بكثير.
لأننا نجهل هذه المعادلات، نرى أصواتًا تتهم أردوغان بالخيانة، لمجرد أنه لم يفتح حربًا على إسرائيل لأجل غزة، وكأن قرارًا بهذه الخطورة يُتخذ بعاطفة آنية، لا بحسابات البقاء ودرء إبادة شاملة.
قوة بلا انتحار
مساندة غزة لا تعني الانخراط المباشر في حرب مفتوحة.. هناك أدوات أخرى تستطيع أن تؤلم العدو وتربك حساباته:
• فتح ممرات إنسانية بحرية وجوية، بضمانات دولية.
• تصعيد المعركة القانونية ضد الاحتلال في المحاكم الدولية.
• استخدام الضغط الاقتصادي لتعطيل سلاسل التوريد الحيوية.
• بناء تحالفات إقليمية ودولية لعزل الاحتلال سياسيًا وإعلاميًا.
• دعم القدرات الدفاعية، إعادة الإعمار، وحرب المعلومات.
الخلاصة فيما قلته:
إنّنا لن نفهم مواقف القادة، ولا قرارات الدول، ما دمنا نقرأ السياسة بسطحية، ونتجاهل موازين القوة الحقيقية.
إن أردنا نصرة قضايانا، فعلينا أن نتعلم كيف يعمل النظام الدولي، وأن نعرف حجم القوى التي تتحرك ضد من نتوسم فيهم نصرة قضايانا.. وضدنا نحن جميعًا.
علينا أن نحسن اختيار ساحات المواجهة وأدواتها.
الجهل ليس عذرًا، بل هو خيانة صامتة. يمنح العدو نصرًا مجانيًا قبل أن تبدأ المعركة، ويسحق مقدرات الأمة دون أمل في النهوض مجددًا.