هل تسليم غزة مناورة سياسية أم انتحار استراتيجي؟
بقلم: بنت الكورد (هاوين أنور عبد الله)
في ضوء تسارع المؤشرات السياسية والأمنية المحيطة بـ(غزّة)، والضغط المتزايد على حركة (حماس)؛ محليًا ودوليًا، طُرحت بعض التصورات السياسية التي تُوصف بأنها مناورات ذكية، ومنها الاقتراح الصادم الداعي إلى أن تتبنّى (حماس) خطوة تكتيكية جريئة: القبول شبه الكلي بالتهدئة، ثم إعلان الانسحاب من المسؤولية عن قطاع غزة، وتسليم الحكم إلى لجنة إسناد وطنية.
هذا المقترح – وإن بدا ذكيًا ضمن منطق “المكر السياسي” وخلط الأوراق في وجه الاحتلال – يثير جملة من التحفظات الاستراتيجية والسياسية، لا سيما إذا نُظر إليه في ضوء طبيعة العقل الصهيوني، وتركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية، وتوقيتها الحرج قبيل انتخابات حاسمة، ومساعيها الحثيثة لاجتثاث حماس من المشهد بالكامل.
أولًا: هل تنطلي المناورة على إسرائيل؟
من غير المرجّح أن يخدع هذا التكتيك أحدًا داخل دوائر صنع القرار في (تل أبيب)، فإسرائيل تدرك، كما يعرف المجتمع الدولي، أن (حماس) ليست مجرد سلطة إدارية، أو حكومة محلية، في (غزّة)، بل كيان مقاوم متجذر في الأرض والفكر والتنظيم. وبالتالي، فإن إعلان الانسحاب من الحكم لا يُنهي بالنسبة لإسرائيل ما تعتبره “التهديد الأساسي”، بل قد يُفسَّر على أنه:
• مناورة لإعادة التموضع.
• أو محاولة للهروب من الضغوط الدولية وتخفيف الحصار، دون تفكيك حقيقي للمقاومة.
• أو حتى مؤشر ضعف يُغري العدو بالانقضاض الشامل.
ثانيًا: التهدئة.. جسر نحو العدوان:
يشير التاريخ القريب إلى أن إسرائيل توظّف التهدئة كمرحلة تكتيكية مؤقتة لتمرير أهداف أكبر. وكل مرة تُفتح فيها المعابر، وتدخل فيها المساعدات، كانت تُتبع بعد أيام أو أسابيع بهجمات مركّزة، أو تصعيد نوعي، أو عملية اغتيال.
وغالبًا ما تسوّق إسرائيل هذه الهجمات على أنها ردٌّ ضروري، بذريعة أن “الفرصة السياسية أُهدرت” — أي أنها قدمت “عرضًا سخيًا” للسلام أو التهدئة، لكن الطرف الفلسطيني “لم يُبدِ الجدية الكافية”، أو “أضاع الفرصة”. وهنا تبدأ (تل أبيب) بتقديم نفسها للعالم كـ “ضحية خذلها شريك متعنت”، في محاولة لإضفاء شرعية على تصعيدها الدموي.
لكن هذه الذريعة ليست جديدة، بل تكتيك صهيوني مكرّر: تقديم مبادرة مشروطة أو ناقصة، ثم اتهام الطرف الآخر بالتعنت، ثم شنّ عدوان يُظهر الاحتلال وكأنه أُجبر على القتال.
وبالتالي، فإن القبول المفاجئ بالتهدئة لن يُكافأ، كما يتوقع البعض، بل قد يُستخدم كذريعة لتجريد المقاومة من أوراقها، وقد تُفهم هذه الخطوة كعلامة على الانهيار الوشيك، مما يشجّع إسرائيل على استكمال خطة “غزة ما بعد حماس” بدعم أميركي وعربي خفي.
ثالثًا: المكر بالمكر.. لكن من يملك أدوات المكر؟
يدعو الكاتب إلى أن تواجه حماس “المكر بالمكر”، لكن الحقيقة أن المكر السياسي لا يصح إلا حين يُسانده توازن ردع واقعي.. فإذا ما أعلنت (حماس) خروجها عن مسؤولية إدارة قطاع غزة، فمن يضمن:
• أن لا تفرض إسرائيل إدارة بديلة تابعة لها؟
• أن لا تملأ الفراغ قوى محلية مشبوهة أو مؤقتة؟
• أن لا يتم تسويق غزة دوليًا ككيان تحت الإشراف الدولي أو العربي، يُسلَّم لاحقًا لمن يصفهم الشعب بالخونة أو الانتهازيين؟
رابعًا: السياسة بلا غطاء ميداني.. مقامرة بمصير أمة
حين تُتخذ قرارات استراتيجية بحجم الانسحاب من حكم غزة، أو القبول المفاجئ بالتهدئة دون أن يرافقها غطاء ميداني حقيقي، تصبح هذه القرارات انفعالات سياسية أو خطابات إعلامية لا أكثر.
فلا سياسة حقيقية دون قوة تحميها، ولا تهدئة تُحترم دون ردع، ولا انسحاب آمن دون بديل وطني قوي. وإذا لم يكن في الميدان من يفرض شروط القرار، أو يدافع عنه، أو يحتضنه شعبيًا، فإننا نكون أمام مقامرة بمصير الشعب الفلسطيني كله.
التاريخ لا يرحم القرارات الفارغة، والسياسة التي تُدار من فوق دون تأمين الأرض، غالبًا ما تتحول إلى مدخل للفوضى، أو فرصة للعدو، أو مأساة لأبناء المشروع نفسه.
إن ما يُبنى على الورق، لا يصمد طويلًا إن لم تحرسه الأقدام.
خامسًا: التضليل الإعلامي كستار للانقضاض:
جاء انسحاب الوفد الإسرائيلي من مفاوضات الدوحة، ثم تصريحات (ترامب) و(ويتكوف)، مترافقة مع “إيماءات إنسانية” كفتح المعابر، وتسهيل المساعدات.. وهذه كلها علامات معروفة في السلوك الصهيوني تشير إلى أن التصعيد قادم، لكنه يسبق دائمًا بموجة تضليل إعلامي، لكسب الشرعية، أو إسكات الأصوات المتضامنة.
سادسًا: هل تسليم غزة هو المخرج؟
حتى لو افترضنا أن (حماس) قبلت تسليم (قطاع غزة) إلى لجنة وطنية، فهل هذه اللجنة ستكون محصّنة من الابتزاز السياسي؟ وهل تملك من الأدوات ما يحميها من الاجتثاث؟ أم أن الفراغ الذي سيُحدثه انسحاب (حماس) سيُملأ سريعًا بتفاهمات إقليمية ترضي واشنطن وتل أبيب، لا الشعب الفلسطيني؟
الخطر أن تسليم الحكم، دون اتفاق فلسطيني شامل، وغطاء عربي حقيقي داعم، قد يعني نهاية المشروع الوطني الفلسطيني المقاوم في قطاع غزة، وتحويل القطاع إلى كيان خاضع لمعادلات دولية تُدار من العواصم، لا من خندق المقاومة.
الخلاصة: المناورة وحدها لا تكفي:
الانسحاب من غزة – حتى لو بدا مكرًا سياسيًا – هو سلاح ذو حدّين. وإذا لم يُحمَ بجبهة وطنية موحّدة، ورؤية استراتيجية تشمل الضفة والشتات، فإنه سيتحول من تكتيك إلى تنازل مفتوح، بل وربما إلى بداية النهاية لما تبقّى من جبهة المقاومة.
الدهاء السياسي مطلوب، لكن بشرط أن لا يكون مكشوفًا، وأن لا يُفسّر أو يفهم من العدو كعلامة ضعف، ولا من الشعب كخذلان.
[ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين] [والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون]..