الشاعر والأديب الكوردي (پیرەمێرد) – القسم الحادي عشر

بقلم: عمر إسماعيل - نقله إلى العربية: سرهد أحمد

مقدمة:

العرفان في الأدب الكوردي: العرفان أو التصوّف يُعتبر أحد جوانب المعرفة الإنسانية التي حظيت باهتمام وأهمية خاصة على مستوى العالم، وخصوصاً من حيث النظريات الفلسفية التي لا تزال في تطوّر وازدهار. لقد خصّصت له أقسام مستقلّة في عدد من الجامعات والكليات العالمية، ويُتناول من خلال ندوات ومحاضرات خاصة ضمن المجالات الفكرية والفلسفية.

ولا شك أن موضوع التصوّف له جذور تاريخية عميقة، إذ وجد قبل ظهور الإسلام لدى العديد من الديانات السماوية والإنسانية، كما أنه حاضـر خارج دائرة العالم الإسلامي، ويحظى بالاهتمام هناك أيضاً. ومع ذلك، يبدو أن الاهتمام المعاصـر بالعرفان، وبكبار العرفاء العالميين، مثل (جلال الدين الرومي)، و(مولانا خالد)، وغيرهم، يُعد ظاهرة جديدة نسبياً، دون شك، لها دلالاتها الخاصة. ومن بين هذه الدلالات، أنه بعد كل تلك الحروب الدموية والصـراعات العنيفة والتدهور الإنساني في الحياة المادية، ازداد توجه الإنسان نحو المعاني الروحية والبعد المعنوي.

وعلى مستوى المراكز الفكرية والفلسفية في كوردستان، يُلاحظ بجلاء هذا الاهتمام المتزايد. بل إن هذا الاهتمام وصل حتى إلى وسائل الإعلام، فعلى سبيل المثال، في العام أو العامين الماضيين وحدهما، صدر أكثر من خمس وعشـرين كتاباً؛ ما بين روايات ودراسات وترجمات حول جلال الدين الرومي فقط، عدا عن المقالات والكتابات التي نُشرت في المجلات والصحف حول هذا الموضوع.

وبالرغم من أن هذا الاهتمام يغلب عليه الطابع النظري الصوفي، وينظر إليه كمسعى معرفي إنساني أقل تطبيقاً وممارسة عملية، لأن التصوف – بخلاف سائر المجالات المعرفية الأخرى – بدأ بالممارسة والسلوك العملي، ثم نُظّر له لاحقاً؛ فإن التصوف بقدر ما هو ممارسة وتجربة، ليس نظرية بحتة، بل إن بعض الحالات النفسية والروحية التي يمر بها الصوفيون والعرفانيون لا يمكن التعبير عنها بالكلمات المجازية، لذلك يصعب نقل صورة تلك الحالات إلى شخص لم يمر بتجربة عرفانية.

لكن مع ذلك، أنا على يقين بأن هذا الاهتمام الحالي بهذا المجال؛ من الناحية الروحية والتجربة المعنوية والارتقاء الروحي للأفراد، لن يكون بلا أثر.

فكوردستان منذ القدم كانت مركزاً كبيراً ومقصداً للتصوف، كما أشار إليها كاك (أحمد مفتي زاده) في إحدى قصائده، مخاطباً كوردستان؛ قائلاً:

جمهوريّتك يا وطني، قدوة المجد العالي الهمّة

قراك ومدنك مركز العلم والعرفان..

لقد نشأ فيها العديد من العارفين والمفكرين الكبار وقادة الطرق الصوفية، وكانت تضمّ العشـرات بل المئات من التكايا والخانقاهات، حيث كان يُرشد فيها السالكون، ويُقدم فيها التوجيه لقاصدي طريق الله، لا سيّما بعد عودة (مولانا خالد النقشبندي)، الذي أصبح خليفة ووريثاً للشيخ عبد الله الدهلوي، شأنه شأن أي عارف عالمي، تجاوز الحدود المحلية والإقليمية، وبلغ مقاماً عالياً، فهو كغيره من الشعراء المتصوفة أو الصوفيّون الشعراء في الوسط الكوردي، مِمّن اندمجوا في عالم العرفان، وتجلى ذلك في نتاجهم الشعري، حتى يمكن القول إنهم شكّلوا مدرسة خاصة بهم في هذا الميدان.

وهكذا، نحن الكورد كنا من أغنى شعوب العالم في مجال الأدب العرفاني، حيث إن شخصيات مثل: بابا طاهر، نالي، الجزيري، مولوي، محوي، وغيرهم كثير، قد أبدعوا مئات القصائد والنصوص العرفانية التي أصبحت جزءاً من ثروة الأدب العرفاني العالمي، ولا شك أن أعمالهم لا تقل قيمة عن أعمال كبار المتصوفة؛ كجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي، بل إن بعضهم قد فاقهم في بعض الجوانب.

لكن للأسف، فإن هذه الأمة الكوردية لم تكن فقط تعيسة ومهمشة سياسياً، بل بقيت مهمشة في كافة المجالات، ولهذا السبب لم تترجم تلك الصفحات الغنية من أدبنا العرفاني إلى اللغات الحية في العالم، كالإنجليزية والفرنسية، بل وحتى العربية.

ومن بين أولئك الشعراء العظام الذين ساهموا في إغناء الأدب العرفاني، يبرز اسم (پیره‌مێرد)، العارف والفيلسوف، الذي ترك لنا نصوصاً عميقة ورفيعة وجميلة، حتى إن كثيراً من المختصين في هذا المجال قد لا يكونون على دراية بها كما ينبغي. ومن هنا، ورغم أن قلمي قد يبدو مبعثراً وغير ممنهج، فقد ارتأيت أن أطلق هذا النداء، وإن متأخراً، لعلّه يوقظ المهتمّين بهذا الميدان، ويدفعهم إلى البحث والتعمّق في هذا التراث المهمل.

التعريف بالعرفان والتصوف:

قبل أن نخوض في عمق هذا الموضوع، ينبغي أن نعْرِف ما العرفان، ومن هو العارف؟

العارف – أو كما يُقال باللغة الكوردية (خوا ناس = أي: العارف بالله) – هو الشخص الذي اكتمل في محبة الله. وكلمة (عرفان) مأخوذة من الكلمة العربية (عرف)، والتي يُشتق منها مفهوم (المعرفة والعرفان)، أي الإدراك أو العلم.

ويُطلق العرفان على ذلك النوع من المعرفة التي تُكتسب من خلال الرؤية القلبية (المشاهدة)، دون تدخّل العقل أو الفكر، أو التي تأتي عبر التجربة الروحية. وهذا النوع من المعرفة يعتبر معرفة خاصة، تتجاوز المستوى الظاهري والعقلي، وتنحدر نحو الباطن والعمق. ولا شك أن هذا النوع من المعرفة هو نتيجة للإخلاص في العبادة، والتأمّل، والتفكّر العميق في آيات الله، والممارسة الروحية.

وإن كان العرفان – في بداياته – قد تأسّس على الممارسة العملية والسلوك، حيث كان يتمثّل في الآليات والأماكن والتمارين الروحية في عالم المعنى، والتي كان الشيخ أو المرشد يُربّي من خلالها المريدين، خطوة بخطوة نحو الله؛ إلا أنه لاحقاً تطوّر إلى منهج نظري أيضاً، بل وحتى الآن ظهرت فيه اتجاهات مختلفة، مثل العرفان والتصوّف الفطري، والعرفان والتصوّف الفلسفي، وغيرها.

وباختصار، يمكننا القول؛ إن هناك نوعين من العرفان:

أولًا: العرفان العملي والسلوكي، ويعتمد على تنظيم العلاقة بين العبد والعارف (السالك، بحسب المصطلح الخاص به)، حيث تُبنى هذه العلاقة على العبودية لله، وكذلك العلاقة مع المخلوقات الأخرى لله، ويتم ذلك عبر التمارين الروحية، وقطع المراحل، التي يُطلق عليها في الأدبيات العرفانية (المقامات)، حتى يصل السالك في مرحلته الأخيرة إلى (مقام الفناء)، حيث يسعى من خلال قطع تلك المراحل إلى الانفصال والتحرر من الرغبات المادية، بحيث يتهيأ للارتقاء إلى حضرة البارئ، والتخلّي عن مشيئته وإرادته في سبيل مشيئة وإرادة الخالق.

ثانياً: العرفان النظري، وهو البحث عن تفسير وجود الله والإنسان، والسعي لمعرفة الله من خلال العلم والمعرفة بأسمائه المقدسة، وصفاته وتجلياته التي تظهر في مظاهر الكون ومكوّنات الحياة الإنسانية.

وإلى جانب مصطلح العرفان، هناك مصطلحات أخرى استخدمت لنفس الغاية، أو قريباً منها، مع اختلافات بسيطة، مثل: التصوّف، الدروشة، القلندرية. ويُلاحظ لدى البعض أن مصطلح العرفان أكثر شمولية وتفصيلًا من التصوّف، بينما يرى آخرون أن العرفان اُستخدم في ثقافات أبعد من أمّة معيّنة، أو دين معيّن، لنفس الغاية.

ومع أن التصوف غالباً ما ارتبط بثقافة المسلمين والعرفان الإسلامي تحديداً، إلا أننا نصل هنا إلى أن مصطلحي (العرفان) و(التصوّف) قد استُخدما للدلالة على مفهوم واحد تقريباً، وإن كان بينهما بعض الاختلاف.

لكن بعض العلماء والباحثين يرون أن العرفان يختلف عن التصوّف، إذ إن العرفان، في نظرهم؛ مدرسة فكرية وفلسفية تهدف إلى معرفة حقيقة الأشياء، والوصول إلى إدراك الله عبر طريق الكشف والشهود، في حين أن التصوّف هو أسلوب وسلوك زاهد يلتزم بالشـريعة، ويهدف إلى تهذيب النفس وتطهير الباطن بالابتعاد عن الدنيا وملذاتها، ومن خلال هذا الطريق يسعى السالك للوصول إلى الكمال. ولهذا السبب يُقال إن مقام العارف أسمى من مقام الصوفيّ، لأن العرفان، في جانبه العملي؛ سمة مشتركة بين العارف والصوفي، بينما العرفان إلى جانب ذلك يحمل بين طيّاته فكراً، لذلك فإن كل عارف هو بالضـرورة صوفي، لكن ليس بالضـرورة أن يكون كل صوفي عارفاً.

ويقول بعضهم إن التصوّف يتمثّل في الفناء والذوبان في شخصية الشيخ أو المرشد، ولكن من منظور العرفان، فإن الفناء والذوبان الحقيقيين يكونان في الحقيقة الإلهية والوجود الرباني للعارف، أي إن العارف قد تجاوز مرحلة الفناء في شخصية الشيخ أو المرشد، وبهذا المفهوم؛ يكون العرفان أوسع وأشمل من التصوّف.

جوهر العرفان لدى (پیره‌مێرد)، كما جاء متجسّداً في لوحاته الشعرية:

بعيداً عن التعريفات العلمية والأكاديمية، وخارج الإطار المرسوم والمنطق، فإن العارف أو المتصوّف هو ذلك الشخص الذي يختلف عن سائر الناس، إذ يتغلغل في أعماق الكينونة، ويصل إلى أسـرار الوجود الخفيّة. إن نظرته وتأملاته للعالم من حوله ـ داخله وخارجه ـ تصبح أعمق، أدقّ، أجمل، وأصدق.

العظمة والجمال بالنسبة له تنبع من جوهر الخلق، إذ يرى محبوبه الحقّ في كل شيء، ومن هنا فإن (پیره‌مێرد) العارف يقول:

يا إلهي، أولئك الذين لا يؤمنون

لم يروا شيئاً، ومع ذلك يكذبون.

ولو تأمّلوا روضة ملأى بالأزهار

وتمعّنوا فيها بعين العقل والقلب

تلك الألوان الزاهية لأوراق الورد

تأملوها بمنظار البصيرة

وتمعنوا في صنع ذلك الجمال

من ذا يدّعي أنها من صنع الطبيعة؟

فالعارف هو من لا يحصـر الدين بالعلم النظري فقط، بل يترجمه إلى سلوك وأفعال. لا يكتفي بالمظاهر الدينية الخارجية، بل يعمّق جوهره، ويملؤه بالعشق والمحبّة.

في العددين (943 و944) من صحيفة “ذين” (الصفحات 2-3، السنة 22، 1948)، تناول (پیره‌مێرد) بشـيء من التفصيل موضوع العرفان والطريقة، والعلاقة بين الشيخ والمريد، وشـروطهما، ومراحل التصوّف وطبقاته، مستشهداً بأقوال العارفين وعلماء هذا المجال.

وقد لخّص (پیره‌مێرد) شـروط الانتساب للطريقة الصوفية كما يأتي:

  1. يجب أن يبدأ بالمريدية، وأن يتلقى الطريقة من شيخ كامل، بإذن وموهبة، لا بدافع العاطفة أو المجاملة.
  2. يجب أن يكون طالب علم حقيقي، ضليعاً في أحكام الشـريعة، فإذا لم يتحلّ بصفات الشريعة والطريقة والحقيقة، فهو على طريق الضلال.
  3. يجب أن يكون واعياً بنفسه، لا أن يندفع بسـرعة نحو الشطحات والغيبة وهو في نشوة العشق.
  4. قبل أيّ سلوك، يجب قتل النفس الأمّارة والشيطانية، وتطهير الروح والباطن، حتى يبلغ مقام الفناء في الله، ويعرف الحقّ بروح طاهرة، لأن معرفة الحقّ لا تأتي إلا بالتخلّي عن الأهواء.
  5. كما في السلوك، يجب أن يكون هدفه الدائم هو خدمة الله، مدركاً أن من العار والخجل أن يمثُل أمام الله بالبقع المحرّمة والقذرة. 
  6. يجب أن يكون في عالم (الصحو) (اليقظة)، لا في حالة (السكر)، فالصحو يعني عالم العقل والوعي في مواجهة سُكر العشق؛ لأن الغرق في نشوة المحبة دون وعي، يقود إلى الهاوية والتهلكة.
  7. في كل مراتب الخطر والانفراد بالنفس والشيطان، لا بد من الحذر وعدم التهاون، فلا يصح البدء بالإرشاد إن لم يكن المرء نقيّاً وخالياً من الغرور.

ويقسّم (پیره‌مێرد) مراتب ودرجات الشيوخ إلى أربع درجات:

1- الشيخ المرشد، وهم أدنى مرتبة من مشايخ الصوفية.

2- الشيخ الحقيقي، وهو الأصل، والمشايخ الآخرون فروع منه.

3- شيخ الطريقة.

4- شيخ التربية، ويُطلق عليه أيضا شيخ التكبير.

ثم ينتقل للحديث عن وصف صفات المريد وشـروطه، ويبيّنها كما يلي:

1- أن يكون صاحب وعي وذكاء، ليدرك إشارات الشيخ.

2- أن يكون طائعاً ومنقاداً للشيخ، دون شـرط أو اعتراض.

3- أن يصدّق كلام الشيخ.

4- أن يكون قلبه نقيّاً وخالياً من التهلكة، ويؤمن بالحقّ دوماً.

5- ألّا يكذب، ويبتعد عن المهلكات، ويؤمن دائماً بالحقيقة.

6- أن يكون وفيّاً بالعهد والميثاق.

7- أن يكون حرّاً، لا يُذلّ نفسه ولا يخضع.

8- أن يكون كاتماً للأسرار، ويستطيع حفظ الكلام في قلبه.

9- أن يتقبّل النصيحة، ويكون متواضعاً.

10- أن يكون قادراً على الثبات على طريق الله.

وعندما يبلغ المريد هذه المرحلة، يجب عليه أن يواظب على التردّد إلى المسجد والخانقاه، ويلتزم بالشـروط التالية:

1- أن يكون نظيفاً وطاهراً.

2- أن يداوم على حضور المسجد بسرور.

3- أن يؤدّي الصلاة جماعة.

4- أن يتهجّد ليلاً.

5- أن يتقرّب إلى الله، ويتلو القرآن بصفاء قلب، وإن استطاع؛ فليحفظه.

6- أن يلتزم ببعض الأوراد.

7- أن يكون معاوناً لرفاقه في الطريق.

8- ألّا يأكل من مال حرام.

9- ألّا يمتهن عملاً فيه غشّ أو خداع.

 ويتحدّث (پیره‌مێرد) في العدد (816) من مجلة “ذين”، في مقال بعنوان (رجالات الغيب)، عن مراتب ودرجات رجال الطرق والعرفان؛ مثل: القطب، الأوتاد، والأولياء. (ذين، العدد 816، كانون الثاني 1945، ص. 2).

الـعرفان الحقيقي والـمنزّه عن الـبدع؛ هو طريق ديني وتعبّدي، غايته الوصول إلى رضا الله ومحبته، وهو ذات الطريق الذي سار عليه السادة والأولياء. كما سمّاه (محوي) بطريق الهدى وطريقة العشق، إذ يوصل السالك إلى المقصود؛ قائلاً:

سبيل الهدى؛ طريقة العشق يا “محوي

تعالوا وامضوا فيه (وصلّوا على الرّسول)

فهذا الطريق قد سلكه جميع الصحابة

ومرّوا فيه؛ حتّى بلغوا مرتبة الوصول

العارف الحق، بدلاً من الانشغال بالحوار العقيم والعلم النظري المجرّد، يُسخّر نفسه للتطهير الداخلي، ويتحمّل الألم والمعاناة، يغوص في أعماق ذاته، ويجاهد شهواته وكهوف نفسه، ويواجه الظلام والمرارة والرغبات الوضيعة الكامنة فيه، حتى يشـرق عليه نور عشق المحبوب.. فالعارفون بقدر ما ينالون من رضا المحبوب، لا يلتفتون إلى الجنّة، ولا إلى ملذّاتها الحسيّة، كما عبّر عن ذلك (پیره‌مێرد) ببلاغة وعذوبة قائلاً:

لو كنتُ محبّاً لك وحدك

لتركت الدّنيا والآخرة معاً

قلبي لا يسأم ذكراك أبداً

وروحي تبحث عنك بكُلِّ سبيل

وإنْ متّ في هذه النشوة

فسيفوح عطرك من ثرى قبري

يمدحون الجنة بالأوصاف والأسامي

أنا إنْ ظفرت بلقاء الله فلا أريد الجنّة

وفي موطن آخر؛ يقول:

أنا متيٌّم بكَ وَحْدَك

لا آبه للدُّنيا والآخرة

يومَ خلقتَ طينةَ جسدي

زرعتَ فيه حُبَّ لقائِك

بهذا القَدْر؛ بلغت مرامي

فأنتَ وَحْدَك لا الجنّة؛ غايتي!

فالعارف هو ذلك الإنسان الصادق مع نفسه وظروفه، الصادق مع محيطه، لا تهمّه أقوال الآخرين، ولا كيف ينظرون إليه، أو كيف يتصـرّفون تجاهه، فما يهمّه هو جوهره، وما يهمّه حقّاً ويشغله ليس إلا شيء واحد: ماذا يقول معشوقه؟ كيف ينظر إليه؟ وإلى أيّ مدى هو راض عنه؟

العارف هو ذلك الإنسان الذي لا يرضى بزخارف الدنيا الزائلة، ولا ينخدع بزيفها ومباهجها المحدودة والمؤقتة، فهو لا يعبأ بصغائرها وتفاهاتها، يرى كل ذلك بعين الزهد والتسامي، فقد أدار بصـره نحو العالم الآخر ومجاورة الأنبياء – سلام الله عليهم –، واقترب من أنوار الحضـرة الإلهية ومقام المحبوب، ولا يقبل أن يختلط – ولو بقدر بسيط – بعالم فانٍ لا قيمة له، حيث لا يسمح لمتاع الدنيا ولعبها وتفاهاتها أن تسيطر عليه، أو تخترق وجدانه وتلوّث نقاءه.

ومن الواضح أنه لم يمرّ علينا لحظة لم نر فيها انغماسنا في هذا اللعب الزائل والتفاهات.

فالعارف والمتصوّف هما في سعي دائم من القلب والعقل المشتعل بعشق إلهي متوهّج، والروح لا تزال مشغولة بذكر المعشوق ليلاً ونهاراً، بأمل لقائه والنظر إليه، وتمنّي نيل رضاه وبلوغ حضرته.

ولا شك أنّ طريق العرفان والتصوّف، مثل أيّ مسار إنساني آخر، لم يخل من النقص والخلط بين الصواب والخطأ، سواء عن قصد أم غير قصد. ومن الواضح – أيضاً – أن كثيراً من الطرق الصوفيّة تأثّرت بفلسفات ومعتقدات غير إسلامية، كالفلسفات الهندية والفارسية. لذا؛ لا مبرر للدهشة، عندما نرى إلى جانب طريقة التصوّف المليئة بالرقائق والجمال والصدق؛ كطريق مولانا خالد، أو شيخ الشيوخ النهري؛ أنهم كانوا – في آنٍ واحد – يضطلعون بالإرشاد الديني، ويربّون المريدين والسالكين، ويسيرون بهم نحو الله، كما كانوا يخدمون الأمّة من خلال نشـر الوعي والمعرفة، والإصلاح الاجتماعي، بل إن بعضهم أصبح زعيماً سياسياً يقود الثورات القومية.

إلى جانب هؤلاء، وُجدت أيضاً بعض الاتجاهات والأشكال الأخرى من التصوّف والدروشة، التي ربّما لم تخل من الخرافة والبدع والمبالغات. ولهذا، فإن (پیره‌مێرد) قد وجّه نقداً في بعض كتاباته لأولئك الذين يدّعون الكرامات، ومع ذلك ففي إحدى مقالاته في جريدة “ذين”، يقرّ بوجود الكرامات، ويقول: “أنا بنفسـي رأيت كرامة لدى كاك أحمدي شيخ، والشيخ عمر بيارة.”

لكنّه – في الوقت عينه – ينتقد هذه الادعاءات، ويقول: “نعم، قد يكون هنالك أحياناً تفضيل إلهي أو استثناء من العادة، يُشاهد ويُصدّق به، ولكن أن يتسلّق أحدهم الجدار، ويطير في الهواء بلا جناح، ويفرش الريح فراشاً له، ويذهب إلى (مكة) ليصلّي الصلوات الخمس ثم يعود فوراً، فهذه كلّها أمور غير مقبولة، ولا يمكن للناس أن يصدّقوها على هذا النحو”.

  • قنوات تعرّف (پیره‌مێرد) على عالم العرفان والتصوّف:

إنّ جذور تعرّف (پیره‌مێرد) على عالم التصوّف والعرفان، وقنوات اتّصاله بهذه الدنيا المليئة بالحماس والروحانية، تعود الى نشأته في بيئة عائلية ومجتمعية عرفانية، ما جعله ينمو فكرياً وروحياً، بشكل ارتقت حياته إلى الفضاء العرفاني.

  • وفيما يلي نشير بإيجاز إلى بعض قنوات اتّصال (پیره‌مێرد) بعالم العرفان:

أولاً/ علاقته بأسـرة الشيوخ النقشبندية:

يتحدّث عن ذلك بنفسه؛ ويقول: “في شبابي، كنت مشتعلاً من الداخل كزجاجة النبيذ، أو كشلال مياه (زلم) و(بلخ) و(آشةبرزة).. كم كان ذلك منعشاً! لقد ذهبت إلى (بيارة) لخدمة الشيخ عمر، لقد أدخلتني نظراته في هيجان لا يمكن أن يكتب بالقلم، لقد ابتعدت عنه سنوات، لكنني كنت دوماً قريباً؛ فالبعد والقرب عندي سواء من حيث الروح.”

ولا شك أنّ (پیره‌مێرد) قد استمر في هذه العلاقة والتردّد على تلك الأسـرة، وقد ترك هذا الاستمرار أثراً عميقاً في نفسه، فصار تحت تأثيرهم روحياً. وقد أثّر فيه حبّ الشيخ عمر إلى درجة جعلته يكتب فيه شعراً؛ قال فيه:

حلَّ العويلُ بين الكورد

برحيلِ الشّيخ عُمَر

ضياعُ الدِّين والدِّنيا

كسادُ العِلْم والتقوى

ترك “خانقاه” مولانا فارغاً

نال شرفَ الانتقالِ إلى جِوار مولاه

ثانياً/ ارتباط العارف الرباني والشاعر والفيلسوف الكوردي البارز (مولوي) بعائلة (پیره‌مێرد)، حيث يروي الأخير بنفسه عن هذه العلاقة الوثيقة؛ قائلاً: “كنت طفلًا، وأتذكّر مرّة أن مولوي جاء إلى بيتنا، وكان يرتدي سترة خضـراء داكنة، فحملوني الى حضنه، فقام بتقبيلي، وعندما قبّلني، تلاقت عيناي مع عينيه، فشعرت بوميض مليء بالابتسامة والنور في عينيه؛ تلك العيون التي أصبحت لاحقاً عمياء، لكنها كانت آنذاك في غاية الجمال وملأى بالمعنى والجاذبية؛ وعندها شعرت أنني وقعت في حبّ الشعر والألحان الجميلة، فليرحمه الله. (عزيز أمينة) كان مغنيّاً لا مثيل له، وكان يردّد شعر مولوي بذلك الجمال، ويغنّي أبياته بصوت عذبٍ أجمل من الكلمات، ومن خلال غناء عزيز؛ تعلّقت أنا بأشعار مولوي أكثر فأكثر وبطريقة أعمق، حتى بلغت درجة أنني لم أجد في أشعار الروم أو العجم أو العرب معاني أسمى من معانيه. قد يبدو هذا ضـرباً من الخيال، لكن حتى بعد مئة عام من رحيله، لا يزال شعره يتّسم بالعمق.”

أمّا (پیره‌مێرد)، وكنتيجة لتأثّره العميق بأشعار مولوي، وحبّه الخاص لشخصية مولوي، فإلى جانب نسجه للأشعار باللهجة الكوردية متأثراً بمضمون وروح القصائد الفارسية الرفيعة لمولانا خالد، والقصائد الدينية لمولوي.. ولقد بذل جهوداً كبيرة في ترجمة أشعار مولوي إلى اللغة التركية، لكن بسبب انشغاله الشديد، وعدم وجود من يساعده، لم يُكتب لتلك المحاولة النجاح. غير أنه فيما بعد، وبعد عودته إلى السليمانية، عاد ليترجم أشعار مولوي إلى اللهجة السورانية، تحت عنوان “روح مولوي”.

وفي مقدمة ترجمته، يشير إلى التأثير الروحي والمعنوي لقصائد المولوي، وفي القسم الثاني يقول: “لقد أيقظني المولوي بآهاته المخلصة.”

ثالثاً/ إلمام (پیره‌مێرد) باللغة الفارسية، ومعرفته العميقة بالثقافة والأدب الفارسي، جعله يتعرّف بسـرعة على مثنويات مولانا جلال الدين الرومي، وبقية الشعراء العرفانيين من بلاد فارس. كما أثّرت قصائد الشعراء الصوفيين القدامى من الفرس والترك تأثيراً بالغاً في (پیره‌مێرد)، وخاصة أشعار الشيخ سعدي وحافظ الشيرازي. ومن بين الشعراء الصوفيين الأتراك؛ كان عبد الحق حامد من أبرز من تأثّر بهم. وبعد سفره إلى تركيا، وجد في مولانا مصدر إلهام واضح، حتى أنه غاص في التأثيرات الأدبية والصوفية الخاصّة به، وحقّق نجاحاً كبيراً في هذا المجال.

يتجلّى حضور مولانا في بعض قصائد (پیره‌مێرد)؛ على سبيل المثال، فقد حوّل قصة “ناحت الصخر” لمولانا، إلى قصيدة شعرية. وأضيف من جانبي: إن تأثير مولانا على (پیره‌مێرد) – رحمه الله – يظهر كذلك من خلال ما قام به مولانا، عندما جمع مجموعة من القصص الشعبية، ونقلها بأسلوب احترافي، وصياغة شعرية، مضمّناً فيها الحكم الفلسفية والعرفانية؛ بينما قام (پیره‌مێرد) بدوره في نقل الحكم والمواعظ الشعبية الكوردية بلغة عامّة النّاس، وأعاد صياغتها بالأسلوب الذي نعرفه جميعاً، مستعرضاً فيها جملة من الحكم والنظريات المعرفية والاجتماعية والسياسية، مثلما فعل (مولانا جلال الدين الرومي) عندما أعاد طرحها بأسلوبه “المثنوي”. إلى جانب هؤلاء، قام (پیره‌مێرد) العارف والأديب، بترجمة الرباعيات العرفانية والصوفية للشيخ سعيد أبو الخير من الفارسية إلى الكوردية.

 وفي هذا السياق، يقول عن نفسه: “لقد مرّ وقت طويل وأنا أستمع إلى رباعيات الشيخ سعيد أبي الخير من هنا وهناك، أو كنت أجدها في بعض زوايا المخطوطات والصفحات، وكانت تؤثّر في قلبي من عدّة جوانب. أحياناً أجد فيها نقاطًا أدبية لم أسمع بمثلها عند أيّ شاعر آخر، وبعد ذلك؛ اكتشفت فيها مناجاة مليئة بالروحانيات والتوجّهات الإلهية، فإذا قرأها أحد بقلب طاهر ونيّة صادقة في حضـرة الله، فإنها ترتفع بالصوت وتشاركها ملائكة العالم العلوي بالنحيب والمناجاة.”

ثم يشير إلى الأثر العميق الذي تتركه هذه الرباعيات في نفوس أهل الإيمان، حيث إن بعضهم يختار من بين هذه الرباعيات ما يتوافق مع مقاصده ورغباته، فيكرّر قراءتها حتى تتحقّق مطالبه.

 وفيما يلي أنموذج من رباعيات الشيخ سعيد أبو الخير:

أنت في قلبي، وإلّا لملأته دماً

العينُ الّتي لا تُبصرك؛ كأنْ لم تكن!

الرّوح التي لا تُحلِّق بذكرِك

لا أريدُها، سأُشبعها صفعاً وشتماً.

رابعاً: كان (پیره‌مێرد) متأثّراً جداً بكاك أحمد الشيخ؛ إذ يقول:”رأيت منه كرامات”، ولذلك أصبحَ مولعاً بحياته ومراسلاته. ومن شدّة هذا الولع، اندفع إلى ترجمة مناقب كاك أحمد الشيخ من الفارسية إلى الكوردية، وقد كان لهذا التأثير الكبير دور في أن يُكثر (پیره‌مێرد) من الحديث عن فضائل ومحاسن كاك أحمد الشيخ، لا سيّما في الفترة التي قضاها مع سعيد النورسي في المعتقل معاً، وفي نهاية المطاف، تأثّر به سعيد النورسي أيضاً، حتّى إنه رآه في المنام، كما أشرنا سابقاً.

خامساً/ كان (پیره‌مێرد) على دراية عميقة بأشعار مولانا خالد النقشبندي، وقد تركت هذه الأشعار تأثيراً روحياً بالغاً في نفسه، حتّى سلك طريق العرفان والمعرفة.، فكان ولعه بعالم التصوّف ومحبّته لمولانا خالد – هذا القائد الروحي والشيخ الكبير في العرفان والتصوّف الكوردي – سبباً في أن ينقل (پیره‌مێرد) قصائده إلى اللغة الكوردية باللهجة السورانية، تحت عنوان “روح مولانا خالد”. فها هو ذا يمدح (مولانا خالد) قائلاً: “حضـرة مولانا؛ له صيت عظيم في جميع الأقطار الإسلامية، وهو بحقّ فخر للكورد، إننا بحاجة إلى ترجمة سيرته، رغم أن مديحه وولايته قد كتبت بجميع لغات المسلمين، لكن حتى الآن لم يُكتب عنه شيء بلغته هو. وقد وفقنا الله لنبيّن قليلاً من حاله وسيرته، حتى نعيد لصفحات حياته بريقها المشرق”.

سادساً/ بعد سفر (پیره‌مێرد) إلى إسطنبول واندماجه في الحياة هناك، أصبح مقرّباً من عدد من الشخصيات المؤثّرة، من بينهم؛ الصاحب ورفيق الدرب في خدمة الدين والأمّة، العالم الربّاني، عالي المقام (سعيد النورسي)، وكان معجباً به كثيراً، حيث ترك أثراً عميقاً في أديبنا.

دور الشـريعة ومكانتها في العرفان لدى (پیره‌مێرد)، أو العلاقة بين المصطلحات الثلاثة (الحقيقة والطريقة والشريعة) في فكر العارف (پیره‌مێرد):

يعد هذا الموضوع من المسائل التي شغلت الكتّاب والمفكرين في ميدان العرفان منذ وقت مبكر، وهو موضوع العلاقة بين المصطلحات الثلاثة التي أشـرنا إليها، فكل من يرغب في الحديث عن التصوف والعرفان لا يمكنه أن يتغافل عن هذه المسألة، إذا كان يود أن يفهمها حقاً.

ومن بين تلك الآراء، هناك رأي الإمام القشيري، الذي يقول: “الشـريعة هي الالتزام بالأوامر الإلهية، والحقيقة هي الرؤية الربانية، فكل شريعة لا تستند إلى الحقيقة غير مقبولة، وكل حقيقة لا تقيّدها الشـريعة غير مقبولة كذلك… فالشـريعة وُضعت للتعبّد، والحقيقة وُضعت للتبصر.”

ويظن بعض المتصوّفة أن الدخول في الطريقة، والوصول إلى الحقيقة، يغني الصوفي أو العارف عن الشـريعة، وهذا فهم مغلوط؛ إذ إن الشـريعة تتعلّق بتطهير الجانب الخارجي للإنسان، بينما تعنى الطريقة بتنقية باطنه. وأمّا العرفان والحقيقة، فتهدفان إلى تنقية أسرار الإنسان.

وفي هذا المقال، لا نسعى إلى عرض كل آراء العرفاء والكتاب في هذا المجال، بل نروم عرض رأي (پیره‌مێرد) بوصفه عارفاً ومختصاً في هذا الميدان.

فـ(پیره‌مێرد) الحكيم عبّر عن رأيه بوضوح وصدق في قصيدته الشهيرة “في عشقك”؛ حيث يقول:

حين أراد الله أنْ تتجلَّى ربوبيّته

اختار لنا أنْ نذكره اليوم قبلَ الغد

أراد أنْ تكون الأرضُ ميداناً للعمل

فألهمَ بني آدم السَّعي والعمل

في بداية القصيدة، يطرح موضوع الخلق والتكليف الإلهي، إذ يُشير إلى أن الله هو الذي أوجد الكائنات والأنفس والبشـر، وجعل الإنسان مكلفاً بعبادة الله والخضوع له. كما أوكل إليه مهمة دعوة الناس وتربيتهم على هذا التكليف، وقد عهد بهذه المهمة إلى أناس حكماء، ولم يقل (پیره‌مێرد) هذا الوصف بحق الأنبياء فقط، تاركاً الدائرة أوسع لتشمل الشيخ والمرشد والداعية.

وبهذا الشكل، يربط هذه المفاهيم الثلاثة: الشـريعة، والحقيقة، والطريقة؛ ليصوّر أن الشـريعة والحقيقة تتقاطعان نحو هدف واحد، وهو الوصول إلى الحق، وينبغي للإنسان أن يسير نحوهما دون أن يضل أو يعمى عن الحقيقة. فالشـريعة والحقيقة ليستا أمرين متناقضين أو منفصلين، بل هما طريقان يكمل أحدهما الآخر. فالحقيقة يُشبهها بالبحر، والشـريعة بالسفينة التي تعبره، وكلما أصبحت الطريقة وطريق السفر في هذا البحر العميق الواسع نحو الهدف أبعد عن الشـريعة، فالضياع والحيرة سيكونان مصير السالك بلا شك.

طريقان، كِلاهما يلتقيان

 الأعمى فقط لا يُبصرهما 

أحدهما الطّريقة، والآخر الشريعة

الحقيقة بحرٌ، والشريعة قارب

 الطّريقة تغرقُ إنْ مالَ القارب!

في العدد (884) من صحيفة (ذين)، نشـر (پیره‌مێرد) رسالة لمولانا خالد، ترجمها إلى اللغة الكوردية، كان قد أرسلها إلى أصدقائه ومريديه، وقد أوضح فيها بجلاء وصدق أنه لا يجوز الفصل بين الشـريعة والطريقة، بل الشـريعة هي الأصل والطريقة هي الفرع، وأي شخص يدّعي خلاف ذلك، فهو على خطأ.

في بداية الرسالـة يقول: “رغم تعدّد أولياء الأمة، فإنهم جميعاً متّفقون على أن الطريقة دون الشـريعة ضـرب من الجنون، وانحراف عن الطريق المضـيء”. ثم يضيف: “في الحقيقة، الأصل هو الشـرع، وما عداه فرع.”  وفي ختام الرسالة يقول: “وفقاً لفكرنا ومذهبنا، فإن الطريقة هي في خدمة الشـريعة، ولا يمكن أبداً للطريقة أن تكون صحيحة بدون الشـريعة. فالعلم الباطني بدون الشـريعة ضلال ووبال، ونعوذ بالله من “الوبال والضلال،” وكما كتبت لك مرة أخرى؛ لا تكن مريداً ذو صخب مرتفع الصوت، فـخلف الحجب الخفيّة؛ الكثير من المظاهر الزائفة، والـدعاوى الباطلة. وفي الطريقة هناك المعبود والمقصود، وكلاهما هو الله وحده، فإن كل ما عدا ذلك لا قيمة له، فإذا كان الله مرادك، فبرجولتك سيتحقّق مرادك.

•  تجلّي العرفان في حياة (پیره‌مێرد):

إن اندماج (پیره‌مێرد) المثقف مع عالم العرفان، قد أضفى على حياته ملامح عرفانية واضحة من خلال سلوكه، وحياته المعنوية، وحبّه وعشقه لله ونبيّه، ممّا أضاف أبعاداَ وروحاً جديدة إلى شخصيّته. وسنشير بإيجاز إلى بعض من هذه الملامح:

1محبّة الله:

(پیره‌مێرد)، كما يظهر من خلال مرآة أشعاره، كان على صلة عرفانية بالله، صلة يغلب عليها طابع العشق. يقول: “يا ربّ، لا أريد سوى أن أعرف ذاتك، فإنني مذهول ومندهش أمام عظمتك.” يبدو جليّاً أنه كان متأمّلًا ومتعمّقاً في آيات الله، في عظمته وكرمه، في جلالـه وجماله، حتى بلغ درجة الاندهاش، لدرجة أنه تجاوز النظرة العامة التي يتعامل بها الناس مع الله، إذ كان قلبه مفعماً بعشق ومحبة خالصة لله.

كان يطلب من الله أن يجعل من هذا العشق وسيلةً يترجم بها محبته له إلى واقع روحي ملموس، عشق لا يعرفه سواه، ويظلّ سـراً دفيناً في قلبه، لأنه نوع من العشق له خصوصيته وفرادته. ويعبّر عن هذا بقوله:

لا أريد معرفة كنه ذاتك

أقفُ مذهُولاً أمام عظمتك

لكنِّي أريد بلهفة العشق

أنْ تغدُوَ محبَّتَكَ مسلكاً..

مسلكُ المحبّة الخفيّ هكذا

تكُونُ في القَلْبِ، دونَ عِلْمِ أحد!

إن كان ذلك العشق من الله، كما يقول (پیره‌مێرد)، كفاه ذلك حتى الممات، لذلك يقول:

كفاني هذا حتَّى الممات

أن أجد لذّتي في تذكُّر محبّتك..

ولذلك فهو يرجو من معشوقه ألّا يترك في قلبه شيئاً؛ سوى محبته والانشغال بذكره، لكي يصبح حينذاك عبداً في محرابه:

أريدُ ألّا يسعَ قلبي سِواك

ويهجرَ ذِكرَ كُلّ ما عداك

لساني لا يلهج إلّا بذكرك

عندها أكون عبداً في مِحْرابك

وفي موضعٍ آخر ينشد قائلاً:

إلهي، اجعلني واعياً بنفسي

 إذا ما نطقت “الله”، لا أبغي سِواك

فإن لم يتحقّق ذلك، وكان عشقي كذباً، أو رياء، أو صفقة تجارية معك، فلا أستحق سوى الهوان والتيه:

 وإلّا، فإنْ بقيت هكذا

لا أحصدُ سِوى سُوء صنيعي

ما أروع أنْ تكُونَ محبّتُكَ في قلبي

تركتُ كُلَّ شيءٍ وراء ظهري!

ومع محبّة الله؛ يتساوى لدى الإنسان، الحلو والمر، الفرح والحزن، اليسر والعسر، فيقول (پیره‌مێرد):

من يسلك طريق عشق المولى

يتساوى عنده الحلو والحنظل

ويقول أيضاً:

محبّة الله هي الّتي تنيرُ القلب

العبدُ الصَّالح هو الفائز..

كل دعوات ومناجاة (پیره‌مێرد) كانت للوصول إلى محبة الله، ولذلك قال:

أتضرّع، لا من أجل الدنيا

بل أرجو محبَّتَك وحدَك..

2مجاهدة النفس وكبح الرغبات الدنيئة:

العارفون بالله والمتصوفة، بشكل عام، قد عارضوا بشدة؛ الرغبات المادية الدنيئة للنفس؛ وذلك لكي تنال أرواحهم صفاء وشفافية، وتصبح قلوبهم نقية وخالية من كل متعلّقات الدنيا ولذّاتها، فتكون مستعدة لتّتسع لمحبة الله وتستقر فيها. ومن أجل هذا الهدف، مارسوا أنواعاً كثيرة من المجاهدة الروحية والنفسية. كذلك (پیره‌مێرد)، بصفته من العارفين، أدرك أن النفس والرغبات لا يمكن تهذيبها إلا عبر هذا الطريق، فأنشد قائلاً:

 نفسك ثعبان، من جنود الشيطان

 إنْ أعطيتها فرصة لدغتْكَ بأنيابها

لذلك سار (پیره‌مێرد) على نفس منهج مجاهدة النفس وكبح جماح الرغبات. فلقد كان إنساناً زاهداً لا يطلب من الدنيا شيئاً، كما سنوضح في الفقرات التالية. لقد زهد في الدنيا بشدّة، وغالـب رغبات نفسه، حتى يبقى ذلك الحب الإلهي والود الخالص لله دائماً في قلبه، تلك المحبة التي هي غذاء الأرواح وإكسير الحياة للعارفين.

إذا ما بعت نفسكَ، فأنتَ فضّة زائفة

خُنتَ ذاتك لأجلِ عَرَضٍ زائل!

كان دعاؤه الدائم أن يعينه الله، ليتمكن من التغلب على هذين العاملين الخطرين اللذين يثيران الشهوات ويحرّكان الرغبات الباطنية؛ وهما: “الطمع” و”الشهوة”، فقال:

إلهي، لا أرجو إلّا سواك

 الدنيا شتات لولاك

أعطني جناحين كي أطير

لأكسر أجنحة طائِرَيْ نحس 

الأوّل: طائر الجشع التعيس

الثاني: نسـر الشهوة الأصلع

إن استطعتُ كسرَ هذينِ الجناحين

سأحلِّق كرجلٍ حُرّ في سماءِ الدُّنيا

كان (پیره‌مێرد) – رحمه الله -، إنساناً واقعياً، خبيراً بأعماق النفس وأسـرارها، عارفاً برغبات الإنسان واحتياجاته، وكان يعلم أن للرغبات وظيفة في الحياة، فلذلك لا يمكن استئصالها دفعة واحدة، ولا يمكن تجاهلها تماماً، ومن هنا يجب ضبط التوازن فيما بينهما.

لكن إن لم يكن عون الله حاضـراً، فلن يستقيم هذا التوازن، ولذلك يعود للاحتماء بالله، قائلاً:

إلهي؛ تقبّل توبتي

واحفظني من الوقوع في الإثم

لقد ضيّعت عُمْري هباءً

وما زالُ الشيطانُ يلازمني

اجعلِ الفقر والغنى عندي سواء

في وقت الأسى، سهِّلْ بهجتي

3الزهد وترك الدنيا، أو التمرّد على الماديات:

استطاع (پیره‌مێرد) أن ينتصـر على النفس ومغرياتها، وسلك درب الزهد وحفظ النفس من الدنيا وملذاتها، حتى عرف عنه الزهد والانصـراف عن الدنيا؛ رغم مكانته الاجتماعية المرموقة، ونيله قسطاً وافراً من التعليم، وتبوّأه مناصب إدارية عالية في الدولة العثمانية، حتى بلغ منصب الـ(والي = المحافظ)، فإلى جانب ذلك كله كان مستعداً لارتداء ثياب الآخرين البالية. وعن هذا يقول: “وهبني الله قناعة دائمة، وهي كالدولة؛ لا تنهار بأي شيء، ما زلت أجاهد نفسـي شيئاً فشيئاً، فقد حرمت نفسـي من الملابس الفاخرة، والمظاهر، ومن هواء المراوح في الصيف، وشرب اللبن، وحتى الحلويات، لأنني مصاب بداء السكري، وإن وهبني الله رضاه، فذاك يكفيني”. فلم يأبه لمنح راتبه التقاعدي للفقراء والمساكين من حوله، ويكره مظاهر البذخ والبهرجة، من القصور والمجالس المكتضة، والطاولات المترفة، إذ لم تتسلل إلى قلبه، بل كان يرى (قلندرخانته – منزله) أرفع بكثير من تلك المضايف. ففي أحد نتاجاته، تحت عنوان فلسفة الكورد، رسم صورة سلبية لهذه الدنيا، دنيا لا تساوي شيئاً، جاءته لتحاوره، فوقع الحوار بينهما، ابتدأت الدنيا قائلة: “رغم أني أعلم أنك قد احتقرتني ولم تعرني اهتماماً، لأن كلّ ذي مروءة وشهامة؛ يترفّع عنِّي ولا يريدني، وحدهم أهل الخِسّة والدناءة يطمعون بي. فأصبحوا موضع سخريتي واستهزائي.

4- الإحسان والعطاء وخدمة الآخرين:

زهدُ (پیره‌مێرد) لم يكن نـاجماً عن فَقْر أو بُخْل أو عجز، إنّما من كرم داخلي تجاه المحتاجين، وكان يسخّر حياته من أجل مصلحة الجميع. ويعتقد بأن تأمين سبل المعيشة وتيسير الحياة؛ هو من رزق الله، وعلى العبد أن ينفق على المتعفّفين.

هناءُ العيشِ يكمُن في غِنَى النَّفس

الرعاية سبيلُ كَسْبِ الأحبَّة

ما تملكه، وتنفق منه على الناس

سينفعُكَ في الدُّنيا والآخرة

إنّ أولئك الأغنياء، ومن أنعم الله عليهم، ممن يقومون بواجباتهم في أداء أمانة الاستخلاف على أرض الله، سيصبحون رفاقاً لملائكة العرش، وموضع رضا الله.

من أغناه الله واعتنى بالجوعى

سيكون في صحبة ملائكة العرش

ويقول أيضاً:

المنفقون في سبيل الله

لا تؤثر فيهم تقلّبات الزّمان

وفي موطن آخر يقول:

 اعلَمْ؛ أمامك طريق طويل

 جمع الحسنات زاد السفر

قال الله: اسلكوا سبيلَ الخير

مراده نفعُنا، حينَ الوفاة

5التواضع ونبذ التعالي:

الزهد وكراهية الدنيا لا تكتمل فقط بالابتعاد عن المال والمادة والرغبات الحسية، بل ينبغي لك أيضاً أن تزهد في الأمور المعنوية التي وهبك الله إياها، كالشطارة، والجمال، والمكانة الاجتماعية والسياسية، والمهارة، والعلم… كل ما لديك، لا تجعله مصدراً للغرور والتعالي.

برأي (پیره‌مێرد) العارف، فإن الغرور والتفاخر بما منحك الله من مواهب معنوية، ومعاملة الآخرين باستخفاف واحتقار، إنما هو من فعل الشيطان، ولا يليق بالإنسان أن يقلّد الشيطان. ولذلك يقول:

قال الشِّيطان: لن أعترفَ بمنزلته

هو من طين، وأنا من نار

فأُهين لتعاليه

وُطرد من ذاك المقام

وهذه عبرة لبني البشر

من تكبّر؛ انقلب عليه شرّاً ولعنة!

فلا خير فيمَنْ يتكبّر، لأن كل ما وهبك الله إيّاه هو تكليف لا تشـريف، ويجب عليك أن تؤدّيه، لا أن تجعله وسيلة للغرور والادعاء. وإلا، فإن النتيجة ستكون وبالًا عليك، كما حدث مع الشيطان، الذي لم ينصع لأمر الله بسبب غروره وكبريائه، وعدم احترامه لآدم، فاستحق لعنة الله.

  السلمية ونبذ الحرب:

العرفان والتصوف طريق سالك للتدين وعبادة الله، وإذا تأمّلت تاريخ العرفان وسير حياة العارفين الكبار، سترى أنهم كانوا رموزاً للمحبة، والتسامح، والسلم، والسكينة. ولهذا، كان العرفان دائماً مصدراً للتقارب والتعايش وقبول الآخر، وفلسفة ضد العنف والتطرف. فهم يرون أن الحياة المادية مكان يتّسع للجميع، على اختلاف أديانهم، وأعراقهم، وألوانهم، ولغاتهم؛ ويجب أن يعيش الجميع فيه بسؤدد وسلام وأخوّة.

ومن هذا المنطلق، كان (پیره‌مێرد) – بوصفه شخصية عرفانية ناضجة، – إنساناً مسالماً في حياته العملية، لم يحمل حقداً أو ضغينة حتى تجاه من خالفوه أو عادوه.

إلهي أنتَ الغنيّ، المنزه

اجعلني سعيداً بخصلتينِ:

أحدهما ألّا أكون حقوداً

وألّا أستعيضُ بالصِّدْق شيئاً

فلا يتضرَّر أحد مني

ولا يصدأ قلبي من البغض والكراهية.

ومن الناحية النظرية، ظهر في العديد من أشعاره وحكمه، أن (پیره‌مێرد) اتّخذ موقفاً معادياً للحرب، ولم ير القتال عملاً نبيلاً، حتى في نضالـه القومي، كان يرى أن الطريق الصحيح هو السلم والنضال المدني.

وكما سنتطرق لاحقاً إلى موضوع (پیره‌مێرد) والنزعة القومية الكوردية، فقد كان موقفه من الثورات المسلحة الكوردية سلبياً إلى حد ما، ولذلك اعتبره بعض خصومه متخاذلًا، وانتقدوه من هذا المنطلق. وهم غافلون عن أن أديبنا سبق عصـره في مستوى التفكير، وكان منذ ذلك الحين يسعى إلى نشـر فلسفة السلام وثقافة التسامح وقبول الآخر، لأنه كان يرى أن الحرب لا توصل أحداً إلى هدفه، والجميع فيها خاسرون. وقد أظهرت تجارب البشـرية عموماً، والكورد خاصة، أن الحروب والمعارك، مهما كانت تسمياتها ومبرراتها، لا تُخلف إلا الدمار وانتهاك حقوق الإنسان وسحق الأبرياء والمستضعفين.

كل الدروس تقول: إن الحربَ شرٌّ

لذا، لا نجني سِوى الدّمار والخراب..

6- الصراحة في التعامل مع الآخرين، ونبذ الحقد والضغينة:

عندما يُخلص الإنسان النيّة لله، فإن كل ما يفعله ويقوله يوجهه لوجه الله، ولا يهمّه حينها من يحبّه، أو من لا يرضى عنه، ولذلك يتحدث بصـراحة ووضوح، وينتقد الآراء والمواقف والتوجهات التي يراها غير صائبة، سواء صدرت منه أم من غيره، في زمانه أو في بيئته. فهو لا يعود ليتذمّر أو يسخر سـرّاً، ولا يحمل الأحقاد في قلبه، وحتّى إذا أخطأ، فلن يتوانى عن طلب السماح، وإصلاح خطئه، فيعيش حينها في راحة وطمأنينة داخلية.. وعلى النقيض؛ فإن من يحمل الضغائن والحسد، يكون دائم القلق وعديم الاستقرار، ويظن أن الآخرين يبادلونه نفس الشعور، ولهذا يتعامل معهم بشك وتردد.

وعن هذا يقول أديبنا:

أنْ تفاجئ صديقَك بهدية

خير من أنْ تضمر الضغائن

وإن أخطأت فاعترفْ بخطئِك

وتراجع عنه، ففي ذلك الفضل

وإذا سامحتَ دونَ ندم

ستعرفُ لذّة العفوِ

أمّا إنْ كبّلتك الأحقادُ

فلن تنعم أبداً بنومٍ هنيئ!

وفي أبيات شعرية أخرى، عبر عن صفاء نفسه وتسامحه مع الآخرين؛ قائلاً:

كلُّ ما في الأمر أنِّي صريحٌ لا أتلوّن

أنا في القُوّة من نسل التُّراب

وقد شهد الشيخ (محمود الحفيد) على صفاء سريرة (پیره‌مێرد)، ونقاء قلبه، وقال عنه – رغم اضطراب علاقتهما -: “علاقتي بـ (پیره‌مێرد) كعلاقة الشيخ بالمريد،  بيننا مودة وحقوق كثيرة، إلى جانب كونه شاعراً كبيراً ووطنياً مخلصاً، فقد نطق بكل ما قاله بدافع نيّة صافية، وذلك لأنه كان صديقي ومُحبّاً لي.”

وغالبًا ما كان (پیره‌مێرد) – كغيره من المصلحين الذين يحاولون كسـر قيود الزمن والتقاليد البالية – يجابه بانتقادات لاذعة، واتهامات كثيرة، بل وأحياناً إساءة من أولئك الذين يريدون حماية الرجعية والتقليد الأعمى، حتى أن بعضهم وصفه بأنه غير ملتزم دينياً. ومع ذلك، ظل (پیره‌مێرد) ثابتاً على مواقفه لا يتزعزع ، ولم ينحدر إلى مستوى من يسيئون إليه.

7- الإخلاص والصفاء القلبي:

كان (پیره‌مێرد)، كما يتجلّى من سلوكه ونهجه في الحياة، شخصاً متديناً وعابداً مخلصاً، يحمل إخلاصاً عرفانياً وصوفياً؛ لأنه لم يكن يصغي كثيراً لما حوله ليُرضي من حوله، لم يُعر اهتماماً للمدح أو الذم، ولا لانتقادات وأقوال الحاقدين والمبغضين.

فعندما أراد (شمس التبريزي) أن يعمل على تهذيب مولانا الرومي ليتحدا معاً في سبيل الله، طلب منه أن يأتي ببعض الأفعال والسلوكيات الخارجة عن المألوف، ليثير انتقاد الناس عليه، حتى يعتاد ألا يرد على أحد. وكذلك (پیره‌مێرد)، رغم أنه كان موضع اتهام أحياناً بسبب ابتعاده عن التقاليد والصور الاجتماعية والدينية النمطية، حتى وُصف بأنه غير مؤمن أو لا يخاف الله، إلا أنه، مثل مولانا، لم يتأثر بذلك، فما كان يهمه هو طهارة النفس والمحبة القلبية الصادقة لله.

ومن هنا قام بتحويل قصة (نحّات الحجارة)، التي نظمها مولانا، إلى قصيدة شعرية بعنوان: “الإخلاص هو المعيار، وليس معسول الكلام”، يقول فيها:

نحّاتُ حجرُ وقعَ عليه عشق الله

فأحبَّ الله خالِصاً لوجهه

ذهبَ إلى جبل طور مُتعبِّداً

ونحتَ لنفسِه من الجبل غرفةً

كان يظنّ أن الله مثلنا

يفتقرُ للطعام والصَّلاة والثياب

فقال: ربّاه يا قُرَّة عيني

زرني يوماً وكُنْ ضيفاً!

سأغسلُ يديك وقدميك بالماء والصابون

وأمسح نعليك، وأضعُها فوقَ عَيْني

أذهبُ إلى الرَّاعي لأحضر لك حليباً

وأحرقُ لك العُودَ والبخُور

خُذْ قِسْطاً من النَّوم عندي، إنْ كُنْتَ مُتْعباً

ولا تخف، أنا صنديد، سأحرسك!

هذه الصيغة من الأبيات تسمى التشبيه في الشعر؛ وهو أسلوب بلاغي استخدمه (پیره‌مێرد) لإنشاء مقاربة في أذهان القراء، وتوضيح المعاني العرفانية، وإظهار ما كان في قلبه من محبة لله تعالى.

رابعاً: إشارة إلى بعض المصطلحات والعبارات العرفانية في أدب (پیره‌مێرد):

في كل مجال من مجالات المعرفة والعلم، أو حتى لكل تخصص؛ بعض المصطلحات والعبارات الخاصة به. وعالم العرفان أيضاً عالم مفعم بالأسرار واللذة الروحية، وفيه مصطلحات فريدة تعبر عن معانٍ روحية عالية ومنفصلة عن الدنيا، وهذه العبارات، رغم أن لها دلالات لغوية معيّنة، فإن العارف والسالك يستخدمها بمعانٍ أعمق وروحانية فريدة، ولا يفهمها إلا من خاض عالم التصوف، لذا تحتاج إلى شروحات.

ولهذا السبب وضعت عدة معاجم خاصة بهذه المصطلحات، وكان (پیره‌مێرد)، كعارف وملمّ بعالم العرفان، قد استخدم العديد من هذه التعابير في كتاباته وقصائده. وسنشير إلى أبرزها:

1- العشق والعاشق والمعشوق: العشق هو العلاقة الوجدانية العميقة، والهيام، والحب الذي يربط العارف والعبد بمعبوده وخالقه، أي إن العارف عاشق، والله هو المعشوق. وفي الحقيقة، فإن العارف والعبد يبقى دائمًا متعلق القلب بحبال العشق، مشتعلًا بالشوق والتوق إلى اللقاء.

أنتَ وَحْدَك، حتى الفراشة تحتاج إليك

تحترقُ شوقاً لنورك وبقاؤها بك

فالله هو المعشوق، وهو الكعبة التي يتوجه إليها قلب العارف، ولا يتوقف أبداً عن الدوران والطواف حول هذه الكعبة، وكل أنين ونداء وصراخ العارف والمتصوف، إما ناتج عن بعده عن المعشوق، أو عن رغبته في لقائه والوصول إليه. وأحياناً يبلغ العشق والحرقة في قلب العارف حداً يصيبه بالذهول، كما يصور ذلك (پیره‌مێرد) في هذا البيت:

مجنون لا يتوانى عن الرَّكل

عاشق يبدو كالمجنون

وفي موضع آخر؛ يقول:

العاشق الذي يزهد في حياته حقّاً

يكبح جماح المتعة والتجوال

ويبلغ به شوقه إلى لقاء الله، أو كما يقال إلى الحبيب والمعشوق، حداً لا يرغب بشيء سواه، حتى الجنة وكل ملذاتها لا قيمة لها لديه:

أنا متيٌّم بكَ وَحْدَك

لا آبه للدُّنيا والآخرة

يومَ خلقتَ طينةَ جسدي

زرعتَ فيه حُبَّ لقائِك

بهذا القَدْر؛ بلغت مرامي

فأنتَ وَحْدَك لا الجنّة؛ غايتي!

2- القلندر: بحسب (هه‌ژار موكرياني)، في شرحه الوارد في المُؤلّف المسمّى (هه نبانه بورينه (= الحاوي): هو الفقير، المعدم، العبد، الدرويش، الزاهد، والذي لا يملك شيئاً ولا يضـرّ أحداً. والعارف فقير في حضرة الله، عبد زاهد، ودرويش يسلك طريق الوصول إلى الحق. من حيث الأصل، فإن كلمة قلندر كلمة هندية تعني التخلي عن الدنيا، وترك الزينة والراحة.

 وأعتقد أن هذه الكلمة دخلت إلى اللغة الكوردية عن طريق الطرق الصوفية، خاصة من خلال استخدامها المتكرر في أدبياتهم وممارساتهم الشائعة. وفي التراث الكوردي، غالباً ما يُستخدم مصطلح (قلندر) للإشارة إلى شخص زاهد، بسيط، فقير، مسالم، ومتجرد من زخارف الدنيا، ومن هنا تم توظيفه كأحد المفاهيم المركزية في أدبيات التصوف والعرفان. ويُعد أديبنا العارف (پیره‌مێرد) من أبرز من استخدم هذه المفردة في كتاباته.

وقد قال في أحد أبياته:

القلندريّة مصدرُ السَّعادة

لا علاقة لها باللِّحية والشارب

إذا سلك طريقَ القناعة

فهو مَلِكٌ بلا عناء ولا مشقَّة.

ومن هذا يتضح أن (پیره‌مێرد) يرى في (القلندر) الصوفي الزاهد، لا مجرد مظهر خارجي، بل سلوك داخلي وروحي، ولذلك وجه نقداً لأولئك الذين اكتفوا بالمظهر، قائلاً:

ليسَ كلُّ مَنْ لم يحلق رأسه قلندرياً

ولا كلُّ مَنْ حملَ مِرْآة هُو الإسكندر.

حتى إن مكتبته في المنزل سماها (القلندرية) لانعزاله الدائم وخلوته فيه، وفي الوقت ذاته؛ كان مقراً للقاء أصدقائه وأحبائه، وكذلك مأوى للفقراء والمحتاجين.

3- ديَوانة (= الدرويش): كما أشار الشاعر هةذار موكرياني في مؤلّفه (هةنبانة بورينة)، إلى أن كلمة (ديَوانة) جاءت بمعان متعددة؛ مثل: الأهبل، الأحمق، الجاهل، وتدل على نوع من الدراويش الذين يبدون للناس شاردين، ولكنهم في الحقيقة يعيشون في عالم من الذكر والعرفان. كما قال (أخول) الشَّاعر:

قسماً أنْ أكون كالمجنون؛ أحمل عصاً وخرقة

أدعُ جانباً عزّة النَّفس والوقار..

ثم تحولّـت الكلمة إلى مفهوم، وهي درجة من درجات التصوف والدروشة، ومقام من مقامات السالكين، استخدمها الشيخ والمرشد في سياق التزكية الروحية.

وقد عبّر (پیره‌مێرد) عن محبّته الخالص لله؛ قائلاً:

أنا مجنون بك وحدك

لذا أزهد في الدنيا والآخرة.

أو كما قالت رابعة العدوية: “مـا عبدتك طمعاً في جنتك، ولا خوفاً من نارك، بل عبدتك لأنك أهل للعبادة”.

وهكذا يظهر أن (ديوانه) أو (القلندر) في أدب (پیره‌مێرد) ليس جنوناً بمعناه الحرفي، بل جاء مجازياً أي “العشق إلالهي والفناء في المحبوب”.

4- كهل الكهول: في الثقافة الصوفية والعرفانية، يُقصد بـ (الكهل) الشيخ أو المرشد الروحي، أما (الكهول) فهو شيخ المشايخ والمرشدين كافة. وقد كتب (پیره‌مێرد) معظم نصوصه العرفانية تحت اسم (كهل الكهول).

5- الجذبة والحال: في مصطلحات التصوف، (الجذبة) تشير إلى الانجذاب الروحي، و (الحال) تعني حالة وجدانية يمر بها الدراويش.

وقد أورد (پیره‌مێرد) في إحدى مقالاته في العدد (684) من جريدة (ژين) قائلاً: “النبي (صلى الله عليه وسلم) طهر الكعبة من الأصنام، فطهر أنت أيضًا قلبك من عبادة البشـر، فإن لم تكن عبداً للبشـر، وكنت عبداً لله، فإن جذبة محبة الله تدخل قلبك، فتصبح في نشوة روحية وتقول بشوق: (لا أطمع في الجنة، أنا طامع للقائك”. فإذا وصلت إلى الله وربطت قلبك به، تكون قد أتممت الطريق ولا يعود هناك حاجة للصلاة الظاهرية، لأن الصلاة هي وسيلة للوصول إلى حضـرة الله خمس مرات في اليوم، أما إذا كنت دائماً في حضـرته، فلا حاجة لأن تتعب جسدك طالما لم تمثل بين يدي الله اعتقاداً وعملاً”.

وقد وصف (پیره‌مێرد) في أبيات تحت عنوان (كهل الكهول) حالة الجذبة الوجدانية التي يمر بها العارف أو الصوفي، حينما ينفصل عن المحيط المادي وينتقل إلى حالة روحية خالصة، كما جاء في قوله: “هائماً كالمجنون متيماً وترتعد فرائصه”.

وما فهمته من (پیره‌مێرد) هو أنه لا يقصد أن من يصل إلى مرتبة معينة يمكنه أن يستغني عن الصلاة، بل المقصود أن من تغلغل الذنب في أعماقه وأصبح مجبولاً على المعصية، لا تنفعه كثرة الصلاة ما لم تكن وسيلة حقيقية للتوبة والتطهر، فالصلاة ليست مجرد طقوس، بل وسيلة لترك الفحشاء والمنكر كما قال الله تعالى: [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] (العنكبوت: 45).

كذلك، من يستطيع أن يقدم خدمات عامة، أعظم، أو ينجز أعمالاً نافعة للمجتمع، لكنه يترك كل ذلك ويتفرغ فقط للإكثار من الصلاة، فإن أديبنا يرى أن هذا سلوك لا يليق إلا بالعاجزين عن العمل والإنتاج. ولا يعني هذا أن (پیره‌مێرد) كان ينكر الصلاة، أو يتهاون بها، إطلاقاً، بل هو ينكر أن تُتخذ بديلاً عن العمل والإنتاج والخدمة.

6- الطريقة: الطريقة الصوفية هي اجتياز عدد من المراتب والمقامات الروحية، وممارسة أنواع من المجاهدة، وكبح جماح النفس، للوصول إلى الحقيقة، وبلوغ نهايتها في مرتبة (الفناء في الله)، ثم تعود إلى (البقاء بالله)، وتتكون الطريقة من مراحل تبدأ بـ (التوبة) وتنتهي بـ(الفناء في الله).

7- الحقيقة: يقول (هةذار) في كتابه (هةنبانة بورينة) (= الحاوي): من معاني الحق ودلالاته؛ الله، فبلوغ الحقيقة هو بلوغ الله، فإذا كانت الشـريعة هي أحكام الله وقراراته لتنظيم الحياة المادية للإنسان، فإن الحقيقة هي الجوهر الداخلي والباطني لتلك الأحكام، وهي معنوية وروحية. ويقول الإمام القشيري: “الشـريعة أمر بالعبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، فأيّ شريعة لا تساندها الحقيقة، فهي باطلة، وأي حقيقة لا تكون متصلة بالشـريعة، فهي مردودة. فالشـريعة من أجل العبادة، والحقيقة من أجل المشاهدة (الرؤية القلبية)”. ويقول أيضاً: “سمعت من الشيخ أبو علي الدقاق: (إيّاك نعبد) تحفظ الشـريعة، و(إيّاك نستعين) ترمز إلى الحقيقة”. ويمكننا تفسير (الحقيقة) بمفهوم (الإحسان)، كما ورد في الحديث النبوي: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، أي أن تعبد الله بروح الحضور وكأنك تراه، فإن لم تستطع أن تراه فهو يراك.

ويقول العارف (پیره‌مێرد) في هذا السِّياق العرفاني:

طريقان، كِلاهما يلتقيان

 الأعمى فقط لا يُبصرهما 

أحدهما الطّريقة، والآخر الشريعة

الحقيقة بحرٌ، والشريعة قارب

 الطّريقة تغرقُ إنْ مالَ القارب!

والطّريقة قائمة على قوى ثلاث

بثلاثتها يعرفُ العبد ربَّه

8- الفناء: يقول (هةذار)، في كتابه الآنف الذكر، عن معنى الفناء: “أن تذهب، تزول، تختفي، تسكن، مثلما تمحى وتغيب. الفناء هو الصمت في أعماق التجلّي. الكلمة عربية الأصل، وتعني الزوال والاضمحلال والذوبان، وهي نقيض البقاء.

ومن الناحية الصوفية، يُعرّف الإمام القشيري (الفناء) بأنه زوال الصفات المذمومة. أمّا (البقاء)، فهو تحقّق الصفات المحمودة.

في التصوّف، الفناء هو المقام السابع والمرحلة الأخيرة في (السير إلى الله)، وهو بداية (السير في الله)، ويعني الذوبان الكامل للعبد في الحق، أي التخلّي عن الصفات البشرية، والتحلّي بالصفات الإلهية.

فـ(الفناء) في لغة التصوف، هو من المصطلحات الجوهرية، ويعني الانمحاء والزوال عن الذات والأنانية، والابتعاد عن الرغبات الشخصية، إلا عن حقيقة الله ونور القلب العارف. في عرفان العارفين، الفناء هو الانفصال عن الأنا، وعن كل ما تعلّق به الناس، ثم الامتثال لأوامر الله، ثم الزهد في الذات، وفي كل ما هو مادي، والدخول في حالـة من الانشغال بالمعاني الروحية والقلبية والتجلّيات النورانية، حتّى يصل إلى مرحلة الفناء في حقيقة الله، والتغافل عن الدنيا والانغماس التام في ذكر الله. ويقول (الهجويري)، في (كشف المحجوب): “المقصود من الفناء هو زوال إرادة العبد في إرادة الله، وليس زوال وجود العبد في وجود الله”.. لأن هذا يؤدي إلى مفهوم الحلول، وهذا مرفوض في التوحيد والرؤية الإسلامية لمفهوم الله.

ويعتبر (پیره‌مێرد) أن الفناء هو الأساس الأول للتصوف وطريق العرفان، ويقول:

الحقيقة بحرٌ، والشريعة قارب

 الطّريقة تغرقُ إنْ مالَ القارب!

والطّريقة قائمة على قوى ثلاث

بثلاثتها يعرفُ العبد ربَّه

أولها الفناء، وثانيها الوفاء

وثالثها اللقاء، ثمرة الجفاء

الفناء هو النجاة بالنفس

بقتل الهوى تفوز بالرهان

لهذا قمت بتوضيح هذه النقطة بشـيء من التفصيل، لأن الكثيرين يفهمون (الفناء في الله) بشكل خاطئ. ويجب التوضيح بأن المعنى الصحيح هو ما شـرحته، لا ذوبان العبد في معبوده، أو العاشق في معشوقه، لأن هذا يقود إلى مفهوم الحلول، وهو مرفوض شـرعاً، ومخالف لوحدانية الله في الإسلام.

9- الوفاء: في كتاب (هةمبانة بورينة)، يُشير (هةذار) الى مصطلح الوفاء بالثبات والأمانة، فـ(الوفاء) مرتبط بذلك الميثاق الأزلي الذي قطعه البشر مع الله منذ الخلق الأول: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا} (الأعراف: 172).

إن هذا الالتزام الإلهي على الخلق جميعاً؛ هو ميثاق عبودية أساسه البشارة بالثواب والرهبة من العقاب، وهو مخصوص بأولياء الله وأصفيائه، الذين لم يؤمروا إلا لأجل الوفاء بذلك العهد؛ فالله وحده هو المستحق للعبادة، وفي هذا السياق يصبح الوفاء تحصيلًا حاصلًا.

الوفاء أيضا مصطلح عميق في أدبيات التصوف والعرفان، حيث وضعه (پیره‌مێرد) في المرتبة الثانية من مراتب الطريقة.

والطّريقة قائمة على قوى ثلاث

بثلاثتها يعرفُ العبد ربَّه

أولها الفناء، وثانيها الوفاء

وثالثها اللقاء، ثمرة الجفاء

الفناء هو النجاة بالنفس

بقتل الهوى تفوز بالرهان

 الوفاء التزامٌ بالعهُود والأيمان

ويأتي بعده لقاءُ الله..

10- الرِّضا: هو قبول العبد وتسليمه التام لكل ما يأتيه من الله، سواء كان عطية أم بلاء، وترك التذمر والجزع، حتى لو كان ذلك مؤلماً وقاسياً، فإن كان الحب والعشق صادقاً، فالواجب أن يستقبل العبد كل قضاء وقدر بقلب مليء بالإيمان، وبفرح وسرور، حتى وإن كان فيه فناءه، لا ينبغي له أن يتمنى زوال ما قدره الله له، حتى يرفعه الله إليه.

وعن الرضا يقول (پیره‌مێرد) في خاطرة شعريّة:

يا ربِّ امنحْ قلبي قوّة

تجعلُه يطردُ الغمَّ منه

أنا لا أعلم ما يصلح لي

 اجعل قلبي مطمئناً كما تريد

مقامُ معرفتِكَ إنْ ظهرَ

فمن يبالي بالدنيا والدينار!

وفي موضع آخر يقول:

يا ربِّ لا أعلم ماذا أريد منك

كل ما تهبني إيَّاهُ فأنا راضٍ به

إنّ رضا الله يتحقّق بالصبر والجهد في سبيله، وهو راحة فوق كل تعب، وأمان وسط كل زحام الطريق، والاضطراب الذي يصيب قلب العارف سببه الوحيد: الشك في القبول عند الله. تقول رابعة العدوية:” أنا مستعدة لتحمل كل ألم وعناء، وأصبر عليه، لكن الألم الأكبر الذي يعصـر روحي، هو أن يراودني شك داخلي: يا رب، هل أنت راض عني، ذلك هو همّي ومقصدي الوحيد”.

وفي خاطرةٍ شعريّة يقول أديبُنا:

 برِضاك يا ربِّ تطبَّعَتْ رُوحي

رغباتُ نفسي حُور الجِنان

لقاكَ تاقتْ له رُوحي

آنذاك، لا يبقى مكان لرغباتِ نفسي

وفي موضع آخر يقول:

يا إلهي رويداً رويداً

شَوْقُ معرفتِكَ يجولُ في رأسي

قلبي لا يريدُ سِوى رِضاك

ورُوحي لا تهدأ في بدني

وإنْ نبتَ يوماً على ثراي عُشْبٌ

فسوفَ يُردِّد ذكرك بلسان الحال

11- اللقاء: هو لقاء الحبيب، والوصول إلى خدمة الله، والترقب لرؤية جمال الخالق، وهو ثمرة المشقة والمجاهدة والزهد، والغاية من الخضوع والعبودية، وبلوغ رضا الله. كل عبودية عند العارف تهدف إلى هذا اللقاء، لقاء معشوقه الذي هو الله. ويروى عن العطار قوله: “رابعة العدوية كانت تقول في مناجاتها لربها: إلهي، إن كنت أعبدك خوفاَ من نار جهنم فاحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها. أمّا إذا كنت أعبدك فقط لأجل رؤية وجهك الكريم، فبرحمتك لا تحرمني من رؤيته.”

ويقول العارف الحكيم (پیره‌مێرد) في هذا السِّياق:

أضعُ تاجَ الأدهمِ فوقَ رأسي

وأكون سلطاناً في البَرِّ والبَحْر

أو فراشةً لنُورِ لقاك

رُوحي فراشة وأفديكَ نفسي

12- الذكر: هو ذكر الله (المعشوق)، وكلمة الذكر عربية تعني التذكر والاستحضار. يقول القشيري: “ذكر الله طاقة عظيمة في طريق السالك نحو الله، بل هو أساس متين في هذا الطريق، فبمجرد المواظبة على ذكر الله، يبلغ الإنسان إلى الله”. ومن المعلوم أن الذكر نوعان: ذكر باللسان وذكر بالقلب، وكل منهما يُكمل الآخر.

وعن هذا يقول (پیره‌مێرد) في خاطرةٍ شعريّة:

يا ربِّ، ذلك القلب الّذي وهبتني

لا أريده فارغاً من ذكرك أبداً

أريد أن تنبت الأزهار في ثراي

عليها لونُك وعِطْرك وذِكْرك..

فذكر الله غذاء للروح، وأولئك الذين يحبهم الله يعيشون دائماً في الذكر والفكر والعشق، يشتاقون لرؤية الله في الجنة، وتضعف فيهم الرغبات المادية وتتضاءل، ولهذا فإن الملل والتذمر بعيدان عن حياتهم. وهذه الحالة هي حقيقة علمية وواقعية، فكلما كان الإنسان ممتلئاَ من الناحية الروحية والمعنوية، كلما ضعفت شهواته المادية، وسرعان ما يشعر بالشبع، وكل إنسان قد يلاحظ ذلك في حياته، فعندما تصله بشـرى سارة، أو يحقق نجاحاً كبيراً، ترتفع معنوياته إلى درجة تتراجع فيها رغبته في الطعام، ويشعر بالشبع بسـرعة، ويتناول كميات قليلة. يقول (پیره‌مێرد) في هذا الصَّدد:

لكن أولئك الّذين يُحبُّون الله

لا تَنْحني كواهلهم بأثقالِ النّفس

رجاؤُهم، فِكْرُهم، وذِكْرُهم هو الله

كُلّ ما يتمنونه سيجدونه في الجنة

13- المسكنة: كما يقول العارفون، الفقر من حيث اللغة هو الحاجة والعوز وانعدام السلطة الدنيوية، نتيجة التعلق بالرغبات الدنيوية.. لكن من منظور العارفين، فالفقر بمعناه العرفاني، كما يعبر عنه (پیره‌مێرد)، هو: “الافتقار المطلق إلى ذات الحق، وعدم الحاجة إلى غير الحق”. كما قال خواجة عبد الله الأنصاري: “الفقير هو من لا يحتاج إلّا إلى الله، ولا يمدّ يده بالسؤال إلا إلى حضرة الحق”.

وفي هذا السِّياق، يقول (پیره‌مێرد) العارف والأديب:

منِ اغترَّ بمال الدنيا وزينتها

طامِعاً في الأموالِ والسُّلطة

مهنتي هي الكُدْيَة

ورِضاك عني هو فرحي ورفعتي

ويقولُ أيضاً:

يا ربِّ امنحني قلباً

لا تحرقه نارُ الأهواء

ماءُ وجه لا يصطبغ بالرِّياء،

أنتَ مَنْ يعرفُ الملك والمسكين

14- الحضور: مأخوذ من الكلمة العربية حضور، ويعني الاستعداد أو التهيؤ، والمقصود به الاستعداد القلبي واليقظة التامة في حضـرة الله تعالى، بحيث يكون القلب حاضراً وكأن العين تبصـره، ويبلغ اليقين درجة أن يكون الإنسان حاضراً بالله، خالي القلب من كل شيء سوى الله. وأحيانا يكون مستعداً للحق، لأنه إذا انقطع عن المخلوقات، فلابد أن يكون مستعداً للحق، وهذا بسبب سيطرة ذكر الله على القلب، فيكون حاضراً في حضـرة الباري عز وجل. وقد عبر سيدنا المصطفى – عليه الصلاة والسلام – عن هذا المعنى بأجمل صورة حين قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.”

وقد عبَّر العارفُ (پیره‌مێرد) عن هذا المعنى؛ بقوله:

وَحْدَك ربُّ الأرضِ والسماء

أنت الظاهر والباطن

بعبادتِكَ أسمو وأفتخر

في حضرة جلالِكَ أرتعش

يا لها من لذَّةٍ حينَ أقفُ بينَ يديك

أُقيم لك الصلاة بين الحين والآخر!

15- التجلّي: وهو من أبرز المفاهيم السامية المنتشـرة في عالم العرفان، ويعني ظهور الله وتجلّيه في أسمائه الحسنى وصفاته العلى. وهذا المعنى لا يتحقق إلا لمن بلغ مرتبة عالية من العبودية والقرب من الله تعالى.

وقد عبَّر (پیره‌مێرد) عن هذا المفهوم؛ بقوله:

يا إلهي رويداً رويداً

شَوْقُ معرفتِكَ يجولُ في رأسي

قلبي لا يريدُ سِوى رِضاك

ورُوحي لا تَهْدأ في بدني

وإنْ نبتَ يوماً على ثراي عُشْبٌ

فسوفَ يُردِّد ذكرك بلسان الحال

كلُّ آلةٍ أصغي لها

أستمدُّ منها ألحان ذكرك

أنا هائمٌ دُون خمرٍ

قلبي لا يبردُ بأيِّ ماء

يا لجمالَ حُجبِكَ الخفيَّة

أرى الأنوارَ باللِّيل في السَّماء

عينُ التجلِّي كنارِ جبلِ طُور

شوقي أقربُ؛ وهو في شَهْرزور

  • ملاحظات ختامية وخمس إشارات حول الأبعاد العرفانية في شعر (پیره‌مێرد):

1- اللغة: يتميز أسلوب (پیره‌مێرد) ببساطته وسلاسته في استخدام المفردات والتراكيب، فهو أسلوب مفهوم حتى لغير المتعلم، خالٍ من التعقيد والغموض.

2- الاقتباس والتضمين: يستخدم أحياناً إشارات إلى الآيات القرآنية أو أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأحياناً يستند إلى أقوال المتصوفة والعارفين؛ لتقوية المعنى الذي يريد إيصاله.

3- العمق الروحي: يمتلك قدرة فريدة في التعبير عن ارتباطه القوي بالله، ومحبته للنبي (صلى الله عليه وسلم)، والتزامه بتعاليم الشريعة الإسلامية.

4- الرؤية الشاملة: لا يمكن اختزال رؤية (پیره‌مێرد) تجاه الله والحياة والإنسان والآخرة في مجموعة أشعاره المنشورة تحت عنوان (أنين كهل الكهول) فقط، وتسميتها قصائد (پیره‌مێرد) الدينية، كما فعل كل من (محمد رسول هاوار) و(الدكتور عزالدين مصطفى رسول)! وقد أشـرنا في مواطن سابقة الى أن كل أفكار وكتابات وتحليلات (پیره‌مێرد) حيال الظواهر السائدة في زمانه؛ كانت تنبع من مرجعية إسلامية عميقة.

لقد خصّ (محمّد رسول هاوار) بعض نصوص (پیره‌مێرد) بتصنيفها في نهاية ديوانه؛ ضمن الأدب الديني، إذ وضعها في ذيل بقية الأغراض الشعرية، ما ينم عن تجاهل وتنقيص من شأن الدين، رغم أن (پیره‌مێرد)، كما أشرنا مراراً، كان يُعبر حتى عن قوميته من منطلق ديني؛ فما بـالك بحالة التدين والعرفان الذي شب وشاب عليها أديبنا. أمّا (عز الدين مصطفى رسول)، ففي كتابه (الأدب الكوردي الحديث للمرحلة الجامعية)، لم يفرد فصلاً خاصاً لشعر (پیره‌مێرد) الديني، بل وضع القصائد الساخرة في مقدمة الشعر الفلسفي والعرفاني، مما يُظهر نوعاً من تجاهل البعد الديني في رؤية (پیره‌مێرد) الشاملة.

العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى