إشكالية العدالة

تحسين حمه غريب - نقله من الكوردية: سرهد أحمد

 منذ مدة وأنا أفكر: ما هي مشكلة مشكلة العدالة؟ إن غياب العدالة هو من أكبر مشاكل المجتمعات اليوم، بل وحتى العالم بأسره، وآثاره تتجلى في حياة البشـر، وحتى في الكون، وفي مستقبل الأجيال القادمة.

أفكر: ما هذه المشكلة العظيمة التي تُجمع البشرية على ضرورة حلّها بالأخلاق والفضائل؟ نعم، إن انعدام العدالة مشكلة، لكن ما هي مشكلة هذه المشكلة التي ينبغي أن تُحل أولاً لكي نستطيع بعد ذلك معالجة غياب العدالة نفسه؟

أتأمّل في مشكلة (أصول أصول الدين) كما وصفها مولانا جلال الدين الرومي في (المثنوي)، حين قال إن هذا الكتاب لا يتحدث عن أساسيات الدين، بل عن أساس الأساسيات.

وأنا أؤمن أن مشكلة انعدام العدالة ليست مشكلة خارجية، بل هي عدو داخلي، فأعداء المجتمع الآخرون يأتون من خارج الجسد، ومن سطح الجلد، ولذلك لا يمكنهم التوغل إلى لحم المجتمع ودمه.

أما الظلم؛ فهو في داخل لحم المجتمع وعظامه، يمتصّ دمه، ويحطّم عظامه، ويمزّق لحمه. لذلك فهذا العدو الداخلي أخطر من كل الأعداء الخارجيين الذين يهددوننا من خارج الجلد.

أتساءل: هل يمكن تحقيق العدالة في بلادنا؟، في بلداننا كل البنايات تراها مكتملة، ما عدا بناء العدالة لا يزال ناقصاً!

الظالمون كما رفضوا رسالة الأنبياء، رفضوا كذلك طريق العدالة، لأن الأنبياء كانوا مرآة تُظهر لهم حقيقتهم، وكانوا يحطّمون حياتهم لأنهم يواجهونهم بحقيقتهم.

كم أنتم فاسدون أيها الظالمون!، وكذلك العدالة تفعل الشيء نفسه، تحطّم حياة الظالم لأنها تُظهر كم هو ظالم وفاسد، فتجعل أحدهم يقف فجأة ويصرخ في وجه الملك العاري:

(ليس عليك رداء، أيها الملك!) وحينها يقول الجميع:” حقاً، الملك عار بلا ثياب!”.

وليس هذا فحسب، بل إن الأنبياء قد حطموا ذلك الوهم أيضاً، فالأنبياء لا يقومون بأعمال عبثية، ومطلبهم لم يكن عبثاً حين نادوا بالعدالة [اعدلوا]، لذلك فإن العدالة مهمة نبوية.

أما في العصـر الحديث، فأهمّ تصوّر للعدالة، يأتي في سياق نظرية الفيلسوف الأمريكي (جون راولز) (العدالة بوصفها إنصافاً)، تعني تطبيق مبادئ العدالة التي يتم الاتفاق عليها في (الوضعية الأصلية)، حيث يكون الأفراد متساوون وأحراراً، ويجهلون مواقعهم الاجتماعية المستقبلية، هذه المبادئ تهدف إلى تحقيق توزيع عادل للحقوق والواجبات والفرص في المجتمع.. وفقاً لهذا المفهوم؛ العدالة ليست مطلباً مستحيلاً، بل تعني ببساطة (كيف نُشرك الآخرين فيما نملكه؟). أي كيف نوزّع الموجود بعدل وإنصاف بيني وبين الآخرين، ولهذا يمكن تحقيق العدالة في أي مجتمع، حتى في مجتمعنا نحن!

 فغياب العدالة يجعل المجتمع فاقداً للأمل، وتغدو (الحياة باطلة)، كما يقول المثل الكوردي، والأمر ليس مقتصـراً على أفعال العوام، بل حتى أعمال العظماء والعقلاء تصبح بلا جدوى.. هذه ليست مجرد حالة آنية، هنالك نماذج في التاريخ أيضاً: انظر إلى العمل العظيم؛ استشهاد الإمام الحسين؛ كيف جفّت دماؤه في قلب الصحراء، ومع ذلك أكمل المجتمع طريقه؛ وانظر إلى استشهاد كل أولئك الأبطال الكورد العظام في القرن الماضي، كيف بذلوا أرواحهم، لكن النتيجة التي نراها اليوم هي أن (غياب العدالة) يجعل حتى أعظم أعمال البشر بلا فائدة!.

العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى