جانب من آراء العلامة ناصر الفقهية في مباحث الصلاة والصوم والزكاة والحج (الحلقة ٢٥)
د. عمر عبد العزيز

تنويه:
تحدّثنا في الحلقة الماضية عن رأي العلامة ناصـر سبحاني في الاجتهاد وشـروطه، وحكم اتّباع المذاهب الفقهية، ورأيه حول المجتهد، وشـروط الاجتهاد، وفي غلق باب الاجتهاد. كما تحدثنا عن قوله في اتّباع المذاهب، وملاحظاته على منهج علماء الأصول، ورأيه في الإجماع، وكيفية تحقّقه، وترتيب مباحث الأصول في نظره، ورأيه في موضوع النسخ في القرآن الكريم، وأمور أخرى..
وتكملة لإبداء آرائه العلمية، خصّصنا هذه الحلقة ـ وحلقات تالية ـ بإذن الله، لعرض آرائه في أركان الإسلام، وأحكامها الفقهية، وحِكَمها، وبعض فتاويه في مسائل النكاح والطلاق، وجانب من آرائه الاقتصادية، ومجموعة فتاوى ورؤى شرعية له في مباحث شتى..
تقديم حول أهميّة الفقه الإسلامي:
الفقه الإسلامي يمثّل ينبوع الحياة للمسلمين في جميع مجالات الحياة، فهو يضمّ نظم الشعائر، وينظّم الواجبات الدينية لكل مسلم، كما يرسم قوانين الحياة الدنيوية السعيدة في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية والتعليم والإدارة وغيرها. ويمكن القول أنه لم يشهد التاريخ شـريعة سماوية، ولا قانوناً وضعياً، أشمل وأرقى من الفقه الإسلامي، الذي يعدّ مصدر الإلهام لجميع الشـرائع الوضعية والقوانين المعاصرة منذ القرن السادس الميلادي، باعتراف المشـرّعين الغربيين أنفسهم([1]).
هذا التراث الضخم الغني من الفقه ـ الذي يقدّر بملايين الصفحات، وعشـرات الآلاف من الكتب والمجلّدات من المراجع والمصادر ـ منه ما هو مستنبط مباشـرة من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية (وهو قسمه القليل المحدود، الذي يمثّل الثوابت من الأحكام)، ومنه ما يدخل دائرة الاجتهادات، التي تمّت في ظلّ الإجماع والقياس والمصادر التبعيّة الأخرى، (وهو الذي يمثّل النسبة العليا منه، ويضمّ المتطورّات من الأحكام).
بناء على هذا، نستنتج أن الفقه الإسلامي غير الشـريعة الإسلامية، بل يمثّل أكثره حصيلة الفكر البشري، المتمثّل في آراء الفقهاء من المجتهدين وغيرهم. ومن هنا يفرض الحديث عن التجديد والتطوير نفسه، تجديد الفقه وفق متطلبات العصـر، ومتغيّرات الزمن، وتطويره وفق الآليات المتاحة والوسائل المناسبة للمرحلة. ومن هنا أيضا شمّر الفقهاء من المعاصـرين عن ساعد الجدّ ـ ومنهم صاحبنا الشهيد العلامة ناصـر سبحاني ـ لإعادة النظر في كثير من المسائل الفقهيّة التي يطغى عليها الطابع الاجتهادي، وتبرز فيها أمارات المرحلية زماناً، والبيئية مكاناً، لكي تتحقّق خاصية الواقعية والحيوية للفقه الإسلامي على أرض الواقع، وفي حياة المجتمعات البشرية.
ولهذا، فسأحاول ـ بإذن الله تعالى ـ أن ألقي الضوء في هذه الحلقة على بصمات الشهيد الفقهية في مجالين أساسيين فقهيّيْن: مجال العبادات؛ بدءاً بأحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج، وحِكَم كل منها، وأمور أخرى متعلّقة بها. وفي مجال المعاملات والأحكام الاجتماعية والاقتصادية؛ كالنكاح والطلاق، ومحرّمات الأطعمة، وما يتعلّق بالفيء والغنائم والأنفال وغيرها، وأهم الأحكام المرتبطة بها.
جانب من آراء العلامة سبحاني الفقهية في مجال أركان الإسلام، وحِكَمِها،
وأحكامها الفقهية
أولاً/ تعريف الفقه في اللغة والاصطلاح:
1 ـ الفقه في اللغة:
يرى اللغويون أن الفِقْه – بكسـر الفاء -: العلم بالشيء، والفهم له، والفطنة. وغلب على علم الدين، لشـرفه([2]). بل عرّفه الفراهيدي في (العين) بأنه: “العلم في الدين”([3]). وفرّق بعض اللغويين بين فَقِهَ (بالكسـر)، وفَقُهَ (بالضمّ)، فقال: “يقال فقِه الرجل ـ بالكسـر ـ يفقَه فِقْهاً: إذا فِقه وعَلِم. وفَقُه ـ بالضمّ ـ يفقُه، إذا صار فقيهاً عالماً. وقد جعله العرف خاصاً بعلم الشـريعة، وتخصيصاً بعلم الفروع منها”([4]). هذا، ولقد فرّق الراغب الأصفهاني ـ الخبير بمفردات ألفاظ القرآن ـ بين الفقه والعلم ـ فقال: “الفقه هو التوصّل إلى علم غائب بعلمٍ شاهد، فهو أخصّ من العلم، قال تعالى: [ولكن المنافقين لا يفقهون] المنافقون/٧.”[5]
2 ـ الفقه في الاصطلاح:
أمّا في الاصطلاح، فلقد كثرت تعريفات الفقه؛ قديماً وحديثاً، فبعض العلماء أبرز من المعاني ما توحيه الدلالات اللفظية، وبعضهم زاد عن ذلك. قال الراغب الأصفهاني: “الفقه: العلم بأحكام الشـريعة”([6])، وعرّفه الإمام أبو حنيفة بأنه: معرفة النفس، ما لها وما عليها. وقال أصحاب الشافعي: “هو العلم بالأحكام الشـرعية العملية من أدلّتها التفصيلية”([7]). وقال الإمام الغزالي: “حاصل علم الفقه هو معرفة طرق السياسة والحراسة.” وقال في الفقيه: “هو العالم بقانون السياسة، وطريق التوسط بين الخلق، إذا تنازعوا بحكم الشهوات”([8]). وقال العلامة ابن خلدون: “الفقه هو معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلّفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي مستقاة من الكتاب والسنة، وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلّة، فإذا استخرجت الأحكام من الأدلّة قيل لها: فقه”([9]).
3 ـ الاستنباط الفردي، واستنباط أولي الأمر:
لا يرى العلامة ناصـر سبحاني أن الفقه استنباط شخصي، بل يؤكد على أن الأصل لاستخراج الأحكام التي لم تذكر في كتاب الله – لكونها جزئية، متجدّدة، وغير محصورة ـ أن يتم عن طريق (التشاور المختوم بالاتفاق!)، فإن ذلك هو السبيل الذي قد يُسـّر للمؤمنين سلوكه، والذي ليس في اختياره مخالفة الحكمة، ولا تحميل الإنسان ما لا طاقة له به، أو دفعه إلى ما لا يُحصى كثرة من الأخطاء، وما لا يريده الله لعباده من الاختلاف وتفريق الدين ومفارقته([10]).
وبهذا يتّضح أن الشهيد ناصـر سبحاني ليس مع تسمية الاستنباط الفردي بالفقه، بل يرى أن الأصل هو ما يجتمع عليه أولو الأمر على ضوء القواعد والضوابط العامة، إلا في حالة الضـرورة. وتعليله لهذا هو أن الاستنباط من القواعد المقرّرة بانفراد، يخالف ـ في الأصل ـ الاهتداء بنور الله، والاعتصام بحبله الذي أمر به. وأنه ـ كذلك ـ وقوع في متاهات الأخطاء، واتّخاذ سبيل الاختلاف والتفرّق.. ولهذا اختار الله للذين آمنوا أن يكون أمرهم شورى بينهم ـ لأنه وإن لم يكن أحد من أهل الشورى معصوماً ـ إلا أن التشاور طريق موصل إلى أعظم قدر ممّا يمكن للبشـر من الإصابات، ووسيلة إلى تقليل الأخطاء إلى حد الندور. أمّا الاستنباطات الفردية، فإنها مجلبة لأكبر قدر من الأخطاء.
هذا ـ في نظر الشهيد سبحاني ـ هو الإطار العام الذي يشكّل الفقه الإسلامي، ولكن الشهيد لم يكن بعيداً عن واقع المجتمعات الإسلامية، ولم يكن حال الأمّة، وتشتّتها، وفقدان مرجعيتها، غائباً عن ذهنه، بل كان على علم بأن الصورة المثلى التي ذكرها لتكوين المنظومة الفقهية هي صورة الأصل، وحصيلة الظروف الاعتبارية، إلا أنه قد يأتي زمان ـ كزماننا، وكعصور خلت ـ لا تكتمل فيه تلك الصورة، ولا تتجسم تلك الحالة، لسبب من الأسباب، ولهذا أقرّ بالاستنباط الفردي، وعدّه لجوءاً إلى أحكام الضـرورة، فقال: “لا يخفى أنه قد لا يتيسّر التشاور، كما هو حال المسلمين في استبدال الملْك العضوض بالخلافة ـ فيضطرّ المؤمن إلى الانفراد في الاستنباط اضطراراً: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] البقرة/ ١٧٣، فمن اضطر إلى الاستنباط منفرداً، ولكنه لم يرض بما هو فيه، ولم يطمئن، بل جاهد بماله ونفسه في إبطال الباطل، وإقامة دين الله ـ كما كان يفعل الأئمة الأخيار من السلف ـ لم يأثم باستنباطاته المنفردة الاضطرارية، بل كان له أجره بما كان اجتهد”([11]).
ثانياً/ جانب من آراء العلامة سبحاني حول حِكَم وأحكام الأركان الأربعة في الإسلام
1 ـ جانب من آرائه حول الصلاة:([12])
تحدّث الشهيد بتفصيل، في محاضـراته ودروسه وكتبه، عن الصلاة: معناها، وحقيقتها، وحكمتها، وحكمة أركانها وهيئاتها، وكذلك تأثيراتها ومترتّباتها. فالصلاة ـ في نظر سبحاني ـ هي الدعاء في أكمل صورته، يدعو بها ـ وفيهاـ المؤمن ربّه أن يهّيء له الإمكانيات التي يحتاج إليها ـ في سلوك طريق العبودية ـ، وأن يدفع عنه المعوّقات والموانع التي تعترض سبيله الذي يسلكه في العبودية.. ولكن كيف ذلك؟
يجيب الشهيد بالقاعدة التي جعلها تمهيداً لمعظم دروسه الإيمانية، وهي ـ باختصارـ التأكيد على أن الإنسان مجموعة من الاستعدادات، مستعدة وقابلة للرشد والنموّ والزكاة.. ففي لفظة (ربّ العالمين)، و(الرحمن الرحيم)، إشارة واضحة إلى هذا الأمر، لأنه لا تربية إلا لمن يكون مستعداً لأن يتربّى، ومحتاجاً ـ في الوقت نفسه ـ إلى التربية. ولا تتم التربية إلا بتهيئة المناخ من قِبَل المربّي للمتربّي، ومناخ تلك التربية الإلهية هو الرحمة، التي تعني ـ باختصار ـ جلب المنافع، ودفع المضار.
ثم إنه لا يتفق مع حكمة الله تعالى أن يكلّف الإنسانَ بهذا التكليف، ثم يتركه سُدىً ولا يسأله: هل تربّى كما يشاء الله سبحانه، أم لا؟ ومن هنا يأتي الحديث عن [مالك يوم الدين]، عقب قوله: [ربّ العالمين* الرحمن الرحيم]، لأن الابتلاء يليه الامتحان والمجازاة.
ثم إن المؤمن يعرف أنه لا أحد أعلم من ربّه به، وبطرق هدايته، لذا يعاهد ربّه عهد العبودية، ويستعينه كي يوفّقه للسير فيها، بقوله: [إيّاك نعبد، وإيّاك نستعين] ولكن كيف يعبد؟ وكيف يستعين؟ ولكون الله هادياً ورحيماً بعباده، هداهم إلى أمثل الطرق ـ طريق العبادة والاستعانة ـ، فأمَرَهُم بإقامة الصلاة، التي حقيقتها الدعاء، بل هي أكمل صوَر الدعاء.
تلك هي حقيقة الصلاة، ولهذا لا بد من فقه المؤمن للصلاة، بحيث يحسّ بالحاجة إليها كلما اعترضته عرقلة، أو ظنّ أن نفعاً سيفوته. ولا صلاة ـ في نظر سبحاني ـ لمن لم يكن عالماً بحقيقة الصلاة، فلا بد أن يفقه حكمتها بإجمال، ومن ثم حِكَم أركانها بتفصيل:
ففي حالة القيام في الصلاة، لا بد أن يفقه المصلّي الحد الأدنى من معاني (سورة الفاتحة)، التي هي متن القرآن، وأن يصاحبه الشعور بالوقوف بين يدي إلهه، بعد انصـرافه من الوقوف بين يدي الآلهة الباطلة. ومن الحسن أن يلاحظ قبل أن يقول: الله أكبر، أن الأرض فيها آلهة باطلون، يدّعون الكبرياء لأنفسهم، ولهذا يقول: إن الله أكبر من أولئك جميعاً. ويرى سبحاني أن السكر المنهيّ عنه في قوله تعالى: [لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى] النساء/ ٤٣، ليس السكر الآتي من الخمر فقط، بل يرى أن السكر يتحقق بكل اختلال يقع في حواس الإنسان وفي مشاعره، يمنعه من الالتفات إلى حقيقة ما يأتي به، وحقيقة ما يجري فيما حوله. فلا يجوز للإنسان ـ في رأيه ـ أن يقرب الصلاة وهو سكران ـ أيّ سكرٍ كان ـ سواء كان بسبب الخمر، أم الغضب الزائد، أم الفرح الكثير، أم الشهوة، أو بسبب أيّ اشتغال بمشاغل الدنيا، وغير ذلك.. ويؤكد أن النهي الوارد في الآية للتحريم، متوجّه إلى كل من كان سكراناً ـ بتلك المعاني – إلى أن يعود إلى حال يعلم فيه ما يقول.
ودعماً لرأيه، يتساءل الشهيد: كيف يشكّ في هذا من فهم دعاء إمام الناس إبراهيم – عليه السلام – لمّا قال: [ربّ اجعلني مقيم الصلاة] إبراهيم/٤٠؟! عبد مقرَّب عند الله ذلك التقريب المميّز، يسأل ربَّه أن يجعله مقيم الصلاة. ولو لم يكن في القرآن ـ كما يقول الشهيدـ ما يبيّن منزلة الصلاة غير هذا، لكفى في بيان عظمة الصلاة، وعلوّ منزلتها.
ولإبراز جانب آخر من أهمية الصلاة، يبيّن أن الله سبحانه أكّد على أن غاية تمكين عباده الصالحين، الناصـرين له: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. قال تعالى: [وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] الحج/٤٠ ـ ٤١.
ولهذا، فالقرآن اعتبر الصلاة أعظم عمل يقوم به المؤمن بعد إيمانه، وهي أحد الأوصاف الأساسية ـ التي بالتحلّي بها ـ يتم الاستعداد للاهتداء بكتاب الله الذي لا ريب فيه، كما يبرز في مقدمة (سورة البقرة). وكذلك بالتحلّي بها يتم الحصول على هدى من الله، والمصير إلى الفلاح.. كما أنها من الأوصاف التي يعدّ التخلّي عنها كفراً لا ينفع معها إنذار، فإنه قد خُتم على قلب المتخلّي عنها، وعلى سمعه وبصـره غشاوة. وهي أوّل عمل أمر النبي بإعلان إفراده لله. كما هي أوّل عمل أُمِر به بنو إسرائيل، بعد تذكيرهم بنعمة (الهدى)، الذي كان قد أتاهم من ربّهم، ودعوتهم إلى الوفاء بما عهد إليهم فيه. وهي أوّل عمل من أعمال البرّ الذي يأمرون الناس به. وثاني أمرين يؤمر الناس بالاستعانة بهما في الائتمار والانتهاء. وهي ـ كذلك ـ أحد مواد الميثاق الذي أخذه الله تعالى من بني إسرائيل، ومظهر إخلاص العبادة لله. وهي أوّل ما يؤمر به الذين آمنوا من عمل خير، بعد تحذيرهم من الحاسدين لهم.
والصلاة ـ كذلك ـ هي أوّل ما لا ينال عهد الله الظالمين فيه، فإن الإمامة: الهداية بأمره، وأوّل ما يهدي الهادون الناسَ إلى عبادة ربّهم به، الصلاة، فلا إمامة للظالم، لا في الصلاة، ولا في غيرها. وهي كذلك أوّل ما يثوب الناس إلى البيت من أجله، وأوّل شيء أمروا باتّخاذه من مقام إبراهيم: أي أوّل ما أُمروا بفعله هي الصلاة، وهي ممّا يحقّق الأجر، ويرفع الخوف والحزن. وهي العمل الذي لا يُترَك حتّى في خضمّ الحروب والمواجهات. وهي العمل الذي لا يكسل فيه إلا المنافقون المراؤون. وهي التي لا يحافظ عليها إلا المؤمنون بالآخرة. وأوّل عمل ـ بعد التوبة ـ يسبّب تخلية سبيل المحاربين، ويجعلهم إخواناً في الدين، وهي وسيلة إزالة سيّئات طرفي النهار والليل.
وهي – في المقابل – إن ضُيّعت، سبب للغيّ والهلاك. وتركها مما يسلك تاركها في (سقر)، بل إن الساهين عنها يُعدّون من المكذبين بيوم الدين، الذين هُيّء لهم الويل فيه، وهي التي بإقامتها يتحقّق ذكر الله، ويجعل من يقيمها من زمرة المخبتين، ومن أهل الفلاح من المحسنين.. فالصلاة ـ باختصار ـ من أركان دين القيّمة، دين المخلصين لله..
هذا، وللشهيد ناصـر سبحاني رأي خاص في موضوع الإمامة في الصلاة، وتحديداً في شـرط العدالة، الذي تحدّث عنه الفقهاء، واختلفوا فيه.
2 ـ قول العلامة سبحاني في الصيام:
ليس للشهيد سبحاني إضافة محدّدة فيما يتعلق بحكمة الصوم، إلا أنه أصّل التعليل القرآني في فريضة الصيام، المشار إليه في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]البقرة/١٨٣، فأشار إلى أن الله زوّد نفس الإنسان بقوتين جسّدتا نقطة تميّزه عن باقي مخلوقات الله، وهما: قوتا العلم والإرادة.. ثم ذكر أن هاتين القوتين تحتاجان إلى التزكية والنموّ، النمّو من النقص إلى الكمال اللائق بهما.. ثم أشار إلى أن تربية قوّة العلم، وإنماءها، تتمّ عن طريق تعليم الكتاب والسنّة، وتزكية قوى النفس الثلاث: السمع، والبصـر، والفؤاد، لتتحول المعارف إلى خصال وملكات راسخة. أمّا تربية قوة الإرادة، فتسمّى التزكية، وهي تتمّ عن طريق العبادات، ومحاربة الأهواء الشيطانية. والصوم هو إحدى العبادات المشـرّعة لهذا الغرض. وهو ـ إذاً ـ يحقّق التقوى، التي تعني الالتزام بأوامر الله، واجتناب مناهيه. وهو الهدف الذي شـرع الله لأجله الصوم، ومن هنا علّل الله تشـريع الصوم بالتقوى.
وأشار – في سياق آخر – إلى أن الله شـرع الصيام بمثابة دورة سنوية تستمر شهراً، لتحقيق هدف التقوى الذي أشـرنا إليه([13])، وذلك بتعويد النفس على مواجهة العادات، والانطلاق من أسْـرها، والتسلّط على بعض متطلّبات النفس الشهوانية ـ وإن كانت حلالاً ـ، لكي تقوى عزيمته، وتنتظم إرادته، وتتعلّم مواجهة المصاعب، وتحسّ بآلام الآخرين من المحرومين عن بعض النّعم، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى.
3 ـ رأي العلامة سبحاني في حِكَم الزكاة([14]):
للشهيد ناصـر سبحاني وقفات طويلة مع مفاهيم الزكاة والإنفاق والصدقات. وسأحاول إلقاء بعض الضوء على جانب مما قاله، في النقاط التالية. فهو يرى بداية أن العبودية الكاملة ـ التي تتمثل في الخلافة وإعمار الأرض ـ لا يمكن أن يحقّقها فرد وحده، بل جيل بأكمله، وإنما تتحقق باجتماع كل الأفراد في كل جيل من مريدي الخير والحقّ. ولهذا قسّم الله استعدادات الإنسان بين بني البشـر، وجعلها أمراً نسبياً، ومراتب متفاوتة، بحيث يكون المجال للاجتماع والارتباط متهيّئاً.. فلا يمكن لفرد ـ مهما كانت طاقاته وقواه واستعداداته ـ أن يجلب كل ما هو نفع له ولغيره، ولا أن يدفع كل ما فيه ضـرر عن نفسه أو غيره.. ومن هنا تبدأ قسمة توزيع الفضل الإلهي بين عباده، ومن هنا ـ أيضاً ـ يبدأ موضوع فرض الزكاة، والإنفاق، والصدقات. ولتوضيح أسس نظام الزكاة ـ التي تعدّ إحدى أعمدة النظام الاقتصادي في الإسلام ـ يذكر الشهيد جملة قواعد مهّمة، أهمّها هي:
القاعدة الأولى/ لا فرق بين الزكاة والإنفاق والصدقة([15]):
يوضّح الشهيد – في أكثر من موقع – أنه ليس هناك ـ في الأصل ـ فرق بين تلك المصطلحات، بل أتت التسميات بناء على اعتبارات: فالزكاة هي الحصة التي خصّها الله لأصناف معدودين، من طرف أصحاب الأموال. فباعتبار تأثيرها ـ المتمثّل في تزكية نفس الإنسان عن الشحّ والطمع والحرص ـ سُمّيت زكاةً. وباعتبار فتح نفق في مال المزّكي ليسري فيه ما زاد عن حاجته إلى أصحابه من الأصناف، سُمي إنفاقاً. فالإنفاق مصدر من النّفَق ـ وهو معلوم ـ، فكأنه حفر في مخزن ماله نفقاً يجري من خلاله المال إلى مستحقّيه.! وباعتبار كون هذا العمل تصديقاً لإيمان صاحبه، وشهادته بألوهية الله، سُمّي صدقة.
وحول عدم الفرق بين الزكاة والصدقة([16])، يتساءل الشهيد مستغرباً: كيف يفرّق بعض الفقهاء بين الزكاة والصدقات، بينما استدلّوا لعدّ أصناف مستحقّي الزكاة الثمانية ـ بقوله تعالى: [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] التوبة/60، وهي ذكرت صيغة الصدقات؟
القاعدة الثانية/ الزكاة كانت واجبة في العهد المكي، أمّا الأصناف والمقادير فحدّدت في المدينة:
يختلف الشهيد سبحاني مع الفقهاء الذين قالوا بأن الزكاة فرضت في العام الأوّل الهجري، بل يرى أنها كانت ـ بصورها البدائية ـ واجبة منذ أوائل الدعوة، ويستدلّ لذلك بعدد كثير من الآيات المكية التي تحدثت عن الزكاة، والإنفاق، وإطعام المساكين، والحضّ على إطعامه([17]).
ولتوضيح الأمر يرى الشهيد أن التباساً قد وقع في هذا الموضوع، ففي عهد مكة كان المكلّف لإخراج الزكاة مالك المال نفسه، وليست الدولة. ولكن في عهد قيام المجتمع الإسلامي والحكومة الإسلامية، اقتضت الأمور أن يُؤخذ بعض من أموال الأغنياء أخذاً، ويُجمَع، وتُوَزّع على مستحقّيها. فالذي حصل في المدينة هو جمع بعض الأموال عن طريق الجُباة، وتحديد المقادير والأنصبة([18])، وتعيين المستحقين، لا فرض الزكاة، لأنها كانت مفروضة في العهد المكيّ كتكليف شخصي..
القاعدة الثالثة/ الزكاة فريضة في (العفْو)([19])، أي فيما زاد عن الحاجة:
للشهيد سبحاني رأي خاص في مقادير الزكاة والنِّسَب المستخرجة من الأموال، فهو يرى أن قوله سبحانه: [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ] البقرة/ ٢١٩، أساس يقوم عليه نظام الزكاة والإنفاق. فهو يرى أن العفْو ما زاد عن حاجة الإنسان. وبما أن طاقات الأفراد واقتداراتهم على كسب الأموال مختلفة، فعلى من زوّده الله بالقدرة العالية على كسب الكثير، أن ينفق ممّا زاد عليه.
ثم إن تقدير ما هو في دائرة الحاجة، وما هو زائد عنها، متروك للعرف العام، وللضوابط الكلية. فهو يرى ـ مثلاً ـ أن الزارع الذي يعيش على محصول زرعه، يكون ما يحتاج إليه هو ما يكفيه من حين يحصد الزرع إلى يوم حصاده في العام القادم، يسدّ به حاجاته في المأكل والمشـرب والملبس والمركب، وكذلك حاجات من يعينهم، فيأخذ ما يكفيه لعام، وما يحتاج إليه في مواصلة الزرع والوسائل الضـرورية لعمله، فما زاد عن كل ذلك فهو العفو. وكذلك يرى أن رأس مال التاجر الذي وظّفه لعمله، ولم يكنز منه شيئاً، فهو حاجته، مع ما يحتاج إليه في سنة. وكذلك الشاب الذي لم يتزوج، والذي لا يملك السّكَن، والمريض الذي بحاجة للعلاج، والمتعلّم الذي يحبّ مواصلة الدراسة، وغيرهم من ذوى الاحتياجات، فلا يؤخذ ممّا هو ضـروري لإكمال عملهم، فدائرة الحاجيات واسعة، وليس كما يُظَنّ في بادئ الأمر.
القاعدة الرابعة/ الحكومة تجمع بعض أموال الزكاة، لا كلّها:
يرى العلامة سبحاني بأن الحكومة لا تتمكن من كشف كل ما زاد عن حاجة الناس، وأن هذا الأمر فيه تقييد لبعض الحريّات. وعليه، فالدولة تجمع بعض أموال الزكاة، لا كلّها. وهو يرى أن المكلّف بإخراج الزكاة ـ في العهد المكي ـ هو المزكّي نفسه ـ كما أشـرنا في النقطة الثانية ـ، ولكن في عهد وجود الدولة، فهي تنظر في مستوى المعيشة، وفي مقادير أموال الناس، لتقرر أنصبة الأموال الزكويّة ومقاديرها. ويجب عليها أن تعيّن عمّالاً يقومون بجمع المقّدر من الزكاة، لتنفقها على المستحقين المذكورين. ولكن ليس ما تأخذه الحكومة هو كل الزكاة، لأن هذا أمر غير ممكن، فالقانون ـ عادة ـ يوضع لما يعمّ الناس. ويستشهد لذلك بالآيات التي تذكر حالتي السـّر والعلانية في الإنفاق، متسائلاً: كيف يتحقق الإنفاق سـراًّ إن أُخذ من المؤمن كل ما زاد عن حاجته؟ قلت: والدليل الأقوى من ذلك هو ورود حرف (من) التبعيضية في قوله تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] التوبة/103، فهي واضحة في إقرار الأمر.
القاعدة الخامسة/ الزكاة تتعلّق بكل ما هو مكتسب، وكذلك كل ما هو مستخرج من الأرض:
يخالف العلامة ناصـر سبحاني العديد من الفقهاء في موضوع المقادير والأنصبة وأعيان الأموال التي يجب فيها استخراج الزكاة.. فهو يرى أن الزكاة تتعلّق بكل مال زاد عن الحاجة، أمّا تحديد الأنصبة والمقادير، فهو من عمل الدولة، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقوم بها باعتباره رئيس القوّة التنفيذية، فكان يعيّن نصاباً في مال من الأموال، ويكلّف من يملك ذلك النصاب بأن يخرج مقداراً منه لتصـرفه الحكومة على مستحقّيه. فكان ينظر إلى مستوى المعيشة في المدينة وما حولها، ويدقّق في حاجات الناس، ثم يحدّد نصاباً وفق تلك التقديرات ـ لا أن هذا النصاب هو المفروض دائماً ـ لأن الأصول الكليّة مقرّرة في القرآن، وكل ما يأتي من التبيينات من قبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكون في خدمة تلك التبيينات، ولا يمكن أن تتعارض معها. فإذا ثبت ـ في أيّ وقت، وأيّ مكان ـ أن تنفيذ تلك الأنصبة ضارّ بتلك الأصول القرآنية والقواعد العامة، فيثبت أن أمره (صلى الله عليه وسلم) في التحديد تبيين لظرفه فقط، وليس تحديداً على الإطلاق.
هكذا، فالمشـرّع ـ في كل عهد ـ ينظر إلى مستوى المعيشة في بيئته، ويلاحظ ظروف الناس ودخلهم وحاجاتهم، ثم إثر ذلك يقوم بتحديد مقادير الزكاة: العُشـْر، وربع العشـر، ونصف العشـر، وغيرها. وبناء على ذلك قيل في الفقه ـ في يوم من الأيام ـ أن حفنة من الشعير هو كفّارة لحنث اليمين، فهل يتناسب مع روح الشـريعة ومقاصدها أن يقوم شخص ـ في عصـرنا ـ فيعطي حفنة من الشعير لمسكين، كفّارة لحنث يمينه، مثلاً؟!
وكذلك يرى الشهيد أن قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ..] البقرة/٢٦٧، لدليل لا يبقي أيّ شكّ على أن الزكاة ليست محصورة في أموال معيّنة. فقال في تفسيرها: “قوله سبحانه: [طيّبات ما كسبتم] يشمل كل ما يحصل عليه الإنسان عن طريق العقود والمبايعات؛ كالبيع والإجارة والتجارة والجعالة وغيرها. وقوله: [مما أخرجنا لكم من الأرض] يشمل كل النباتات والأشجار والفواكه، والمعادن، والحيوانات. وبناء على هذا يرى أن هذه الآية هي القاعدة المبيّنة لما يجب فيه إخراج الزكاة. وهذا يثبت أن مصادر الدخل لا تخرج عن هذين: إمّا مال مكتسب، وإمّا إنتاج أرض.
ثم يؤكّد الشهيد أن أمر [أنْفِقُوا] ليس للندب ـ كما قال من قال ـ لأنه ليس هناك قرينة صارفة. كما يؤكّد أن حصـر [ما كسبتم] في مال التجارة، لا دليل عليه، ولا ينبغي أن يقال. فهو يرى أن علّة تحديد التّمر والعنب ـ مثلاً ـ لإخراج الزكاة، ترجع إلى وجود شجر النخيل والكرم بكثرة في جزيرة العرب، لا كونهما الثمرين الوحيدين لإخراج الزكاة فيهما. وكذلك علّة تحديد البُرّ والعدس والشعير والحمص وغيرها، إنما جاء لأنه لم يكن هناك من الزروع ما يكون ثمارها زائداً عن الحاجة غير تلك في ذلك الزمن، وإلا فكيف يمكن أن لا يُخرَج الزكاة في ثمرات كالجَوْز والفستق والبندق مثلاً، أو من فواكه كالموز والتفاح والإجاص وغيرها، وهناك من يستحصل الملايين عن طريقها؟. فالشهيد يرى أن ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأيّ نوع ممّا اشتهر بأنّ فيه الزكاة، هو بيان لواقع كان يعيشه، فقال: في كذا من الثمار، كذا من المقدار للزكاة، لا أن الزكاة لا تجب في غيرها.
وكذلك الأمر في الحيوانات والمواشي، فأيّ فرق بين من يمتلك مشاريع تربية الدواجن والأرانب مثلاً، أو الأبقار والخيول والكانغرو مثلاً، أو غيرها؟
هذا ما رآه العلامة سبحاني، علماً أن جمهور الفقهاء متّفقون على أن الزكاة لا تجب إلا في خمسة أشياء، هي: “1 ـ النعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، في تفصيل لا محلّ لذكره هنا. 2 ـ الذهب والفضة. 3 ـ عروض التجارة. 4 ـ المعادن والركاز. 5 ـ الزروع والثمار.. ونصّوا على أنه لا زكاة في غير ما بيّناه من الحيوان، فلا زكاة في الخيل والبغال والحمير وغيرها، إلا إذا كانت للتجارة([20]).
ولقد رأى فقهاء الحنفية أنه “يجب أن يخرج زكاة كل ما تخرجه الأرض.. سواء كان قليلاً أو كثيراً، فلا يشترط فيها نصاب ولا حَوَلان حَوْل.” ولكن الشافعي أكّد في (الأمّ) أنه: “لا يؤخذ من شيء من الشجر غير النخل والعنب”، ونصّ على أن الزيتون والجوز واللوز وغيرها لا يؤخذ منها، ويعلّل لذلك بأنها فاكهة، وأنه لم ير شيئاً منها قوتاً لأهل الحجاز”([21]). وهذا يؤكّد رؤية الشهيد سبحاني بأن الأمر متروك لأولي الأمر في كل زمن، نظراً لتباين الاستعمالات لتلك الثمار.
والمعروف أن قاعدة الشافعية والمالكية: أنه “إنّما تجب الزكاة فيما يُكال ويُدّخر للاقتيات، بخلاف الحنابلة القائلين بعدم شـرط الاقتيات. كما أوجب الحنفية الزكاة في الخضـروات ـ وفيه تفصيل ـ استناداً على آيات قرآنية، منها قوله تعالى: [خذ من أموالهم صدقة..] التوبة/١٠٣، وقوله: [ومما أخرجنا من الأرض] البقرة/٢٦٧، وقوله: [وآتوا حقّه يوم حَصاده] الأنعام/١٤١، وهي لم تحدّد نوعاً معيّناً.
4 ـ رأي العلامة سبحاني في حِكَم الحج والمناسك:
للشهيد سبحاني قصة طويلة مع الحج، فهو لم يحجّ قطّ، ولم يعتمر، لأن الظروف الاقتصادية والأمنية والسياسية لبلده لم تسمح له بتحقيق تلك الأمنية التي كان يحلم بها. إلا أنه قد ألقى عشـرات الدروس العلمية على طلابه ومحبّيه حول الحج والعمرة والمناسك فيهما، وهي من أروع الدروس الفكرية والإيمانية والتربوية.. فالذي يستمع إلى دروسه حول الحج([22]) ـ التي استنبط جلّها من آيات القرآن الكريم والسيرة النبوية ـ لا يعتريه أدنى شكّ بأنّه قد سافر إلى ديار بيت الله والمشعر الحرام، علماً أنه لم يشاهدها إلا عَبْر التلفاز، ولكن المستمع يغمره إحساس غريب، ويتساءل: كيف تمكّن هذا الرجل من تصوير تلك المشاهد؟ وكيف شعر بتلك اللذة والسعادة التي تتقطّر من كلماته، حينما يتحدث عن الإحرام والطواف، ومعالم مزدلفة، والشعائر، والقلائد، والمشعر، ورمي الجمار، والفدية، والحلق، والتقصير، وغير ذلك. إن دروسه تلك – بحقّ – من أروع ما قيل في ذلك الباب، فلقد استنبط عشـرات الدروس الفكرية والمواعظ الإيمانية والمشاعر الروحانية، وصوّرها في أروع صورة.. وتأكيدي هذا يُلزمني أن أنقل للقارئ بعض ما قاله في الحج وأركانه ومناسكه.
فلنبدأ بتعريفه للحج([23])، فهو عنده يعني: “تغيير المؤمن وجهته من كل ما سوى الله، في عموم مسائل الحياة ومجالاتها، وعدم الالتفات إلى كل الآلهة المصطنعة، والتوجّه نحو مركز حاكمية الله في أرضه (بيت الله الحرام)”([24]). والمناسك ـ في نظره ـ تعبير آخر عن العبودية الخالصة، حيث إن المنسك من النّسك، بمعنى العبادة الخالصة، البعيدة عن شوائب كل المتعلّقات الدنيوية. ويصوّر سبحاني للمؤمن أن لدين الله مشاهد، ولرواية الدين المفصّلة محطّات، ولأبطال تلك الرواية مواقف، وفي تلك البيئة التي تسمّى أرض الحجاز آثار لذلك الدين، وتلك الرواية وأبطالها.. ولهذا فإن من حكمة الحج – في نظره – تثبيت ذكر الله وآثاره في قلب المؤمن، لكي يتيقّن أنه لا معبود ولا إله بالحقّ إلا الله، فهي وسيلة لتحقيق ذلك.
انظر إلى تصويره للطواف حول بيت الله الحرام، يقول بالحرف: “لا بدّ للمؤمن ألا يقف لحظة في سَيْره على مسيرة عبودية الله وطاعته. وحينما يتجّه المؤمن السائر هذا نحو بيت الله، الذي هو عاصمة إدارته، فالسيْر ينتهي بطبيعة الحال بالوصول إلى البيت. وبما أن تسبيح المؤمن لا بدّ ألا ينتهي ـ والتسبيح هو السير دون توقف ـ، وبما أن بيت الله نهاية مطاف زائره، وهو المأمور بعدم التوقف، فهو يستمر في السير بصورة دائرية حول الكعبة، لأن في هذا النوع من الحركة الاستمرار والديمومة والنجاة من الوقوف الذي لا يليق بجلال الله وعظمته، لا سيّما قرب بيته، وفي مركز عاصمته في الأرض!”([25])
هذا غيض من فيض ما سجّله العلامة سبحاني في بحوثه حول الحج وحِكَمه، ولقد فصّل الحديث عن حكمة كل حركة، وكل منسك، وكل عبادة يقوم بها الحاج أو المعتمر، بأسلوب علمي رائع، يعبّر عن مدى تعمّقه في فهم كتاب الله، ومدى علوّ يقينه بأحكام شـرع الله. وإلى مقال قادم، ومناقشة جانب من آرائه حول مسائل النكاح والطلاق وأحكام الزوجية، بإذن الله تعالى.
[1] يرى المؤرّخون أن استمرار الحكم الإسلامي طيلة (800) سنة في الأندلس (93 ـ897هـ/711 ـ1492م)، كان سبباً لانفتاح أوروبة على الفقه الإسلامي، إلى درجة أن بعض حكوماتها أنشأت مجلساً استشارياً من فقهاء المسلمين، كما فعل (وليم الثاني) (1166 ـ1184م)، وأرسلوا خيرة أبنائهم للدراسة في (الأندلس)، ممّا أثّر في انتشار أحكام الفقه الإسلامي في قوانينهم، إلى حدّ يلاحظ الفقهاء أن 90% من القانون المدني الفرنسي مأخوذ من الفقه الإسلامي. (انظر: خليل عصـر، أثر الفقه الإسلامي على القوانين الغربية، محاضـرة ألقيت عام (2007م)، انظر موقع: www.alliedlegals.com ، وانظر: عبد العزيز بن عبد الله، معلمة الفقه المالكي، الرياض، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1403هـ/1982م، ص: 41 ـ45.
[2] الفيروز آبادي، قاموس المحيط، 1614.
[3] الفراهيدي، العين، 751.
[4] ابن الأثير الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، 714.
[5] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، 642.
[6] المصدر نفسه, 742.
[7] صديق القنوجي، أبجد العلوم، 457.
[8] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت، دار الكتاب العربي، 1425ه/2005م، 28.
[9] ابن خلدون، المقدمة, 1/341.
[10] ناصـر سبحاني، أسس التصورات والقيم، ص: 111.
[11] المصدر نفسه، ص: 114.
12 للعلامة سبحاني عشرات الساعات من الحديث عن الصلاة باللغات العربية والكوردية والفارسية، وله تحقيق حول الصلاة في القرآن، لم يسبقه إليه أحد من الفقهاء ـ في هذا المجال ـ . ولقد حاولت استجماع ما قاله حول الصلاة، إلا أنني لاحظت أن ما تضمّنه محاضـراته العربية حولها شاف وجامع في ذلك، وجلّ ما أنقله في هذه الفقرة هو من تلك المحاضـرات، مع إضافات له في عدد آخر من دروسه وكتبه.
[13] انظر: ناصـر سبحاني، العبودية، باللغة الكوردية، السليمانية، مؤسسة برهم، 1433ه/2012م، ط4، ص: 233. والكتاب في الأصل تنزيل لـ (13) ساعة من المحاضرات حول العبودية.
[14] الزكاة في اللغة بمعنى النموّ، يقال: زكى الزرعُ، إذا نما. قال الراغب الصفهاني: أصل الزكاة النموّ الحاصل عن بركة الله. وسُمّي الزكاة زكاة لما يكون فيها من رجاء البركة، أو لتزكية النفس، أو لهما جميعاً. (انظر: مفردات ألفاظ القرآن، ص: 381).
[15] جلّ ما ورد في هذه الفقرة من أقوال الشهيد، وآرائه، مأخوذ من المحاضـرة الخاصة له حول الزكاة. ولهذا اكتفيت بهذا التنويه هنا.
[16] قال القاضي ابن العربي: “الصدقة مأخوذ من الصِّدق، في مساواة الفعل للقول والاعتقاد” (أحكام القرآن، 2/946).
[17] وردت عشـرات الآيات في السور المكية حول الزكاة والإنفاق، بصيغة الزكاة وصيغة الإنفاق.. وهي تثبت صوابية ما ذهب إليه الأستاذ سبحاني.
[18] الأنصبة جمع نصاب، وهو في الشـرع: (ما نصبه الشارع علامة على وجوب الزكاة, سواء كان من النقدين، أو غيرهما) (عبدالرحمن الجزري، الفقه على المذاهب الأربعة، ص: 347).
[19] العفو في اللغة: الفضل والزيادة، وفي المال: أَحَلَّه، وأطْيَبه. وقيل: عفو المال، ما يفضل عن النفقة. (انظر: الفراهيدي، العين، ص: 657، والفيروز آبادي، قاموس المحيط ، ص: 1693، والرازي، الصحاح، ص: 442).
20 انظر للتفاصيل: الشوكاني، نيل الأوطار، ص: 799 ـ814. والجزري، الفقه على المذاهب الأربعة، 4/348 ـ349. والشافعي، الأم، ص: 264.
22 سجّلها في عشـرات الساعات، وطبعت من قبل مؤسسه برهم، في كوردستان العراق.
[23] ناصـر سبحاني، نظرة حول المفردات والمفاهيم القرآنية، ص: 117.
24 عرّف اللغويون الحج بأنه: كثرة القصد إلى من يُعَظّم، والقدوم. (الفراهيدي، العين، ص: 172، والرازي، الصحاح، ص: 122، والفيروزآبادي، قاموس المحيط، ص: 234).
[25] محاضـرات حول الحج، ناصـر سبحاني.
العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون