تحرير الدين من السياسة
سالم الحاج

الدعوة إلى تحرير الدعوة والدين من براثن السياسة واستغلالها وصراعاتها، هو أمر في مصلحة الدين بالدرجة الأولى، ولا أعتقد أن أحداً يشكك في ذلك.. ولكن دعنا نتفق على الأوليات والأولويات أولاً، فهناك دعوة أخرى أوجب وأولى، وهي الدعوة إلى تحرير السياسة نفسها من براثن الاستبداد والتسلط والحكم الفردي، وإعمال الشورى والديمقراطية، وتحرير الأوقاف و(المؤسسة الدينية) – بتفاصيلها وحيثياتها –، ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى كافة، بما فيها الصحافة والإعلام، من تغول السلطة.. إن الدعوة إلى تحرير الدين من براثن السياسة لا تستقيم ولا تؤتي ثمارها، من دون حياة ديمقراطية سليمة، وحرية للصحافة والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، واستقلال للسلطة الدينية ومؤسساتها من استغلال السلطةوتغوّلها؛ فهما وجهان لعملة واحدة، ولا استقلال للدعوة، ولا حرية للدين، في ظل أنظمة دكتاتورية تسلطية!..
إن الأحزاب الإسلامية – وهي مربط حديثنا هنا – لم تلتفت إلى السياسة، من باب الترف أو المنافسة على المناصب والكراسي، بل لقد دلفت إليه من باب مقاومة المحتل وتحرير الأوطان؛ ولكنها لما خرج المحتل وسرقت الأوطان، وجدت نفسها على هامش السياسة، ففُتحت لها أبواب السجون والمعتقلات، واغتيل قادتها بأساليب عديدة.. فزادها ذلك تشبثاً بهويتها الدينية، حفاظاً على وجودها، ودفاعاً عن أهدافها وغايات تأسيسها..
نعم، قد تكون أخطأت في محطات عديدة، ولكنها – في النهاية – هي الضحية، وأما الجلاد، فهو معروف يشار إليه بالبنان؛ يُمسك بالسلطة، ويتلاعب بمقدرات البلاد والعباد، ويؤسس لأنظمةٍ دكتاتورية ترهن العباد والبلاد لمصالح ومؤسسات الأجنبي، من أجل أن تغض الطرف عنه، وتساعده في نهب ثروات البلاد، واستعباد الناس..
فإذا أردنا اليوم من هذه الأحزاب الإسلامية أن تنأى بنفسها عن السياسة، وتعتزل الشأن العام، فما هو المقابل الذي تحققه في سبيل ذلك؟ ولماذا توجه مثل هذه الدعوة إليها هي دون بقية الأحزاب؟! يقولون إنها كانت بلاء على شعوبها، والحقيقة – كما أشرنا – واضحة، وهي أن الأنظمة السياسية المتسلطة؛ التي حكمت البلاد منذ خروج الاستعمار وحتى اليوم، هي التي جلبت كل البلاء على شعوبها وبلدانها، وارتهنتها ومقدراتها وثرواتها إلى الأجنبي الغادر، من أجل حماية أنفسها ومكاسبها الضيقة، على حساب الوطن والمواطن..
ويقولون أيضاً: إنها وبعد عقود طويلة من ممارسة العمل السياسي، لم تستطع أن تحقق أهدافها، ولم تجلب إلى أوطانها ومنتميها سوى الخراب والعذاب.. وذلك صحيح تماماً، ولكنها ليست الصورة كلها.. فبلاد العرب والمسلمين لم تكن سوى ما وصفنا من اعتلاء أنظمةٍ تسلطية فردية سدّة الحكم، وقبولها لتبعية بلدانها للدول الاستعمارية الكبرى، ورهن مصيرها بها، في مقابل إطلاق يدها، وبناء أنظمة بوليسية تسلطية أمنية، تستأسد على مواطنيها، وتتذلل وتستجدي عطف ومساعدة الأجنبي! فهل كانت الحركات الإسلامية في ظل هذه الدول القمعية البوليسية الوظيفية، بقادرة على تحقيق أهدافها، حتى تتهم بالعجز والتقصير؟!.. على العكس، فلقد افتدت هذه الحركات مجتمعاتها، وتحملت عنها كثيراً من الأذى والعذاب، ولولاها وتضحيات أبنائها، وجهادهم الفكري والعلمي والاجتماعي التربوي، لكان أثر التغريب والمسخ الثقافي، على هذه المجتمعات أكبر بكثير مما هو عليه الحال اليوم..
إنني لا أبرئ الحركات الإسلامية من كل تقصير، ولا أقول إنها لم ترتكب أخطاء تكتيكية أو استراتيجية، ولا هي نفسها تدعي ذلك.. ولكني أقول إن هناك مجموعة من العوامل الموضوعية كانت وراء نشأتها وظهورها، واستمرارها فيما بعد، وإن الاستبداد السياسي، ووأد الحريات، والتفرد بالحكم، والتبعية للأجنبي، كلها آفات ضخمة تفتك بالبلاد، ولا يسع الحركات الإسلامية في ظلها أن تفكر باعتزال الشأن العام والسياسة، والانصراف إلى شؤون أخرى دعوية وتربوية وعلمية.. وإن فعلت ذلك مجموعة، وأعلنت اعتزالها للشأن السياسي، فستقوم غيرها بما انصرفت عنه، وتواصل مسيرةً، يعدّها كل مسلم من صلب دينه وعقيدته!
ما أريد أن أصل إليه هو: إن الدعوة إلى تحرير الدين و(الدعوة) من تحكم السياسة وتسلطها، لا بد أن يسبقه ويوازيه دعوة إلى تحرير السياسة من التسلط والدكتاتورية والاستبداد، وتحجيم (السلطة) بما يكافئ دورها المنوط بها في خدمة الوطن والمواطن، ومنعها من التغول على بقية السلطات، وابتلاعها للحريات وللمجتمع المدني والإعلام والأوقاف و… و…
إذا تمكنت شعوبنا من بناء أنظمة حكم ديمقراطية، تقوم على أساس تداول السلطة، وفصل السلطات، وحرية الصحافة والإعلام، وحرية مؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك حرية المؤسسات الدينية، واستقلاليتها، وحرية الأوقاف، وإخراجها من تغوّل السلطة التنفيذية واحتكارها، وحرية ممارسة النشاط السياسي وتكوين الأحزاب، فآنذاك وفي مثل هذه المجتمعات تنتفي حاجة البعض إلى الاحتماء بالدين، ورفعه شعاراً لنشاطها السياسي، كما أن السلطة السياسية ذاتها – من جانب آخر – تستغني هي الأخرى عن الحاجة إلى اللجوء إلى الدين، واستغلاله، لدعم نفوذها وتلميع صورتها.. وآنذاك، فإن الدين سيتحرر تلقائياً من كافة المتاجرين به، والمطبلين باسمه.. وهذا هو الطريق الصحيح لحرية الدين والتدين!
إننا بحاجة إلى ميثاق اجتماعي جديد، تتفق فيه القوى الوطنية كافة – بإسلامييها وعلمانييها – على دستور يقرّ حرية الدين، ويحرّره من تسلّط السياسة، و يقنّن حرية السياسة، ويؤمّنها من التفرّد والدكتاتورية، ويؤسّس لميلاد مجتمع مدني، واستقلال السلطة القضائية، والمؤسسة الدينية، وحرية الصحافة والإعلام.. وآنذاك فقط يمكننا الذهاب بعيداً والحديث حتى عن تحريم تأسيس الأحزاب على أسس دينية أو طائفية، لأنه لا حاجة إليها فعلاً في ظل أنظمة ديمقراطية راشدة، تحترم مواطنيها، وتؤمن بحقوقهم السياسية والمدنية!
أما والحال على ما نرى ونشاهد، فمن الخطل مطالبة الآخرين بما نعجز عن تحقيقه والالتزام به.. ومن أهمّـته شؤون الأمة، وأنطقه الحرص عليها وعلى مصالحها، فليأت البيوت من أبوابها، وأول الغيث قطر، وأول الإصلاح دعوة صادقة، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة!