حول انهيار العملية التعليمية في المدارس والجامعات العربية

أ. د. عماد الدين خليل

عبر العقدين الأخيرين من القرن الماضي بدأت نذر السوء التي تجمعت روافدها لكي تقود إلى هذا الذي نشهده بأمّ أعيننا من تدّني مستويات التعليم والتلقّي في مدارسنا الابتدائية وإعدادياتنا وجامعاتنا ودراساتنا العليا. ولقد كان للقفزات التقنية المدهشة في آلية التواصل السريع عبر الانترنيت والهاتف النقال والفضائيات.. على ما قدمته هذه التقنيات من خدماتٍ كبرى للباحثين والمثقفين، بإيصال المعلومة إليهم بسرعة البرق؛ بحثاً أو كتاباً أو خبراً أو تعليقاً، وهم قاعدون مستريحون في بيوتهم قبالة الشاشة الصغيرة وأزرارها السحرية.. دورٌ ملحوظٌ في ذلك.

لكن هذا الجانب الإيجابي لما يمكن أن تقدّمه تكنولوجيا المعلومات لم يكن سوى الوجه المضيء للظاهرة، بينما كان يختفي وراءه ذلك التوجّه المظلم إلى سحب معظم المثقفين والباحثين عمّا يمكن أن يجعل منهم مفكرين ومبدعين وكتاباً متميزين، وحملة شهادات عليا يشار إلى أصحابها بالبنان.

ذلك هو (الكتاب).. القراءة المتواصلة التي تمزج الليل بالنهار، حتى تدس الأنوف في التراب، والتي يدخل فيها المطالع طرفاً في الجدل والحوار مع معطيات الكتب التي يقرؤها على مكث، فقرة فقرة، وصفحة صفحة، فيختزنها في عقله، ويشكّل بها قدرته على الصعود المتواصل إلى آفاق العطاء والتميز والإبداع: عملاً تعليمياً، أم كتابةً وتأليفاً.

وهكذا تشكّلت الحلقة المفرغة التي يتخرّج فيها (معلم) الابتدائية فلا يكاد يقدّم لطلبته شيئاً ذا بال في سياقي المعرفة والتربية، لأنه هو شخصياً يعاني من الهزال في ضعف شخصيته وتهافتها، وفي قلة معلوماته، وضيق فضائه المعرفي.

وما يقال عن المعلم، يمكن أن يقال عن (مدّرس) الاعدادية، والأستاذ الجامعي، على السواء.. فلنبدأ رحلتنا المحزنة مع هذه المأساة منذ لحظاتها الأولى.

يوم أتيح لي أن أعمل في كلية آداب جامعة الموصل بالعراق، منذ سنة تأسيسها في خريف عام (1966م)، كنت ألتقي – عبر محاضراتي – بثلّة من الطلبة الذين كان الكتاب والمطالعة الخارجية خبزهم اليومي، وكانوا يسهمون معي في بناء المحاضرة، فما من سؤال يوجه إليهم حول هذا الكتاب أو المفكر أو ذاك، إلا وجدت نفسي قبالة عدد كبير من الأيدي المرتفعة تريد تقديم الجواب!

وقد أتيح للعديد من طلبة الستينيات والسبعينيات أن يواصلوا دراستهم للدكتوراه، وأن يعودوا لكي يعملوا في كليتي الآداب والتربية.. أحصيتُ يوماً عدد طلبتي الذين يعملون معي في كلية التربية، مدّرسين وأساتذة، فإذا بهم يتجاوزون العشرين.

ثم ما لبثت اللعنة أن حلّت، وكفّ الطلبة الجامعيون عن القراءة، وأصبحت كليتا الآداب والتربية تخرّجان أفواجاً من الأميين، أو أنصاف المتعلّمين، يرتدون زيفاً شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وعقولهم خواء.

ثلاثون سنة، كاد ريقي يجف وأنا أحاول جاهداً أن أعيدهم إلى جادة القراءة، كي يكونوا أكفاء ما حصلوا عليه من شهادات، فلم يلتفت إليّ أحد.. كنت أقول لهم إن عشرين سنة من الدراسة الجامعية التي تعتمد المقرر، وعشرين سنةً أخرى من الجلوس وراء الشاشة التلفازية الصغيرة، لن تخرّج كاتباً، ولا مفكراً، ولا مثقفاً، ولا أديباً، ولا مبدعاً، وأن الذي يخرّج هؤلاء هو الكتاب.. فلم يلتفت إليّ أحد!

ها هي أمتنا العربية كلّها تدخل النفق المظلم، وأنا قد مارست التدريس في عدد من جامعاتها، فلم أكد أجد في طلبتها، بل حتى في بعض أساتذتها، من قرأ كتاباً واحداً في العام.. وها هي ذي آخر الإحصائيات التي تملأ الفم بالمرارة، والتي صدرت عن منظمة اليونسكو قبل سنواتٍ قلائل: إن متوسط القراءة الحرة للطفل العربي لا يتجاوز الدقائق الست في السنة، مقابل (12.000) دقيقة للطفل في العالم الغربي! وفي دراسة دولية أخيرة حول معدّلات القراءة في العالم، أوضحت أن معدّل قراءة المواطن العربي سنوياً ربع صفحة، بينما معدّل قراءة الأمريكي (11) كتاباً. وتصدر الدول العربية سنوياً ما يعادل كتاباً واحداً لكل (300) ألف شخص، بينما تصدر دول الغرب، وخاصةً أمريكا، حوالي (85) ألف كتاب سنوياً. وتنتج إسرائيل وحدها (25-30) ألف كتاب سنوياً، وهو ما يعادل إنتاج الدول العربية مجتمعةً. وتكشف أحدث الإحصائيات أن الأوروبي يقرأ بمعدل (35) كتاباً في السنة، والإسرائيلي (40) كتاباً في السنة. أما العرب، فإن (80) شخصاً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة. ولكي تتم قراءة (35) كتاباً باللغة العربية، فإننا نحتاج (2800) عربياً.. والحصيلة: أن ثقافة أوروبي واحد = ثقافة (2800) عربي، وثقافة إسرائيلي واحد = (3200) عربي.

لقد سحب الأمّة العربية عن القراءة المتواصلة شيء يسمّى الشاشة الصغيرة، ومعها رغبة متأصّلة في الكسل العقلي والاسترخاء، والميل إلى قتل الوقت باللعب والأحاديث المكرورة.. أهكذا تؤول الأمّة التي نزلت أولى آياتها مؤكدةً على القراءة، والعلم، والقلم: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ](العلق: الآيات 1-5)، والتي ارتبطت لحظات خليقتها الأولى بالعلم، كما يحدّثنا كتاب الله: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ](البقرة: 31-33)؟!

إن نقطة الانطلاق للحل المطلوب، والبداية العملية الممكنة، تستدعي إحياء تقاليد المطالعة الخارجية (القراءة الجادة في الكتاب) لتنمية ثقافة الباحث، فبدون الفضاء المعرفي الواسع لا يمكن للباحثين أن يكونوا شيئاً، أو أن يضيفوا حلقةً ذات غناء إلى حياتنا العقلية، وهذا لن يتشكّل إلا بالعودة إلى تقاليد المطالعة الجادة في الكتب.

قبل أربعين، أو خمسين سنة، كان الجميع يقرؤون.. الطالب والمعلم والمدرس والأستاذ.. وكانت القراءة الخارجية خبزهم اليومي، يتابعونها صباح مساء، لا يكلّون ولا يملّون، فيشكّلون بذلك فضاءهم المعرفي، ويبنون شخصياتهم المؤثرة، ذلك أن الكتاب هو المدرسة الأمّ التي تعرف كيف تعين العملية التربوية – التعليمية على المضي إلى أهدافها المتوخاة.

ومنذ أربعين سنة، أو خمسين، كانت المكتبات العامة أشبه بخلايا النحل التي تعجّ بالقرّاء والمطالعين، وكانت الأجيال تداوم فيها عبر مرحلتين: صباحية ومسائية، ثم تعود ليلاً إلى الدار لكي تواصل القراءة حتى ساعة متأخرة من الليل.. وأية قراءة كانت تلك التي يتم الحديث عنها؟ إنها القراءة المنتجة، وليست الاستهلاكية.. القراءة التي تتشرب مفاهيم الكتاب، وتدخل في جدلٍ معه، والتي تنوّع في مطالعاتها في شتى مناحي المعرفة، ذلك أن التنوّع يعد ضرورةً من ضروراتِ تكوين الشخصية الفاعلة المؤثرة؛ فالاقتصار على القراءة في حقل التخصص يجمّد الفكر، ولا يعينه على الحركة المطلوبة في سنن الكتابة والإبداع.

القراءة والقراءة والقراءة حتى تدسّ أنوفنا في التراب، تلك هي الصيحة التي يجب أن نرفعها قبالة أنفسنا، وإزاء كل حملة الأقلام من علماء وأدباء الإسلام.. إنها الكلمة الأولى.. كلمة البدء التي تنزّل بها كتاب الله، والفعل الذي يتحتّم أن يكون الخبز اليومي للمثقف المسلم؛ طعامه وشرابه.

قد يبدو هذا أمراً اعتيادياً يوم كانت القراءة في العقود الماضية تقليداً سائداً في الحياة الثقافية، لكن الأمر يختلف في العقود الأربعة الأخيرة.. لقد غزتنا وسائل الترفيه السهلة، وحاصرتنا الهموم والمطالب المعيشية والوظيفية من كل مكان، وأخذ الزمن يضيّق علينا الخناق.. والكل يركضون وراء همومهم حتى اللهاث، وما تبقى من وقت يستلقون فيه على جنوبهم نائمين، أو باحثين عن الثقافة المتضحلة السهلة الميسورة، التي تنسجم وإعياءهم المقيم، ولا تكلّف جهداً عقلياً: قراءة الصحف والمجلات ودوريات تزجية الفراغ.

إنني أعرف العديد من الكتاب أنفسهم لا يكادون عبر الزمن الأخير يقرؤون شيئاً ذا قيمة، فماذا نتوقع أن تكون النتيجة؟ وكيف تكون النصيحة بالقراءة شيئاً مستهلكاً؟ إن الأمر جدّ، إذا استعملنا عبارة الكاتب الفرنسي (يونسكو)، وقبالته يجب أن نفعل شيئاً، وإلا استهلكنا الوقت، وفقدنا القدرة شيئاً فشيئاً على أن نقدّم للحركة الثقافية شيئاً ذا قيمة.

فإذا تذكّرنا أن زمننا هذا هو في الوقت نفسه، زمن الانفجار المعرفي، وسيول المؤلّفات التي تطلع على الناس في كل يوم، وأنه – كذلك – زمن التواصل الثقافي السريع، حيث ينتقل الكتاب من بلدٍ إلى بلد بسرعة الكهرباء، وحيث يترجم عن لغاته الأصلية أسبوعاً بأسبوع، ويوماً بيوم.. إذا تذكرنا هذا، عرفنا أن الأمر جدّ فعلاً، وأنه التحدي الذي تنوء به العصبة أولو القوة.. ولكن لا بدّ مما ليس منه بدّ.

لا بدّ أن نقرأ ونقرأ ونقرأ ما وسعنا الجهد، وحتى آخر حدود الاحتمال، وإلا ضعنا.. القراءة.. القراءة.. القراءة.. من أجل إعادة ترتيب ما كان، ومحاولة للسيطرة على ما هو كائن، والاستعداد لما سيكون.. العقل في أقصـى حدود الاحتمال، إذا استعملنا عبارة الكاتب الإنكليزي  هـ . ج . ولز..   

هذا ما يمكن أن يقال لكل أولئك الذين يطمحون لأن يقدموا شيئاً ذا قيمة لهذا الدين المتجذّر في العالم، والذي ينتظر الزرّاع لكي يستوي نبته الواعد على سوقه بإرادة الله – جلّ في علاه -..      
(اقرأ) هي التأسيس والمنطلق والرؤية ومنهج العمل، وما لم تصبح خبزنا اليومي، طعامنا وشرابنا.. نومنا ويقظتنا.. همّنا الذي يشعل فتيل القلق والتطلع في عقولنا صباح مساء.. فلن نستطيع أن نكون أكفاء لما يتطلبه هذا الدين وسط دوّامة التحديات وصخب التحولات الكبرى بين قرنٍ مضى وقرنٍ يطلع منتظراً إشارة الخلاص.

إننا لن نستطيع أن نلفت أنظار العالم إلى خطابنا المتميّز، الواعد بالتبديل والتغيير، ما لم نصبّ المزيد من الزيت على الحطب المشتعل.. والزيت هو القراءة.. هو المتابعة المتواصلة لكل ما تشهده ساحات المعرفة في حلقاتها كافة.. هو الحمّى التي تجعل المرء لا يرتاح إلا بأن يدفن رأسه في بحر الكلمة لكي يتعلم الكثير.. ولسوف يظل الأفق مفتوحاً للمشروع الكبير الذي نحلم به جميعاً: أن نصير أمّة من القرّاء والمثقفين، كما أراد لنا كتاب الله سبحانه وتعالى أن نكون.

بهذا وحده يمكن أن نجابه تحديات العصر ومتغيراته، وأن نجعل (كلمتنا) المؤثرة، ورؤيتنا للحياة والوجود، حاضرتين في قلب العالم، قديرتين على اكتساح كل ما لا ينسجم ويتواءم مع مطالب الإنسان، متجذرتين في الدنيا التي تتناوشها الأعاصير: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء](إبراهيم: 24).

إن كلمة (اقرأ) التي تنزّلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في (غار حراء)، هي البداية الصحيحة.. وهي فعل إيجابي، وليست أمراً بالنفي.. وكما قادت المسلم أوّل مرّة إلى تشكيل فعله الحضاري المتميّز، فإنها قديرة على أن تقودنا كرةً أخرى إلى استئناف الدور.. إنها ليست نصيحة تقليدية تزجى للقرّاء، ولكنها أمر إلهي إلى كل مسلم في هذا العالم الذي يضيع فيه من لا يحاول أن يبذل جهداً استثنائياً في قراءة الأشياء والسنن والنواميس والظواهر والموجودات، والتعرّف عليها.

 إن كل قارئ، وكل مسلم، بشكل عام.. مدعو اليوم لأن يمضي في درب المعرفة.. وأشدّد على الكلمة.. معرفة الآخر، ومعرفة العالم من أجل أن يتبيّن خرائطه جيداً، ويرى بوضوح موضع قدميه في عالم تصطرع فيه القوى، والويل لمن لا يحمل رايته المستقلة في خضم هذا الصراع.

إن طلبتنا ومعلمينا ومدرّسينا، وحتى أساتذتنا الجامعيين، لم يعودوا يقرؤون في العام الواحد كتاباً واحداً.. فأيّ شهادة تلك التي سيعلّقونها على جباههم الفارغة؟!

نحن معشر الكتاب نحاول ما وسعنا الجهد أن نقاوم هذه الظاهرة المخيفة، وأن ننفخ النار في الجذوة الخابية لكي تشتعل مرةً أخرى، وأن نمضي لكي نلتهم الكتب، ونغري الآخرين بالتهامها.. وأن نرفع دائماً شعار: القراءة هي ملح الحياة، وبدونها لن يكون لها طعم أو مذاق على الإطلاق.

إننا قبالة معادلة صعبة، وعلينا أن نستجيب لتحدياتها.. لأن أيّ توقّف، ولو لالتقاط الأنفاس، ومراجعة الحساب، سيجعل القطار يفوتنا، وسيمنع عنا الزاد والوقود الذي يعيننا على مواصلة الطريق، ولن يكون بمقدورنا – يومها – أن نقدّم شيئاً جديداً، أو شيئاً ذا قيمة، إذا أردنا أن نكون أكثر واقعيةً وصراحةً.. ثم إننا في عصر الانفجار المعرفي والمتواليات الهندسية في دنيا النشر، وأن هذا يفرض علينا كفاحاً متواصلاً لمتابعة المتغيّرات المعرفية ومحاولة إدراكها، وإلاّ وجدنا أنفسنا يوماً خارج دائرة التاريخ.

  فإذا ما جئنا إلى الدراسات العليا، فإننا سنجد أنفسنا قبالة جملة من المشاكل التي نعاني منها، والتي قادتنا عبر العقود الأخيرة إلى تخريج مجموعاتٍ من الأميين، أو أنصاف المتعلّمين، بدلاً من المفكرين والكتاب والباحثين المبدعين، اللهم إلاّ في حالات استثنائية لا يقاس عليها، والاستثناء – كما هو معروف – يعزّز القاعدة، ولا ينفيها.

فيما مضى، عبر منتصف القرن الماضي، وحتى ستينياته وسبعينياته، كان قبول المتقدمين للدراسات العليا، لا يتجاوز – عبر الدورة الواحدة – خمسة طلبة للماجستير، وثلاثة للدكتوراه. وكان الأساتذة الذين يتولون تدريسهم في السنة التحضيرية، والإشراف عليهم عبر بنائهم لرسائلهم وأطروحاتهم، من الأساتذة الكبار ذوي الخبرة المشهود لها في مجال تخصصهم، وكانت النتيجة – بالتالي – تخريج عدد من حملة الماجستير والدكتوراه يملكون القدرة المتألقة على البحث والتأليف والابتكار والإبداع، كل في مجال تخصصه.

إن الغربيين يطلقون على العمل في الدراسات العليا اسم (التنسيق العظيم)، أي الجهد المتألّق على مستوى المنهج، والموضوع، والتوثيق، واللغة. وكان خريجو الدراسات العليا في ديارنا الإسلامية قديرين فعلاً على أداء مهماتهم الصعبة؛ تأليفاً وتدريساً، بأكبر قدر من الإحسان والإتقان.

ثم ما لبث أن جاء زمن الانكسار عبر ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، والعقدين الأخيرين من القرن الجديد، فإذا بجامعاتنا تقبل عبر الدورة الواحدة ما يزيد على العشرين طالباً للماجستير، والعشرة للدكتوراه، يمارس تدريسهم والإشراف على رسائلهم وأطروحاتهم أنصاف الأساتذة الجامعيين، ممن لا يملكون عشر معشار الخبرة التي كانت قد امتلكتها يوماً الأجيال السابقة.. فكيف سيكون الحصاد في ضوء هذه المعادلة الخاطئة، متمثلةً بالعدد الكبير من الطلاب الذين قبلوا في الدراسات العليا اعتماداً على معدلاتهم فقط، دونما نظر وتمحيص متأنٍ في قدراتهم الحقيقية على حمل الشهادة العليا، والمضي في طريق البحث المبدع والتدريس المتألق؟ هل سئل أحد المتقدمين – كما كان يحصل في الزمن الماضي – أي الكتب أنجز قراءتها؟ وما هو مردود تلك القراءة على الخزين العقلي والإبداعي للطالب المتقدم؟ أبداً. ولقد حدث وأن سألت اثني عشر طالب دكتوراه، كنت ألقي محاضراتي عليهم عام (2011م)، في كلية آداب جامعة الموصل، عن عدد الكتب التي قرأوها عبر ذلك العام.. فكان الجواب المحزن أن ثلاثةً منهم فقط قرأوا كتاباً أو كتابين، والتسعة الآخرون لم يقرأوا كتاباً واحداً عبر عام بأكمله.. فما كان مني إلاّ أن أقول لهم: إنكم ستتخرّجون بكل تأكيد.. وستمنحون شهادة الدكتوراه بكل تأكيد، فالذي يضع قدمه على منصّة المناقشة لا بدّ وأن يحظى بالمطلوب، حتى ولو كان أميّاً.. ولكنكم وقد تلفّعتم بشهادة الدكتوراه، لن يكون بمقدوركم أن تقدّموا شيئاً مبدعاً على مستوى التدريس، أو التأليف، أو حضور السيمنارات والندوات والمؤتمرات، ولسوف ينكشف عواركم أمام طلبتكم، الذين يعرفون جيداً أساتذتهم المتفوقين، أو المنطفئين!

وها نحن نرى بأمّ أعيننا، في كل قسم علميٍ من أقسام الكليات الإنسانية، حشوداً من الأساتذة والتدريسيين من حملة الدكتوراه والماجستير، لا نكاد نجد لهم وزناً في العملية التعليمية، أو في سياق الكتابة والبحث والإبداع.. ولولا ضرورات الترقية العلمية، لما كلّف أحدهم نفسه بكتابة بحث موجز واحد عبر مسيرته التعليمية، وبالتالي فإن المرء يجد نفسه بسهولة بالغة وهو يمارس تقويم بحوثهم هذه، كيف أنها تعاني من الكساح والهزال على مستوى المنهج والموضوع والتوثيق.. ولكنها الضرورات التي تبيح المحظورات.

أما على مستوى اللغة، فقد أتيح لي مناقشة عشرات الرسائل والأطروحات، فوجدت في معظمها سقماً في التعبير، وجملةً من الأخطاء اللغوية والنحوية، وحتى الإملائية، بحيث إنك لا تستطيع أن تواصل قراءتها دون أن يصيبك الغثيان، ويجرح أذنيك أسلوبها الكسيح.. والسبب الرئيسي يكمن دائماً في أنهم لا يقرأون؛ سواء وهم طلبة بعد، أو وهم مدرسون وأساتذة جامعيون.. وإنني لأعرف العدد الكبير منهم ممن تمر السنة والسنتان ولا يقرأون كتاباً واحداً، فكيف سيكون الحصاد؟ إنك في الزمن الراهن تسمع جعجعةً ولا ترى طحيناً.

وهذا الأمر لا ينطبق على بلد عربي دون الآخر.. فلقد مارست التدريس في أكثر من بلد عربي، فوجدت نفسي قبالة طلبة يسألون أين يقع جبل أحد؟ فيقول أحدهم بعد ترددٍ: في مكة المكرمة.. أو ما هي أقسام كلية الآداب؟ فيكون الجواب: الكيمياء، أو الفيزياء.. وما يقال عن الطلبة، يمكن أن يقال عن العديد من الأساتذة والمدرسين، اللهم إلاّ إذا استثنينا منهم تلك النخبة المتألقة، والقديرة على تقديم شيء ذي غناء، على مستويي التدريس والتأليف!

ولقد جاءت الشاشة الصغيرة، بكل ما تنطوي عليه من مزايا، لكي تقود هؤلاء وأولئك، إلى الاعتماد الكلي على ما تقدّمه من معلومات.. في لحظاتٍ.. بل إلى أن تقود بعضهم الآخر إلى (السرقة) التي تغذّي رسائلهم وأطروحاتهم دون أن يبذلوا أيّ جهدٍ عقليٍ في جمع المادة وتركيبها وتحليلها.. وما أكثر الفضائح التي شهدتها العقود الأخيرة حول هذا الذي يُمارَس زوراً في إنجاز الرسائل والأطروحات.

إننا – والحق يقال – مقبلون على عصر الكسل العقلي، إن لم نسارع فنتدارك الأمر بتقليص عدد المقبولين لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، وعدم قبولهم إلا بعد تمريرهم على شبكة من الاختبارات، لمعرفة هل بمقدورهم أن يمارسوا (التنسيق العظيم) وهم يكتبون رسائلهم وأطروحاتهم، أم سيكونون عالةً على الشاشة الصغيرة، وأن دورهم لن يتعدى أجهزة الاستنساخ التي تقوم بمونتاج سريع لما تقدمه الشاشة، دون أن يبذلوا أي جهدٍ عقلي في بناء رسائلهم وأطروحاتهم، ذلك أن الشاشة الصغيرة إنما تقدم سندويتشات ثقافية، ولكنها لن تخرج بحال الكتاب والباحثين والمتألقين والمبدعين؟! ومرةً أخرى، فإن عشرين سنة من الدراسة الجامعية المعتمدة على المقرر، وعشرين سنة أخرى من الجلوس وراء الشاشة الصغيرة، لن تخرّج – بحالٍ من الأحوال – أولئك الذين يستطيعون بكتاباتهم المبدعة في هذا الحقل المعرفي أو ذاك، إغناء الحياة الثقافية بالمزيد من العطاء.. ذلك أن الكتاب هو المدرسة الأم التي تعرف كيف تعين العملية التعليمية على المضي إلى أهدافها المتوخاة.

العدد 188 ǀ صيف 2024 ǀ السنة الحادية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى