الاختلاف حول صحة إمامة المتغلب وتحقيق نصوص طاعة ولي الأمر (من كنوز قلائد الجمان شرح اللؤلؤ والمرجان) (القسم الثاني)

صالح شيخو الهسنياني

 ثالثاً- الحاكم الظالم: 

الرأي الأول- عدم جواز الخروج عليه:

  ذهب غالب أهل السنة والجماعة إلى أنه لا يجوز الخروج على أئمة الظلم والجور بالسيف، ما لم يصل بهم ظلمهم وجورهم إلى الكفر البواح، أو ترك الصلاة والدعوة إليها، أو قيادة الأمة بغير كتاب الله تعالى، كما نصت عليها الأحاديث السابقة في أسباب العزل.

وهذا المذهب منسوب إلى الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية، وهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبو بكرة (رضي الله تعالى عنهم أجمعين)، وهو: مذهب الحسن البصري، والمشهور عن الإمام أحمد بن حنبل، وعامة أهل الحديث([1]).

قال ابن مجاهد البصري الطائي([2]): إنهم أجمعوا على أن لا يُخرج على أئمة الجور([3]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “… ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم، إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر…”([4]).

وقال ابن بطال: “في هذه الأحاديث حجة في ترك الخروج على أئمة الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم. والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ألا ترى قولهﷺ لأصحابه: (سَتَكونُ أُثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)([5])، فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم، والتزام طاعتهم، على ما فيهم من الجور”([6]).

وقال النووي: “لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلَّا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيث ما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين. وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق. وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا، أنه ينعزل.

قال العلماء: وسبب عدم انعزاله، وتحريم الخروج عليه، ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه.

 قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل. قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات، والدعاء إليها. قال: وكذلك عند جمهورهم البدعة. قال: وقال بعض البصريين: تنعقد له، وتستدام له، لأنه متأوّل. قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع، أو بدعة، خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه.

 وقال جماهير أهل السنة؛ من الفقهاء والمحدّثين والمتكلّمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع. ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه، للأحاديث الواردة في ذلك”([7]).

وقال ابن حجر: “نقل ابن التين عن الداودي، قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور، أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم، وجب، وإلَّا فالواجب الصبر”([8]).

وقال اللالكالي: ” من خرج على إمام المسلمين، وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة، بأي وجه كان؛ بالرضا أو بالغلبة، فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله ﷺ، فإن مات الخارج مات ميتة جاهلية”([9]).

رأي ابن تيمية في الخارجين على الولاة:

 يعتبر ابن تيمية أن الخارجين على الولاة لا يخرجون عن أمرين اثنين:

 الأمر الأول: الخروج على الإمام عن تصوّر فاسد؛ وهو ما يكون عليه اعتقاد أهل البدع.

 الأمر الثاني: من يقاتل على اعتقاد رأي يدعو إليه مخالف للسنة والجماعة؛ كأهل الجمل، وصفين، والحرة، والجماجم وغيرهم، لكن يظن أنه بالقتال تحصل المصلحة المطلوبة، فلا يحصل بالقتال ذلك، بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت، فيتبيّن لهم في آخر الأمر ما كان الشارع دلّ عليه من أول الأمر([10]). 

الرأي الثاني- جواز الخروج عليه:

  ذهبت طوائف من أهل السنة، وبعض الأشاعرة والمعتزلة والخوارج والزيدية، وكثير من المرجئة، إلى الخروج على أئمة الجور، وسلِّ السيوف واستخدام القوة في تغيير المنكر، إذا لم يمكن دفع المنكر إلَّا بذلك، ولو لم يصلوا إلى درجة الكفر([11]).

  قال ابن حزم: “إن سلَّ السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يمكن دفع المنكر إلَّا بذلك… وهذا قول علي بن أبي طالب، وكل من معه من الصحابة، وقول أم المؤمنين عائشة، وطلحة، والزبير، وكل من كان معهم من الصحابة، وقول معاوية، وعمرو، والنعمان بن بشير، وغيرهم ممن معهم من الصحابة. وهو: قول عبد الله بن الزبير، ومحمد بن الحسن بن علي، وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرَّة – رضي الله عنهم أجمعين-. وقول كل من قام على الفاسق الحجاج، ومن والاه من الصحابة – رضي الله عنهم -: كأنس بن مالك. وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين… ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين، ومن بعدهم: كعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن عجلان، ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن، وهاشم بن بشر، ومطر الوراق، ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله، وهو الذي تدلّ عليه أقوال الفقهاء: كأبي حنيفة، والحسن بن حي، وشريك، ومالك، والشافعي، وداود، وأصحابهم. فإن كلّ من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه، وإما فاعل لذلك؛ بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكراً …”([12]).

وسائل عزل الحاكم الظالم

  قال الدكتور محمد عمارة: “لم يختلف أي من علماء الإسلام على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد أجمعو على التغيير السلمي – بالإصلاح – لنظم الجور والضعف والفساد، لكن الخلاف بينهم قام حول استخدام العنف (السيف – الثورة) في التغيير، لا كراهةً للتغيير، وإنما لاختلافهم في الموازنة بين إيجابيات وسلبيات استخدام العنف في التغيير. ولقد نهضت طبيعة مناهج التفكير، وملابسات العصر، بدور كبير في هذا الاختلاف.

  فالخوارج قد رأوا الخطر الأعظم، على الإسلام والمسلمين، في الانقلاب الأموي الذي حدث على فلسفة الشورى وعلاقة الحاكم بالمحكوم.. فرجحت لديهم كفّة الثورة – بل الثورة المستمرة – على كل المحاذير. والمعتزلة قد رأوا ذلك الرأي، مع نضج في الفكر السياسي، جعلهم يشترطون (التمكن)، الذي يجعل النصر محققاً، أو ظنّاً غالباً، لإعلان الثورة، تفادياً لما جرّته الهبّات والتمرّدات من مآسٍ وآلام، كما اشترطوا وجود الإمام الثائر.. أي الدولة والنظام البديل.. وأهل الحديث – بإمامة الإمام أحمد بن حنبل (164- 241هـ/780-855م) – قد رفضوا سبيل الثورة، لأنهم رجّحوا إيجابيات النظام الجائر على سلبيات الثورة.. فقالوا: “إن السيف (العنف) باطل، ولو قتلت الرجال، وسبيت الذّرية. وإن الإمام قد يكون عادلاً، ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته، وإن كان فاسقاً “، ومن أقوال ابن تيمية: “فستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان”([13]).

  والإمام الغزالي (450-505هـ/1058-1111م) – من الأشعرية – وقف موقف الموازنة.. فقال عن الحاكم الجائر: “والذي نراه، ونقطع به: أنه يجب خلعه، إن قدر على أن يستبدل عنه بمن هو موصوف بجميع الشروط، من غير إثارة فتنة، ولا تهييج قتال. فإن لم يكن ذلك إلَّا بتحريك قتال، وجبت طاعته، وحكم بإمامته؛ لأن السلطان الظالم الجاهل، متى ساعدته الشوكة، وعسر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق، وجب تركه، ووجبت الطاعة له”([14]).

 ومعنى هذا أنه إذا احتمل الناس تبعات الثورة وأطاقوها، ولم يكن التغيير عسيراً، فإن الثورة تجوز سبيلاً للتغيير. ونحن نلحظ أن أهل الحديث قد غلّبوا الالتزام بالمأثورات الداعية إلى طاعة الامراء، دون تمييز – أحياناً – بين (أمراء القتال)، الذين قيلت فيهم هذه الأحاديث، وبين أمراء وولاة الجور، الذي دار بشأن الثورة عليهم الخلاف. كما نلاحظ أن الفترات التي اشتدّ فيها الخطر الخارجي على الدولة الإسلامية – تترياً كان هذا الخطر، أم صليبياً – هي التي زادت فيها وعلت الأصوات الرافضة للثورة على ولاة الجور، وذلك تغليباً – في الموازنة – لكفّة الوحدة في مواجهة الخطر الخارجي، على كفّة الصراع الداخلي ضد ولاة الجور.. فالمواجهة المسلحة مع الكفار أوجب وأولى من المواجهة مع الظلمة والطغاة ([15]).

إن الجزاء السياسي للإمام الخارج عن الشريعة، المتمثل في عدم الطاعة، وعدم التعاون، مقدمة ووسيلة من الوسائل التي يجب اتّباعها في طريق عزل الإمام، إن لم يستجب لنداءات الإصلاح والتغيير. فإن لم يستجب، كان حقاً على المسلمين أن يعملوا على عزله، ولكن يجب اتّباع الطرق السلمية في العزل، لأن الإسلام يحرص على عدم إراقة الدماء، وعدم إثارة الفتنة بين المسلمين. لذا يجب على المسلمين محاولة عزل [الخليفة] بالطرق السلمية أولاً، ولا يلجأ إلى غيرها إلَّا عند الضرورة([16]). 

وللخروج على الحاكم، أو الخليفة، وسائل وطرق، منها:

أولاً- الوسائل السلمية لعزل الحاكم الظالم، ومنها:

 1. العصيان، أو المقاطعة:

 من الوسائل السلمية والمفيدة، في بعض الأحيان، التي يمكن من خلالها إجبار الحاكم غير العادل، أو الذي لا يؤدي صلاحياته بالتساوي مع كافة أبناء الشعب، وبأطيافه المختلفة، على الإصلاح والتغيير نحو الأحسن، أو الاستقالة والتنحي.

وهذا ما يسمى في مصطلحات السياسة الحديثة بالعصيان المدني، وهي مقاومة أو مقاطعة أو عدم تعاون ضد الدولة، أو بعض أفرادها، حتى لا يمكنها القيام بمهمتها على أكمل وجه؛ وهذا الأسلوب يمكن اتّباعه بعد النصح والإنكار القولي، فإذا قدّمت النصيحة، وتدّرج الإنكار، ولم يرتدع، حينها يجب مقاطعته وعدم التعاون معه.

وللعصيان المدني مظاهر كثيرة، منها: الامتناع عن دفع الضرائب، أو الامتناع عن الالتحاق بالجيش، أو امتناع الموظفين عن الدوام، وغير ذلك([17]).

2. عن طريق أهل الحل والعقد (مجلس الشورى):

  من الطرق السلمية لعزل الحاكم: قيام أهل الحل والعقد بعزله إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهي تقرّر استبدال الحاكم باختيار آخر مكانه، إنْ هي كانت السلطة التي اختارته بالأساس. فقرار أهل الحل والعقد وسيلة سلمية، وتتم أولاً بنصحه، وثم تحديد المهلة بفترة زمنية، لعله يعود إلى الصواب، وإذا لم يرجع فعليهم أن يعزلوه، ويسلكلوا في ذلك كل السبل المتاحة، بشرط أن لا يؤدي إلى مفاسد أكبر من المفسدة التي يرجون إزالتها بعزله([18]).

طريقة العزل:

 هي أن يتقدم أهل الحل والعقد الذين عقدوا البيعة للحاكم الجائر، وينصحونه، وينذرونه مغبَّة انحرافه، ويمهلونه، ويصبرون عليه فترة من الزمن لعله يرجع أو يرعوي عما هو عليه من ظلم وطغيان، فإن أصرّ على ذلك، فعليهم أن يعملوا لعزله بكل الوسائل الممكنة، بشرط ألَّا يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المفسدة المرجو إزالتها، لأن عزله هو من باب النهي عن المنكر، والمنكر لا يرفع بما هو أنكر منه. فيذهب إليه العلماء من أهل الحل والعقد، ويبينوا خطأه (ومدى عدم دستوريته، وشرعيته)، بصورة تفضي إلى إبطال حكمه، ووقف تنفيذه. ولكن إذا جوبهت قراراتهم بالتعنت من جانب رئيس الدولة، فإنه يغدو مستحقاً للعزل، ولكنه لا ينعزل إلَّا برأي الشعب الذي بايعه، فلا بد من إجراء استفتاء شعبي حول عزله، فإذا أسفرت النتيجة عن الموافقة على عزله، وإذا حال الحاكم دون إجراء هذا الاستفتاء، فإنه لا مناص حينئذٍ من عزله([19]).

 3. الاستقالة والتنحي:

 في هذه الوسيلة للعلماء آراء؛ منهم من يجيز العزل، ومنهم لا يجيز، لأن إلزامه بالعزل قد يضر بالمسلمين. ووازن بعض العلماء في عزله، فإن ترّتب على استقالته مفاسد لا ينعزل، وأما إذا كانت الاستقالة إخماداً لفتنة، فهي مقبولة ومحمودة.

كيفية العزل:

 بقاء الإمام، أو رئيس الدولة، في منصبه، منوط باستمرار صلاحيته لقيادة دولة مسلمة. وهذه الصلاحية متوافرة فيه ما دامت الشروط المطلوبة فيمن يصلح أن يشغل هذا المنصب موجودة فيه، وفقدان هذه الصلاحية موجب لترك منصب القيادة حتى يشغلها من هو صالح لها.

وسنتناول في هذا مسألتين هما: عزل الإمام نفسه، وانعزاله؛ لا عن طريق نفسه.

المسألة الأولى: عزل رئيس الدولة عن طريق نفسه:

 بيّن الفقهاء المسلمون أن عزل الإمام نفسه إما أن يكون لعجز أو ضعف؛ كمرض وهرم([20])، وإما أن يكون لا لعجز ولا ضعف، بل لإيثاره ترك هذا المنصب طلبًا لتخفيف العبء عنه في الدنيا والآخرة، وإما أن يكون لا لهذا ولا لذاك. ولكل من هذه الأحوال حكم خاصّ بها.

فأما الحال الأولى، وهي: أن يعزل الإمام نفسه لعجزه عن القيام بما هو موكول إليه من أمور الناس؛ لهرم أو مرض أو نحوهما، فإنه ينعزل إذا عزل نفسه لذلك؛ لأن العجز إذا تحقق، وجب زوال ولايته، لفوات المقصود منها، بل يجب عليه إذا أحسّ بذلك، أن يعزل نفسه، حرصًا على مصلحة المسلمين، فسواء أكان هذا العجز ظاهرًا للناس، أم استشعره هو من نفسه، فهو موجب لتركه هذا المنصب.

وأما الحال الثانية، وهي: أن يعزل نفسه لا لعجز ولا ضعف، بل آثر الترك طلبًا لتخفيف العبء عنه في الدنيا، حتى لا يشغل بالمهام العظام الموكولة إلى رئيس المسلمين، أو طلبًا لتخفيف العبء عنه في الآخرة، حتى لا يتّسع حسابه – فإن للفقهاء في ذلك رأيين:

أولهما: أنه ينعزل بذلك؛ لأنه كما لم تلزمه الإجابة إلى المبايعة، لا يلزمه الاستمرار في منصبه.

ثانيهما: لا ينعزل؛ لأن أبا بكر الصديق طلب من المسلمين أن يقيلوه من منصب الخلافة، ولو كان عزل نفسه مؤثرًا، لما طلب منهم الإقالة.

وأما الحالة الثالثة، وهي: أن يعزل الإمام نفسه من غير عذر؛ كعجزه عن القيام بأمور المسلمين، أو إيثاره ترك هذا المنصب طلبًا للتخفيف في الدنيا والآخرة – فقد اختلف الفقهاء فيه إلى ثلاثة آراء:

الرأي الأول: لا ينعزل حينئذ، وحجة هذا الرأي أن الحق في ذلك للمسلمين لا له.

الرأي الثاني: أنه ينعزل؛ لأن إلزامه الاستمرار قد يلحق الضرر به في آخرته ودنياه.

الرأي الثالث: يُنظر، فإن لم يولّ الإمام غيره، أو ولّى من هو دونه، لم ينعزل قطعًا، وإن ولّى من هو أفضل منه، أو من هو مثله، فعلى رأيين: رأي يقول بالانعزال، ورأي يقول بعدم الانعزال([21]).

المسألة الثانية: عزل الحاكم الفاسد، لا عن طريق نفسه (أي: عن طريق الأمة):

 إن الأمة لها الحق في عزل الحاكم، قال البغدادي([22]): “ومتى زاغ عن ذلك، كانت الأمة عياراً عليه في العدول به من خطئه إلى صوابه، أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعماله وسعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم، أو عدل عنهم”([23]).

فكما أن للحاكم أن يعزل من هم دونه من عماله وموظفيه، فكذلك الحال ينبغي أن يكون للأمّة مثل هذا الدور معه، ولا يشترط في ذلك إجماع الأمّة على الخلع، وإنما يكفي في ذلك حصول الأغلبية على هذا الأمر([24]).

ثانياً- الوسائل غير السلمية لعزل الحاكم، والخروج عليه (الثورة المسلحة):

 الثورة سلوك إنساني يهدف إلى تحقيق التغيير، وقد يحتمل الخطأ والصواب. والثورة وسيلة غير سلمية وخطيرة، وذلك لما ينشأ عنها من مفاسد كثيرة ووخيمة.

قال ابن مفلح([25]): “جوَّز ابن عقيل، وابن الجوزي، الخروج على إمام غير عادل، وذكرا خروج الحسين على يزيد، لإقامة الحق. وكذا قال الجويني؛ إذا جار وظهر ظلمه، ولم يزجر حين زجر، فلهم خلعه ولو بالحرب والسلاح. قال النووي: خلعه غريب. وهذا محمول على أنه لم يخف مفسدة أعظم منه. ونصوص أحمد أنه لا يحل، وأنه بدعة، مخالف للسنة، وأمر بالصبر، وأن السيف إذا وقع، عمّت الفتنة، وانقطعت السبل، وسفكت الدماء، وتستباح الأموال، وتنتهك المحارم”([26]).

 وقال الدكتور محمد عمارة: “والتغيير الذي يبدلّ حالاً بحال، وسادةً بسادة، واقعاً بالياً بآخر جديدٍ، وهي في بعض جوانبها انتقام للمظلومين من الظالمين، على تفاوت درجات الانتقام، ومواطنه… النصر: يعني إعانة المظلوم، والانتصار: يعني الانتصاف من الظلم وأهله، والانتقام منهم”([27]).

وقال أيضاً: “وإذا اقتضى النهوض بهذا التكليف [أي: التغيير] استخدام (الفعل) بعد (القول)، والاستعانة بـ(القوة) – التي اصطلحوا على تسميتها: قضية السيف – كان ذلك مشروعاً لدى البعض، وواجباً لدى البعض الآخر.

وهم قد استندوا في ذلك إلى قوله الله سبحانه: [وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٞ يَدعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ](آل عمران: 104)، وقوله: [كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ](آل عمران: 110).

وقالوا: إنه إذا كان الأمر بالمعروف يقف عند حدود: الهدى والبيان بالتي هي أحسن، فإن النهي عن المنكر يتجاوز الهدى والبيان إلى الفعل.. واستندوا في ذلك إلى عديد من أحاديث الرسول، من مثل قوله ﷺ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)([28]). فالفعل هنا يتقدّم غيره من وسائل التغيير.. ومن مثل قوله؛ محذّراً الأمّة من النكوص عن هذا الطريق الصعب: (لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ)([29])، وقوله ﷺ: (لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا)([30])، وقوله ﷺ: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ)([31]).. ومن مثلترغيب أمّته في السيرعلى الدرب المحفوف بالمكاره والمليء بالأشواك، بقوله ﷺ: (كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)([32]).

 وغير آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأحاديث المفسّرة لها، تجد التيارات الفكرية الثورية، في تراثنا الإسلامي، الكثير من آيات القرآن الكريم التي تدعو الإنسان إلى رفض الظلم، و(العمل) على تغييره.. فالثورة تعني الهجرة من حال الاستسلام والسكون إلى حال التمرد والحركة، فهي هجران للركود والموات، ووثبة يتجاوز بها الإنسان، والمجتمع، ذلك الوضع الجائر، والواقع الظالم، ليستبدله بآخر أكثر إشراقاً ووضاءة.. فليست الهجرة فراراً وهروباً، فهي، في الإسلام، فعل إيجابي، بل ووسيلة تأديب. ([33])


([1]) – الإمامة العظمى: (1/461-462).

([2]) – ابن مجاهد (ت: 370هـ / 980م): محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد، أبو عبد الله الطائي البغدادي، الأستاذ، عالم بالكلام، من المالكية، من أهل البصرة. صحب أبا الحسن الأشعري. وسكن بغداد، فقرأ عليه أبو بكر الباقلاني علم الكلام. له كتاب في أصول الفقه على مذهب مالك، ورسالة في (الاعتقادات)، على مذهب أهل السنة، وكتاب (هداية المستبصر ومعونة المستنصر). سير أعلام النبلاء: (12/322؛ رقم: 3416)؛ الديباج المذهب: (2/210)؛ أعلام الزركلي: (5/311)؛ معجم المؤلفين: (9/19).

([3]) – مراتب الإجماع، لابن حزم: (ص178). يقول ابن حزم في الرد عليه: “ولعمري، أنه لعظيم أن يكون قد علم أن مخالف الإجماع كافر، فيلقي هذا إلى الناس، وقد علم أن أفاضل الصحابة، وبقية الناس، يوم الحرَّة، خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير، ومن اتبعه من خيار المسلمين، خرجوا عليه أيضاً، وأن الحسن البصري، وأكابر التابعين، خرجوا على الحجاج بسيوفهم، أترى هؤلاء كفروا؟!

ولعمري لو كان اختلافاً يخفى لعذرناه، ولكنه أمر مشهور، يعرفه أكثر العوام في الأسواق، والمخدرات في خدورهن، لاشتهاره”. مراتب الإجماع: (ص78).

([4]) – مجموع الفتاوى: (4/444).

([5]) – اللؤلؤ والمرجان: (رقم: 1209).

([6]) – فتح الباري: (10/8).

([7]) – شرح مسلم: (6/472).

([8]) – فتح الباري: (13/8).

([9]) – شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي لحسن أبو الأشبال: (د11/23).

([10]) – منهاج أهل السنة: (4/538)، بتصرف يسير.

([11]) – الإمامة العظمى: (1/476).

([12]) – الفصل في الملل والأهواء: (4/132).

([13]) – مجموع الفتاوى: (28/391)؛ السياسة الشرعية: (ص217).

([14]) – إحياء علوم الدين: (2/140).

([15]) – في التنوير الإسلامي (75)، الإسلام وضرورة التغيير: (ص8-11)، نهضة مصر، ط1، 2007م.

([16]) – كامل علي رباح، نظرية الخروج: (ص75).

([17]) – إياد الزيباري، التداول السلمي للسلطة: (ص267)، بتصرف، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 2012م.

([18]) – نفسه: (ص267)، بتصرف.

([19]) – الطرق السلمية في تغيير الحاكم الفاسد: (ص65).

([20]) – قال القرطبي: “يجب عليه أن يخلع نفسه، إذا وجد في نفسه نقصًا يؤثر في الإمامة”. الجامع لأحكام القرآن (1/272).

([21]) – جامعة المدينة العالمية، السياسة الشرعية: (ص578-579).

([22]) – عبد القاهر البغدادي (ت: 429هـ/ 1037م): عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي، البغدادي، الشافعي أبو منصور، فقيه، أصولي، متكلم، أديب، متفنن، مشارك في أنواع من العلوم. ولد ببغداد، ونشأ بها، وسكن نيسابور، ودرس في سبعة عشر علماً، وتوفي باسفرايين. من مؤلفاته الكثيرة: الكلام في الوعيد الفاخر في الأوائل والأواخر، شرح المفتاح لابن القاص في فروع الفقه الشافعي، الملل والنحل، كتاب التفسير، التكملة في الحساب، الفرق بين الفرق، فضائح المعتزلة، الإيمان وأصوله، فضائح القدرية، نفي خلق القرآن، وغيرها من المصنفات. أعلام الزركلي: (4/48)؛ معجم المؤلفين: (5/309).

([23]) – البغدادي، كتاب أصول الدين: (ص 278)، مطبعة – اسطنبول، 1346ه/1928م.

([24]) – الطرق السلمية في تغيير الحاكم الفاسد: (ص67).

([25]) – ابن مفلح (ت: 6763هـ/ 1362م): محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي الراميني ثم الصالحي: أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل. ولد ونشأ في بيت المقدس، وتوفي بصالحية دمشق. من تصانيفه: الآداب الشرعية والمنح المرعية، كتاب الفروع في أربع مجلدات، شرح كتاب المقنع في نحو ثلاثين مجلداً، شرح المنتقى في مجلدين، وكتاب في أصول الفقه على المذهب الحنبلي. أعلام الزركلي: (7/107)؛ معجم المؤلفين: (12/44).

([26]) – كتاب الفروع: (10/180-181)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1424هـ / 2003 م.

([27]) – الإسلام والثورة: (ص30)، دار الشروق- القاهرة، ط3، 1408هـ/1988م.

([28]) – صحيح مسلم: (1/69؛ رقم: 49).

([29]) – مسند الإمام أحمد: (38/332؛ رقم: 23301)؛ سنن الترمذي: (2169)، حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف.

([30]) – سنن أبو داود: (4/121؛ رقم: 4336)، حكم الألباني: ضعيف؛ المعجم الكبير للطبراني: (10/146؛ رقم: 10268)؛ مجمع الزوائد: (7/269؛ رقم: 12153)، قريب من هذا المعنى، وقال البيهقي: ورجاله رجال الصحيح.

([31]) – مسند الإمام أحمد: (1/208؛ رقم: 30)؛ سنن أبو داود: (4/122؛ رقم: 4338)؛ سنن الترمذي: (رقم: 2168)؛ صحيح ابن حبان: (1/530؛ رقم: 304)، حديث صحيح.

([32]) – مسند الإمام أحمد: (31/ 126؛ رقم: 18829)، إسناده صحيح؛ صحيح الجامع الصغير وزيادته: (1/248؛ رقم: 1100).

([33]) – الإسلام والثورة: (ص25-26)، بتصرف يسير.

العدد 188 ǀ صيف 2024 ǀ السنة الحادية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى