قصة قصيرة/ أيامنا الحلوة
إبراهيم أمين مؤمن – كاتب وروائي مصري
وغادر الطبيب بعد أن أخبر هدى بالحقيقة، وقد مثلت تلك الحقيقة صدمة كبيرة لها، وطفقت تفكر في مآل مَن حولها، والصلة التي تربطها بهم.
انهمرت الدموع من عينيها، هاتان العينان البريئتان الخضـراوان اللتان ما نظرتا قط ما في أيادي غيرها من نعمة؛ بل كانتا تنظران فحسب إلى الأيادي الفارغة لتملأها من نعمة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
لكن اليوم، قد لطخ المرض العينين بالشحوب والهرم، وغلت اليدان في جراح قلبها.
ووضعت كلتا يديها على وجهها، ذاك الوجه المستدير الرقيق ذو الأنف الصغير والشفاه الرقيقة التي يبست كالصحراء الجرداء، وذهب منها نضج الفتاة الشابة العذراء، ليحل محلها شحوب المرأة العجوز الشمطاء.
وتحاول أن تبكي بشدة، بيد أنها لا تستطيع، لأن البكاء الشديد يسبب لها آلاماً في قلبها الذي أجري له عملية جراحية خطيرة منذ نحو ساعتين.
وقالت لنفسها في حزن بالغ: البكاء راحة للنفوس، بيد أنه صعب المنال بالنسبة لي، فما أنأى الضحك عني إذن، فقد التصقت الشفاه بجراح قلبي.
وكانت تسعل، تحاول أن تمتص سعلاتها حتى تخرج رقيقة خفيفة حتى لا تضـربها في جراح قلبها الذي لأمه الطبيب في العملية.
قالت في نفسها: لن أستطيع أن أنفق على نفسـي، لأن الحركة وحدها كفيلة بأن تودي بحياتي، كما أن الزواج فيه خطر على حياتي ولو بعد حين، إذن فما قيمة الحياة بعد ذلك!؟ وفكرت في الخلاص من الحياة، بيد أنها لم تعزم هذا الأمر بعد بصفة نهائية.
***
جاءها خبر بقدوم ثلاثتهم إليها، كان الطبيب المعالج نقلها إلى قسم الجراحة، حجرة رقم (3).
طلبت من الممرضة آنذاك بصوت منخفض، يصاحبه سعال رقيق خفيف، أن تزين حجرتها، وتنظفها، لاستقبالهم.
فنظفتها كلها، بيد أن الزهرية التي كانت على منضدة الزينة هوت وتكسرت، وليس هي فحسب، بل سقطت المرايا التي فوقها. فلملمت الممرضة الزهرية والمرايا، وألقتها في سلة المهملات، لحين إلقائها فيما بعد في التراب.
وكانت الممرضة تقول: لا أدري كيف حدث هذا؟ ولست أدري أيضاً كيف ذبلت تلك الأزهار، وقد كانت بالأمس ناضجة تلذ الأعين؟
لم تنزعج هدى لما حدث، بل كانت تعتقد في قرار نفسها أن تلك المرايا وهذه الزهرية قد حان أجلها.
وسعت الممرضة نحو النافذة لتفتح الستارة قليلاً لدخول أشعة الشمس بالقدر الكافي، وهي تقول: تلك الستارة على وشك التهتك والسقوط.
وولت قائلة: الكحكة في إيد اليتيم عجبة.
***
استقبلتهم هدى بوجه مبتسم، لم يشعروا حيالها بشـيء من الانزعاج أو الخوف، حيث كانت طبيعية لأقصى درجة.
نظرت إلى حبيبها أحمد نظرات إشفاق، وهي أحوج ما تكون لهذه الشفقة، لذلك حثته – دون أن تعلمه بما قال به الطبيب لها – بوجوب الارتباط ببنت خاله، متعللة بأنها مريضة، وأنها بنت ملاجئ، وعلى النقيض، بنت خاله حسنة الخلق والخلقة، وذات حسب ونسب، فضلاً عن ثرائها.
فاستنكر رأيها بشدة، وطلب منها أن لا يسمع منها هذا الكلام مجدداً.
فأخذت تفكر في أمره، إن هي ظلت على قيد الحياة. لم تنس أنه حاول أن يسـرق من أجل أن يوفر لها ثمن العملية، وقد لطف الله به، وهو لن يتورع أن يفعل ذلك مجدداً من أجل توفير العلاج والدواء لها لاحقاً، فضلاً عن استحالة زواجه ببنت خاله.
فأدركت أنها حجر عثرة على درب سعادته.
حينئذ أطرقت في حزن بالغ قد ألجم مشاعرها، وأخرس لسانها.
ثم ما لبثت أن نظرت إلى علي، سألته عن حاله وهي تسعل، فقال لها متصنعاً السعادة، بأنه ارتبط بـ(خاطرها)، تلك الفتاة دميمة المظهر رديئة الخلق سيئة المعشـر، هكذا أخبرها من قبل، كما أخبرها أن الزواج بها أشبه بالجحيم.
وهي تعلم أنه فعل ذلك من أجل أن يوفر لها ثمن العملية الجراحية التي أجرتها منذ نحو ساعتين.
كما تعلم أن بقاءها على قيد الحياة سيجعله يعيش في هذا الجحيم دائماً، وأنها إذا رحلت سيتحرر ويخرج من هذا الجحيم.
فباتت حجر عثرة في حياة علي أيضاً، ذاك الفتى الذي تعتبره أغلى من أخيها الذي لم تعلم به.
ثم نظرت إلى رمزي، الذي انتفخ وجهه من كثرة اللكمات التي أصابته في المباراة التي أقيمت بينه وبين وحش الإسكندرية، كما أنه أصيب بقطع حاد في المنطقة التي بين حاجبه وأذنه اليمنى. أما ذراعه فمكسور، وقد حُمل على شريط ملتف حول رقبته ومتدل أسفل ذراعه كقاعدة ارتكاز.
فرفعت يدها نحوه متسائلة عن تلك الإصابات التي ألمت به.
فلم يجبها وأمال رأسه إلى الأرض.
فتأكدت أنه لعب مباراة الملاكمة أمام بطل الإسكندرية.
فكالت له تلالاً من الملامة، معللة بأنه أشبه بالوحش، وأنه لا يتوانى أن يقتل خصمه تحت ذريعة المباراة.
وأدركت أن رمزي لن يمانع في أن يخوض مباراة أخرى من أجل أن يوفر لها ثمن الدواء والعلاج اللاحقين.
فقهت الأمر، وقالت له في ألم بالغ، وهي تسعل: من أجلي طبعاً، من أجل أن توفر لي ثمن العملية!؟
نحى وجهه عنها، ولم ينبس بكلمة.
شعرت حينئذ كم هي عبء على كل من حولها.
أدركت هدى عن يقين تام إنها إن عاشت سوف تكون عبئاً على المجتمع، رغم أنه ضربها في ظهرها ألف ضربة منذ مولدها، حيث رماها هذا المجتمع في ملجأ وهي تصرخ من شدة الجوع والعطش والبرد.
لذلك عزمت على قرارها الذي فكرت فيه قبل دخولهم عليها.
***
فلما غادروا، ظهرت عليها ملامح الألم والحزن بعد أن شاهدتهم وهم يلتفون حولها ويحيطون بها إحاطة الأم أولادها.
وجسدت في مخيلتها المستقبل البائس لثلاثة من الشباب كلهم يحبونها، إن بقيت على قيد الحياة.
لم يكن بجديد عليها ما سوف تفعله الآن، فقد فعلتْ فعلاً أشبه بذلك عندما كانت في الملجأ وهي في الخامسة عشـر من عمرها؛ حيث كانت لها رفيقة في حجرتها أصابها حادث فنزف دمها إلى حد بلغها رائحة الموت.
ولم يجدوا فصيلة دم صديقتها إلا فيها، وبعد أن أجريت الفحوص عليها، تبين أن التبرع بدمها فيه خطورة على حياتها هي أيضاً، ورغم ذلك وافقت أن تتبرع بدمها لها بكل إصرار وتحد. وعندما دخلت الحجرة ورقدت على السـرير لسحب الدم من يدها، دخل عليها عم عامر الذي انتشلها من أمام المسجد عندما كانت حديثة الولادة.
أول ما رأته تذكرت قوله لها، عندما سألته عن حالها يوم أن انتشلها. قال: كنتِ يا ابنتي تصـرخين، ولا أدري أكنتِ تصرخين من الجوع أم من البرد؟
فأجابته: ربما كنت أصرخ من لعنة الزمن.
قال: كانت ليلة شديدة المطر، ولم يكن على جسدك شيء.
نظرت إليه وهي مستلقية على ظهرها، وقالت: ماذا تريد مني يا عم عامر؟
قال وهو يمسح دموع عينيه بأنامله: يا ابنتي، لا أوافقك على فعلك هذا، فقد علمت أن التبرع بالدم فيه خطورة على حياتك، وأنت لم تري الدنيا بعد.
قالت: أريد أن أرد جميل القدر الذي جعلك سبباً في انتشالي يا عم عامر، وها أنا ذا أفعل فعلك وأنقذ صديقتي من الموت.
قبلها في جبهتها، ثم انصرف متأثراً بصفاء قلبها وعظمة وفائها.
***
حينئذ نهضت وقالت في نفسها: لا بد أن أكون عند حسن ظن عم عامر.
نظرت بعد مغادرتهم في أركان الحجرة، وقد قررت أن تكون هي موضع نهايتها إلى الدار الآخرة، وقد حمدت الله أنها عرفت نهايتها، وتأسفت على أنها لم تعرف بدايتها.
قررت أن تودعهم بطريقتها هي، وداع من طرف واحد، وداع المضحين بأنفسهم في سبيل راحة من حولهم.
تنفست أنفاس رماد متهالكة، من رئتين أرهقهما قلبها المثقل بالمرض.
وضعت يدها اليسـرى على قلبها حتى تتمكن من النهوض لتودعهم قبل أن يدركها الموت، وحتى تتمكن من الوصول إلى النافذة.
تحاول النهوض شيئاً فشيئاً، وفمها مفتوح لتتمكن من إخراج زفيرها المتهالك من صمامات قلبها الضيقة الجريحة، تحاول أن لا تحرك جسدها حتى تتحاشى الألم الناتج عن الحركة، والذي قد يودي بحياتها قبل أن تودعهم، فتموت حسـرة وكمداً قبل أن تحقق هدفها المنشود.
انزاحت حتى وصلت طرف السـرير، ورفعت الغطاء بيدها اليسـرى من على قدميها، ثم وضعتها مرة أخرى على قلبها.
وقفت على قدميها بجسد مرتخ، واتكأت على المنضدة التي كانت عليها الزهرية، ومشت خطوتين أو ثلاثة حتى أدركت ستارة النافذة، فأمسكتها بيدها اليمنى، بينما لا زالت يدها اليسـرى تمسك بقلبها، حتى لا يتوقف عن النبض قبل إدراك لحظة وداع الأحبة.
ونظرت من النافذة، فوجدت علي ورمزي في المقدمة، بينما أحمد يمد خطواته كي يدركهما.
انهمرت دموع الوداع، وقد نسجت بين خيوطها التضحية في أسمى معانيها، نسجت اللحظة الأخيرة من حياتها.
فلما قرّت عيناها، جاءها الموت رغماً عنها، وهي لم تشبع رغبتها بعد في النظر إليهم وهم يغادرون فناء المستشفى.
كانت تمسك بستارة النافذة، كانت تحاول أن تسعفها الستارة في استمرار وقوفها لتملي عينيها من النظر إليهم. لكن الستارة لم تتحمل، وتهتكت في يدها، لتسقط على الأرض، وتودع الحياة، تودع الحياة التي جاءتها ملقيّة على الطرقات وهي وليدة، لتخرج منها شابة لم تذق من الحياة إلا مرارتها، ولتقدم رسالة من الرضا والتضحية والوفاء إلى المجتمع الذي خانها وغدر بها وفتح لها أبواب الجنة، ثم ما لبث أن أغلقها في وجهها بكل قوة.
العدد 188 ǀ صيف 2024 ǀ السنة الحادية والعشرون