أمّة لا تهزم من الخارج
بشار نافگوندی
من خلال دراستي للتاريخ الإسلامي، وتعمقي في بعض جوانبه، تولدت لدي قناعة أن المسلمين والأمّة الإسلامية لا يمكن هزيمتها من قبل عدو خارجي، إنما الهزيمة تأتي دائماً من الداخل، من خلال التآمر والخيانة والعمالة للخارج، والتاريخ الإسلامي مليء بالأمثلة حول هذا الجانب المؤلم من حياة الأمّة، والتي أوردها المهالك، وجلب المصائب على المسلمين.
أولى بوادر هذه الآفة ظهرت في المجتمع الإسلامي أيام (غزوة الخندق)، في العام الخامس للهجرة، عندما حاصر المشركون المدينة المنورة، مستهدفين القضاء على أول مجتمع مسلم في الأرض، وكان المسلمون بقيادة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) مستعدين للدفاع عن أنفسهم، واتخذوا كافة التدابير اللازمة لذلك، إلا أن انسحاب شريحة ليست بالقليلة من جيش المدينة من ساحة المعركة، وتركهم القتال، زعزع الأوضاع، وكاد أن يؤدي إلى كارثة كبيرة على جيش المسلمين، لولا ثبات المؤمنين وصبرهم في الدفاع عن مدينتهم. وما زاد من صعوبة الأوضاع خيانة يهود (بني قريضة) للعهد، واصطفافهم إلى جانب المشركين. ولولا أن المسلمين، بقيادة الرسول الكريم – عليه أفضل السلام والصلاة – تمكنوا من تدارك الوضع، والصمود بوجه العدو، لحين انسحابه بعد أيام، لكانت النتيجة وخيمة عليهم وعلى الإسلام في مهده. كان ذلك أول نذير للأمّة على خطورة العدو الداخلي على كيان الأمّة ومصيرها.
كانت الأمّة – على مر تاريخها – قوية ما دامت متماسكة داخلياً، ففي عهد الخلفاء الراشدين اتسعت الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً، ودخلت شعوب وأمم في الإسلام، ولم تتوقف هذه الفتوحات إلا أيام الخليفة علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، وذلك بسبب الخلافات الداخلية والصراع بين المسلمين أنفسهم. ثم سرعان ما عادت الفتوحات في عهد الأمويين، بعد تقوية الجبهة الداخلية، وازدادت وتيرتها، إلى أن استلم العباسيون السلطة، لتبدأ بعد عقود من حكمهم مرحلة الانكماش والضعف، خاصة بعد ازدياد الصراعات الداخلية، وظهور الدويلات الإسلامية العديدة، وما صاحبه من خلافات وانقسامات داخلية، أدت في النهاية إلى إضعاف المسلمين، وتهميش دور الأمّة في المجتمع الإنساني، بصورة عامة.
أدى هذا الضعف إلى طمع الأعداء في غزو أراضي الأمّة الإسلامية، فكانت الحملة الصليبية الأولى التي شنّها الأوروبيون على الأراضي الإسلامية في (الأناضول)، واصطدموا بالسلاجقة، وهزموهم، واحتلوا مدينة (نيقية)، سنة 1097م، وزحفوا نحو الشام، فاحتلوا (انطاكيا)، سنة 1098م، ثم سيطروا على سواحل الشام، حتى وصلوا (بيت المقدس)، سنة 1099م، فأوقعوا مذبحة كبيرة بأهلها من المسلمين واليهود، حيث قتلوا قرابة المائة ألف إنسان، وأبيدت المدينة عن بكرة أبيها، وتمّ بيع من تبقى من أهلها كعبيد في أسواق النخاسة.
لم تكن الأمّة الإسلامية لتشهد هذه الضربة الكبيرة من الخارج لولا الضعف والانقسام الداخلي، حيث كان الأمراء يتنافسون بينهم في السيطرة على المدن الإسلامية، لاستغلال أهلها واضطهادهم، وتعرضت الأمّة لنكبة حقيقية على يد هذه الدويلات المتنازعة فيما بينها، الأمر الذي أدى إلى فقدان مناطق شاسعة من الأراضي ووقوعها بيد الصليبيين، الذين أسسوا أربع إمارات وممالك في الشام، فكان لا بد من تنظيم الجبهة الداخلية، وتوحيد القوى، للتمكن من مواجهة هذا الخطر. واحتاج الأمر إلى عقود من الزمن حتى تمكن الزعيم المسلم نور الدين زنكي (1118م—174م) من توحيد المسلمين في الموصل والشام ومصر في دولة واحدة، استكمالاً لجهود والده عماد الدين زنكي، الذي أخذ على عاتقه مهمة التصدي للصليبيين.
تمكن الزنكيون من إسقاط أولى الإمارات الصليبية في المنطقة، وهي إمارة (الرها)، عام 1144م، والتصدي للحملة الصليبية الثانية على العالم الإسلامي، بعد عام واحد (1145م). كما أرسل نور الدين زنكي جيشاً بقيادة القائد أسد الدين شيركو إلى (مصر) لمواجهة الصليبيين، واستقر الأمر لهم في (مصر)، حتى تمكن القائد صلاح الدين الأيوبي من إلغاء الخلافة الفاطمية في مصر، وضمها إلى الدولة الزنكية، عام 1171م، الأمر الذي زاد من قوة المسلمين في المنطقة. وكانت الأنظار تتجه نحو (بيت المقدس)، لتحريرها من الصليبيين، وهو الهدف الأسمى الذي اتحد المسلمون في سبيل تحقيقه. وبعد وفاة نور الدين زنكي، استلم صلاح الدين زمام السلطة، وتمكن من تقوية الجبهة الداخلية، وجمع المسلمين تحت قيادته، لتحرير القدس. وكان له ذلك بعد المعركة الفاصلة التي وقعت بين المسلمين والصليبيين في (حطين)، عام 1187م، وانتصار المسلمين فيها، وبالتالي فتح (بيت المقدس) في العام نفسه.
لم يكن للمسلمين استعادة مجدهم، والانتصار على أعدائهم، لولا تقوية الجبهة الداخلية، والاتحاد فيما بينهم. ومتى ما ضعفت الأمّة من الداخل واجهت المصائب والكوارث والهزائم، وهذا ما حصل بعد عقود قليلة من الزمن، عندما دبّ الخلاف بين الأمراء الأيوبيين، بعد صلاح الدين، وتطور الأمر إلى الاقتتال فيما بينهم، وشنّ الهجمات على بعضهم البعض، وسفك الدماء المحرمة، فكانت النتيجة أن الأمّة تعرضت لهجمات وحملات جديدة من الصليبيين على مصر والشام. أما التهديد الأكبر الذي تعرضت له الأمّة، فكان قادماً من جهة الشرق، حيث الهجوم المغولي كان قد بدأ على الأمصار والمدن الإسلامية، وبدأت المدن الإسلامية تسقط الواحدة تلو الاخرى، ودخلت الأمّة في حالة ضعف وهزيمة داخلية كبيرة، ووصلت ذروتها عند محاصرة المغول لعاصمة الخلافة العباسية (بغداد)، في العام 1258م.
لقد كان العدو الداخلي لحاضرة الخلافة أشد وأقوى من العدو الخارجي المتمثل بالمغول، حيث كان الخلاف القائم بين وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي، من جهة، والقائد العسكري الدويدار، من جهة أخرى، وما رافقه من خلافات مذهبية بين الطرفين، هو الأسفين الأخير في جسد الدولة العباسية، لدرجة أدى إلى تعاون الوزير بن العلقمي مع العدو الخارجي، وتسهيل مهمة غزوهم لبغداد، والسيطرة عليها، الأمر الذي أدى إلى زعزعة صفوف المدافعين، وإضعاف قوتهم العسكرية، وبالتالي السقوط بيد الأعداء، فحدثت أكبر مجزرة وإبادة جماعية عرفتها البشرية في ذاك الزمان.
التاريخ مليء بالأمثلة التي تؤكد على أن الأمّة لا يمكن هزيمتها من الخارج، إلا بهزيمتها من خلال العدو الداخلي، وكان آخرها ما تعرضت له الدولة العثمانية، التي تم هزيمتها من الداخل قبل الخارج، حيث تم إضعافها من قبل الأعداء الداخليين، وتمت السيطرة على نقاط القوة والتأثير، وعندما دخلت الحرب العالمية الأولى مع (ألمانيا)، بدأت تظهر عليها آثار الضعف، حتى فقدت أراضيها شيئاً فشيئاً، وكانت الشام وفلسطين آخرها.
أرض فلسطين التي سيطر عليها البريطانيون، باتت قضية محورية للمسلمين، ولم يتمكن المستعمر الإنكليزي من منحها لليهود بسهولة، حيث انتظروا ثلاثين سنة حتى تمكنوا من ذلك، والسبب هو قوة الجبهة الداخلية للمسلمين المدافعين عن مقدساتهم. فبعد إعلان البريطانيين انتهاء الانتداب على فلسطين عام 1948م، أعلن اليهود عن دولتهم (إسرائيل) في فلسطين، فاندلعت الحرب بين المسلمين واليهود في العام نفسه، حيث توحد المسلمون في فلسطين تحت قيادة المناضل عبدالقادر الحسيني (1908م-1948م) في مواجهة الهجرة اليهودية وعصاباتهم المسلحة، وتمكنوا من إحراز انتصارات على اليهود، وكانوا في موقف قوة يمكنهم من مواجهة العصابات اليهودية المسلحة التي استقرت في مستوطنات بشرية في المناطق الساحلية.
بعدما رأى المستعمر البريطاني أن موقف اليهود العسكري لا يمكنهم من الانتصار الحاسم على الفلسطينيين، فتحوا الباب للجيوش العربية – التي كانت ما تزال تحت انتدابها – لدخول أرض فلسطين، بذريعة الدفاع عن أراضيها ومحاربة اليهود، ولكن في حقيقة الأمر كان ذلك مخططاً وتآمراً من قبلهم لوأد الثوار والمجاهدين الحقيقيين، الذين توافدوا على فلسطين للجهاد ضد اليهود، وفي طليعتهم كتائب الإخوان المسلمين الذين أذاقوا اليهود الويل، ووجهوا لهم ضربات موجعة، فكان لا بد من تفكيك الجبهة من الداخل، وذلك من خلال الجيوش العربية من الأردن والعراق ومصر والسعودية وسوريا ولبنان، والتي كانت كلها تحت سلطة الاستعمار.
من المضحكات المبكيات فعلاً أن نقرأ في كتب التاريخ المعاصر، التي دوّنت أحداث ومعارك الفلسطينيين، أن الجيوش العربية التي دخلت فلسطين بحجة الدفاع عنها، وتحريرها من اليهود، في العام 1948م، كانت تحت إمرة جنرال بريطاني الأصل!! وهو (غلوب باشا)، الذي أشرف على الجيش الأردني، ومجريات الأمور الميدانية في أرض المعركة! تصور أن مؤسس الدولة اليهودية في فلسطين، يجلب الجيوش العربية التي ما زالت تحت سيطرته إلى فلسطين، مدعياً الدفاع عن الفلسطينيين، ومواجهة الدولة الوليدة، التي تسمى (إسرائيل)، والتي أقامها هو! إنها مهزلة المهازل التي تم تدوينها في التاريخ، ولكن النتيجة كانت مؤلمة على المجاهدين الحقيقيين، حيث تم منع وصول السلاح والعتاد إليهم من قبل مفارز هذه الجيوش، وتم التضييق عليهم بذرائع مختلفة، لتنتهي القصة باستشهاد زعيم الثورة عبدالقادر الحسيني في قرية (القسطل)، بالقرب من (مدينة القدس)، على يد عصابات (الهاغانا)، في العام 1948م، بعد معركة استمرت لثمانية أيام، ثم استمرت تمثيلية الجيوش العربية حتى تمكن اليهود من السيطرة على معظم مناطق فلسطين، ليستمر الصراع على هذه الأرض حتى يومنا هذا، وليستمر التواطؤ لاختراق الجبهة الداخلية وإضعافها وإنهاء القضية الفلسطينية، وقد تمكن اليهود، وراعيهم الغرب، من تحقيق معظم أهدافهم في فلسطين، باستثناء قطاع القلعة الأخيرة، والثغر الأخير للدفاع عن الأرض المقدسة، حيث لم يتمكنوا من تركيعها، كما فعلوا مع المدن والقصبات الأخرى في فلسطين، بما فيها الضفة الغربية، والسبب الوحيد لذلك هو قوة الداخل، وخلّوها من الأعداء.
إن سرّ قوّة (غزة)، وأهلها، هو تطهيرها من الأعداء والخونة، وعدم إعطاء أدنى فرصة للعدو الداخلي للعمل والتحرك، وهو ما جعلها تصمد هذا الصمود الأسطوري بوجه أعتى آلة حربية وعسكرية في المنطقة، والتي تساندها أغلب الدول الإقليمية والغربية. فالأمّة – كما قلنا – لا يمكن هزيمتها من الخارج دون مساعدة الأعداء في الداخل، وعندما خلت (غزة) من الأعداء والعملاء، تمكنت – رغم صغر حجمها، وقلة الإمكانات المادية والعسكرية، ورغم الحصار – من مواجهة العدو بهذه الطريقة التي يعجز العقل البشري عن تصورها. فها هي خلال أشهر من الدفاع والصمود، قد أحيت في نفوس الأمّة الأمل بإمكانية النهوض من جديد، وأفشلت كل الأوهام التي زرعها العدو في أذهاننا، منذ عقود من الزمن، عن استحالة استعادة مجد الأمّة من جديد. فالأمّة الإسلامية يمكنها النهوض من جديد، ويمكنها أن تطهر داخلها من الأعداء، وحينها نتمكن من القول إن هذه الأمّة لا يمكن هزيمتها من الخارج.