المعالم الدعوية والإصلاحية في خطبة الوداع

 د. دحـّام إبراهيم الهسنياني

خطبة الوداع ذلك اللقاء الأخير بين سيد البشـر محمد بن عبد الله رسول الله وبين هذه الجموع الغفيرة من الأمة الإسلامية.. ها هو النبي (صلى الله عليه وسلم) يلتقي اليوم في ضاحية من ضواحي مكة؛ مكة التي خرج منها مطارداً، ثاني اثنين إذ هما في الغار، قبل عشـر سنوات، يلتقي اليوم في (عرفات) بجموع هائلة من مختلف أنحاء الجزيرة العربية، جموع هائلة يقدرها كتاب السير بين مائة وعشـرين ألفاً ومائة وأربعين ألفا([1])، يحتشدون خلف النبي الخاتم (صلى الله عليه وسلم)، يأخذون عنه مناسكهم، ويزيلون عن أنفسهم آخر أدران الجاهلية، لينعموا بروعة الإيمان.

وبدأت مراسيم الحج، فانطلق آلاف المسلمين؛ القدماء والجدد، وراء نبيهم ومعلمهم، وهو يريهم مناسكهم، ويعلمهم سنن حجّهم. ورأى أن يفيد من فرصة التجمع الكبير هذه، فيلقي في أتباعه خطاباً جامعاً يؤكد فيه القيم والتعاليم التي بعث من أجلها، وكأنه كان يدرك، بإحساسه العميق، أن هذه هي آخر فرصة يلتقي فيها بحشد كبير من أتباعه كهذا الذي يلتقي به اليوم، فوقف بين أيديهم في (عرفات)، وشفق المغيب يلقي على جبهته مزيداً من النور والمهابة والجلال، وراح يلقي كلماته؛ التي سميت فيما بعد بخطبة الوداع، ومن ورائه رجل جهوري الصوت يصرخ بكلمات الرسول، ليسمعها ألوف الحجيج([2]).

لقد جاؤوا من كل حدب وصوب يلتمسون رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتعلم المناسك منه، فمنهم جبال الإيمان؛ كالسابقين الأولين من الصحابة، ومنهم حديث العهد بالإيمان، فأراد النبي (صلى الله عليه وسلم) بخطبته تلك الجامعة أن يلخص لهم مبادئ الإسلام وأسسه، وأن يرسي مرتكزات أي إصلاح، سواء للفرد أو للمجتمع، وقد أوتي (صلى الله عليه وسلم) جوامع الكلم، وذللت له البلاغة تذليلاً.

وقد احتوَت هذه الخطبةُ المبارَكة على خُلاصةٍ من الوصايا النبوية العظيمة، مثل: حُرمة دمِ المسلم ومالِه، وتحريم الربا، وإهدار دماءَ الجاهلية، والتوصية بالنساء خيراً، والدعوة إلى المساواة بين الناسِ، وعدم المفاضلة بينَهم إلا بالتقوى، والنهي عن الوصية للوارث، والمحافظة على الأنساب.

لقد كانت خُطبةُ الوداعِ نَمُوذجاً من الهديِ النبوي الشاملِ، والخطابِ الإسلامي المتكامِل، حيث جَمعَ (صلى الله عليه وسلم) في خُطبتِه توجيهاً عقدياًّ واجتماعياًّ واقتصادياًّ. قد كانت وَصيةً إلى الالتزام بالدين القيم الكاملِ، الشاملِ لجوانبِ الاعتقاد والعبادة والعناية بالإصلاح الاجتماعي في شأن المرأة والأسرة والمجتمع.

إنِّ هذه الخطبةَ النبوِيةَ تُمثِّلُ رُؤيةً واضِحةً، ومنهَجاً اجتماعياًّ مُتوازِناً مُتناسِقاً بين مُراعاةِ حُقوقِ الفردِ والجماعة، وحُقوقِ الرجلِ والمرأةِ والأُسرةِ؛ تقومُ على قاعِدةِ الالتزامِ بالحقوقِ والواجبات؛ وهذه الخطبةُ في الحقيقةِ دُستُورٌ رائعٌ لبناءِ مجتمعٍ مُتكاتِفٍ مُتكافلٍ يشُدُّ بعضُه بعضاً، وتتكاملُ فيه جهودُ الفردِ والجماعةِ والأسرةِ والمجتمع. وقد جاء نزولُ الآيةِ الكريمة: [اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا](المائدة: 3)، إتْماماً لهذا المشـروعِ الحضاري العظيم: مشروع إكمالِ الدينِ، وإتمامِ النعمة.

ولا شكَّ أنَّ هذه الْخُطبةَ في غايةِ الأهميةِ، حتى إنَّ الكاتبَ والأديبَ البريطاني (هربرت جورج ولز H. G. Wells 1866–1946م)([3])، شهدَ بروعةِ معانيها الإنسانيةِ والاجتماعية، فقال: “حجَّ محمدٌ حجةَ الوداعِ من المدينة إلى مكة قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شَعبِه موعِظةً عظيمة؛ إنَّ أولَ فقرةٍ فيها تَجْرِفُ أمامها كلَّ ما بين المسلمين من نَهبٍ وسَلبٍ، ومن ثاراتِ ودماء، وتجعلُ الفقرةُ الأخيرة منها الزنجيَّ المؤمنَ عِدلاً للخليفة. إنها أسَّسَت في العالَمِ تقاليدَ عظيمةً للتعامُلِ العادل الكريم، وإنها لتنفخُ في الناسِ رُوحَ الكرمِ والسماحة، كما أنها إنسانيةُ السِّمةِ، مُمكِنةُ التنفيذِ؛ فإنها خَلقَت جماعةً إنسانيةً يُقَلِّلُ ما فيها مما يَغمُرُ الدنيا من قَسوةٍ وظُلمٍ اجتماعيٍّ عما في أيِّ جماعة أخرى سبقَتها”([4]).

لقد كانت خطبة الوداع لقاءً خالداً فريداً، بعد دعوة وجهاد ومحنة وابتلاء وثبات وبطولة ودماء وأشلاء وتربية وبناء دامت ثلاثة وعشـرين عاماً كاملة، فماذا يدور في هذه اللحظات بخلد القائد الأعظم والنبي الخاتم (صلى الله عليه وسلم)، وهو يتابع هذه الجموع الحاشدة التي تسد الآفاق، وتملأ الوادي الرحيب؟ وتمر بخاطره ذكريات دار الأرقم بن أبي الأرقم والمسلمون الأول يتخفون بصلاتهم في الشعاب، ويخفّون في جنح الظلام إلى الدار، ليأخذوا عن النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) معالم الدين الجديد، ولم يتجاوز عددهم الأربعين([5]).

واليوم يقف النبي (صلى الله عليه وسلم) في (وادي عرنة)، وحوله فرسانه، وفيهم صناديد طالما حاربوه وآذوه وصدوا عن دعوته، يقفون اليوم بين يديه يتلقون عنه معالم الطريق، ويأتمرون بأمره، ويفدونه بأرواحهم وما يملكون. يقف النبي (صلى الله عليه وسلم) فوق ناقته القصواء، وحوله خالد بن الوليد، وأبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وعكرمة ابن أبي جهل، وربيعة بن أمية بن خلف.. اليوم يبلغ خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الجموع المحتشدة ربيعة بن أمية بن خلف، صائحاً فيهم، مبلغاً ما ينطق به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)([6])!! ابن أمية بن خلف أحد زعماء الكفر الذين طالما أرهقوا النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعذبوا أتباعه!!!

اليوم يشـرق الأمل، وتتحقق النبوءة، وتتضح عبقرية منهج الإسلام.. اليوم في خطبة الوداع تتجلى عظمة الرسالة والرسول، وتفرد القائد.. إن أي زعيم حين تتوافر له أسباب القوة والبطش يستطيع أن ينتصـر على أعدائه، وأن يقهر مخالفيه، فيحقق انتصاراً مادياً قد يكون ساحقاً أو ماحقاً، قد يبيدهم أو يستذلهم.. لكن الانتصار الكبير الذي حققه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن قهراً مادياً، ولا إذلالاً للرجال والشعوب، لقد فتح النبي (صلى الله عليه وسلم) القلوب قبل أن يفتح الدروب، فخضعت النفوس طائعة مختارة لحكم الله، واستعلت بالإيمان، وعزت بالإسلام، وباتت تفدي النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) بكل ما في الحياة..

من غير محمد (صلى الله عليه وسلم) في التاريخ؛ قديمه وحديثه، استطاع أن يحوّل أعداءه إلى أتباع بررة، وجنود أشاوس!؟ وأي دين؛ غير الإسلام، استطاع أن يحوّل أعداء الدين والدعوة إلى أبطال الدين ورجال الدعوة وحملة الرسالة؟!

لقد حمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) الرسالة إلى هؤلاء، وصبر على جهلهم وجاهليتهم، حتى أخرج منهم على عين الله رسلاً ينطلقون برسالة الإسلام إلى العالمين، يقف الواحد منهم على أعتاب المدائن الفارسية، فيجيب القائد الأعلى لجيش فارس: بأن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد([7])، وهكذا تحوّل أعداء الأمس إلى شركاء يحملون الرسالة يداً بيد وقلباً بقلب.

خطبة الوداع، ويوم الحج الأكبر، شاهد تاريخي لا يكذب على رشد منهج النبوة، وتفرد أسلوب الإسلام، فما نزل الدين إلى الأرض ليطبق على الناس الأخشبين، ولا ليزيلهم من الوجود، بل نزل الدين إلى الأرض ليزكي النفوس الجاحدة، فينقلها على يد رسول كريم، ومربٍ عظيم، من قاع الكفر إلى قمة الإيمان، ومن وهدة الجاهلية إلى نور الهداية.. فرسالتنا تغييرية تربوية، لا نسفية تدميرية.

اليوم يقف الحبيب المصطفى فوق ناقته القصواء، يخطب في زهاء مائة وأربعين ألفاً من المسلمين، تمتلئ بهم الآفاق، وقد طهرت جزيرة العرب كلها من رجس الجاهلية، فماذا يدور في خلد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو يشعر أنه يودع تلك الأمة الخالدة؟ وأي رسالة يريد أن ينهي بها مشوار رسالته الطويل الشاق؟ وما هي الأمانة التي يريد أن يحملها تلك الجموع الغفيرة، لتنقلها بعده إلى الأرض قاطبة؟

إن تلك الكلمات النورانية التي توشك أن تنبلج على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لا بد أن تلخص قيم الإسلام التي ظل النبي (صلى الله عليه وسلم) يؤصلها في حياة الناس ثلاثة وعشـرين عاماً كاملة.

هذا هو أكبر تجمع عرفه الإسلام في تاريخه منذ البعثة إلى ذلك اليوم، فكان على النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يعالج آخر تصورات الجاهلية العالقة في بعض الأذهان، ويزيل من الوجود آخر أذيالها المهترئة، وهو ينتقل في خطابه الخالد من الصفوة التي طالما رباها وخاطبها في دار الأرقم، ثم في دار الهجرة؛ مهاجرين وأنصاراً، ينتقل من تلك الصفوة المنتقاة، إلى العامة، التي جاءت من كل فج عميق، وألوف مؤلفة منهم حديثي عهد بجاهلية، لم يفقهوا من الإسلام وتعاليمه الكثير.. لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يؤكد، خلال هذه الخطبة الخالدة، على حقائق رسخها الإسلام بالفعل خلال عقدين كاملين من الزمان، فجاءت فيها الإشارات الأساسية إجمالاً موجزاً، بعد تفصيل استغرق حياة النبوة كلها.. كانت خطبة الوداع معالم عامة على طريق الإسلام العظيم، وجاءت كلمات الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهرساً عاماً لكتاب الإسلام الخالد، الذي عاشه منذ البعثة، وأقامه في حياة البشـر، ورؤوس أقلام مختصـرة موجزة، فمن أراد من هذه الجموع المحتشدة، أو من الأجيال التالية، أن يستزيد علماً ومعرفة في باب من تلك الأبواب، فعليه أن يقرأ الباب كاملاً من خلال تعاليم القرآن الكريم، وتطبيق النبي الأمين (صلى الله عليه وسلم)، خلال سيرته العطرة كلها.

يقول البوطي: ويريد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يلتقي بهذه الحشود المسلمة، التي جاءت ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشـرين عاماً، ليلخص لهم تعاليم الإسلام ونظامه في كلمات جامعة، وموعظة مختصـرة، يضمنها كوامن وجدانه، ونبرات محبته لأمته([8]).

وأعلن الرسول القائد (صلى الله عليه وسلم) على الناس بيانه العام، الذي أكد فيه كرامة الإنسان، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة الدماء والأموال والأعراض، وأبطل ما كان في الجاهلية من أوضاع؛ كالربا وغيره. وقد روى البخاري -رحمه الله – عن ابنِ عمر – رضي الله عنهما – قال: قال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) بمنى: (أتدرُون أيَّ يومٍ هذا؟ قالوا: الله ورسولُه أعلم، فقال: فإنَّ هذا يومٌ حَرامٌ. أفتدرُون أيَّ بلدٍ هذا؟ قالوا: الله ورسولُه أعلَم! قال: بلدٌ حرامٌ، أفتدرُون أيَّ شهرٍ هذا؟ قالوا: الله ورسولُه أعلم! قال: شَهرٌ حرام. قال: فإنَّ الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم؛ كحُرمةِ يومِكم هذا، في شَهرِكم هذا، في بلدِكم هذا)([9]).. فقرر حرمة المال، فصان للفرد (حق التملك)، فلا يحل أخذ ماله إلا بطيب نفس منه، ولا يجوز للدولة، ولا لفرد آخر نهب ماله وأخذه بغير حق.

وفي روايةٍ: أنهم أجابوا وبيَّنوا، كما روى البخاري أنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال في حجة الوداع: (ألا أيَّ شهرٍ تعلمونه أعظمَ حُرمة؟ قالوا: ألا شَهرُنا هذا. قال: ألا أيَّ بلدٍ تعلمونه أعظمَ حُرمةً؟ قالوا: ألا بلدُنا هذا. قال: ألا أيَّ يومٍ تعلمونه أعظمَ حُرمةً؟ قالوا: ألا يومُنا هذا. قال: فإنَّ الله تبارك وتعالى قد حرَّمَ عليكم دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم إلا بِحقِّها، كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا! ألا هل بلَّغتُ – ثلاثاً – كل ذلك يجيبونه: ألا نعم! قال: ويحكم أو ويلكم لا ترجِعُنَّ بعدي كُفاراً يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض)([10]).

فقد بدأت الخطبةُ بقولِ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم)، بعد أنْ حَمِدَ الله عزَّ وجلَّ وأثنى عليه، بكلماتٍ مُؤثِّرةٍ تشتمِلُ على التمهيدِ لوداعِ الناس، فقال: (أيها الناسُ اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا! أيها الناسُ إنَّ دماءكم وأموالَكم عليكم حرامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا ربَّكم، لِحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا! ألا هل بلَّغتُ؟ اللهم فاشهَد! وإنكم ستَلْقَوْن ربَّكم؛ فيسألكم عن أعمالِكم، وقد بلَّغْتُ! مَن كانت عنده أمانةٌ فليؤدِّيها إلى مَن ائتمنه عليها).

ورَحِم الله ابنَ كثير، حيث قال: “وقد شَهِدَت له أُمتُه بإبلاغِ الرسالة، وأداءِ الأمانةِ، واستنطقَهم بذلك في أعظمِ المحافلِ في خُطبتِه يومَ حجةِ الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال في خُطبتِه يومئذ: (أيها الناس، إنكم مسؤولون عنِّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهدُ أنك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصَحتَ! فجعلَ يرفعُ أصبعَه إلى السماء ويُنكِّسُها إليهم، ويقول: اللهم هل بلَّغت؟)([11]).

وقد اعتنَى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالجانبِ الإعلامي في مطلعِ هذه الخطبة، وحرصَ على حَثِّ الناسِ على الإنصاتِ وحُسنِ الاستماعِ إليه، فأمرَ جابراً باستِنصاتِ الناسِ، كما روى البخاري – رحمه الله – في كتاب (العلم)، باب (الإنصات للعلماء)، عن جرير  أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) قال له في حجةِ الوداعِ: (استَنْصِتَ الناسَ! فقال: لا ترجِعُوا بعدي كُفاراً يضـربُ بعضُكم رِقابَ بعض)([12]).

وقد ورَدَ في بعضِ الرواياتِ أنه (صلى الله عليه وسلم) بدأ بالتوحيدِ، وحذَّرَ من فتنةِ المسيحِ الدجال، وهذا مُوافِقٌ لمنهجِ القرآنِ والسُّنةِ في تقديمِ شأنِ العقيدة على غيرِها، ومُنسَجِمٌ كذلك مع ما رواه البخاري (أنَّ أبا بكر الصديق بَعَثَه في الحجةِ التي أمَّرَه عليها رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) قبل حَجةِ الوداعِ يومَ النَّحرِ في رَهطٍ يؤذِّنُ في الناس: ألا لا يَحُجُّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يطُوفُ بالبيتِ عُريان)([13]).

ونستطيع من خلال تحليل خطبة الوداع أن نتبين أسساً لأي دعوة إصلاح إسلامية، حوتها كلمات النبي (صلى الله عليه وسلم) الجامعة، في خطبته هذه، وهي:

أولاً: تحديد المرجعية العليا للمجتمع المسلم:

وذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): (قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيّناً: كتاب الله، وسنّة نبيّه). فبيّن النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) وقرر مبدأ (الحاكمية)، أي المرجعية العليا في كل شأن من شؤون الحياة، سواء كان من جانب العقيدة أو العبادة أو الأخلاق أو المعاملات أو السياسة أو غيرها، فإن مرجعيته إلى الله تعالى، لأن التمسك بالكتاب والسنة هو ضمان العصمة من الزلل والضلال والانحراف عن منهج الإسلام القويم، فبهما معاً نفهم الإسلام، وبتحكيمهما معاً يطبق الإسلام ويسود، فما كانت السنة إلا تفسيراً عملياً للقرآن الكريم، وما كان القرآن الكريم إلا دستور المسلمين الخالد الذي أنزله الله لهم هادياً ومرشداً وقائداً لما فيه سعادة الدارين معاً، “لقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده، إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله”.

إن أي مشـروع حضاري، أو دعوة إصلاحية، لا بد أن تنطلق أولاً من تحديد الأيديولوجية التي ترتكن إليها، والمرجعية الإسلامية، وإعلاء الكتاب والسنة فوق كل المناهج والأيديولوجيات، فالمرجعية الإسلامية هي أيديولوجية المجتمع المسلم.

إن تحديد هذه المرجعية بالنسبة للمجتمع الذي يدين بالإسلام في منتهى الأهمية، لا سيما في أيامنا هذه، حيث تتصارع الأيديولوجيات المختلفة والمذاهب المتباينة، وتحاول كل واحدة منها كسب مزيد من الأرض والبشـر، حتى صار العالم كله معتركاً لهذا الصراع.

وإذا كان المنطلق الأول لأي مشـروع حضاري أو دعوة إصلاح هو تحديد المرجعية، كما سبق، فإن مرجعية الكتاب والسنة للمجتمع المسلم من مقتضيات الإيمان ومستلزمات الخضوع لرب العالمين، التي لا خيار لمسلم فيها([14]).

والمتأمل في هذه الصياغة البديعة لهذه الفقرة من خطبة الوداع: (إن اعتصمتم به فلن تضلوا…)، يجد تحقيق مدلولها، حيث صار من البيّن الواضح، مدى الضياع التي تعانيه المجتمعات المسلمة حين تركت الاعتصام بالكتاب والسنة كمرجعية عليا، ودستور حاكم، وقانون ملزم، واستبدلت بهما غيرهما، أو فرض عليها غيرهما، بتعبير أدق.

ثانياً: صياغة الفرد النموذج:

وهذا الفرد النموذج يمثل الأساس، واللبنة الأولى، في أي نهضة، أو دعوة للإصلاح، وتمثَّل هذا في فقرتين من خطبة الوداع، وهما قوله (صلى الله عليه وسلم): (أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى).

إسلام يقيم المجتمع على أواصر الإخاء والوحدة بين أبنائه، فلا مكان فيه لصـراع الأجناس، ولا لصـراع الأديان، ولا لصراع الطبقات، ولا لصـراع المذاهب. فالناس كلهم أخوة، تجمع بينهم العبودية لله، والبنوة لآدم: “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد”، واختلافهم واقع بمشيئة الله تعالى وحكمته، وهو يفصل بينهم يوم القيامة، فيما كانوا فيه يختلفون.

وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتنهار جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد، بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشـر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشـر في الميزان.

وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله.

وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشـرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام!([15]).

لقد انتهت الوثنية الصـريحة العارية من الأرض الإسلامية أبداً، لكن حيل الشيطان ستتخذ أشكالاً جديدة أكثر خبثاً، وأقل حدة ووضوحاً، لتصـرف الناس عن الطريق السوي المستقيم. وقد بشّـَرَ النبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) المسلمين بغلبةِ هذا الدِّين، وهزيمة الشياطين، فقال: (أما بعدُ، أيها الناس، فإنَّ الشيطانَ قد يئس من أنْ يُعبُدَ بأرضِكم هذه أبداً، ولكنه إنْ يُطَعْ فيما سوى ذلك فقد رضيَ به بما تحقرون من أعمالِكم؛ فاحذرُوه على دينكم)!

وهذا يشمَلُ انتِصارَ الإسلامِ على شياطينِ الإنسِ والجن، باستِحضارِ قولِ الله عزَّ وجل: [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ](المائدة: 3)، قال السعدي -رحمه الله-: “[اليوم يئس الذين كفروا من دينِكم…] اليومُ المشارُ إليه يومُ عرَفة؛ إذْ أتَمَّ الله دينَه، ونَصَـرَ عبدَه ورسولَه، وانخذلَ أهلُ الشـرك انخذالاً بليغاً، بعدما كانوا حريصِين على ردِّ المؤمنين عن دينهم، طامِعين في ذلك؛ فلما رأوا عزَّ الإسلام وانتِصارَه وظُهُورَه، يئسوا كلَّ اليأس من المؤمنين أنْ يرجعوا إلى دينِهم، وصاروا يخافون منهم ويخشَوْن؛ ولهذا في هذه السنةِ العاشرة التي حجَّ فيها النبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) حجةَ الوداع، لم يحجُجْ فيها مُشـركٌ، ولم يَطُفْ بالبيت عُريان؛ ولهذا قال: [فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ]: أي فلا تخشوا المشركين، واخشوا الله الذي نصرَكم عليهم، وخذلَهم، وردَّ كيدَهم في نحورِهم، [اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]، بتمامِ النصـرِ، وتكميلِ الشـرائع الظاهرةِ والباطنةِ، الأصُولِ والفُروع؛ ولهذا كان الكتابُ والسُّنة كافِيَيْن كلَّ الكِفاية في أحكامِ الدِّينِ وأصولِه وفُروعِه”([16]).

وما أحسنَ التخلُّصَ النبويَّ من ذكرِ هزيمةِ الشياطينِ، والتحذيرِ من الاستهانةِ بِمُحقَّراتِ الأعمال؛ فإن ذلك مدخَلٌ من مداخِلِ الشيطان: (فقد رَضِيَ به بما تحقِرُون من أعمالِكم، فاحذَرُوه على دينِكم)! إلى ذكرِ التلاعُب بالشهورِ تحليلاً وتحريماً: (أيها الناسُ: [إِنَّمَا النَّسـِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]، إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهيئته يومَ خلقَ الله السمواتِ والأرضِ، وإنَّ عِدةَ الشهورِ عند الله اثنا عشـر شهراً، منها أربعة حرُمٌ: ثلاثةٌ مُتواليةٌ ورجبُ مُضَر، الذي بين جمادى وشعبان)([17]).

إن صياغة الإسلام لمن آمن به، تعتمد على تربيته على تقوى الله؛ تقوى تجعل داخل نفسه رقيباً ذاتياً على أفعاله، مرشداً إلى الخير، ناهياً عن الشـر، بحيث لا يحتاج – في كثير من الأحيان – إلى الوازع الخارجي، والقوانين المتتالية، لضبط سلوكه وتوجيهه.

وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) منذ البدايات الأولى لدعوته، تبيّن بجلاء مدى اهتمامه ببناء هذا الفرد النموذج، وتربيته على هذا الأساس: تقوى الله، مما يقطع بأن هذا البناء، وتلك التربية، هما اللبنة الأولى في أي نهضة أو دعوة إصلاح.

إن المجتمعات المسلمة في حاجة ماسة إلى بناء الفرد على أساس الإسلام، ومبادئه، وأخلاقياته.

إن مخاطبة الغرائز الدنيا للفرد المسلم، وإسكار الناس باللهاث وراء الشهوات حيناً، ووراء لقمة العيش وضروراته، حيناً آخر، لتغييب وعيهم، إن هذا كله أبعد ما يكون عن أي بناء سليم لمجتمع قوي، فضلاً عن أن يكون إسلامياً يتصدى لما يحاك له من مؤامرات.

ثالثاً: بناء الأسرة الصالحة:

وتنبع أهمية بناء الأسرة المسلمة من كونها اللبنة التالية لبناء المجتمع المسلم، بعد تحديد مرجعيته، وصياغة الفرد على التقوى، وذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): (أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضـربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان – أي أسيرات – لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله).

وقد جاء في بعضِ الرواياتِ أنه بدأ بالوصيةِ بالنساء خيراً. كما روى ابنُ ماجه عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، حدثني أبي أنه شهد حجةَ الوداع مع رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فحمدَ الله، وأثنَى عليه، وذكَّرَ، ووعظ، ثم قال: (استوصُوا بالنساءِ خيرا؛ فإنهن عندَكم عَوانٌ؛ ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيِّنة، فإن فعَلْن فاهجُروهن في المضاجعِ، واضربوهن ضرباً غير مُبرِّح؛ فإنْ أطَعْنَكم فلا تبغُوا عليهن سبيلاً. إنَّ لكم مِن نسائكم حقاًّ، ولنسائكم عليكم حقاًّ، فأما حقُّكم على نسائكم فلا يوطئن فُرُشَكم مَن تكرَهون، ولا يأذَنَّ في بُيوتِكم لمن تكرهون، ألا وحقُّهن عليكم أنْ تحسِنوا إليهن في كِسْوَتِهن وطعامِهن)([18]).

إن المرأة كالضلع (أي لا تخلو من عوج)، “إن ذهبت تقيمها كسـرتها، وإن استمتعت بها، استمتعت بها وفيها عوج”، ويراد بالعوج في المرأة: غلبة الجانب العاطفي عليها أكثر من الرجل، فلا بد من مداراتها، والصبر عليها، استبقاءً لدوام العشرة، وإلا فتقويم الضلع لا يكون إلا بكسره، وهو أمر غير مرغوب، ولا محمود.

فانظُرْ إلى هذه العنايةِ النبويةِ بشأنِ العلاقةِ الزوجِية والحياة الأُسَرية، والوصية بالنساء خيراً، قبلَ مواثيقِ حقوق الإنسانِ، والمرأة، والطفل، بقُرُون!

وقد وردَ في بعضِ الروايات تكمِلةٌ لشأنِ الأسرة، تتعلقُ بالالتزامِ بالأنْصِبَة الشـرعيةِ المحدَّدةِ من الميراث، وعدم الوصية للوارث، وعدم الزيادة على الثلثِ في الوصية، والمحافظة على الأنساب: (أيها الناس، إنَّ الله قد قسمَ لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تجوز لوارثٍ وصيتُه، ولا تجوز وصيةٌ في أكثرَ من الثلث، والولدُ للفراش، وللعاهر الحجر. مَن ادَّعَى إلى غيرِ أبيه، أو تولَّى غيرَ موالِيه، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)([19]).

وللمرأة والرجل الحق بالمشاركة في المجتمع بما يحفظ لهما كيانَ الأسرة، وفي الحدود التي أباحتها الشـريعة؛ كالمشاركة في التعليم والطبّ والأعمال الاجتماعية، حتى أن المرأة في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) شاركتْ الرجلَ في الدفاع عن الإسلام والمسلمين في معارك شتى، وكانت المرأة تُسْتَشارُ من الرجال في كثيرٍ من الشؤون التي تخصّ الأمة، فلقد كانت أم المؤمنين السيدة عائشة – رضي الله عنها – حُجّةً ومرجعاً في كثير من القضايا والأحكام الشرعية.

إن بناء هذه الأسرة المسلمة يقوم على تحديد الحقوق والواجبات لكل من الزوجين، حتى يتفرغ كل منهما للمهمة الجسيمة الموكلة إليه في بناء صرح الإسلام في الأرض.

وكل حق في الإسلام يقابله واجب، غير أن الناظر في وصايا الإسلام للزوجين، على وجه الخصوص، في غير خطبة الوداع، يلفت نظره أن الخطاب الموجه إلى أي طرف منهما يركز دائماً على حقوق الطرف الآخر عليه، وهذه هي نظرة الإسلام، وخطابه الراقي، حين يعتمد على الإيمان، وفعله في النفوس، قبل أن يعتمد على باب الحقوق والواجبات القانونية الجافة.

فالزوج مخاطب بقوله (صلى الله عليه وسلم): (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، وقوله (صلى الله عليه وسلم): (استوصوا بالنساء خيراً). والزوجة مخاطبة بقوله (صلى الله عليه وسلم): (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)، وقوله (صلى الله عليه وسلم): (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).

وهذه الفقرة من (خطبة الوداع) من أشد ما تحتاجه المجتمعات المسلمة الآن، إذ إن من المؤامرات التي تتعرض لها الأسرة المسلمة في الوقت الحاضر، طرح النموذج الغربي للعلاقة بين الزوجين، تلك العلاقة القائمة على الاستقلالية التامة، والحرية المطلقة لكل منهما، حتى يتسنى القضاء على الأسرة المسلمة، التي احتفظت بشخصيتها وأخلاقياتها الإسلامية على مدار قرون طويلة.

وهكذا بيّن النبي (صلى الله عليه وسلم) حقوق المرأة في الإسلام؛ تخصيصاً بعد تعميم، وإجمالاً بعد تفصيل: “اتقوا الله في النساء، فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن حقاً، ولهن عليكم حقاً”، فحقوق المرأة في الإسلام مرتبطة بحقوق الرجل، فلقد جاء الإسلام ليحرر البشر كل البشـر، أو الإنسان كل الإنسان، من رق العبودية، بمعانيها المختلفة؛ سواء المادية منها، أو النفسية، أو الجسدية، ولم تكن المرأة استثناءً من هذه القاعدة، بوصفها إنساناً جاء الإسلام لتحريره، وتكريمه، وصيانة حقوقه العامة والخاصة. لقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان من رق المادة، وقيم المادة الطاغية، ليصبح للإنسان المجرد؛ بوصفه روحاً ونفساً وجسداً، بغض النظر عن مستواه الاقتصادي وطبقته الاجتماعية، قيمة حقيقية في هذا الوجود، فجعل الإسلام العبد الحبشي بلالاً، والرومي صهيباً، والمرأة الضعيفة سمية، أئمة الهدى وقدوات البشر.

ولا يخفى أن الجاهلية، سواء القديمة منها أو الحديثة، لم تعل من قيمة المرأة، أو تخفض منها، إلا على ضوء ما تملكه من مادة ومال ومكانة وطبقة اجتماعية. ولذا، رأينا في المجتمع الجاهلي، الذي تقوم ثقافته على وأد البنات، نساءً يشار إليهن بالبنان، يقدرهن المجتمع، وينحني أمام مالهن ومكانتهن؛ مثل: خديجة – رضي الله عنها – التي كانت سيدة في قومها قبل الإسلام، وكذلك هند بنت عتبة؛ زوجة أبي سفيان، التي كانت ترفع معنويات الفرسان في القتال، ولقد كانت إحدى المحركات الأساسية للمشركين في (غزوة أحد)، والشاعرة المجيدة الخنساء، وغيرهن.

الجاهلية تعبد المادة المجردة، فهي لا تئد من الإناث، ولا تحقر، إلا من كانت فقيرة ضعيفة. أما الإسلام، الذي جاء ليرفع قيم الإنسانية المجردة فوق قيم المادة الطاغية، فقد كان تكريمه للمرأة خطاً طبيعياً منسجماً مع قيم الحضارة التي أقامها على الأرض، فساوى الإسلام بين الرجال والنساء في وحدة المنشأ: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً](النساء: 1)، وساوى بينهما في الأجر والثواب: [فَٱستَجَابَ لَهُم رَبُّهُم أَنِّی لَا أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِل مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَىٰ بَعضُكُم مِّن بَعض](آل عمران: 195)، وجعل النساء شقائق الرجال، ووحد بينهما في علاقة الولاية، التي عبرت عنها الآية الكريمة: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ](التوبة: 71)([20])، ثم ساوى بينهم في الحقوق والواجبات، ومنها: الكرامة الإنسانية العامة، وحرمة الدماء والأموال، وأعطى النساء حق الاختيار للزوج والعشير، وخوّل لها إدارة مالها، وحمّلها أمانة نشـر رسالة الإسلام مع الرجل سواء بسواء، وحثّها على العلم والتعلم، ووزّع الأدوار بينها وبين الرجل بما يضمن اتساق حركة المجتمع، ورغم كون حرمة الدماء والأموال والأعراض، في بداية الخطبة، كانت تشمل النساء ضمناً مع الرجال، إلا أن قرب عهد الناس من الجاهلية جعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) يخص النساء بفقرة خاصة من فقرات خطبته، رفعة لمكانتهن، وتأكيداً على حقوقهن. مع ملاحظة أن ما جاء في هذه الخطبة بشأن المرأة، كان تلخيصاً موجزاً لواقع ضخم شاده الإسلام في العدل والمساواة، فكان أول من آمن بالإسلام من العالمين امرأة هي خديجة – رضي الله عنها-، وأول من استشهد في سبيل الإسلام سمية -رضي الله عنها-([21])، فلقد شاركت المرأة المسلمة في بناء صرح هذا الدين مع الرجل مشاركة الشقيق للشقيق..

رابعاً: إقامة المجتمع القوي المتماسك:

وفي الخطبة إشارات متعددة إليه، يمكن جمعها في خطين عريضين:

الأول: علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض.

والثاني: علاقة الحاكم بالمحكوم.

ففي الخط الأول يرى المتأمل في الخطبة أن هذا المجتمع القوي ينبني على العلاقة الحميمة القوية بين أفراده، وتقوم هذه العلاقة على:

ــ الأخوة: في قوله (صلى الله عليه وسلم): (واعلموا أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة).

فالأخوة الإسلامية العالمية أساس من أسس الإسلام، استحق التأكيد مرة بعد مرة، لذلك استهل النبي (صلى الله عليه وسلم) خطبته بالتأكيد على حرمة الدماء والأموال والأعراض، ثم ختمها بتأكيده على معنى الأخوة الإسلامية الجامعة، وحذر من قتال المسلمين بعضهم البعض، معتبراً إيّاه ضلالاً بعد هدى، ورجعية بعد إيمان.. “تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأنّ المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، وستلقون ربكم، فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض”.

_ المساواة: في قوله: (إن ربكم واحد: كلكم لآدم، وآدم من تراب).. فما أروع هذا، وأجمله، وأعدله! الناس لآدم، فهم في ذلك أَكْفَاء.. والناس يتفاضلون بالأعمال، فواجبهم التنافس في الخير.. دعامتان قويمتان، لو بنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشـر إلى علياء السموات؛ الناس لآدم، فهم إخوان، فعليهم أن يتعاونوا، وأن يسالم بعضهم بعضاً، ويرحم بعضهم بعضاً، ويدل بعضهم بعضاً على الخير، والتفاضل بالأعمال. وعليهم أن يجتهدوا؛ كل من ناحيته، حتى ترقى الإنسانية. فهل رأيت سمواً بالإنسانية أعلى من هذا السمو، أو تربية أفضل من هذه التربية؟([22]).

فشعور المسلم بأخوّته لبني الإنسان جميعاً ليس أمراً ثانوياً عنده، ولا نافلة في دينه، إنما هو عقيدة يدين الله بها، ويلقاه يوم القيامة، ويرطّب بها لسانه ذكراً لله، يرجو به عند الله القربة. روى الإمام أحمد، وأبو داوود، عن زيد ابن أرقم قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول في دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة).

إن المسلمين عالميون، إنسانيون، بحكم تكوينهم العقدي والفكري، وليسوا ضد أي عرق من العروق، أو نسب من الأنساب، وقد علمهم دينهم أن البشـرية كلها أسرة واحدة، تجمعهم العبودية لله، والبنوة لآدم، كما قال الله تعالى: [يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](الحجرات: 13).

وكذلك في عدل الإسلام المطلق، والمساواة الحقيقية، والشفافية النزيهة، فلا حصانة، ولا استثناء؛ إنْ كان الربا قد حرّمه الله، فأوّل رباً محرم هو ربا العباس عم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإن كانت دماء الجاهلية موضوعة، فأوّل دم يضعه النبي (صلى الله عليه وسلم) تحت قدمه، هو دم بن ربيعة بن الحارث، عم النبي (صلى الله عليه وسلم): (وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وأول رباً أضع، ربا العباس بن عبد المطلب”..

وهذه هي البراءة من قيم الجاهلية، وأهمها إراقة الدماء، وأكل الربا، وهما الطريقتان الأساسيتان اللتان يأكل بهما القوي الضعيف؛ حيث يستبيح دمه بالقتل، ويأكل ماله بالربا، فيزداد القوي الغني قوة وغنى، ويزداد الضعفاء الفقراء ضعفاً على ضعف، وفقراً فوق فقر: “ألا وأن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وربا الجاهلية موضوع”.

فهل عرفت الدنيا عدلاً مثل ذلك العدل!؟

يصدر القانون النبوي فيكون أول تطبيق عملي له على أهل بيت النبوة.. إن كثيراً من القوانين التي تصدر اليوم هنا وهناك قد تكون صالحة من الناحية النظرية، لكنها تفقد مصداقيتها، وتسقط من حياة الشعوب، لغياب القدوة التطبيقية، من ناحية، ولتعدد الاستثناءات المزهقة لها، من ناحية أخرى. لكن القانون في الإسلام عبادة وطاعة، يحرص المسلم عليه – مع القدرة على تخطيّه – لتحقيق العدل والمساواة، وهما من دعائم بناء المجتمع المسلم، والشفافية الكاملة داخل المجتمع المسلم الذي أسسه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكل ما يدور في بيت أهله معلوم للجميع؛ سواء كان على المستوى الاقتصادي (ربا العباس)، أم كان على الصعيد الاجتماعي (دم ابن ربيعة بن الحارث). ولقد رأينا من قبل العلاقات الأسرية داخل بيت النبي القائد (صلى الله عليه وسلم)، تناقش على الملأ في صراحة مذهلة([23])، فلا مجال لإشاعة مغرضة، ولا مداراة لحقيقة قائمة.. بيت القائد بيت من زجاج لا يخفي خطأ، ولا يتستر على فساد([24])، وهو حق القبيلة والعائلة والأسرة. إلى مفهوم القصاص، وهو حق المجتمع (دم الجاهلية موضوع)، فمفهوم الثأر – الذي هو دماء الجاهلية – مفهوم جاهلي، لا يتوافر فيه العدل، ولا التحقيق المنصف مع الجاني، ولا البحث في أسباب الجريمة وخلفياتها، بينما القصاص – وهو القانون الذي يحكم المجتمع، وتقوم على تطبيقه الدولة، في إطار من التحقق والتثبت- يلغي الفوضى الجاهلية، ويؤمّن المجتمع المسلم: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](البقرة: 179).

ثم التأكيد على حقوق الرقيق والضعفاء، وهو تأكيد على مبدأ المساواة البشـرية التي أقامها الإسلام في الأرض، وتأكيداً على هذه المساواة المطلقة؛ فالناس متساوون في الحقوق والواجبات كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والتقوى محلها القلب، ومردها إلى الله تعالى، يحاسب عليها في الآخرة، أما حقوق الناس في الدنيا، فهي مكفولة بالعدل والمساواة. ولا يخرج هذا التأكيد المنفصل على حق الرقيق، عن كونه تخصيصاً بعد تعميم، وإجمالاً بعد تفصيل رأيناه واقعاً معاشاً في حياة النبوة كلها.. (أرقاءكم، أرقاءكم، أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه، فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم).

ــ الوحدة والترابط، ونبذ التفرق والاختلاف: في قوله: (فلا ترجعوا بعدي كفاراً)، وفي رواية: عن جرير  قال: قال لي النبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) في حجةِ الوداع: (استَنْصِت الناسَ! لا ترجِعُوا بعدي كُفاراً يضـربُ بعضُكم رقابَ بعض)([25]).

وفي روايةٍ زادَ فيها أداءَ الأماناتِ، وتركَ المعاملات الرِّبَوية، القائمة على الاستغلالِ والرِّبحِ الحرام والجشَعِ المقيت: (أيها الناسُ، إنَّ دماءكم وأموالَكم عليكم حرامٌ إلى أنْ تلقَوْا ربَّكم، كحُرمةِ يومِكم هذا، وكحُرمةِ شَهرِكم هذا، وإنكم ستلقَوْن ربَّكم فيسألكم عن أعمالِكم، وقد بلَّغت؛ فمَن كان عندَه أمانةٌ فلْيؤدِّها إلى مَن ائتمنَه عليها، وإنَّ كلَّ رِباً موضُوعٌ، ولكن لكم رءوسُ أموالِكم لا تَظلِمُون ولا تظلَمُون. قضـى الله أنه لا ربا، وإنَّ ربا العباس بن عبد المطلب موضُوعٌ كله). ولله درُّ ابن عطية حيث قال: فبدأ (صلى الله عليه وسلم) بمن معه، وأخصِّ الناسِ به؛ وهذه من سُنَنِ العَدْلِ للإمام: أن يُفِيضَ العَدْلَ على نفسِه وخاصَّتِه؛ فيستفِيضَ حينئذ في الناسِ([26]).

ثم أكَّد النبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) على تركِ ثاراتِ الجاهلية، ونَبْذِ نَعراتِها التي تتنافى مع مبدأ الأخُوَّةِ الإسلامية؛ ولذلك جاء التعبيرُ النبوي بِوَضْعِ دماءِ الجاهليةِ تحت القدمَيْن الشّـَرِيفتَين في غايةِ البلاغة: (وأنَّ كلَّ دمٍ كان في الجاهليةِ موضوعٌ، وإنَّ أولَ دمائكم أضعُ دمُ ابنِ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مُسترضَعاً في بني ليثٍ فقتلَته هُذَيل؛ فهو أولُ ما أبدأ به من دماءِ الجاهلية). وهذا يتفقُ مع دعوةِ الإسلامِ إلى السماحةِ والسلام الاجتماعي، وكَوْنِ الإسلامِ يَجُبُّ ما قبلَه. فهي، إذا تدبَّرْنا، تجديدٌ للتاريخِ العربي، يطوِي صَفحةً جاهِليةً مُظلِمةً، ويبني صَفحةً إسلاميةً ناصِعةً مُشرِقةً.

_ حرمة الدماء والأموال والأعراض، وعصمتها([27]) وذلك في قوله: (أيها الناس، إن دماءكم([28]) وأموالكم([29]) حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)([30]).

فما أحسنَ أنْ نتذكرَ هذه المبادىءَ القيِّمة، والوصايا النافِعة، التي أكَّدَها النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) في هذه الخطبةِ الرائعة: فمِن هذه المبادىء العقدية: مبدأ الاعتصام بالكتاب والسنة، وترك التشـريع بالهوى، واتباع الجاهلية. وبسببِ التساهُل في الالتزامِ بهذه الوصيةِ، دخلَت البِدَعُ والخلافات. ومن المبادىء الاجتماعية: حُرمةُ سَفكِ الدماءِ بغيرِ حق، والحرصُ على الأخُوةِ والسلام الاجتماعي، ونبذُ النزاعاتِ والنعراتِ والثاراتِ والمعامَلاتِ الجاهلية؛ وبسبب التفريط في هذا المبدأ كذلك، أصابَتْ المسلمين كثيرٌ من الفِتَنِ الداخلية.

 ومن المبادىء الأُسَرِية: مبدأ الوَصيةِ بالإحسانِ إلى المرأةِ، والعناية بالأسرةِ، والمحافظة على الأنساب. ومن المبادىء الإنسانيةِ: مبدأ عدمِ التفاضُلِ بين الناسِ إلا بالتقوى.

ولا شكَّ أنَّ هذه الوصايا الجامعة، والمبادىء النافعة، تمهِّدُ السبيلَ إلى الاستقرارِ الأُسَري، والتوازنِ الاقتصادي، والتكافُلِ الاجتماعي، والتعارُفِ الإنساني؛ قياماً بواجبِ الدعوة إلى هذا الدين بالتي هي أحسن. إنها الخطبةُ الخاتِمة الجامِعة، التي كانت بمثابةِ رسالةٍ حضارية عامةً، إلى كلِّ البشـرية، على اختلافِ أجناسِ الناسِ وألوانِهم وألسِنَتِهم([31]).

أما الخط الثاني، وهو بيان العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد أقامته الخطبة على دعامتين:

الأولى: طاعة أولي الأمر بالمعروف:

وذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): (يا أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، وإن أُمِّر عليكم عبد حبشـي مجدع، ما أقام فيكم كتاب الله)، فشـرط إقامة كتاب الله، إشارة إلى إعلاء المرجعية الإسلامية، والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله، فإن فعل ذلك وجبت طاعته، مهما كان اسمه وصفته، أما إن حاد عن ذلك، فلا سمع له ولا طاعة، بل تجب مقاومته بالوسائل التي شرعها الإسلام… من النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر… إلخ.

إن طاعة الأمراء واجبة، لكنها مشـروطة باتّباع الكتاب والسنّة، فالطاعة للحكام إنما هي طاعة لله ولأوامره؛ ابتدءاً وانتهاء، وهي على هذا لا تكون للحاكم بقدر وجاهته الشكلية، ولا مكانته الاجتماعية، لكن الطاعة تكون للحاكم بقدر تمسكه واعتصامه بالكتاب والسنة، مصدري التشـريع، فالطاعة في الإسلام طاعة مبصـرة عاقلة ناصحة مسترشدة..

الثانية: تقديم القدوة والنموذج من قبل الحاكم لرعيته:

وقد ضرب الرسول القائد (صلى الله عليه وسلم) المثل في خطبته بحكمين يتصلان ببعض أقاربه، فقد وضع ربا عمّه العباس، ودم أحد بني عبدالمطلب، وذلك قوله: (ودماءُ الجاهليةِ موضوعةٌ، وأول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا، ربا العباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله).

وقد قيل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه – تعليقاً على إحضار جنوده كنوز كسـرى وقيصـر بين يديه، دون طمع فيها: (عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا).

إن هذه الأسس الأربعة([32]): تحديد المرجعية، وبناء الفرد، وتكوين الأسرة، وإقامة المجتمع القوي، بتفاصيلها وجزئياتها التي تؤخذ من الكتاب والسنة، هي السبيل لأي نهضة، أو إصلاح لأحوال المجتمعات التي تدين بالإسلام، للوصول إلى المجتمع المسلم الواحد، الذي يقوم بأداء مهمته المتمثلة في قيادة البشـرية الحائرة، إلى ربها، والأخذ بيدها إلى حياة سعيدة، تحقيقاً لأستاذية العالم، والشهادة على الناس: [وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَعَلَى النَّاسِ](البقرة: 143).

رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم)  أكمل رجال العالم:

وإذا كانت الشهادة في أمر عادي، ولو بسيطاً، لا تصح إلا ممن كان عدلاً، تتوفر فيه شروط من العقل والعلم والصدق ومكارم الأخلاق.. فكيف الأمر بمن يكون شهيداً على الناس، كل الناس؟! وهكذا كانت أمّة الإسلام (أمّة وسطاً) وسطاً بكل معاني الكلمة: شرفاً.. وإحساناً.. وفضلاً.. وتوازناً.. واعتدالاً.. وقصداً.. وعقيدة.. ونظاماً.. وشريعة.. ومنهاجاً.. ومناخاً.. وموقعاً في الأرض.. وتاريخاً… إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيها رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم، فتفصل في أمرها([33]).

وهي شهيدة على الناس، والرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الذي يشهد عليها، يقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيها الكلمة الأخيرة، وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها، لتعرفها هي، وتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعداداً لائقاً.

جاء في تفسير فتح البيان: [وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]، أي على أمّته؛ بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغهم إليهم. ومثله قوله تعالى: [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا]([34])، وقيل: عليكم، بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالإيمان. وقيل معناه يشهد عليكم بالتبليغ لكم([35]). قال في الكشاف: “لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له، جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: [والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد]([36])، [كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]([37])([38]).

وإنما أخّر لفظ (على) في شهادة الأمم على الناس، وقدّمه في شهادة الرسول عليهم، لأن الغرض – كما قال صاحب الكشاف – في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم([39]). كما أن التزكية أصل عظيم في الشهادة، وأن المزكى يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكي، وأن المزكى لا يحتاج للتزكية، وأن الأمة لا تشهد على النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولهذا كان يقول في حجة الوداع (ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيقول: اللهم اشهد)، فجعل الله هو الشاهد على تبليغه([40]).

وبعدما ألقى رسول الله خطبته الجامعة الخالدة، حمّل المسلمين أمانتهم في تنفيذ بنودها، ونقلها إلى العالمين من بعده، فأخذ عليهم العهد والميثاق بإبلاغ شاهدهم الغائبين منهم، واستشهدهم على إبلاغه إياهم تلك التعاليم النورانية، فشهدوا، (ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه. وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟.. قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد”.. ونحن نشهد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد بلغ وأدى ونصح، ونشهد لهؤلاء الصحابة – رضي الله عنهم – أنهم أدوا وبلغوا بنقلهم هذه الخطبة الخالدة إلى الأجيال المتعاقبة من بعدهم، ونشعر أن في أعناقنا أمانة تطبيق لبنود هذه الخطبة، كما أن في أعناقنا أمانة تبليغ لها لمن بعدنا، فالبلاغ والتبليغ والدعوة مهمة عامة انتدب لها النبي (صلى الله عليه وسلم) عامة المسلمين، ولم يقصـرها على طبقة الصفوة من أهل العلم والثقافة، ولكنه جعلها مهمة المسلمين جميعاً: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب)، ولقد أطلقها من قبل: (بلغوا عني ولو آية).

وأمانة التبليغ تدعونا أن نعترف أن لكل عصـر وسائل مكافئة لتبليغ الرسالة، فلقد أصبح الإنترنت والفضائيات اليوم الوسيلة المكافئة للقيام بمهمة التبليغ، فهل ندرك هذه الحقيقة، ونعمل على توظيفها التوظيف الأمثل لأداء أمانة التبليغ التي حملنا إياها النبي (صلى الله عليه وسلم)؟!

لم تكن هذه الإشارات العامة الموجزة في خطبة الوداع إعلان مبادئ ودعائم يقام عليها المجتمع المسلم، لكنها كانت تلخيصاً لما تم بناؤه بالفعل من دعائم راسخة كالجبال الرواسي على أرض الواقع. وهكذا تكون المقارنة الأخيرة بين منهج النبوة، وإعلانه الدعائم الأساسية للمجتمع المسلم، وإعلان حقوق الإنسان في الإسلام، وبين أي إعلان آخر حديث أو قديم لحقوق الإنسان، في أن ما أعلنه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في (خطبة الوداع) كان ملخصاً لواقع حقيقي أقامه فعلياً على أرض الواقع، بينما كل الإعلانات الأخرى لا تتعدى أن تكون طموحات وآمالاً، أغلبها نظري، لا يصمد للتطبيق العملي، هذا إن لم يقصد معلنوها التمويه على الرأي العام العالمي، وما قضية حظر الحجاب بفرنسا عنا ببعيدة.

إكمال الدين والنعمة العظمى:

ذكر أبو الحسن الندوي: “لما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من صلاته والتضـرع والابتهال إلى غروب الشمس، وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين، يقول فيه: اللهم! إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق، المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضـرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم أنفه لك، اللهم! لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين”([41]).

اليوم.. الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع.. أكمل الله هذا الدين، فما عادت فيه زيادة لمستزيد، وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل، ورضي لهم {الإسلام} ديناً؛ فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته – إذن – فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين.

ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف..

إن المؤمن يقف أولاً: أمام إكمال هذا الدين؛ يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشـرية، ومنذ أول رسول آدم -عليه السلام -، إلى هذه الرسالة الأخيرة. رسالة النبي الأمي (صلى الله عليه وسلم) إلى البشـر أجمعين.. فماذا يرى؟.. يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل، موكب الهدى والنور، ويرى معالم الطريق، على طول الطريق، ولكنه يجد كل رسول – قبل خاتم النبيين – إنما أرسل لقومه، ويرى كل رسالة – قبل الرسالة الأخيرة – إنما جاءت لمرحلة من الزمان.. رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة.. ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها؛ متكيفة بهذه الظروف.. كلها تدعو إلى إله واحد – فهذا هو التوحيد -، وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد – فهذا هو الدين -، وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد – فهذا هو الإسلام -، ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة، وحالة البيئة، وحالة الزمان والظروف..

حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشـر؛ أرسل إلى الناس كافة، رسولاً، خاتماً للنبيين، برسالة «للإنسان» لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة.. رسالة تخاطب «الإنسان» من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور، ولا ينالها التغيير: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ](الروم: 30)، وفصّل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة «الإنسان» من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها؛ وتضع لها المبادىء الكلية، والقواعد الأساسية، فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية، فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان.. وكذلك كانت هذه الشـريعة، بمبادئها الكلية، وبأحكامها التفصيلية، محتوية كل ما تحتاج إليه حياة «الإنسان»، منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان؛ من ضوابط وتوجيهات وتشـريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد؛ حول هذا المحور، وداخل هذا الإطار.

وقال الله تعالى للذين آمنوا: [اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا](المائدة: 3).. فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشـريعة معاً.. فهذا هو الدين.. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين – بمعناه هذا – نقصاً يستدعي الإكمال، ولا قصوراً يستدعي الإضافة، ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير.. وإلا فما هو بمؤمن؛ وما هو بمقر بصدق الله؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين!

إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن، هي شريعة كل زمان، لأنها – بشهادة الله – شريعة الدين الذي جاء «للإنسان» في كل زمان وفي كل مكان؛ لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال، في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات.

الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي، والمبادىء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشـرية إلى آخر الزمان؛ دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من إطار الإيمان!

والله الذي خلق «الإنسان»، ويعلم من خلق؛ هو الذي رضي له هذا الدين؛ المحتوي على هذه الشـريعة، فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان؛ وبأطوار الإنسان!

ويقف المؤمن ثانياً: أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين، بإكمال هذا الدين؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة، النعمة التي تمثل مولد «الإنسان» في الحقيقة، كما تمثل نشأته واكتماله. «فالإنسان» لا وجود له قبل أن يعرف إلهه، كما يعرّفه هذا الدين له، وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه، كما يعرّفه له هذا الدين، وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود، وكرامته على ربه، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه. و«الإنسان» لا وجود له قبل أن يتحرّر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية، بأن تكون شريعته من صنع الله، وبسلطانه، لا من صنع أحد، ولا بسلطانه.

إن معرفة «الإنسان» بهذه الحقائق الكبرى، كما صوّرها هذا الدين، هي بدء مولد «الإنسان».. إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى؛ يمكن أن يكون (حيواناً)، أو أن يكون (مشـروع إنسان) في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون «الإنسان» في أكمل صورة للإنسان، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن.. والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان!

وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية، لهو الذي يحقق «للإنسان» «إنسانيته» كاملة.. يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات، إلى دائرة «التصور» الإنساني، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات، عالم الشهادة وعالم الغيب.. عالم المادة وعالم ما وراء المادة.. وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود! ويحققها له، وهو يخرجه بتوحيد الله، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه. فإلى الله وحده يتجه بالعبادة، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشـريعة والنظام، وعلى الله وحده يتوكل، ومنه وحده يخاف.. ويحققها له، بالمنهج الرباني، حين يرفع اهتماماته، ويهذب نوازعه، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء، والاستعلاء على نوازع الحيوان، ولذائذ البهيمة، وانطلاق الأنعام!

ويقف المؤمن ثالثاً: أمام ارتضاء الله الإسلام ديناً للذين آمنوا.. يقف أمام رعاية الله تعالى وعنايته بهذه الأمة، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه.. وهو تعبير يشـي بحب الله لهذه الأمة، ورضاه عنها، حتى ليختار لها منهج حياتها..

وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئاً ثقيلاً، يكافىء هذه الرعاية الجليلة.. أستغفر الله.. فما يكافىء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه.. وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة، ومعرفة المنعم.. وإنما هو إدراك الواجب، ثم القيام بما يستطاع منه، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه.

إن ارتضاء الله الإسلام ديناً لهذه الأمة، ليقتضـي منها ابتداءً أن تدرك قيمة هذا الاختيار، ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار.. وإلا فما أنكد، وما أحمق، من يهمل – بله أن يرفض – ما رضيه الله له، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله!.. وإنها – إذن – لجريمة نكدة؛ لا تذهب بغير جزاء، ولا يترك صاحبها يمضـي ناجياً أبداً، وقد رفض ما ارتضاه له الله.. ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام ديناً لهم، يرتكبون ما يرتكبون، ويمهلهم إلى حين.. فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه.. واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله.. فلن يتركهم الله أبداً، ولن يمهلهم أبداً، حتى يذوقوا وبال أمرهم، وهم مستحقون!([42]).

إن أول ما يلفت النظر في (حجة الوداع)، هذا الجمهور الضخم الذين حضـروا مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مختلف أنحاء الجزيرة العربية، مؤمنين به، مصدقين برسالته، مطيعين لأمره، وقد كانوا جميعاً، قبل ثلاث وعشـرون سنة فحسب، على الوثنية والشـرك، ينكرون مبادئ رسالته، ويعجبون من دعوته إلى التوحيد، وينفرون من تنديده بآبائهم الوثنيين، وتسفيهه لأحلامهم، بل كان كثير منهم قد ناصبوه العداء، وتربصوا به الشـر، وبيّتوا على قتله، وألبّوا عليه الجموع، وجالدوه بالسيوف والرماح، فكيف تم هذا الانقلاب العجيب في مثل هذه المدة القصيرة، وكيف استطاع (صلى الله عليه وسلم) أن يحوّل هذه الجموع من وثنيتها وجاهليتها وترديها وتفرقها، إلى توحيد الله، وعلم ذاته وصفاته، واجتماع الكلمة، ووحدة الهدف والغاية؟ وكيف كسب حب هذه القلوب بعد عداوتها، وهي المعروفة بشدة الشكيمة، وعنف الخصام؟ ألا إن إنساناً مهما بلغت عبقريته، ودهاؤه، وقوة شخصيته، ليستحيل أن يصل إلى هذا في مئات السنين، وما سمعنا بهذا في الأولين والآخرين، إن هو إلا صدق الرسالة، وتأييد السماء، ونصـرة الله، ومعجزة الدين الشامل الكامل، الذي أتم الله به نعمته على عباده، وختم به رسالاته للناس، وأراد أن ينهي به شقاء أمة كانت تائهة في دروب الحياة، مستذلة للأهواء والعصبيات، وأن يدلها على طريق الهداية، ويفتح أعينها لأشعة الشمس، ويقلدها قيادة الأمم، ويحوُّل بها مجرى التاريخ، ويمحي بها مهانة الإنسان، ويورثها الحكمة والكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب.

مائة وعشـرون ألفاً كانوا له مكذبين، فأصبحوا له مصدقين، وكانوا له محاربين، فأصبحوا له مذعنين، وكانوا له مبغضين، فأصبحوا له محبين، وكانوا عليه متمردين، فأصبحوا له طائعين، كل ذلك في ثلاث وعشـرين من السنين .. ذلك هو صنع الله الحق المبين، فتعالى الله عما يشـركون، وتنزهت ذات رسوله عما يقول الملحدون، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وثاني ما يلفت النظر في حجة الوداع هذا الخطاب القوي الحكيم، الذي خاطب به رسول الله الناس أجمعين، وتلك المبادئ التي أعلنها بعد إتمام رسالته، ونجاح قيادته، مؤكدة للمبادئ التي أعلنها في أول دعوته، يوم كان وحيداً مضطهداً، ويوم كان قليلاً مستضعفاً، مبادئ ثابتة لم تتغير في القلة والكثرة، والحرب والسلم، والهزيمة والنصـر، وإعراض الدنيا وإقبالها، وقوة الأعداء وضعفهم، بينما عرفنا في زعماء الدنيا تقلباً في العقيدة والمبدأ، وتبايناً في الضعف والقوة، وتغيراً في الوسائل والأهداف، يظهرون خلاف ما يبطنون، وينادون بغير ما يعتقدون، ويلبسون في الضعف لبوس الرهبان، وفي القوة جلود الذئاب، وما ذلك إلا لأن هؤلاء رسل المصلحة، وأولئك رسل الله، وشتان بين من يحوم فوق الجيف، وبين من يسبح في بحار النور، شتان بين الذين يعملون لأنفسهم، وبين الذين يعملون لإنسانيتهم، شتان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن [ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّور، وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَولِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ، أُوْلَـٰٓئِكَ أَصحَٰبُ ٱلنَّارِ، هُم فِيهَا خَٰلِدُونَ](البقرة: 257)([43]).

وأخيراً: لقد تضمنت هذه الخطبة المباركة إعلان مبدأ المساواة بين الناس في أصل العنصـر، والمساواة بين الراعي والرعية، وبين الرجال والنساء، في الحقوق والواجبات، ووحدة القانون الذي يخضع الناس له، وهو كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وسلم).

   فهذه الوثيقة التي تعارف الجميع على تسميتها بخطبة حجة الوداع، تستحق منا وقفة، وأي وقفة، فقد كانت بحق إيذاناً ببداية غروب شمس حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين البشـر، تلك الحياة المشرقة التي ملأت الدنيا بنورها وفضلها، وبرها وبركتها. وبهذا كان الإسلام سباقاً في تقرير حقوق الإنسان، قبل أمم الأرض بزمن بعيد. هذه الحقوق التي أصبحت اليوم مهيضة الجناح، حبيسة النصوص، تفتقد للضمانات والمؤيدات لتطبيقها والالتزام بها.

   فانتهاكات حقوق الإنسان في العالم كثيرة وفاضحة، سواء على المستوى المحلي والوطني، أم على المستوى الدولي والعالمي، فمعظم الدول تتاجر بحقوق الإنسان، وتستخدمها كالعصا السحرية متى شاءت، وتغض الطرف عنها متى أرادت، وتصم آذانها على إبادة شعب كامل، والتنكيل به في حالات كثيرة.كما أن هذه الوثيقة المباركة أعلنت مبادئ الإصلاح، المتمثلة في: تحديد المرجعية للأمة والدولة، وبناء الفرد، وتكوين الأسرة، وإقامة المجتمع القوي، بتفاصيلها وجزئياتها التي تؤخذ من الكتاب والسنة.


([1]) الرحيق المختوم للمباركفوري: 459، المنهج الحركي للغضبان: 2-199.

([2]) دراسة في السيرة، الدكتور عماد الدين خليل: 324.

([3]) اشتهر (ولز) بقصصِه ورواياته التي تعتمد الخيال العلمي، من مثل “آلة الزمن” و”الرجل الخفي”، فضلاً عن رواياته النفسية والاجتماعية من مثل “ميكافيللي الجديد” و”الزواج”. ولم يغفل (ولز) البحث في التاريخ، فأنجز عام 1920م “معالم تاريخ الإنسانية”، وأعقبه بـ”موجز تاريخ العالم”، وكان آخر كتاب أصدره هو “العقل في أقصى تواتراته” 1944م. ولولز كتاب في السيرة الذاتية بعنوان: “تجربة في كتابة السيرة الذاتية”.

([4]) معالم تاريخ الإنسانية لولز: 3/640-641.

([5]) سيرة ابن هشام: 1/262، الرحيق المختوم: 90

([6]) سيرة ابن هشام: 2/605، الرحيق المختوم: 460

([7]) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، محمد الخضري: 100، فقه السيرة للبوطي: 78.

([8]) فقه السيرة للبوطي: 341.

([9]) رواه البخاري في صحيحه، حديث 1655. كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى.

([10]) رواه البخاري في صحيحه، حديث 6403. كتاب الحدود، باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق.

([11]) تفسير ابن كثير: 2/78.

([12]) رواه البخاري في صحيحه، حديث 121.

([13]) رواه البخاري في صحيحه، حديث 1543. كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك.

([14]) انظر: المرجعية العليا في الإسلام للقرأن والسنة، للإمام يوسف القرضاوي رحمه الله.

([15]) في ظلال القرآن: 6/115.

([16]) تفسير السعدي 1/220.

([17]) وقوله (صلى الله عليه وسلم): (ورجب مُضـَر الذي بين جمادى وشعبان)، إنما قال ذلك؛ لأنَّ ربيعة كانت تُحرِّمُ في رمضان، وتسمِّيه رجباً: من رجَبت الرجل، ورجَّبته، إذا عظمته… فبيَّنَ أنه رَجَبُ مُضـَر، لا رجَبُ ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان.

([18]) رواه ابن ماجة في سننه، حديث 1851، كتاب النكاح، باب حق المرأة على الزوج.

([19]) رواه ابن ماجة في سننه، حديث 2712، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، والإمام أحمد: 4/238، رقم (18106)، والطبراني: 17/34، رقم (65).

([20]) من مقال بعنوان: القوامة بين السلطة الأبوية والإدراة الشورية، للباحثة هبة رؤوف عزت، من موقع إسلام اون لاين.

([21]) المنهج الحركي للسيرة النبوية: 1-122.

([22]) مدخل لمعرفة الإسلام، الإمام يوسف القرضاوي: 179.

([23]) في حادثة الإفك وغيرها من قصص سيرته: مع زوجاته.

([24]) المنهج الحركي للسيرة النبوية: 200.

([25]) رواه البخاري في كتاب الديات، حديث 6475، باب قول الله: ومن أحياها، وفي كتاب الفتن حديث 6669 باب قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لا ترجعوا بعدي كفاراً يضـرب بعضكم. وفي كتاب الإيمان، باب بيان معنى قول النبي لا ترجعوا بعدي كفاراً، حديث 65، ورواه مسلم في كتاب (الإيمان).

([26]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية: 1/374.

([27]) المنهج الحركي للسيرة النبوية: 201.

([28]) جاءت أحاديث كثيرة تشدد على حرمة الدم، فقد روى الإِمام البخاري، رقم الحديث (6862) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): “لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دمًا حرامًا”. قال ابن العربي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (14/ 167): الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تقي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة، حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول.. وروى الإِمام البخاري في صحيحه، رقم الحديث (6863) عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: إن من ورطات الأمور، التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلّه.

([29]) وأما حرمة الأموال، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه، رقم الحديث (5978) والطحاوي في شرح مشكل الآثار، رقم الحديث (2822) بسند صحيح عن أبي حُمَيْد الساعدي  أن رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه)، قال: وذلك لشدة ما حَرّم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على المسلم من مال المسلم.. وروى الإِمام مسلم في صحيحه، رقم الحديث (137) عن أبي أُمامة  قال: قال رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب اللَّه له النار، وحَرّم عليه الجنة)، فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يَا رَسُول اللَّهِ؟، فقال رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (وإن قضيبًا من أراك).

([30]) جميع نصوص الخطبة التي وردت في هذا البحث نقلناها كاملة عن البوطي: 338 وهي من صحيح مسلم والبخاري وابن إسحق وابن سعد.

([31]) نظرات في خطبة حجة الوداع، شبكة المشكاة الإسلامية.

([32]) معالم الإصلاح في خطبة الوداع، حسن عبد الفتاح محمد.

(33) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين: 1/60، وتفسير السراج المنير للخطيب الشربيني: 1/99-100.

([34]) سورة النساء، الآية: 41.

(35) فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان: 1/300.

([36]) سورة المجادلة، الآية: 6.

([37]) سورة المائدة، الآية: 117.

(38) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للإمام الزمخشري: 1/199.

(39) المصدر نفسه: 1/200.

(40) التحرير والتنوير: 2/21.

(41) السيرة النبوية للندوي: 389.

([42]) في ظلال القرآن: 2/318.

([43]) السيرة النبوية، دروس وعبر، الدكتور مصطفى السباعي: 166.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى