منهج العلامة ناصر سبحاني في فهم السنة النبوية، والحديث، وعلومه (الحلقة 20)
العدد ١٨٧ ǀ ربيع ٢٠٢٤ ǀ السنة الحادية والعشرون
د. عمر عبد العزيز
أكدنا في مقالات سابقة على أن الأستاذ ناصر كان مهتماً بجميع العلوم الإسلامية، لا سيما العلوم التي تدخل إطار ما يسمى بالعلوم الشـرعية. فلقد تحدث ـ كما ظهر في مقالاتنا السابقة – عن القرآن وعلومه، والعقيدة ومتعلقاتها من الكلام والمنطق والفلسفة والتصورات، والفقه وأصول الفقه، والقيم والسلوك، والأحكام وحِكَمها. وقد ترك على منصات كل هذا بصماته، عرضاً وتقييماً، ودراسة ونقداً، فاقترح تعديلات، وإضافات، وحذائف، رغم إشاداته المتكررة بدور علماء السلف، وتثمين جهودهم في وضع أسس تلكم العلوم.
ومن العلوم التي درسها سبحاني بتفصيل، ودرّسها لطلابه، علوم الحديث، بجميع فروعه؛ سنداً ومتناً، رواية ودراية، رواة ومرويات، وقدم مقترحات ثمينة تخدم بنيان العلم المذكور، إن كان هناك من يلبي طلباته الملحة، لا سيما ما صرح به في رسالته المسماة بـ(رسالة في علوم الحديث)، التي أرسلها إلى العلامة د. يوسف القرضاوي، دعماً لمشروعه الكبير الموسوم بـ(مشروع تدوين السنة والسيرة النبوية)، التي بادر بها ـ رحمه الله ـ في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
ولكي يظهر للقراء الأجلاء جانب من رؤى العلامة ناصر ومنهجه في فهم السنة والحديث، سأخصص – بإذن الله – حلقات لدراسة ما وصلت إليه في هذا الجانب.
أولاً/ السنة في اللغة والاصطلاح:
1- اتفق علماء اللغة على أن (السنة) في الأصل من السِّنَن، وهي الطريقة. تقول العرب: استقام فلان على سِنَن واحد، وسَنَن وسِنَن وسُنَن ثلاث لغات”([1]). وقد تأتي السّنن بمعنى الجهة، يقال: سنن الطريق: نهجه وجهته([2]). وأكثر اللغويين الذين فصّلوا الحديث عن مادة (سنّ)، واستعرضوا معانيها المختلفة، هو (ابن منظور)، في موسوعته (لسان العرب)، ولكن معظم المعاني التي أتى بها متقاربة، وهي قريبة من الطريقة، سواء كانت طريقة حسنة، أو طريقة سيئة([3]). ولقد وردت كلمة السُّنة في القرآن بهذا المعنى، فقال تعالى: [سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا](الإسراء/٧٧). وقال تعالى: [قَد خَلَت مِن قَبلِكُم سُنَن فَسِیرُواْ فِی ٱلأَرضِ فَٱنظُرُواْ كَیفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلمُكَذِّبِینَ] (آل عمران/١٣٧)، وهي في هذه الآيات تعطي معنى الوجهة أو الطريقة أو العادة المتبعة.
2 – أما في الاصطلاح: فهناك تعريفات عديدة للسنّة، وأشهرها عند الأصوليين هي: أنها أعمال النبي وأقواله وتقريراته([4]). ومن هنا قسّم العلماء السنّة إلى سنّة قولية، وهي أكثر السنّة التي وردت عن طريق الروايات، والسنّة الفعلية التي ثبتت في سيرته(صلى الله عليه وسلم)، والسنّة التقريرية التي هي جزء آخر من سيرته، وهي القسم الخاص بالحالات التي رآها أو سمعها (صلى الله عليه وسلم)، فأقرّها؛ قولاً كان أو فعلاً.
وأحسن من عرّف السُّنَّة كمصطلح أصولي، الإمام الشاطبي، فقال فيها: “يطلق لفظ السنّة على ما جاء منقولاً عن النبي (صلى الله عليه وسلم) على الخصوص، مما لم يُنَصّ عليه في الكتاب العزيز، بل إنما نصّ عليه من جهته؛ كان بياناً لما في الكتاب أوْ لا”. ثم قال: “ويطلق أيضاً في مقابلة البدعة، فيقال: فلان على سنّة، إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي (صلى الله عليه وسلم).. ويطلق أيضاً لفظ السنّة على ما عمل عليه الصحابة، وُجِد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد، لكونه اتباعاً لسنّة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم”([5]). وبهذا أضاف الشاطبي – بعد القول والفعل والإقرار – أمراً رابعاً وهو ما اجتمع عليه الصحابة.
3- ولكن العلامة سبحاني عبّر عن هذا النوع الرابع من السنة بـ(الحياة الجمعية الإجماعية) للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار([6])، وأتى بقيد (الجمعية) كي يستثني التصـرفات (الفردية) التي لا تصبح حجّة، كما أتى بقيد (الإجماعية)، كي يستثني ما لم يتحقق فيه إجماع الصحابة. فالذي عمله الصحابة ولم يكن عملاً فردياً، بل كان متعلقاً بالحياة الاجتماعية لهم، وأجمعوا عليه دون رافض، فهو يعتبر جزءاً من السّنّة لدى الشهيد ناصر سبحاني.
ثانياً/ حجية السنة، ورتبتها بين الأدلة الشرعية:
1- أجمع الأصوليون على أن السنة تحتل المرتبة الثانية في مصادر الأحكام، بعد القرآن الكريم. هذا بصـرف النظر عن تفاصيل الشروط المحدّدة والجدل المثار حول نوع السنة، والمراد منها، وأقسامها. والراجح لدى المحققين أن أول من أصّل نظرية حجية السنّة، ووجوب اتباع حكم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، الإمام الشافعي، الذي قال في مرجعه الفقهي الشهير (الأم): “لم أسمع أحداً نسبه الناس ـ أو نسب نفسه ـ إلى علم، يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتسليم لحكمه. وأن الله عز وجل لم يجعل لأمته بعده إلا اتباعه. وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله، أو سنّة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما”([7]).
2- واستدل العلماء – قديماً وحديثاً – على حجية السنّة بعدد من الآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بإطاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بعد إطاعة الله، كقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ](النساء/٥٩)، والأخذ من الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيما آتاه، والانتهاء عما نهى عنه، كقوله سبحانه: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](الحشر/٧)، وقوله: [مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ](النساء/٨٠. وكذلك الإشارات العديدة في القرآن إلى الحكمة بعد الكتاب، وهي سنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لدى العديد من المحققين”([8])، كقوله تعالى: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ](الأحزاب/ ٣٤). وكأمره سبحانه بردّ المتنازع فيه بين المسلمين إلى الله والرسول، كقوله: [فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِﱠ](النساء/٥٩).
3- ولم يُسمع أن ردّ أحد من المسلمين حجيّة السنة بإطلاق، إلا غلاة الخوارج، الذين شكّكوا في صدق روايات الصحابة، وكذلك غلاة فرق الشيعة الذين ردّوا مصادر السنة لأهل السنة ([9])، وعدد من المستشـرقين، ومن تأثر بهم، ممن رفضوا مصداقية الحديث والسنة من الأساس([10])، أو من يتسمون بالقرآنيين الداعين لفكرة الاكتفاء بالقرآن في عصرنا([11]). ولقد قال الشاطبي بحق هؤلاء قديماً: “إن الاقتصار على الكتاب، رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن السنة”([12]). ومما يؤسف له أن عدداً من الكتّاب المعاصرين تأثروا بهؤلاء المستشـرقين، من أمثال الدكتور أحمد أمين، الذي نقل كثيراً من تشكيكات المستشـرق اليهودي (جولد تسهير)، في كتابيه: (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام)، وكذلك محمود أبو رية، في كتابه: (أضواء على السنة المحمدية)([13]).
ومن نافلة القول ذكر أن فكرة الاكتفاء بالقرآن قديمة جداً، حيث خصّ الإمام الشافعي معظم كتاب (جَماع العلم)، لمناقشة من كانوا يردّون الحديث، بل جعل من عنوان الباب الأول من كتابه: (باب طائفة كانوا يردّون الأحاديث والأخبار)، وردّ عليهم بالتفصيل([14]).
4- ولكون الحديث منقولاً عبر سند يبدأ بالصحابة الذين سمعوا الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويستمر إلى عهد التابعين، وتابعيهم ـ أي إلى عصر تدوين الحديث ـ، اضطر العلماء أن يقسّموا الحديث إلى تقسيمات عديدة، وأشهرها طريقة الجمهور، وطريقة الحنفية. فجمهور الأصوليين، وعلماء الحديث، وفقهاء المذاهب من غير الحنفية، قسّموا الحديث إلى المتواتر، وخبر الواحد. وتعريفهما كما يلي:
ا- الحديث المتواتر: “عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، من أول رواته إلى منتهاه”([15]). وهو نوعان: المتواتر اللفظي، وهو ما تواتر على لفظ واحد؛ كحديث: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار)([16])، والمتواتر المعنوي: ما لم يتواتر لفظه، ولكن تواتر معناه؛ كأحاديث رفع اليدين في الدعاء. ومن الجدير بالذكر أن كثيراً من العلماء رأوا قلّة هذا النوع (أي المتواتر) من الحديث، إلى درجة أن قال فيه ابن الصلاح الشهرزوري: “ومن سُئل عن أبرز مثال لذلك فيما يروى من الحديث، أعياه طلبه..”([17])، إلا أن آخرين تكلّفوا في تكثير هذا النوع، ولكن جهودهم لم تلق استجابة من المحققين([18]).
ب ـ خبر الآحاد: وهو ما لم توجد فيه الشروط المطلوبة للحديث المتواتر، سواء كان الراوي له شخصاً أو أكثر، وذلك في الطبقات الثلاث: الأصحاب، والتابعين، وتابعيهم([19]). وهذا النوع من الحديث ثلاثة أقسام عند الجمهور، وهي: المشهور، والعزيز، والغريب([20]). أما الحنفية، فالقسمة عندهم تختلف، فهم يخرجون الحديث المشهور من نوع الآحاد، ويقرّون بالحديث المتواتر – وكما مرّ والمشهور، وهو عندهم: خبر آحاد في القرن الأول، حيث يرويه جمع من الصحابة لا يبلغ حد التواتر، ثم ينتشـر في القرن الثاني ومن بعدهم، ينقله جمع لا يُتوهم تواطؤهم على الكذب([21])، ثم الآحاد كما مرّ ذكره.
والحديث – بكافة أنواعه – إما (صحيح)، وهو: المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، حتى ينتهي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا يكون فيه شذوذ، بأن يكون الراوي غير ثقة، ولا علّة، بأن يكون في السند أو المتن خلل آخر؛ كانقطاع السند أو غير ذلك مما لا علاقة له بشخص الرواة([22]). وإما (حسن)، وهو الحديث الذي نقله العدل الضابط ضبطاً أخفّ من الصحيح. وإما (ضعيف)، وهو ما لم يستوف شروط الصحيح والحسن([23]). وهناك تقسيمات أخر لأنواع الحديث باعتبارات متنوعة تتعلق بالسند وشخص الرواة أو بالمتن([24])، لا مجال لعرضها في دراستنا هذه.
ثالثا/ رأي العلامة سبحاني في السنة وحجيتها:
للشهيد ناصر سبحاني كلام مفصل حول ما يتعلق بموضوع السنة وحجيتها، فهو يرى بحزم ويقين أن العبودية لا تتحقق إلا بالتلقي من كتاب الله، والتأسي برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية. وأكد أنه لا يُعدّ عاملاً للصالحات إلا من سار على سيرة رسول الله وسنته وحكمته، وبحث عن أفعال رسول الله، صلوات الله عليه، وأقواله وتقاريره([25]).
ومن هنا يتأكد المرء من نوع تفكير سبحاني في المنزلة العالية للسنّة، وهذا ما قاله مجملاً، ولكن له بعض التفصيل لشـرح ما قاله؛ فطريقته في تصنيف السنّة تختلف عن كثير ممن سبقه من العلماء، كما أن شروطه لقبول الروايات – سنداً ومتناً – فيه بعض الفروق، سنذكرها لاحقاً.
ولقد ربط – رحمه الله – منزلة الحديث، وحجيّته، بمجموعة التصورات والاعتقاديات التي سماها (الحقائق)، ومجموعة الأحكام التي قسمها إلى الثوابت والمتطورات، والتي أدرجها تحت عنوان (الحكمة). وفرّق في جعل الحديث مصدراً لها بين ما هو ثابت غير متطور منها، وبين ما هو متطور تتحكم في تغييره الظروف الزمانية والبيئية. كما فرّق – من جانب آخر – في الحجيّة بين الحديث الصحيح الذي ثبتت صحته بالتواتر، وبين ما هو آحاد لم يصل إلى درجة التواتر. وكذلك فرّق في تناول الأحكام التي تتعلق بما سماه بـ(أصول العمل الصالح) وقواعده الكلية، التي هي ثابتة لكل زمان، وبين ما هو متطور من هذا القسم من الأحكام. وهذا ما يحتاج إلى شيء من البيان.
يقول – رحمه الله – بهذا الصدد: “إن الحقائق التي لا بدّ من الإيمان بها، ثابتة غير متطورة، فيكون بيانها في زمان من الأزمنة بياناً لها في كل زمان. ومحصورة كذلك، فلا يكون الكلام المبيّن لها من الكثرة، بحيث يكون على الإنسان في تكليفه بتلقّيه في كتاب هدى، حرج.. فلذلك لم يغادر كتاب الله – في مجال تبيينها – صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فمن أراد أن يؤدي ما عليه في مجال الأخذ، فعليه بكتاب الله، ولا يمكن أن يصح في هذا المجال من الأحاديث المروية إلا ما هو تبيين لما في كتاب الله بعبارات أخر كان يقتضيها التبيين لبعض الناس”([26]).
قلت: لقد أكّد الإمام الشافعي على هذا المفهوم في رسالته: (جَماع العلم)؛ فقال: “إن الله أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء، والتبيين من وجوه: منها ما بيّن فرضه فيه. ومنها ما أنزله جملة، وأمر بالاجتهاد في طلبه، ودلّ على ما يطلب به بعلامات خلقها في عباده، دلَّهم بها على وجه طلب ما افترض عليهم”([27]).
على أي حال، يقّر العلامة ناصر بأن السنّة مصدر ثانٍ مبيّن، بعد كتاب الله، لما سمّاه بالحقائق الثابتة. ثم يضيف: أن “أصول العمل الصالح وقواعده الكلية – كذلك – ثابتة ومحصورة، فلذلك جاء بيانها كلّها في كتاب الله… في غاية الإحكام. فمن كان طالباً لشيء منها، فليطلبه في كتاب الله – أيضاً -، ولا يجوز أن يصح في هذا الباب ـ كذلك ـ من الأحاديث إلا ما هو ذكر لما في كتاب الله بعبارات أخر، وليس الحديث غير المتواتر في هذا الباب بمغنٍ شيئاً. فإن الأصل -لكونه يجب أن يكون في غاية الإحكام ـ لا يثبته إلا ما يعطي اليقين، وأحاديث الآحاد لا تعطي إلا الظن، فلا يجوز بناء شيء من القواعد على شيء فيها”([28]).
هذا فيما يتعلق بما سماه: (الحقائق)، و(القواعد الكلية)، و(أصول العمل الصالح). أما (الأحكام التفصيلية)، التي تهدي إلى تطبيق القواعد الكلية، فله فيها قول آخر، ووقفة سديدة، سنعود إلى الحديث عنها بعد قليل.
أقول: ولقد ربط بعض المحققين من الأصوليين هذا الموضوع بما اشتهر في التراث العلمي الإسلامي بـ(مصالح العباد)؛ فالشاطبي مثلاً عبّر بأسلوب آخر عما نقلناه عن الشهيد ناصر. فقال: “النظر إلى ما دّل عليه الكتاب في الجملة، وأنه موجود في السنّة على الكمال، زيادة إلى ما فيها من البيان والشـرح. وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين؛ جلباً لها، والتعريف بمفاسدهما؛ دفعاً لها”([29]). وإنما يقصد الشاطبي بالمصالح ما كرّر ذكرَه في مواقع عديدة من (الموافقات)، وهي – أي المصالح- ثلاثة أقسام، هي: الضـروريات، والحاجيات، والتحسينيات، يضاف إليها، أو يليها مكملات كل منها. يقول الشاطبي: “لا زائد على هذه الثلاثة. وإذا نظرنا إلى السنّة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور. فالكتاب أتى بها أصولاً يرجع إليها، والسنّة أتت بها تفريعاً على الكتاب، وبياناً لما فيه منها. فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام. فالضـروريات الخمس (أي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل)كما تأصّلت في الكتاب، تفصّلت في السنّة. والحاجيات دائرة على الضـروريات، وكذلك التحسينيات”([30]).
ولقد قلنا إن الشهيد سبحاني سمّى مجموعة الأحكام التفصيلية – التي هي السنّة، باعتبار تطبيقها عملياً من قبل رسول الله، وصحبه – بالحكمة، وهي – من جانب آخر – الهادية إلى الصواب في تطبيق القواعد الكلية المبثوثة في سياقات آيات القرآن الكريم.. يقول الشهيد ناصر في ذلك: “لا شك أن أحكام الله إنما جاءت لجلب المصالح، ودرء المفاسد. وقد تقرر لتحقيق كل نوع من هذه المقاصد بعض القواعد المذكورة. ثم جاءت في تحقيق الغاية المتعلقة بكل قاعدة في مختلف الظروف والأوضاع مجموعة من الأحكام الجزئية. والأحكام الجزئية منها ما يتعلق بأفعال لا ينفك كل واحد منها عن مصلحة أو مفسدة، فهي – من ثمة – أحكام ثابتة. ومنها ما يتعلق بأفعال ليست مصالحها أو مفاسدها ذاتية لازمة، وإنما هي في ثبوتها لها تابعة للظروف والأوضاع؛ فقد يكون في فعلٍ منها في ظروف مفسدة، فإذا تغيّر الظرف حلّت مكان المفسدة مصلحة، وتغيّر بسبب ذلك حكمه، فهي – من ثمة – أحكام متطورة”([31]).
ويستقرئ الشهيد – بمقتضـى هذه القاعدة – مصاديق الحكمة ونماذجها، وكذلك مصادرها، فيقول: “إن الحكمة منها ما جاء به كتاب الله، ومنها ما قد فعله، أو قاله، أو أقر عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حياته الفردية، أو في حياته الأسرية مع أزواجه (عليهن رضوان الله)، أو في حياته الاجتماعية مع السابقين الأولين”([32]).
هذا، ولغرض إيصال الفكرة بتمامها، جاء الشهيد بأمثلة واضحة – لا سيما فيما سماه الثابت والمتطور من الحكمة – فقال مثلاً: “قد جاء في كتاب الله – فيما يتعلق بالإنفاق – النهي عن المنّ والأذى، وعن الإسراف، والتبذير، والتقتير، والكنز. ولا ريب أن هذه الأفعال مفاسدها ذاتية لازمة لها، فتكون النواهي المتعلقة بها ثابتة دائمة، فهي من النوع الثابت من الحكمة. وقد ورد من قول الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفعله، فيما يتعلق بالصدقات التي تجبيها الحكومة، ذكر أموالٍ، وتعيين أنصبةٍ، وبيان مقادير لما يُجبى. ولا شك أن هذه التعيينات إنما تحقق الغايات التي قد تقرر لتحقيقها القواعد المتعلقة بالمال، في مثل ظروفِ مجتمع عهد النبوة الاقتصادية، وأما في مثل الظروف القائمة في زماننا هذا، فأنى لتلك التعيينات أن تحقق تلك الغايات؟! أو كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبقى على إقرار تلك التعيينات، لو بقي إلى أن يدرك هذه الظروف؟ اللهم، لا. فإن مثل هذه الظروف يقتضـي ذكر أموال أخر مكان بعض تلك الأموال. ويقتضي كذلك تعيين أنصبة أخر، وبيان مقادير أخر. وإن البقاء على تلك التعيينات في هذه الظروف، بزعم أن اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقتضيه، لمخالفةٌ للحكمة التي كان هو يسير عليها، وتفريطٌ في تحقيق الغايات التي كان هو يريد بتلك التعيينات تحقيقها”([33]).
وقريباً من هذا أكّد الشاطبي على أن السنّة راجعة في معناها إلى كتاب الله، فهي: تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصـره، واستدل بقول الله تعالى: [وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ](النحل/٤٤)، فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دلّ على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية. وأشار أيضاً إلى أن كل ما دلّ على أن القرآن هو كليّة الشريعة، وينبوع لها، فهو على ذلك، لأن الله قال بحقه (صلى الله عليه وسلم): [وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ](القلم/٤)، ولأن عائشة – رضي الله عنها – قد فسـّرت ذلك بقولها: كان خلقه القرآن”([34])، واقتصـرت في خلقه على ذلك، فدلّ على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن.. ثم استدل بأن الله تعالى جعل القرآن تبياناً لكل شيء، فيلزم من ذلك أن تكون السنّة حاصلة فيه في الجملة”. ولهذا أكّد على أن رتبة السنّة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، بمعنى أنه إذا ورد في السنّة ما ظاهره يتعارض مع نص قرآني، أخذ بالقرآن وقدّمه على السنة. ثم يستدل لذلك بأن كتاب الله مقطوع به، والسنّة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف القرآن، فإنه مقطوع به في التفصيل كما في الجملة سواء بسواء، والمقطوع به مقدم على المظنون، فلزم بذلك تقديم الكتاب على السنة.
ولخص الشاطبي أن اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم مخالفته، وهو المطلوب على فرض صحة المنقولات. ولهذا سعى لتأويل ما قاله بعض السلف بأن السنة قاضية على الكتاب([35])، بأنها مبيّنة ومفسّـرة لا غير. ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن الجملة أعلاه – أي أن السنّة قاضية على الكتاب – فقال: ما أجسـر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: إن السنة تفسّر الكتاب وتبيّنه([36]).
بهذا عرضنا منهجية الشهيد سبحاني في موضوع حجية السنة، وهي تختلف عن منهجية كثير من علماء السلف كما يلاحظ، فأقرب شيء مما قالوه إلى ما قاله، هو موضوع حديث الآحاد، الذي أكّد كثير من العلماء أنه يفيد العلم الظني، ولا يفيد العلم القطعي، إذ الاتصال بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فيه شبهة. ولهذا قالوا: لا يؤخذ به في الاعتقاد، لأنه يبنى على الجزم واليقين، لا على الظن، ولو كان راجحاً. ولهذا اشترط الإمام مالك في الأخذ بخبر الآحاد ألا يخالف عملُ الراوي ما يرويه، واشترط آخرون شروطاً أخرى، ليس هذا السياق محل ذكرها([37])، خاصة من قال بجواز الأخذ بالآحاد في القضايا العقائدية. هذا، ولقد ردّ كثير من أهل العلم الرأي القائل بعدم قبول خبر الآحاد، لا سيما في تفاصيل أمور الأحكام، باعتبار أن معظم ما تواتر منها عملياً ورد عن سبيل خبر الآحاد.
هذا وسنتحدث – بإذن الله – في مقالات قادمة عن رأي العلامة ناصر سبحاني في شروط الرواة والمرويات.
[1] الرازي، مختار الصحاح، ص: 317.
[2] الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: 1558.
[3] ابن منظور، لسان العرب، 2/ 223.
[4] الشاطبي، الموافقات، 4/ 6.
[5] المصدر نفسه، 4/5.
[6] ينظر: ناصر سبحاني، أسس التصورات والقيم، ص: 12 وكذلك ص: 112.
[7] الشافعي، الأم، 7/ 460.
[8] أشرنا في الفصل السابق إلى ما قاله الشافعي في هذا، حيث قال: “سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن من يقول: الحكمة سنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ” (الشافعي، الرسالة، 76).
[9] قد ذكرنا جانباً من أقوال غلاة الشيعة حول الحديث، في الفصل السابق.
[10] من أمثال: المستشرق الإنجليزي القسيس (مونتجمري وات، وكارل بروكلمان، ويوليوس)، وغيرهم.
[11] (القرآنيون): تسمية تطلق على ناس يروّجون لفكرة ردّ الحديث والاكتفاء بالقرآن، وهم فرق شتى. ظهرت الفكرة منذ عهد الخوارج، ومن زعمائهم في العصـر الحديث (أحمد خان)، الذي مُنِح لقب (السير) من قبل السلطات البريطانية، تكريماً لخدماته للإنجليز. وكان من المعارضين لثورة المسلمين ضد الإنجليز. وله آراء شاذة، منها: أن الوحي نزل بالمعنى دون اللفظ، وأنكر وجود الجن. ولقد كفّر كثيراً من مسلمي الهند. توفي عام (1306هـ/ 1889م). ومنهم من المصريين أحمد صبحي منصور، الذي يعيش ـ لحد كتابة هذه الأسطر ـ في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك فئات تدعو لفكرة الاكتفاء بالقرآن في بلاد أخرى، مثل مصـر، والسودان، وبعض البلاد الأوروبية. (انظر للمزيد: أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، مكتبة النهضة، القاهرة، (1947م)، وعبد المنعم النمر، كفاح المسلمين في تحرير الهند، القاهرة، (1990). وللمؤلف كتاب مطبوع حول القرآنيين، وتاريخ نشوئهم، والرد على الغلاة منهم، وأنواع السنة، وحجيتها.
[12] الشاطبي، الموافقات، 4/ 17.
[13] ولقد خص الدكتور مصطفى السباعي فصولاً من كتابه القيّم: (السنة ومكانتها في التشريع)، للرد على أحمد أمين وأبي رية. كما ردّ الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه النفيس (دفاع عن السنة)، والدكتور يوسف القرضاوي في (كيف نتعامل مع السنة)، والمستشار سالم البهنساوي في (السنة المفترى عليها)، ومحمد أحمد الراشد في كتابه حول (أبي هريرة)، وغيرهم، على أولئك.
[14] ينظر: الشافعي، الأم، كتاب جَماع العلم، باب طائفة كانوا يردون الأحاديث، ص: 1567.
[15] العراقي، زين الدين، التقييد والإيضاح ، في شرح مقدمة ابن الصلاح،المدينة المنورة، المكتبة السلفية، 1389هـ/1969م، ص: 241.
[16] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب العلم(3)، باب (38)، حديث (107)، وصحيح مسلم، في الأدب برقم 2134.. وغيرهما.
[17] ابن حجر العسقلاني، النخبة، ص: 18.
[18] كالحافظ السيوطي في كتابه: الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة. وأبي الفيض، محمد، الزبيدي في كتابه: اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة. وأبي عبدالله، محمد، بن جعفر، الكتاني (ت: 1345هـ/ 1926م) الذي ألف النظم المتناثر في الحديث المتواتر، وذكر فيه 310 حديثا.
[19] ينظر: محمد أديب الصالح، مصادر التشريع الإسلامي، الرياض، مكتبة العبيكان، 1423هـ/ 2002م، ص: 132.
[20] المشهور: ما رواه ثلاثة فأكثر من كل طبقة. والعزيز: ما لا يقل عدد رواته عن اثنين في كل طبقة. والغريب: ما انفرد بروايته راو واحد في كل الطبقات أو بعضها. (ينظر المصدر السابق، 133-136).
[21]ينظر: مصطفى الزلمي، أصول الفقه في نسيجه الجديد، بغداد، شركة الخنساء، ط20، 2002، ص: 43.
[22] ابن الصلاح الشهرزوري، علوم الحديث، ص: 10.
[23] المصدر نفسه، ص: 26.
[24] يمكن لمعرفة المزيد عن ذلك مراجعة كتب: الباعث الحثيث لابن كثير، وعلوم الحديث لابن الصلاح الشهرزوري، وتدريب الراوي للسيوطي، والنخبة لابن حجر، وغيرها.
[25]ينظر: ناصر سبحاني، رسالة في علوم الحديث، ص: 25.
[26] المصدر نفسه، ص: 20.
[27] الشافعي، الأم، كتاب جماع العلم، ص: 1570.
[28] ناصر سبحاني، رسالة في علوم الحديث، ص: 21. ويقول الإمام الشافعي في (الأم) قريباً من هذا: “ولا تكون سنة أبداً تخالف القرآن” الأم، ص: 1581.
[29] الشاطبي، الموافقات، 4/27.
[30] المصدر نفسه، 4/27.
[31] ناصر سبحاني، رسالة في علوم الحديث، ص: 21.
[32] المصدر نفسه، ص: 23.
[33] المصدر نفسه، ص: 23، وانظر دروسه القيمة: معرفة الله، وقد طبع في كتاب تكون من 665 صفحة.
[34] صحيح مسلم، رقم الحديث: 746.
[35] اشتهر هذا القول بين أوساط علمية في السلف، بالاستناد إلى حديث ضعيف رواه الدارمي، وهو: (السنة قاضية على كتاب الله) (سنن الدارمي، باب: السنة قاضية على كتاب الله، 1/117. وابن عبد البر، جامع بيان العلم، 2/ 191).
[36] ينظر: الشاطبي، الموافقات، 4/1226، فقد أوفى في هذا الموضوع.
[37] ينظر لتفاصيل أكثر: محمد أبو زهرة، أصول الفقه، ص: 109 فما بعد.