ماذا تريد النسوية من المرأة… ومن روح الأمة؟

المهندسة: هاوين أنور عبد الله – بنت أربيل

    إنّ الحديث عن النسوية اليوم ليس مجرد نقاشٍ حول “حقوق المرأة” كما يظنه بسطاء العقول، بل هو تأملٌ في مشروع حضاريٍّ يُعاد تشكيله على عين الغرب؛ مشروع يريد أن يُفرغ المرأة من جذورها، ويعيد نحت المجتمع على صورة الإنسان الحديث: فردًا بلا انتماء، جسدًا بلا روح، امرأةً بلا أمومة، ورجولةً لم يبقَ منها إلا قشرتها الذكورية.

وما دامت الأمة تعيش زمنًا تتكسّر فيه البنى الأخلاقية تحت مطارق الإعلام ومنهجية اللئام، فإن النسوية –بنسخها المتطرّفة– لم تعد حركةً تطالب بإنصافٍ أو إصلاح، بل غدت آلة تفكيكٍ ناعمة تعمل بصبر وخبث على إعادة ترتيب الوعي من الداخل، حتى ينسى الإنسان أنه وُلد من رحم.. وأن الأمومة ليست قيدًا، بل معجزة الوجود الأولى.

▪️ النسوية… حين تتجاوز العدل إلى الهدم:

لا أحد ينكر أنّ في مجتمعاتنا ظلمًا يقع على النساء، تُرتكب بسلطة العرف المتذرع بالدين، وباسم ذكورةٍ صلبةٍ تجرّدت من رجولةٍ حكيمةٍ رحيمة. غير أن النسوية لم تقف عند حدود المطالبة العادلة، بل تجاوزتها إلى الانقلاب على الفطرة، وتقديم خطابٍ لا يحرّر المرأة من الظلم، بل يحرّرها من نفسها ومن حقيقتها الوجودية، ويجرّدها من وظيفتها الفطرية التي هي سرّ سعادتها في الحياة.

فهي:

* تريد امرأةً ترى الأسرة قيدًا لا ملاذًا.

* والأمومة عبئًا لا جوهرًا يورق به الوجود.

* والرجل خصمًا لا شريكًا.

* والدين سلطةً تُفكَّك، لا رحمةً تُنقذ هشاشتها من عالمٍ يلتهم الضعفاء.

إنها تدرك أنّ تدمير المرأة هو أسرع طريق لتدمير المجتمع؛ فالأمم لا تُهدم من طريق الرجال وحدهم، بل من نسف معاني الرجولة السامية، ومن تهشيم قلب المرأة الذي كان عبر التاريخ مصنع الرحمة الأولى ومأوى الهوية الأخيرة.

▪️ النسوية الحقة… رؤية إسلامية أصيلة:

إنّ النسوية الحقة –لا تلك المستوردة من موجات الغرب– لا تبدأ معركتها ضد الرجل، ولا تُعرّف نفسها بخصومةٍ مع الذكورة، بل تبدأ بمعركةٍ أعمق ألا وهي :  رفض جاهلية المجتمع بكلّ صورها.

فالخلل الحقيقي بداهة ليس في “الجنس”، بل في النظام الأخلاقي والقيمي الذي يحكم العلاقات بين الرجال والنساء. فلا تُنصف المرأةُ في مجتمعٍ انسلخ عن العدالة والرحمة والتكافل، كما لا يكون الرجلُ كريمًا في منظومةٍ غابت عنها معايير الكرامة.

إن عودة الحياة إلى طبيعتها لا تكون إلا بالرجوع إلى المنهج الإلهي؛ منهجٌ متكامل ومنسجم مع الفطرة، يرسم حدود الحقوق والواجبات بقسطاسٍ عادل. وكلّ ظلمٍ يقع على المرأة أو غيرها من المستضعفين إنما مردّه التخلي عن هذا المنهج، وإقصاء القيم الإنسانية والاجتماعية التي جاء بها.

وحين تنقطع المجتمعات عن نور السماء، تهوي بنفسها في جاهليةٍ حديثة منزوعٌ عنها رصيد القيم، وتغرق في لُججٍ متراميةٍ نحو الفناء، حتى تتحوّل إلى غاباتٍ بشرية تحكمها سننُ الوحوش؛ حيث يستغل الأقوى الأضعف، ويُقاس الحقّ فيها لا بالجنس أو الموقع، بل بمقدار ما يملك المرء من بطشٍ وسطوة.

وهكذا، فالصورة الإسلامية الأصيلة للنسوية لا تنقلب على الموازين، ولا تستعدي طرفًا على آخر، بل تذكّر بأن العدل لا يُبنى بالعداء، بل بالقيم.. وأن تحرير المرأة يبدأ بتحرير المجتمع من جاهليته أولًا.

▪️ المرأة بين نسوية الغرب وفطرة الشرق:

النموذج النسوي المعاصر ليس حياديًا، بل مُصمَّم في مختبرات الغرب لإنتاج صياغة المرأة لتكون:

* وحدة إنتاج اقتصادي، تُستغل حاجتها.

* جسدًا استهلاكيًا، يُهدر إنسانيتها ورقّتها.

* فردًا لا ينتمي إلا لأنوثته المتفجرة.

* صوتًا عاليًا يخفي خلفه فراغًا داخليًا خانقًا.

وما إن يُفرغها من جوهرها حتى تصبح قابلة للتدوير في سوقٍ لا يعرف الرحمة، سوقٍ يفتّت كيان الإنسان، ويحوّل أنوثة المرأة إلى بضاعةٍ رائجةٍ في سوق نخاسةٍ حديثة تستجلب أطماع ذئابٍ لا تعرف إلا التجارة البائرة.

والحقيقة العظمى أن المرأة الشرقية، بكل دهشتها وروحها ورقّتها، ليست نسخةً عن نموذج الغرب، بل هي عمود الهوية. ويحاول الآخرون بكل قوة وصفاقة ووقاحة، كسر هذا العمود.. ليتهدّم سقف الأمة من تلقائه.

▪️ النسوية.. من سؤال الحقوق إلى سؤال الوجود:

 إنّ المحنة الإنسانية ليست في مطالبة النسوية بالحقوق، بل في تحويل المرأة إلى معركةٍ ضد ذاتها، في أن تكون:

* “حرّة” من أمومتها.

* “متجرّدة” من حنانها.

* “قوية” بنفي حاجتها للرجل في ظلّ الحلال، وكأن العلاقة التي جعلها الله مودةً ورحمة تُحسب – في منطق النسوية- عبئًا لا نعمة.

* “متقدمة”، حين تتنصّل من دينها وتراثها.

لكن ما قيمة الحرية، إن كان ثمنها روح المرأة؟ وما قيمة الاستقلال، إن كان ينتهي بامرأةٍ وحيدةٍ في غرفةٍ باردة، ترى صدى صمتها يلوك ما تبقى من وجدانها؟

لقد أراد الله للمرأة أن تكون سكينة، فيما أرادها الغرب ساحة صراع وتوتر وفوضى.

 ▪️ حين تصبح النسوية مطرقةً على رأس الأمة:

النسوية ليست شأنًا أنثويًا فحسب، بل قضية تمسّ بنية الأسرة، وهوية الجيل، وتماسك المجتمع.

النسوية المتطرفة لا تهدم الرجل فقط، بل تهدم المرأة قبله، والمجتمع بعدهما.

إنها تسحق العلاقة المقدسة التي بُني عليها العمران البشري منذ الخليقة: علاقة المودّة والرحمة بين الزوجين، رجلًا وامرأة.

ومن يقتل هذه العلاقة لا يصنع حضارة، بل ركامًا جميل الشكل، فارغ الروح، يتناوشه الشقاء والتفتت الداخلي.

▪️ كلمة أخيرة.. نور من كوّة المودّة والرحمة:

ليس المؤمن ضد العدل أو حماية المرأة من إهدار كرامتها؛ فالإسلام سبق العالم في تكريم الأنثى؛ من بطن أمها حتى رحيلها.. لكننا ضد تحويل المرأة إلى جنديٍّ مُساق بلا وعي في معركة لا تخصّها، وضد صياغة أنوثتها على يد من لا يعرف معنى الأمومة ولا قدسيتها، وضد تفجير غرائزها المصونة ليتحوّل المجتمع إلى غابةٍ تأكله شهواته.

ما تحتاجه المرأة ليس “نسوية عمياء”، بل وعيٌ نافذ يميّز بين العدل والهدم، وبين الحرية والانفلات، وبين أن تكون امرأةً كاملة.. أو نسخة بلا ملامح لمجتمعٍ غربيٍ لا يعرف الكرامة ولا العفّة، ويغرق الإنسان في وحل الخطيئة والضياع الأبدي.

هذا هو الفارق بين من يريد للأمة أن تنهض، ومن يريد لها أن تذوب..

بين امرأة تحفظ كينونتها في ظلّ المنهج الإلهي، وأنثى تتاجر بأنوثتها وتسلّم بقاياها لذئاب البشر..

وبين رجلٍ ارتضى التخلّي عن سموّ رجولته، فتحوّل إلى ذكرٍ تردّى إلى دركات الحيوانية، فلم يعد يملك نخوةً يغار بها على عرض أي امرأة؛ لأن الرجولة عطيّة إلهية، من أعظم مقتضياتها حمايةُ الأعراض والمقدسات أينما كانت في أرض الله وكونه الواسع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى