الكلاويّة… حين تُمسك القبعة وتُفلت الضمير

هاوين الكردية – بنت أربيل

(كڵاوى خۆت بگره، با با نه‌يفرێنى)، “= أمسك بقبعتك لئلا تأخذها الريح”..

مثلٌ كورديٌّ دارج يُقال في مقام الحذر، لكنّه في جوهره شعارُ الواهنين، يُخدّر الضمير باسم الحكمة، ويُلبس الجُبنَ ثوبَ التعقّل.

من القبعة إلى العقيدة:

“كلاو” تعني القبعة، وأُدخلت في المثل لتصوّر الحذر في أحقر مستوياته، وأصبح هذا الشعار مع الزمن عقيدةً تُقدّم السلامة على النصرة، وتُعلي الفرد على الجماعة، حتى غدت فلسفةً تُمسك الرأس وتُفلت القلب، تُبقي الإنسانَ سالمًا.. لكنّ ميّتًا من الداخل.

وهي كلمة تأتي في مثل متداولٍ بشدّة عند الشعب الكوردي، أورثوها من معيشتهم مع اليهود قبل خروجهم من العراق في خمسينات القرن الماضي.. ولعلّه شعار مستصنع من اليهود ذاتهم، جعلوه ينتشر بين عوام الطبقات الاجتماعية، حتى صار منهجاً يتمسّك به الجميع تمسّكاً بالحياة، وجهلاً بمعناه الباطن المقوّض لمعاني الدين وأسس الجهاد في سبيل الله، ولمعانٍ جاءت في القرآن الكريم..

أثرها في الأسـر والمجتمعات:

حين تسكن “الكلاويّة” النفوس، يتحوّل الناس إلى جزرٍ متباعدة، كلٌّ يُمسك بقبعته، ويترك العاصفة تقتلع من حوله.

في البيوت، تذبل المودّة، وتنهار المروءة، ويُصبح الصمتُ فضيلةً زائفة، تُخالف جوهر الإيمان وروح التكافل.

حين يُخالف المثلُ شـرع الله:

[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ]، (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا)، (المسلمُ أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه)، (ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)، فالدينُ لا يُبرّر الانكفاء، ولا يقبل أن يُترك أحدٌ في مهبّ الريح.

المعنى الباطن.. فلسفة الوهن:

فلسفةٌ تُضعف الرجولة، وتُطفئ جذوة الجهاد، وتُحوّل الإنسان إلى شيطانٍ أخرس، يُمسك الرأس.. ويُفلت الضمير.

الكلاويّة.. حالةُ نجاةٍ زائفة، وهلاكٌ حقيقي:

ليست الكلاويّة قبعةً تُمسكها ضد الريح، بل فكرةٌ تتبرأ من الضمير وتُفلت المروءة، تمنح الإنسانَ سلامةً زائفة، وتحرمه شرف الوقوف في وجه الباطل.

تلك هي الكلاويّة المعاصرة.. أن يُمسكَ الإنسانُ بقبعتِه لئلّا تتذهب بها الريح، بينما تُساقُ القيمُ والأوطانُ إلى الهاوية..

أن يحتمي بالصمت، ويتذرّع بالحذر، ويستقيلَ من واجب الكلمة والموقف، في زمنٍ تُباع فيه الضمائر، ويُستأجر فيه الصمتُ لحماية الزيف.

وما أوجعَ أن يكون المرءُ حيًّا في جسده.. ميتًا في ضميره!

فما هكذا تُبنى الأمم، ولا هكذا تُستردُّ الكرامة، ولا هكذا تُصانُ الأمانةُ التي حمّلناها يوم قال ربنا:

[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فأبين أن يحملنها…]

وليس في حياة المرء شرفٌ أعظم من مقارعة الباطل! فما أبشع أن ينجو المرءُ بنفسه.. ويهلك ضميره، يحيا في زاويةٍ مهمّشة، يتقوقع عن معاني الخير والعطاء، ويستلذ الحياة في بيتٍ من نسيج العنكبوت.. واهٍ.. خالٍ من البذل في سبيل الله، بعيدٍ عن مقتضيات العبودية، التي لا تتحقّق إلا بخوض الملمات، ومقاومة الشدائد، وصعود النجود، وتوَغّل الوهاد!

ما أكثر فلسفة الكلاويّة في مجتمعاتنا الإنسانية عامة، والإسلامية والعربية خاصة.. فلسفة: “لأكُن أنا بخيرٍ.. وليذهب الناس جميعُهم إلى الجحيم”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى