حين يسكت الرصاص… وتبدأ مكائد ما يُسمّى بالسلام
هاوين بنت الكورد

ما إن تهدأ المدافع في غزة، حتى تبدأ معركة أخرى أكثر خبثًا مما قبلها.. معركة تُشنّ على الذاكرة، وعلى الوعي، وعلى معنى الصمود ذاته.
فبينما يستعيد الناس أنفاسهم، تكون غرف التخطيط قد فتحت نوافذها لإعادة تشكيل الوعي الجمعي: ليُنسى الشهداء، ويُروّض الأحياء، ويُستبدل ميزانُ القيم بآخرَ مقلوبٍ يُقاس فيه النصر بكمّ المساعدات لا بكرامة الإنسان.
حين يسكت الرصاص وصرخات الموت، ليس بالضرورة أن يسود السلام، بل قد يبدأ صوتٌ آخر في التشكل:
صوت المال، صوت الإغراء، صوت النسيان.
فما بعد الحرب ليس راحةً، بل اختبارٌ جديد: هل ستصمد الروح حين تُغرى بالراحة؟ وهل ستبقى الذاكرة حيّةً حين تُغسل بالوعود؟
في غزة بالذات، لا تنتهي الحكاية عند توقف العدوان.. بل تبدأ فصولها الأخطر.
ماذا بعد اتفاقية “السلام”؟
ليس من الصعوبة أن نفهم دوافع المقاومة الفلسطينية للموافقة على اتفاقية السلام الترامبية، فمستوى الظلم الإسرائيلي بلغ حدًّا من العنجهيّة والتمرد على كل قيمة إنسانية، حتى بات التنكر لوجود الله جزءًا من صلفه وجحوده؛
فهو لا يخشى من في السماء، ولا من في الأرض، ولا يعبأ بأي وجه ديني أو فكري أو أخلاقي.
لم يكن أمام حماس إلا أن توافق على هذا الاتفاق الجائر، الذي يبدو في ظاهره لصالح الكيان الصهيوني، أمّا باطنه فالله وحده يعلم مآلاته.
لقد تجاوزت جرائم نتنياهو حدود الزمان والمكان، وارتُكبت الشرور أمام أعين عالمٍ مكبّلٍ بالجهل والبله، والذلّ للطغاة.
ما حدث في غزة من نكبةٍ إنسانية هزّت ضمير العالم، وتجاوبت معها الأرض والسماء.. وبقدر ما كانت الجرائم عظيمة والجراح عميقة، جاء خبر توقّف العدوان كتنفّس الصعداء بعد اختناقٍ كاد يفضي إلى الموت العام، وجائحةٍ تمتد إلى العالم كله.
لكن، رغم فرحة توقّف الدمار، وعودة النازحين إلى ديارهم، بعد سنتين من تراجيديا ملحمية يعجز أي عقلٍ بشري عن صياغتها، فإن ناقوس الخطر يدق بصخب، يزلزل القلوب، ويجعلنا ندرك أن القادم أصعب.
الاتفاقية: حصان طروادة جديد
هذه الاتفاقية ليست سوى حصان طروادة يخفي في جوفه مكائد آلة الكيد الصهيوني، لتركيعٍ من نوعٍ آخر.. فبعد إثخان الجراح، وإغراق النفوس في التجويع والتنكيل، تصبح النفس البشرية في طبيعتها أكثر استعدادًا لتقبّل الانفتاح على متطلبات الدنيا ومغرياتها، مهما كانت الأثمان.
غزة اليوم تحت رحمة ترامب وأتباعه من دهاقنة الحروب وتجار الموت، الذين يتّخذون من مشاريع الإعمار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وسيلةً لجني المال على حساب الناس، وعلى حساب دينهم وانتمائهم ومقاومتهم.
وكما يفعلون في كل بقعة من بلداننا، إلا أن في غزة لهم مقاصد شيطانية أعمق، يفهمها كل لبيب، ولا تحتاج إلى شرحٍ أو تفصيل.
المآلات المحتملة: حين يُعاد تشكيل الوعي
إن ما يُراد لغزة من قبل تجار بيع الإنسان، ما بعد الاتفاقية، ليس سلامًا، بل استسلامًا مغلّفًا بورق التنمية، ومشاريع الإعمار، ومؤتمرات الاستثمار.
وما هذه إلا أدواتٌ جديدة لطمس معاني العزّة التي أُريقت لأجلها دماء أهل غزة ومقاومتهم العظيمة.
من أبرز المآلات:
* تحويل المقاومة إلى ذكرى مؤطّرة: تُحاصَر الذاكرة، وتُختزل البطولات في صورٍ ومناسباتٍ ومتاحف، تُعلّق فيها المآثر داخل إطاراتٍ من زجاج، بينما تُسحب منها الروح التي كانت تنبض بالحياة.
يُراد للمقاومة أن تتحول من فعلٍ حيٍّ يلهب الوجدان، إلى مشهدٍ أرشيفيٍّ يُستدعى كل عام للعرض الإعلامي، ثم يُعاد إلى أدراج النسيان.
ويُعاد تشكيل الوعي الجمعي ليقبل بالعيش تحت سقف الذلّ ما دام هناك كهرباء وماء و”فرص عمل”.
فبدل أن تبقى البطولة طريقًا يُسلك، تصبح قصةً تُروى؛ وبدل أن تكون دماء الشهداء منارةً للأجيال، تُصبح ألوانًا على جدران “ذاكرةٍ وطنيةٍ مؤدلجة” تُدار بخيوط التمويل ومقاييس المانحين.
* الهدنة التي تُطفئ جذوة الوعي:
إن أخطر ما في الهزائم ليس وقعُ الرصاص، بل أثرُ الهدوء الذي يعقبها.. ذلك الهدوء الذي يَسمح للمكلوم أن ينسى أسباب جروحه، وللمجرم أن يقدّم نفسه وسيطًا للسلام!
تُعاد صياغة الخطاب العام، وتُمنح الجوائز لمن “يدعون إلى الواقعية”، ويُوصم المقاوم بالتطرّف، لأنّه يذكّر الناس بأنّ الدم لم يجفّ بعد، وأن الجراح لا تندمل بمسكنّات الأعداء!
* سلامٌ على الذاكرة، وسلامٌ على الوعي:
في تلك اللحظة، يصبح أخطر ما يمكن أن يفعله ذوو الشأن السياسي المقاوم، هو أن يرضخوا للصيغة الجديدة للسلام، وأن يسايروا موجة النسيان تحت ذرائع “المرحلة” و”المصلحة”، بينما تُختطف روح القضية من بين أيديهم باسم الواقعية والتعايش.
إن المأساة ليست في الحروب فحسب، بل في “السلام” الذي يُراد به إخماد جذوة المقاومة، وتطبيع الذلّ باسم “الانفتاح”.
* إغراق غزة في مشاريع “النهضة” المشروطة:
تُغدق الأموال، لكن بشروطٍ سياسية وأخلاقية تُفرغ الإنسان من انتمائه، وتُعيد تشكيله وفق مقاييس السوق، لا مقاييس الكرامة.
* استبدال المجاهد بالمستثمر، والمرابط بالمموّل:
يُعاد تعريف البطولة، لا بوصفها صمودًا في وجه الطغيان، بل قدرةً على جذب التمويل وتوقيع العقود.
* تطويع الخطاب الديني والثقافي:
يُعاد تشكيل الخطاب الإسلامي والمقاوم ليصبح أكثر “مرونة”، وأقل “حدة”، في سبيل التعايش مع واقعٍ جديدٍ بلا مقاومة ولا صرخة.
* تسلل التطبيع إلى النسيج الاجتماعي:
عبر الإعلام، والتعليم، والمناهج، والمشاريع الثقافية، يُعاد تشكيل الذائقة الجمعية، حتى يصبح العدو “جارًا”، والمحتل “شريكًا”، والمجاهد “متطرفًا”.
ما الذي سيُفقد؟
سيُفقد المعنى الذي لأجله صبر أهل غزة، وجاعوا، وتعرّضوا للقصف، وفقدوا الأحبّة.
يُفقد الإيمان بأن العزّة لا تُشترى، والكرامة لا تُمنح، والمقاومة ليست خيارًا، بل قدرًا.
وحماس، التي صبرت وصمدت ودفعت الدم مهرًا للعزّة، جديرة بالتمجيد لا بالتحييد.
فإن لم تُحفظ هذه الدماء في الوعي والسلوك والقرار، فإنها تُهدر مرتين:
مرةً حين سُفكت، ومرةً حين نُسيت.
وفي هذه اللحظة التاريخية الحرجة، لا بدّ من التنبيه إلى أنّ الحذر لم يعد مجرّد خيار، بل فريضةٌ لازمة.
فالهدنة الملغومة ليست خاتمة المعركة، بل مطلعُ فصلٍ جديدٍ من كيدٍ عالميٍّ محكم، يتقن فنَّ إخراج الإنسان من ذاته، وسلخه عن وعيه، باسم “سلامٍ” لا يعرف من السلام إلا اسمه.
سلامٌ مقنّعٌ يَسري في العقول والقلوب، يحمل في طيّاته من الخبث ما يكشفه الله للبشرية، لتنكشف معه جرائم القرون، وبراعةُ الخداع التي عشّشت في وعي الناس أزمنةً مديدة..