مثلث التفكير ( الغيب، الإنسان، المخلوقات) أمام ضيق دائرة الشك

د. عبد اللطيف ياسين علي

 مُقدّمةٌ لا غنىٰ عنْها

كثيراً ما ننسـى أنَّ القرآنَ الكريم وسائر الوحيِ السماويِّ إنما نزل على الإنسانِ، والإنسانُ هو محورُ الحدث، وهو الذي يتلقى التوجيهاتِ والتعليماتِ من السماءِ. وعلى العلماء والدعاة أن يراعوا أنَّ الإنسان هو محورُ الخطابِ؛ لذا يتعينُ علينا أن نلمَّ بجميعِ جوانبِ الإنسانِ وميوله ونوازعهِ. فجاء الوحيُ الربانيُّ لتزكيةِ هذا الإنسان.”، مراعياً ما جُبل عليه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:30).

فالله – سبحانه – يعلم أن هذا المخلوق يُفسد ويسفك الدماء، ومع ذلك جعله خليفة. وفي بيان أسباب هذا القتل والإفساد، يتبيّن أن الإنسان يحبّ التملُّك والخلود: قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ﴾(طه:120). فبيَّن الحق – جلَّ جلاله – إنّ الإنسان يميلُ بطبعه إلى السعيِ في طلبِ الخلود والحياة السـرمديّة، كما يميلُ إلى امتلاك ما في أيدي غيره، فيجتهدُ في سبيل الوصول إلى حياة أبدية وملك دائم محفوظ من الزوال.. وقد قال أهلُ العلمِ إنّ حبَّ التملّك فطرةٌ مغروسةٌ في الإنسان، لا تقفُ عند حدّ الاستحواذ، بل يتجاوزُها إلى الحرص على توفير الضمانات التي تكفلُ بقاءَ ما يملكه آمناً من كلّ تهديد يمسُّ مصالحه.

مُثَلَّثُ التَّفْكِيرِ:

أرغب في مناقشة مفهوم “مُثلث التفكير”، وهو إطار يطرح أسئلة جوهرية تتعلّق بالوجود الإنساني، بغضّ النظر عن خلفية الإنسان – دينية، سياسية، أو فكرية – ومهما بلغ وعيه أو قدراته العقلية، فإنّه لا يملك مفرًاً من التأمّل في المحاور الثلاثة التي تشكّل اللبّ الأوّل لتجربته الإنسانية:

أوَّلًا: الغَيْبُ:

في الزاويةِ العُليا من المثَّلث يبْرز سُؤال «الغَيْب» – وهو موضوعٌ شَغلَ الحضَارات والفَلاسفَة عبرَ العُصور، ورَغْمَ اخْتلاف تَسْميَاتهم. فالبشـرُ، سواءَ أَطلَقُوا عليه «قُوَّةً علْيا» أو «مَلاذَ الخائفينَ»، يشتركُون في شُعور عميق بوجودِ قوَّة تفُوق إدراكَهُم. يتجلَّى هذا في قَولِهِ تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّـرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾(الإسراء:67).

في فلسفاتٍ شتَّى، يظلّ التأمّل في الغيب، والبحث عن دلالاته، جزءًا لا يتجزّأ من التجربة الإنسانيّة.

ثانيًا: الإنسانُ:

من الزاوية اليمنى السّفلى للمثلّث، تنبعث تساؤلات حول الإنسان ذاته: من هو هذا الكائن العجيب، الذي عجز الفلاسفة والمفكّرون عن تحديد ماهيّته بدقّة، بسبب تعقيد تكوينه الجسديّ والنفسـيّ؟ الإنسان، بطبعه، كائن معقّد، متقلّب المزاج، سريع التأثّر بمحيطه.

لم تَرَ الحضارات القديمة في الإنسان مجرّد كائن حيّ يسعى للبقاء، بل كياناً مركّباً يتجاوز حدوده الجسديّة والغرائزيّة. فقد اعتقدت الحضارة المصـريّة القديمة أنّ له روحاً خالدة تُسافر في رحلة أبديّة، بينما رأته الفلسفة الإغريقيّة مركزاً للعقل والفضيلة، يتأرجح بين الرغبة والعقل في سعيه نحو الكمال. أمّا الفلسفات الشـرقيّة، كالهندوسيّة والبوذيّة، فقد صوّرت الإنسان كوعاء للكارما، يتجدّد وجوده عبر دورات الحياة والموت، بحثاً عن التّحرّر.

هذا التعدّد في تعريف الإنسان يكشف عن عمق الحيرة التي رافقته منذ فجر الوعي: من هو؟ وما غاية وجوده؟ أسئلة لم تُفارق الفكر الإنسانيّ، بل شكّلت الْأَساس الْمتين لِبِنَاء مُثلَّث التَّفْكير الَّذي نَرُومُ اليوْمَ تَفْكيكَهُ. والتَّفكيك هُنا يَعْني فَهْم أَنَّ الإِنْسان؛ يتجسّد في صور متعددة: الأم، الأب، الأخت، الأخ، الزميل، الصديق، الشريك، الحليف، العدو، وغيرهم. ولكلّ من هؤلاء تعريفٌ خاصٌ به.

ثالثًا: المَخلوقات:

أمّا الضلعُ الثالثُ في مثلثِ التفكيرِ، فيتمثّلُ في السؤال عن بقيّة المخلوقات غير الإنسانِ: لماذا خُلقَت؟ وما مهامُّها؟ وكيف ينبغي أن يكون موقفُنا وتعاملُنا معها؟

هذهِ الأسئلةُ تندرجُ بلا شكّ تحتَ مفهوم التَسخير، كما جاءَ في قولِه تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الجاثية:31)،﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾(إبراهيم:33).

ويعني التسخيرُ في القرآنِ الكريمِ؛ تذليلَ وإخضاعَ ما في الكونِ لخدمةِ الإنسان ليَستفاد منه، أي تذليلَ الشيءِ وجعله مُنقاداً للآخر، وسوقه إلى الغرضِ المُختصِّ به قهراً.

أهمّيَّة التَعريف:

يُعَدُّ التعريفُ من أبرزِ القضايا الإنسانيّة، إذ يتعاملُ الإنسانُ مع العالم وِفقَ تصوّراتِه الخاصّة وتعريفاتِه للأشياءِ. فإذا اتّفقت تصوّراتُ الأفرادِ، تحقّقَ التفاهمُ والتعاونُ، وأمّا إذا اختلفت، فقد يؤدّي ذلك إلى سوءِ الفهمِ والنزاعات. فعلى سبيلِ المثالِ، إذا اعتبرَ شخصٌ ما الماءَ مادّةً صلبةً، فسيتصـرّفُ بناءً على هذا الاعتقادِ، ممّا قد يُفضـي إلى نتائجَ ضارّة. وإذا اعتبر شخص أن الغاز يمكن التعويل عليه، والارتقاء عليه كمصعد أو درج، فالنتيجة واضحة.. وعليه، يستند الإنسان على تعريفاته، حيث يبني رؤياه إلى ما فوقه من الغيب، وإلى بني جنسه، وإلى بقية المخلوقات، على هذا الأساس، فإذا كان تعريفه لله مبنياً على أنه يغدر، ويبغض، ويلد، ويتعب، ويرتاح، ويأخذه النوم، فسيكون سلوكه مبنياً على هذا العريف.. وإذا ما كانت رؤيته لله مبنية على أنه الأحد، الفرد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وهو القاهر فوق عباده، وهو معهم أينما كانوا، وهو الرازق والواهب، فسيكون السلوك مبنياً على هذه الرؤية.. وكذا نظرتنا إلى الإنسان، نبني سلوكنا عليها.. ويصحّ ذلك بالنسبة إلى جميع المخلوقات.

ومِن ثمَّ، يبقى التعريفُ أداةً أساسيّةً للتفاهمِ وبناءِ الحضارةِ؛ فمن خلالِ تبادلِ التعريفاتِ، والتوصُّلِ إلى فَهمٍ مشتركٍ، يمكنُنا تعزيزُ التفاهمِ والتعاونِ. والقلمُ؛ إذا لم يُستخدَمْ بشكلٍ صحيحٍ، قد يُؤدّي إلى سوء الفهم، ولكن إذا استُخدِم لتبادل الأفكارِ والتعريفات، يُمكن أن يُسهِمَ في بناءِ جسورِ التفاهمِ والتَعاونِ.

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:30).

السؤال هنا: لماذا يخلقُ ربُّ العالمين صنفاً من المخلوقات يتميَّز بمواصفاتٍ ينفِرُ منها الإنسانُ السَّوي، إذ يُفسدُ ويسفكُ الدِّماء؟

لو نظرنا نظرة عامَّة إلى تعريف الملائكة في القرآن الكريم، لاتَّضح أنهم مسيَّرون لتنفيذ الأوامر، كما يقول الله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(النحل:50).

وبناءً على العرض القرآني لطبيعة الملائكة، فإنه من المستحيل أن يصدر عنهم أي اعتراض أو استنكار لفعلٍ أو قضاءٍ إلهي، إذ إنّ ذلك لا يليق بصفاتهم. فالملائكة تطيع وتنفّذ ما تؤمر به دون أن تُبدي رأياً أو تحفّظاً. وهذه السمة هي جوهر كينونتهم: تنفيذ الأوامر دون تردّد أو اعتراض. وما أراه هنا أن سؤالهم لم يكن اعتراضاً، بل كان طلباً للاستيضاح حول كيفية التعامل مع هذا المخلوق الجديد، لا أكثر؛ إذ لم يسبق لهم التعرّف إلى مخلوق من هذا النوع.. فلم يكن سؤالهم سوى محاولة لفهم طبيعة هذا الكائن، وآلية التعامل معه. وقد أجابهم ربّ العزة على ذلك بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:30).

هنا ندخل في أجواءٍ إيمانية يسودها جلال الربّ وعظمته، وعلمٌ إلهي لا نهائي، متجاوزٌ حدود الزمان والمكان. فالعلم الإلهي مطلق، لا تُقيّده حدود، ولا يختصّ بزمن، ولا تُحيط به العقول؛ وهو علمٌ يليق بجلال الله وجماله، سبحانه وتعالى. وفي هذا المقام الرباني، يُعرض جانبٌ يسير من هذا العلم الواسع، حيث ساد الصمت بين الملائكة، وأبدَوا حسن الاستماع والإنصات. ثم قال جلّ جلاله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(البقرة:31).

فمفهومُ “علَّمَ” هنا يُشيرُ إلى أنّ اللهَ خلقَ آدمَ بخَصائصَ خاصّةٍ تُؤهِّلُه للتعلُّم، وهي قدرةٌ لم يمنحْها اللهُ للملائكةِ. فإذا كانتِ الملائكةُ غيرَ قادرةٍ على تعلُّمِ هذه الأسماءِ، فكيفَ يمكنُها أن تُدرِكَ مهامَّ هذا الكائن، والحكمةَ من خَلقِه؟ وكما هو معهودٌ في هذه المجالسِ النورانيّةِ، تتجلّى الرِّفعةُ والسُّموُّ وآدابُ المجالسِ، حيثُ قالتِ الملائكةُ…: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾(البقرة:32). ولم تُعقِّب الملائكة بأي تعقيب آخر على هذا البيان الرباني. ثم قال تعالى: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾(البقرة:33)، فانتقل المشهد إلى الشخص المعنيّ في هذا المقام، وهو أبونا آدم عليه السلام، واتفق أهل العلم على أن لكل اسم مسمّىً، فلا يوجد اسمٌ إلا وله مسمّى يحمل مضموناً بيّناً واضحاً. وهذه هي سمة التعريف، أي أن آدم عليه السلام عَلِمَ الأسماء والمسمّيات، وهو ما يتضمن وظيفةً محددة، إذ إن العبثية في الخلق مرفوضة. يقول الله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون:115).

وهناك أدلة كثيرة في القرآن الكريم تنفي العبثية وعدم الغائية في الخلق. في السياق القرآني؛ يرتبط مفهوم الخلافة بوظيفة الإنسان في تعريف الأشياء وتوظيف الأرض. وعندما سألت الملائكة عن هذه الوظيفة، أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى أهميةِ التسميةِ في بناءِ التفاهمِ وتطويرِ الحضارةِ. فقد برعَ أبناءُ آدمَ في استثمارِ الأرضِ واستخراجِ خيراتِها، فصنعوا الطائراتِ والطرقَ والقطاراتِ والأدويةَ والعماراتِ، وكلها مستمدةٌ من مواردِ الأرضِ. هذا الاستثمارُ يشكلُ جزءاً من مشـروعِ العمرانِ والاستخلافِ الذي اعتبرهُ اللهُ تعالى جزءاً من تسبيحِهِ وذكرهِ سبحانهُ. عندما علّم اللهُ الإنسانَ أسماء الأشياء، كانَ ذلكَ جزءاً من صناعته للعالم. نجد أنَّ لكلّ اسم مسمًّى، فأبناءُ آدمَ صنعوا الكرسيَّ، وأطلقوا عليهِ هذا الاسمَ، وصنعوا الطائرةَ وسموها كذلكَ. بهذا المعنى، تصبحُ التسميةُ أداةً أساسيةً لبناءِ الحضارةِ واستثمارِ الأرضِ.

ولو تأملنا لوجدنا أنَّ الإنسانَ يقومُ بأعمالٍ كثيرةٍ، سواءٌ أُوحيَ إليهِ أم لم يُوحَ، وسواءٌ بعثَ إليهِ الأنبياءُ أم لم يبعثوا. فالإنسانُ، عبرَ التاريخِ، مفطورٌ على الزواجِ لأغراضٍ متعددةٍ، سواءٌ للتناسلِ أو للمتعةِ، ولا ينتظرُ نبيّاً أو رسولًا يأمرُه بالزواجِ؛ بل إنَّهُ بطبيعتِهِ يبحثُ عن الجنسِ الآخرِ ليؤنسَهُ، وكذلكَ المرأةُ تبحثُ عن زوجٍ يؤنسُها، فكلاهما في دورةِ حياةٍ متكاملةٍ ومستمرةٍ. لم يبعثِ الأنبياءُ ليأمروا الناسَ بكنز الأموالِ، أو ممارسةِ التجارةِ، أو الزراعةِ، أو بناءِ الدولِ والعمرانِ، أو إعمارِ القرى والمدنِ؛ فهذه أمورٌ فطرَ اللهُ الإنسانَ عليها، وهي من لوازمِ وجودِهِ على الأرضِ. هذا ما لخصهُ اللهُ – جلَّ جلالُهُ – بقولهِ: ﴿وإذ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً﴾(البقرة:30). فالإنسانُ مكلفٌ بإعمارِ الأرضِ، واستثمارِ مواردها وقدراتِها بطريقةٍ نافعةٍ ومثمرةٍ.

ولتكثيفِ الفكرةِ واختصارِها، نقولُ: إنَّ غرائزَ الإنسانِ وميولَهُ فاعلةٌ ونشطةٌ لدى جميعِ البشـرِ، والوحيُ الإلهيُّ ليسَ إلا وسيلةً لتزكيةِ النفسِ والارتقاءِ بها عندَ المؤمنينَ، وضابطًا للحدِّ من الطغيانِ والاستبدادِ والظلمِ عندَ الجاحدينَ.

قبلَ أنْ تشـرقَ شمس الرسالات السماوية، كانتْ نارُ الحروبِ تشتعلُ بينَ البشـرِ، إذْ لا تنفصلُ الصِّـراعاتُ والنزاعاتُ عن طبائعِ الإنسانِ، الذي تهفو فطرتهُ إلى الهيمنةِ والسيادةِ، إلا إذا قيّده التزامُه بالقيمِ السماويةِ، أو النظمِ العادلةِ التي تضبطُ نزوعاتهِ. ولم تختلفْ ملامحُ الحياةِ الأخرى؛ فكانَ الزواجُ والموتُ، والبناءُ والهدمُ، والغزوُ، وتعددُ الزوجاتِ، من سماتِ الحياةِ. باختصارٍ، كانتِ الحياةُ بطبيعتها وما تزالُ تجري في دورةٍ أبديةٍ، حيثُ تولدُ أجيالٌ وتزولُ أخرى، وتتقدمُ أقوامٌ وتتراجعُ أخرى، وهذه هي سننُ الحياةِ الثابتةُ. ومعَ الأسفِ الشديدِ، كثيرًا ما نسمعُ خطيبًا أو داعيةً يتحدثُ عن غزواتِ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم)، أو عن الخلافةِ الإسلاميةِ، أو عن تعددِ الزوجاتِ في الإسلامِ، وكأنما يقفُ في قفصِ الاتهامِ، كما لو أن هذه الأمور بدعًا ابتدعها الإسلامُ، دون أن يلقي نظرًا إلى التاريخِ أو إلى سنةِ التدافعِ بين الأممِ. وقد أوحى اللهُ عز وجل إلى نبيه الكريمِ قائلًا: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾(الأحقاف:9)، لستُ أولَ رسولٍ أُرسِلَ إليكم فتستنكروا دعوتي ومنهجي! فكلُّ ما جئتُ به قد جاء به الرسلُ من قبلي، وإنكارُكم هو المنحرفُ عن الحقِّ. إنَّ استيعابَ هذه الحقائق يتطلبُ مصدرًا نقيًّا تُستقى منه المعرفةُ الصحيحةُ. فمعرفةُ اللهِ سبحانه وتعالى تبدأُ بفهمِ صفاتِه، ثم تنتقلُ إلى إدراكِ حقيقتِه. وكذلك الإنسانُ، ينبغي أن يتعرَّفَ على ذاتِه أولًا ليصلَ إلى فهمِ جوهرِه. وبالمثلِ، فهمُ المخلوقاتِ يستلزمُ تعريفًا يوضِّحُ مكانتَها، ووظيفتَها، وكيفيةَ التعاملِ معها. والمصدرُ الوحيدُ لهذه التعريفاتِ هو كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ، الذي يرسمُ لنا خارطةَ الفهمِ، ويبيِّنُ مواقعَ الأشياءِ ووظائفَها، لنتعاملَ معها وفقَ منهجٍ إلهيٍّ راسخٍ.

نحن على يقينٍ تامٍّ بأنَّ الكونَ؛ بما فيه من حياةٍ ومماتٍ، وحركةٍ وسكونٍ، وتزاوجٍ وعمرانٍ، وهدمٍ وبناءٍ، وحروبٍ وسلامٍ، وليلٍ ونهارٍ، وأيامٍ وأعوامٍ، كلُّ ذلك كان قائمًا في هذا الكونِ. فالرسولُ – صلى الله عليه وسلم – ما كان بدعاً من الرسلِ، وإنما هو إتمامٌ لرسالةِ إبراهيمَ وموسى وداودَ وسليمانَ وعيسى – عليهم السلام -، وقد جاء بما جاءوا به، كما قال اللهُ تعالى:

 ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَـىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(البقرة: 136).

معرفةُ اللهِ سبحانهُ وتعالى:

مَن أرادَ أن يَعبُدَ اللهَ حقَّ العبادةِ، فلْيَسلُكْ طريقَ التَّبسيطِ واليُسـرِ، لا طريقَ التَّعقيدِ والجدلِ في مسائلِ العقيدةِ، التي لا تَزيدُ القلبَ إلا قسْوةً، ولا مِنَ اللهِ إلا بُعْدًا. فمعرفةُ اللهِ تعالى فطرةٌ مغروسةٌ في النَّفْسِ البشريةِ، وهي هبةٌ ربانيةٌ لا تُفرِّقُ بين جنسٍ أو لونٍ أو قومٍ. وقد أنزلَ اللهُ الوحيَ عبرَ العصورِ لِيُيَسّـِرَ للناسِ هذه المعرفةَ، لا لِيُحَوِّلَها إلى سجالٍ عقيمٍ فيما لا طاقةَ لهم به.

أما ذاتُ اللهِ تعالى، فهي من أمورِ الغيبِ المطلقِ التي لا تُدرِكُها العقولُ البشـريةُ، إذ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(الشورى: 11). ولذلك، أمرَنا اللهُ أن نَعرِفَهُ من خلالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، دونَ الخوضِ في التفاصيلِ التي لا تُوصِلُ إلى يقينٍ، بل تُورِثُ حيرةً أو شكًّا أو ضلالًا. فإذا كانَ العقلُ عاجزًا عن إدراكِ كنهِ النَّفْسِ البشـريةِ – رغمَ أنَّها مخلوقةٌ محدودةٌ -، فكيفَ يَطمَعُ في فهمِ ذاتِ الخالقِ غيرِ المحدودِ؟!

لقد صدَقَ عالمُ الفسيولوجيا (ألكسيس كارل) حينَ وَصَفَ الإنسانَ بأنَّه “ذلكَ المجهولُ”، لأنَّ البشـرَ – حتى اليومَ – لم يُحيطوا علمًا بحقيقةِ أنفسِهم، فكيفَ يَدَّعونَ فهمَ مَن خَلَقَها؟! وهذا يُذَكِّرُنا بحكمةِ العارفين: “مَن عَرَفَ نفسَه عَرَفَ ربَّه”، لكنَّها معرفةٌ تقومُ على التَّسليمِ لا التَّحليلِ، وعلى الإجلالِ لا التَّمثيلِ.

الجواب إذاً:

– التركيزُ على ما يقرِّبُ إلى اللهِ: وذلك من خلال معرفةِ صفاتِه وأفعالِه في الكونِ.

– اجتنابُ الجدلِ فيما لا يُدرَكُ: والاقتصادُ في السؤالِ عما لا ينفعُ في الدنيا والآخرة. 

– التواضعُ أمام عظمةِ الخالقِ: والاعترافُ بأنَّ القصورَ سمةُ الإنسانِ، والكمالُ للهِ وحدَه.

إنَّ الخوضَ في خلافاتِ العلماءِ والفلاسفةِ في مجالِ علمِ العقيدةِ لا يخدمُ الإنسانيةَ في هذا السياقِ، بل يُوقِعُ الإنسانَ في حلقةٍ مفرغةٍ لا تُوصِلُه إلى نتيجةٍ، ولن يبلغَ أبدًا اليقينَ المرجوَّ. هذه النقاشاتُ العقليةُ الدقيقةُ تصلحُ للمجالسِ العلميةِ المتخصصةِ، وللمراحلِ المتقدّمةِ من البحثِ، بعد أن يرسخَ الإيمانُ في القلبِ، بحيث لا تؤثّر فيه هذه الجدالاتُ. أما الخوضُ في مسائلَ مثل الكرسيِّ والعرشِ واليدِ والقدمِ، فهي أمورٌ تفوقُ مداركَنا البشريةَ المحدودةَ. وفي جميعِ الحالاتِ، نلجأُ إلى التأويلِ، مع الاعترافِ بعدمِ إدراكِ الحقيقةِ الكاملةِ. هذه القضايا خارجةٌ عن إطارِ معرفتِنا من كلِّ وجهٍ، كما أنها ليست مما أمرَنا اللهُ سبحانه وتعالى بالتعمُّقِ فيه، أو التشاغلِ به.

الإسلام ملاذ التعايش والسلم المجتمعي:

 والحقيقة التي لا بدّ أن يعتزّ بها كل مسلم أنَّ الدينَ الإسلاميَّ شَكَّلَ مظلَّةً للتعايشِ السلميِّ بين جميعِ الأديانِ. فاليهودُ والنصارى لم يتمكَّنوا من تحقيقِ التعايشِ فيما بينهم عبرَ التاريخِ، بل كانت هناك صراعاتٌ وصلت إلى حدِّ المذابحِ الجماعيةِ.. لكن في ظلِّ الدولةِ الإسلاميةِ، منذ بعثةِ النبيِّ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم)، والخلافةِ الراشدةِ، مرورًا بالعصـرين الأمويِّ والعباسيِّ، ووصولًا إلى العصـرِ العثمانيِّ، حتى سقوطِ الخلافةِ، تَعَايَشَت جميعُ الأديانِ والأقوامِ تحت ظلِّ الدولةِ الإسلاميةِ، على عكسِ ما كان عليه الحالُ قبل مجيءِ الإسلامِ، مع وجودِ بعضِ الحالاتِ الشاذةِ التي تُعدُّ استثناءاتٍ إنسانيةً.

المؤرّخونَ متّفقونَ في هذا السياقِ، ويُؤكِّدونَ أنَّ الإسلامَ كان المظلةَ الوحيدةَ التي هيّأتْ سُبُلَ التعايشِ بينَ الأديانِ جميعًا. فعندما ضعفتْ قوّةُ المسلمينَ، حاولت بعضُ الأطرافِ إقصاءَ الآخرينَ ومحوهم وإبادتَهم.. وعلى سبيل المثالِ، خلالَ الحروبِ الصليبيةِ في إسبانيا، وإقامةِ محاكمَ التفتيشِ، قامَ الصليبيونَ بطردِ الناسِ وإجلائهم وإبادتهم، فلجأَ اليهودُ إلى الدولِ الإسلاميةِ، واحتموا بظلِّ الدولةِ العثمانيةِ، وقد مُكّنوا في أرضِ المسلمينَ، وُمدَّت لهم يدُ التعاونِ، حتّى استعادوا استقرارهم، وتمكنوا من شؤون حياتهم اليومية.

فالحروبُ الصليبيةُ، ومحاكمُ التفتيشِ في إسبانيا، وما تبعها من تهجيرٍ لليهودِ، وإباداتٍ جماعيةٍ، دفعتْ بأعدادٍ منهم للجوءِ إلى الدولةِ الإسلاميةِ، لا سيّما في ظلِّ الدولةِ العثمانيةِ، حيث وفّرت لهم الحمايةَ والمكانةَ والفرصَ، حتى استعادوا جزءًا من حضورهم واستقرارهم.

ومع كلِّ هذا، لم يتمكن اليهودُ والنصارى في تاريخهم من الاتفاقِ على صيغةِ تعايشٍ دائمةٍ، بل استمرَّ بينهم التناحرُ والصـراعُ، بينما ظلَّ الإسلامُ هو الملاذُ الأولُ والأخيرُ، والضامنُ الأوحدُ للتعايشِ الحقيقيِّ. وبعد ذلك، لم يتفق اليهودُ والنصارى أبدًا على شيءٍ إلا على محاربةِ الإسلامِ، مع أنه كان الملاذَ الأولَ والأخيرَ والضمانَ الأوحدَ لهذا التعايشِ بين هذهِ الأديانِ.

كقاعدة منهجيّة لا بُدّ أن تسكنَ العقل المُنصف:

ليس الإسلامُ مُبتكِراً للظواهر الاجتماعيّة، بل هو مُهذِّبٌ لها، ومُنظّمٌ لمساراتِها.. فحين بزغ فجر الإسلام، لم يكن الناسُ يعيشون فراغاً اجتماعياً ولا حضارياً، بل كانت المجتمعاتُ البشـريّةُ قائمة بأعرافِها وممارساتِها؛ في الزواج، والاقتصاد، والحروب، والعلاقاتِ الأسـريّة، لكنها كانت تفتقرُ إلى منظومة قيميّة تضبطُ السلوك، وتحفظُ الكرامة، وتؤسّسُ للعدل والمروءة.

ومن هذا المُنطلق، فالادّعاءُ بأن الإسلام “جاء بتعدّد الزوجات” هو خلطٌ تاريخيٌّ ومعرفيّ. فهذه الظاهرةُ ضاربةٌ في عُمق التاريخِ الإنسانيّ، في حضاراتِ ما بين النهرين، وفي مصـر القديمة، وفي المجتمعاتِ الشرقيّة والغربيّة على حد سواء.

الفرقُ أن الإسلام لم يُلغها، بل قنّنها بشـروطٍ صارمة تُحقّق العدالة، وتربطها بمقاصدَ إنسانيّة نبيلة، تتجاوزُ الغريزة إلى المسؤوليّة، وتتخطّى الامتلاك إلى الإنصاف.

وإذا تأمّلنا الواقع الحديث، فإنّنا نرى ازدواجيّة عجيبة في موقف الحداثة الغربيّة، والعلمانيّة العربيّة، من هذه القضيّة.. فالعلاقة غيرُ الشـرعيّة، مهما بلغت فجاجتُها، تُدرجُ تحت مظلة “الحريّة الشخصيّة”، بينما تُجرّم العلاقة الشـرعيّة إذا تجاوزت الزوجة الواحدة، وكأنّ المشكلة في الإطار القانونيّ، لا في الفعلِ ذاته. وكما يقولُ المثل الشعبي المصـري الدارج: «زيّ السمنِ على العسل»، في وصف حالة الانسجام بين الحرام إذا وافق الهوى، والعداءِ للحلال إذا جاء من الشـريعة..

هذه المفارقة لا تُفهمُ إلّا إذا أدركنا أن كثيراً من هذه التيّارات ليست في صدامٍ مع التحريم، بل مع الشـرع ذاته.

الإسلام: حاضنةُ التنوّعِ ومظلّةُ السلام:

لقد أثبت التاريخ – لا بمجرد النصوص، بل بالوقائعِ والشهادات – أن الإسلام هو الحاضنةُ الأوسعُ للتعايشِ بين الأديانِ والثقافات.. كبارُ المؤرّخين والمفكّرين الغربيين، مثل أرنولد توينبي، وويل ديورانت، وغوستاف لوبون، وكارين أرمسترونغ، وغيرُهم، أقرّوا أن الإسلام لم يكن يوماً دين قمع أو استئصال، بل ديناً يُؤسّسُ للسلام الاجتماعيّ والتسامحِ الدينيّ.

فالمسلمون عاشوا قروناً مع غيرِهم من أهلِ الديانات – في الأندلس، وفي الشام، وفي بغداد، وفي القسطنطينيّة، بعد فتحِها – ضمن إطارٍ حضاريٍّ يجمعُهم دون إكراهٍ ولا اضطهاد، بل بحفظٍ للحقوق، وضمانٍ للحريّات، واحترامٍ للعقائد.. ولم يكن الإسلام فقط مُنظّماً للعلاقةِ بين المسلم وربّه، بل جاء بمنظومةٍ تشـريعيّةٍ تُعنى بتنظيم الحياة بجوانبها كافة؛ من تكوينِ الأسـرة، إلى المعاملاتِ التجاريّة، إلى القضاء والحكم، إلى العلاقات الدوليّة، فكان ديناً شاملًا ينطلقُ من الروح، ويمتدُّ إلى الدولة.

الشبهاتُ: معاولُ هدمٍ لثوابتِ العقل:

“الشبهة” في أصلِها اللغويّ تعني: ما التبس أمرُه واشتبه، حتى خفي وجهُ الصواب فيه. ولكن في زمنِنا، تحوّلت الشبهات إلى أدواتٍ مدروسة، هدفُها زعزعةُ الثوابت، وتفريغُ العقول من اليقين، والقلوب من الطمأنينة.

إنّها ليست مجرّد أسئلة بريئة، بل كثيرٌ منها يُطرحُ في سياقٍ من التدليس والتشويه، من داخل ماكينة إعلاميّة ومجتمعيّة تُروّجُ للعبث، وتسخرُ من المقدّسات، وتُصنّفُ كلّ متمسّك بدينه على أنّه متخلّف، أو عدوّ للحرية.

ومع هذا، يظلّ الوعيُ هو الحصنُ الأخير، فالخطر لا يكمنُ في الشبهة، بل في عقل لم يتحصّن بالعلم، ولم يتأصّل في الفهم، ولم يتذوّق حلاوةَ الانتماء للحق.

فالشُّبهةُ في ذاتها أمرٌ لا يَخلو منه الإنسانُ، إذ إنَّ طبيعته وفطرته تجعلانِ منه كائنًا يجهلُ كثيرًا من الأمورِ. فأيُّ جانبٍ غامضٍ في أيِّ مسألةٍ يُثيرُ لديه التساؤلاتِ والشكوكَ، وتبقى المسائلُ الملتبسةُ، أو غيرُ الواضحةِ، موضعَ شبهةٍ وتساؤلٍ لديه.

وكلما اتسعت دائرةُ العلمِ والمعرفةِ، ضاقت دائرةُ الشبهةِ والتساؤلِ، وتراجعت حالةُ الالتباسِ.. أما المشكلةُ التي نُواجهها اليومَ، فهي انتشارُ الجهلِ في المجتمعاتِ الإسلاميةِ، إلى جانب تفشـي “الجهلِ المُقنَّعِ” في المجتمعاتِ الغربيةِ والعالميةِ. فقد أصبح الإعلامُ العالميُّ أداةً لتغييبِ وعيِ الشعوبِ، وللتلاعبِ بعقولِهم واستغفالِهم.

نحن نعيش في زمنِ سُكْرٍ فكريٍّ، حيث جعلتِ التكنولوجيا المتطورةُ الإنسانَ في عزلـةٍ حقيقيةٍ، رغم وجودِه الجسديِّ ضمن أسرته وفي بيته.

فالفجوةُ بين الأفرادِ داخل الأسرةِ الواحدةِ أصبحت كبيرةً وواسعةً، حتى بات الإنسانُ وحيدًا في عالمه الخاصِّ، لا يرى ولا يسمعُ ولا يشعرُ إلّا بما تُملي عليه الهواتفُ الذكيةُ، وأنظمةُ الذكاءِ الاصطناعيِّ، وقد سُلِبَ العقلُ من الجيلِ الصاعدِ تحت شعارِ “الذكاءِ”.

وفي المقابلِ، فإنّ الإسلامَ يُقدّرُ العقلَ البشـريَّ حقَّ التقديرِ، وقد فتح أبوابَ التفكيرِ والتأمُّلِ والتساؤلِ على مصـراعيها، وحثَّ على التفكّرِ والتدبّرِ، بهدف إزالةِ الشبهاتِ ودحضِها، وتحْصينِ الإنسانِ بالمعرفةِ والبصيرةِ.. والتزوّدُ بالأجرِ والثوابِ مقصدٌ نبيل، فإنَّ المؤمنَ حين يتفكرُ ويتدبرُ، يُعدُّ في عِدادِ الذاكرين والمُسبِّحين، لما في ذلك من إحياءٍ للعقلِ والروحِ، وارتقاءٍ في مراتبِ الإيمانِ.

وأمّا ما يُثارُ اليوم من شبهاتٍ حولَ الإسلامِ كدينٍ سماويٍّ، والقرآنِ كرسالةٍ إلهيةٍ، فينبئُ عن عدّة أسبابٍ عميقةٍ، من أبرزِها:

أوّلًا: تقاعُسُ المسلمين عن أداءِ واجبِهم في تبليغِ هذا الدينِ، وبيانِ حقيقتهِ للعالمين؛ إذ لا ملاذَ للبشريةِ، ولا طوقَ نجاةٍ لها إلا بنورِ الإسلامِ وهديهِ.

فالإنسانيةُ اليومَ تُعاني من أزماتٍ نفسيةٍ، واجتماعيةٍ، وسوسيولوجيةٍ، وجسديةٍ، ولا يرجعُ ذلك إلا إلى غيابِ الإسلامِ من واقعِ الناسِ ومجتمعاتِهم.

وقد باتَ المسلمونَ مُتَّهَمينَ من جهتين:

  1. ضعفُ التزامِهم وفَهمِهم العميقِ لدينِهم.
  2.  تقصيرُهم في عرضِه ونشرِه بالأسلوبِ الذي يليقُ بعظمتِه.

وقد أجادَ الأستاذُ عبد القادر عودة حين عنوَنَ كتابَه: «الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه»، مُشخِّصًا الداءَ بدقةٍ وجرأة.

ثانياً: تَحاملُ الحاقدين من أعداءِ الإسلامِ، وكيدُ الكائدين من اليهودِ والنصارى، ممن يسعون لنشـرِ الشبهاتِ، والتلاعبِ بعقولِ البُسطاءِ والضعفاءِ، لا سيّما أولئك الذين لم ينضجْ وعيُهم بالحياةِ وحقيقتِها.

ثالثًا: إنّ التربةَ الخصبةَ التي تنبتُ فيها الشبهاتُ والشكوكُ، هي بيئةُ الجهلِ وضعفِ المعرفةِ. فبقدرِ ما يتفشّـى الجهلُ، تتّسعُ رقعةُ الضلالِ والتشويشِ، ويُصبحُ الإنسانُ مُعرّضًا للتلبيسِ لا تجاهَ الإسلامِ فقط، بل تجاهَ الحياةِ كلِّها، ومعناها وقيمتِها.

وقد شاهدنا بأعينِنا، أنّه كلما انكمشَ حضورُ الإسلامِ، امتدّت آثارُ غيابهِ إلى مختلفِ أرجاءِ الأرضِ، وعمّت أضرارُه البلادَ والعبادَ.. ولعلّ خيرَ من عبّرَ عن ذلك شيخُنا الجليلُ أبو الحسن الندوي في قولِه البليغ: «ماذا خَسِرَ العالمُ بانحطاطِ المسلمين؟»

ونستطيعُ أن نُلخّصَ فَهمَنا إلى أنَّ هناك العديدَ من الشُّبُهاتِ والتَّلبيساتِ التي تُثارُ حولَ الإسلامِ، وغالبًا ما تنبعُ من: سُوءِ الفَهمِ للإسلامِ ومبادئِهِ العظيمةِ. أو التَّحريفِ المُتعمَّدِ لتلكَ المفاهيمِ عندَ نَقلِها وتناولِها في أوساطِ المُبشّـِرينَ، والمُنصّـِرينَ، والمُستشـرقينَ، وندواتِهم ومنصّاتِهم الفكريّةِ. أو الحُكمِ على أحكامِ الإسلامِ ونصوصِه دونَ النظرِ في سِياقِها الكاملِ والمُتكاملِ، مما يؤدّي إلى نتائجَ مغلوطةٍ وفَهمٍ قاصرٍ.

وفيما يلي بعضُ أبرزِ الشُّبُهاتِ أو التَّلبيساتِ الشائعةِ، مع تَفنيدٍ مختصرٍ لها:

الْكِتابَةُ قَبْلَ الإِسْلامِ:

لقد كان العَرَبُ قَبلَ الإسلامِ يَعرِفونَ الكِتابةَ؛ إذ كانت شَرطًا لا بُدَّ منه للعَرَبيِّ ليَكونَ ذا مَكانةٍ في قَومِه؛ فقد كان يُسَمَّى كامِلًا كُلُّ مَن يُحْسِنُ العَومَ والرَّميَ والكِتابةَ. 

وقد ظَنَّ بعضُ الباحثينَ أنَّ تَسميةَ عهدِ ما قبلَ الإسلامِ “الجاهليَّةَ” تَعودُ إلى انتِشارِ الجَهلِ وعَدَمِ مَعرِفةِ الكِتابةِ والقِراءةِ والعُلومِ، والأمرُ على خلاف ذلك، وإنَّما سببُ التَّسمية إلى ما كان بينهم منَ الشِّـركِ وجَهلِ الإيمانِ والتَّوحيدِ، والجَهلِ بالأديانِ السَّماويَّةِ، وانتِشارِ الفُحشِ وتَردِّي الأخلاقِ. وهذا المُرادُ من وصف الله تعالى لهم بالأُمِّيَّةِ في قَولِه تَعالى: [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ](البقرة: 78)، بدليلِ أنَّ اللهَ تعالى قال بَعْدَها: [فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لهمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لهمْ مِمَّا يَكْسِبُون](البقرة: 79).

وهذا لا يعني أنَّ الكتابة كانت متفشية بين العَرب قبلَ الإسلامِ، بَل كانت الكتابة تُستَعمَلِ في كِتابةِ النُّصوص والعُهود والمواثيقِ، كما يبدو أنَّ بَعضَ الشُّعَراءِ كانت تسجَّلُ أشعارُه وتُدَوَّنُ، ومن هنا جاءَ تَسميةُ المُعَلَّقاتِ المَشهورةِ بهذا الاسمِ؛ لأنَّها كانت تُعلَّقُ على أستار الكعبةِ، على أشهرِ التَّفسيراتِ المَذكورةِ. وإنَّما لم تَنتَشِـرِ الكِتابةُ في العَرَبِ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ باديةٍ، يُعانونَ من شَظفِ العَيشِ، ويَميلونَ إلى التَّنَقُّل والتَّرحالِ، ولا يَعرِفونَ حَياة الحضر والتَّرفِ والاستقرارِ.

وقد جاء ذكرُ الكتابة في القُرآنِ الكَريم، والدلالةُ عليها في غَير موضعٍ من الكتاب العزيزِ، منه قولُه تعالى: [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لهمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لهمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ](البقرة: 79)، وقولُه تعالى: [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ](القلم:1)، وقوله تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ](العلق)، وقَولُه تعالى: [وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا] (الفرقان:5).

عرفَ العَربُ قَديمًا ألوانًا منَ الأدَواتِ البدائيَّةِ التي استَعمَلوها في الكِتابةِ؛ فكانوا يكتبون على الجلود، ويُسمُّونها: الرَّقَّ والأديمَ والقَضيمَ، وعلى القماشِ منَ الحَريرِ أوِ القُطنِ، وعلى جَريدِ النَّخلِ، وهو العَسيبُ أوِ السَّعفُ، وعلى العِظامِ منَ الكَتِفِ والأضلاعِ، وعلى الحِجارةِ والصُّخورِ، وهو ما يُعرَفُ بالنَّقشِ، كما عَرَفوا الكِتابةَ على الورَقِ كذلك، أمَّا الأداةُ التي يَكتَبونَ بها فهيَ القَلَمُ والدَّواةُ والمَدادُ (الحِبرُ)[1].

وقد جمع رب العزة بعض هذه الأدوات في هذه الآيات المباركات:

قوله تعالى: [وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ](الطور:1-3)، وقد جمع هنا: الكتاب، السطر، الرَّقّ، النشر..

قوله تعالى: [ن ، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ](القلم:1)، وذكر هنا: (ن)، والقلم.. والسطر: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مُعَمَّرٍ، عَنْ الحَسَنِ، وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (ن) قَالَا: هِيَ الدَّوَاةُ..

وهناكَ كلماتٌ كثيرةٌ تدلّ على الكتابةِ والقراءةِ والمعرفةِ، مما يدلُّ على أنَّ العربَ كانوا على درايةٍ بالقراءةِ والكتابةِ، وكانت هذه الكلماتُ مألوفةً لديهم.. وممّا يؤكِّدُ ما ذهبنا إليه أنَّ الأدلَّةَ التي سبق ذكرُها تُعدُّ من الأدلَّةِ العقليَّة، وهو ما لخَّصه (غريغوري شولر) في كتابه (الكتابة والشفوية)، حيثُ أشارَ إلى استخدامِ الكتابةِ كوثائقَ مهمَّةٍ، مثل: التحالفاتِ، والعقودِ، والمعاهداتِ، وتثبيتِ هذه الوثائقِ في أماكنَ عامَّةٍ باعتبارِها شاهدًا على ما تمَّ الاتِّفاقُ عليه. وهذا أمرٌ لا يَخفى على كلِّ دارسٍ أو باحث.


[1]  – https://dorar.net/arabia/2319

العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى