جانب من آراء العلامة سبحاني وفتاويه في مسائل النكاح والطلاق وأحكام الزوجية – الحلقة 26 –
د. عمر عبد العزيز

قليل من المباحث والقضايا الفقهية هو الذي لم يتناوله العلامة ناصر سبحاني في دروسه أو كتبه ونتاجاته، فكان فائق العناية بكل القضايا الفكرية والعقدية – كما لاحظنا في المقالات السابقة -، وكذلك الأحكام العملية والسلوكية التي تحدث عنها الفقهاء في الإطار الفقهي الذي سمّوه: المعاملات، ولكنه كان – رحمه الله – ميّالاً للاهتمام بما اهتمّ به القرآن في ذلك الإطار، ولهذا نلاحظ أن لـه وقفات مع مسائل النكاح والطلاق وأحكام الأسـرة والزوجية، وأكل الطيّبات، وتحريم المحرّمات في الأطعمة والذبائح، ومسائل الفيء والأنفال والغنائم، والإشارات التي تتعلّق بشؤون الاقتصاد، لتناول القرآن إيّاها بشـيء من التفصيل.
ولهذا، سأحاول في هذا المبحث عرض جانب من آرائه الفقهية فيما يتعلّق بمواضيع النكاح والطلاق وغيرهما، عسـى أن تكون إضافة لشيء من العلم والمعرفة، وخدمة لأهل العلم وطلابه، في المحاور الآتية:
أوّلاً/ رأيه في النكاح وشـروطه، وحِكمَه:
1ـ رغم أن قول اللغويّين يتراوح – في معنى النكاح – بين الزواج والمعاشـرة الزوجية، إلا أن العلامة ناصر سبحاني أيّد ما قاله الراغب الأصفهاني في المعنى اللغوي للنكاح، حيث قال: “أصل النكاح للعقد، ثمّ استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل له، ثم العقد”([1])، ولهذا عرّف النكاح بأنه: عقد شـرعي للحياة المشتركة بين رجل وامرأة، فلابدّ أن يبرز سموّ تلك العلاقة الإنسانية المباركة في التسمية، لا أن يحصـر في معنى ضيّق.
وحول حكمة تسمية الزواج، أكّد سبحاني أنه لا تكتمل إنسانية أيّ من الرجل والمرأة إلا باجتماعهما مع بعض، على أساس ذلك العقد المبارك. فالتكامل الإنساني إنما يتحقّق باجتماع الزوجين، لأن الخصائص البشـرية وُزّعت على كل من الجنسين، بناءً على تنوّع وظائفهما، وتباين واجباتهما الإنسانية. وتلك الخصائص لم يجتمع جميعها في أيّ منهما على انفراد. فالرجل – بحكم تباين وظائفه عن وظائف المرأة – يحتاج إلى نوع من الخصوصيات الجسمية والنفسية، وكذلك المرأة تحتاج إلى نوع آخر من الخصوصيات تختلف عمّا للرجل، بناءً على وظائفها المحدّدة في الحمل والرضاعة والأمومة والرعاية عموماً([2]).
ويرى الشهيد سبحاني أن علاقة الزوجين – في التصوّر القرآني – تدور في ثلاثة إطارات؛ هي: الجانب الروحي النفسـي، والجانب الجسمي، والجانب الاقتصادي.
ولقد فصّل الإسلام الحديث عن أحكام كل منها؛ أمّا حكمة الزواج في المنظور القرآني فتكمن في كلمتين، إحداهما تتعلق بالرّجل، والثانية تتعلّق بالمرأة. فالتي تتعلّق بالرجل هي (السكنى)، المشار إليها في قوله تعالى تعليلاً لخلق الأزواج: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم:21). أمّا التي تتعلّق بالمرأة، فهي كلمة (القوامة)، الواردة في قوله تعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ](النساء/٣٤)، فهو يرى ما يراه خبراء علم النفس من أن الرجل يغمره شعور فيّاض بعد الزواج، لمّا يسكن إلى زوجه، إثر التعب اليومي الذي يصيب الرجل بحكم وظيفته. كما أن المرأة تحبّ اللجوء والاستناد إلى ملجأ وسند، وهذا أمر فطري لدى كافة النساء، ولا تنكره أية امرأة.
ويؤكّد الأستاذ سبحاني أن النساء – ذوات الفطرة السليمة – يفتخرن برجل يستندن إليه، وهذا ما لا يحتمل المناقشة، فعلماء الغرب ـ حتى الذين لا يؤمنون بالدين منهم ـ قد أيّدوا ذلك.. واستقراء الحالات والعيّنات والإحصاءات العلمية أثبت أن النساء بفطرتهن يفضّلن الحياة مع رجل واحد.. وهذا – في حدّ ذاته – جواب لتساؤل لا منطقي طالما يثيره الشاذّون من الجنسين، وهو: لماذا جوّز الإسلام تعدّد الأزواج للرجل، وحرّمه على النساء؟ عدا أن وظيفة الطمث والحمل والرضاعة ورعاية الطفل، وشعور المرأة بأن نصف كل طفل لها، ونصفه لزوجها، كل هذا لا يسمح للمرأة أن تفكّر في أكثر من زوج، بفطرتها وخلقتها وجميع ما لديها من مشاعر وأحاسيس إنسانية سليمة([3]).
هذا، وللعلامة سبحاني ملاحظات حول بعض التعقيدات التي حصلت في عملية الزواج، واختلط بها بعض الأعراف والتقاليد، منها ما هي عادية، ومنها ما هي مخالفة لحكمة الزواج، وأقصد بها تفاصيل الخلافات التي وردت في بعض كتب الفقه، تحت عناوين: تعريف النكاح وأركانه، وتفصيل كل ركن وحُكمه، وشـروطه، وشـروط الولي، وشـروط الشهود، وأقسام الولي، والتوكيل، وغير ذلك ممّا في مجمله إفادة وتسهيل، وفي تفصيله شيء من التعقيد والابتعاد عن روح الزواج وحكمته، لا سيما الأمور التي لم يعتن بها القرآن والسنّة.
2ـ القِوامة في نظر الشهيد سبحاني:
ويرى الشهيد أن القوامة المذكورة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ](النساء/٣٤)، تعني: رعاية ما تقام به الحياة الزوجية، من إبداء التوجيه للمرأة، وطلب الالتزام بشـرع الله، وعدم السكوت عن التفريط والتقصير. فتظهر القوامة – عنده – في قوّة الرجل بإقناع زوجه بالامتثال لهدى الله، والسير على شـريعته، لا بالتعالي والخشونة وإظهار ما يسمّونه الرجولة. حيث يرى الشهيد أن الآية علّلت في آخرها حكمة إعطاء الرجل حقّ القوامة، بالإشارة إلى أن الرجل أعطي خصوصيات اقتضتها وظائفه المناسبة مع كينونته، وهذا هو معنى الفضل في قوله تعالى: [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ]، فالرجل له فضل – أي: زيادة – استعدادات، يقتضيها نوع وظائفه، والمرأة لها فضل استعدادات، يقتضيها نوع وظائفها في الحمل والرضاعة والأمومة والعواطف المساعدة لتلك الوظائف. ومن المعلوم ـ كما يرى سبحاني – أن الزيادة في أيّ شيء من المال والعلم والقدرة، ليس له قيمة اعتبارية عند الله سبحانه، ولهذا فالتفضيل هنا ـ بمعنى إعطاء كل منهما فضلاً ـ لا يتعارض مع مبدأ كون الأكرم هو الأتقى المبيّن في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](الحجرات/١٣)([4]).
أمّا الأمر الثاني المقتضـي لاختصاص الرجل بالقوامة، فهو أمر الإنفاق المشار إليه في الآية نفسها: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ](النساء: ٣٤)، فالرجل هو المكلّف بإعاشة الزوج والأولاد، وهو المكلّف بالعمل والكسب، وبالتالي بالإنفاق، ولذا كُلّف بأمر القوامة.. إذاً، القوامة – في المنظور القرآني – تكليف وواجب، وليس تشـريفاً وتكريماً، وحقّاً وامتيازاً، كما يتصوّر بعض الناس.. هذا مجمل ما قاله الشهيد في موضوع القوامة([5]).
3ـ خصائص الزواج الشرعي:
هذا، ولقد تحدّث العلامة سبحاني بشـيء من التفصيل عن خصائص الزواج الشـرعي على ضوء بعض الآيات القرآنية، لا سيّما قوله تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](الروم/٢١). فيرى أن اجتماع زوجيْن مؤمنيْن ينبغي ألّا يكون إلا على أساس أداء وظيفة العبودية، كونها لا تتمّ كاملة إلا عن ذلك الطريق. ولهذا تبدأ الخطوات الأولى لكلا الجنسيْن بالبحث عن زوج ينصـر زوجه، ويعينه في أداء تلك الوظيفة، لأن ذلك لا يتحقّق لا بالمال ولا بالجمال، ولا بالحسب ولا بالنسب، بل يتحقّق بالدين([6])، لأن كل شيء غير الدين إمّا لا يدوم، وإمّا لا يغني شيئاً.. ولقد صـرّح القرآن الكريم بأن (السكنى)، و(المودة)، و(الرحمة)، هي مثلّث يمثّل جانباً من أسس الزواج الشـرعي، وهي نتائج وآثار في الوقت ذاته.
ولقد فسـّر الأستاذ سبحاني (السكنى) في قوله تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](الروم/ 21)، بانعدام الاضطراب، واستقرار الحال، وحصول التوازن، وذهاب الارتياب والقلق، فلا بدّ أن يكون كلّ من الزوجين باعثاً للاستقرار النفسـي لصاحبه، ومزيلاً لقلقه واضطرابه.
أمّا (المودة) و(الرحمة)، المشار إليهما في قوله تعالى: [..لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً](الروم/٢١)، فهما ممّا وهبهما الله للزوجين بصورة فطرية مباشرة، فهما جعل إلهي، يقتضيه طبيعة العلاقات الزوجية؛ فالمودّة مفعّلة من الودّ الذي يعني محبّة الشـيء، مضافاً إليه تمنّي كونه([7]). وهي أيضاً مقتضـى العلاقة بين جنسين. وكذلك (الرحمة)، التي يقتضـي معناها أن يسعى كل من الزوجين أن يجلب الخير لصاحبه، ويدفع عنه الشـرّ، ما وجد لذلك سبيلاً.
أمّا الأمر الآخر، فهو كون كل من الزوج والزوجة (لباساً) لصاحبه، وفق قوله تعالى: [هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ](البقرة/ ١٨٧). بمعنى أن كلاً منهما يحفظ صاحبه، وهذا قسم من وظيفة الثوب واللباس، وكذلك يزينّه بكل ما يحبّ الله؛ فكراً وسلوكاً، وهذا جانب آخر من وظيفة اللباس.. فهذان أبرز أوجه الشبه بين الزوجين واللباس([8]).
هكذا يرى سبحاني أن الأدوار موزّعة، وأن الوظائف بينهما متباينة، وبناءً على ذلك تنوّعت الاستعدادات، وذلك كلّه من علامات صفات الجمال لله، وتجليّات أسماء العليم والحكيم، وغيرهما من الأسماء الحسنى.
ثانياً/ رأيه في الطلاق([9])، وأحكامه، وحِكَمه:
1– لا يختلف أسلوب تناول سبحاني لموضوع الطلاق عن أسلوبه في تناول الزواج، فهو يرى أن الطلاق فسخ عقد الزواج بين الزوجين، بعد أن يتبيّن أنهما لا يتمكنان من مواصلة الحياة المشتركة.
الشهيد سبحاني يرى أن القرآن الكريم قد فصّل الحديث عن أحكام الطلاق، مؤكّداً أنه إنما يحصل الطلاق إمّا بسبب نشوز المرأة، أو بسبب نشوز الرجل وظلمه، الذي يجبر المرأة على طلب التفريق، وحصول الفسخ. وهو يؤكّد – في موضوع الطلاق الثلاث – أن الأمر محسوم في القرآن في قوله تعالى: [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسـْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ](البقرة/٢٢٩). ولكن كيف يقع الطلاق؟ وما مراحله؟ فهذا ما فصّل سبحاني فيه القول، فرأى أن الإسلام وضع حلاً لنشوز الرجل، بأن يحاول أطرافٌ الصلحَ بينهما في خطوة أولى، وفق قوله تعالى: [وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ](النساء/١٢٨)، ولكن إذا استمر الرجل في نشوزه بحقّ زوجه وظلمها، ولم تتمكن المرأة من إصلاح حاله، ولا لجنة الصلح، فلها أن تطلب الطلاق من القاضي. وهذا موضوع له تفصيله في كتب الفقه.
2ـ حول عِدّة المطلقة:
لقد اختلف العلامة سبحاني مع جمهور العلماء فيما ذهبوا إليه من أن المطلّقة لها أن تتزوج بعد وضع حملها مباشـرة، بل رأى ضـرورة إكمال العدّة المذكورة في القرآن الكريم، لأن حكمة اعتبار العدّة تدور – كما يرى – حول أمرين: أحدهما يتعلّق بالتأكيد من براءة الرحم والحمل، وثانيهما يتعلّق بالرابطة القلبية بين الزوجين. حيث يرى سبحاني أن هذه الرابطة الشعورية معتبرة في القرآن الكريم. ولهذا أكّد على أنه لا بدّ أن تنتظر المرأة التي يتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشـراً، حتّى إذا كانت حاملاً ووضعت قبل اكتمال العدّة، فعليها الانتظار بعد الحمل لانتهاء العدّة المحدّدة، أي أربعة أشهر وعشـراً. ويستدلّ الشهيد لرأيه هذا بقوله تعالى: [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْـرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ](البقرة/٢٣٤)، فهو يرى أن النصّ عام يشمل الزوج الحامل وغير الحامل، لأن السياق يتحدّث عن حالة الوفاة، أي بحقّ التي يتوفى عنها زوجها. أمّا قوله تعالى: [وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ](الطلاق/٤)، فهو بحقّ المطلّقات أولاتِ الأحمال. ففي النتيجة، قاعدة أبعد الأجلين هي الصواب، فإن كانت حاملاً بعد أربعة أشهر وعشـراً، تنتظر وتكمل العدّة بعد الحمل والوضع، وإن لم تكن حاملاً تكمل العدّة، ففي الحالتين الاعتبار يكون بأبعد الأجلين([10]).
وهذا الذي اختاره الشهيد ورجّحه هو – كما حقّقت فيه – مذهب علي، وابن عباس (رضي الله عنهما)، اللذين خالفهما ابن مسعود (رضي الله عنه)، وتبعه أئمة المذاهب الأربعة، حيث رأوا أن عدّة المتوفّى عنها زوجها، تنقضـي بوضع الحمل مباشـرة، إلى درجة أن بالغ بعضهم بالقول: “ولو بعد وفاته بلحظة”([11])، بحيث يصحّ لها بعد وضع الحمل أن تتزوّج.
3ـ مراحل ما قبل الطلاق السنّيّ:
يرى الأستاذ سبحاني أن القرآن الكريم وضع أربع مراحل لإصلاح ذات البين بين الزوجين قبل الطلاق، وأن إهمال أيّ منها إخلال بعملية الطلاق، الذي هو في الأساس تشـريع كعلاج لمشكلات، وليس في حدّ ذاته مشكلة، ولا ينبغي أن يصبح مشكلة، ولا أن تترتب عليه مشكلات اجتماعية قدر الإمكان. والمراحل الست هي المشار إليها في قوله سبحانه: [وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا](النساء/34-35)، وآيات أخرى سنذكرها بعد قليل. فإن لم يفد الموعظة والهجر والضـرب([12])، اجتمع حَكَم من أهل الرجل، وحَكَم من أهل المرأة، في جلسة مصالحة عائلية، واستمعا لكليهما، فإن رئيا أن يتصالحا فبها، ويتراجعا، وإن اقتنع الطرفان – الزوجان والحَكَمان معاً – أنْ لا فائدة في العودة للحياة الزوجية، قرّرا التفريق بينهما بالمعروف. ومن هنا تبدأ مرحلة خامسة، وهي الخطوة الأولى في الطلاق الشـرعي، الشهير بـ(الطلاق السنيّ).
4 ـ صورة الطلاق في القرآن:
الطلاق الأمثل الموافق للقرآن الكريم ـ في رأي العلامة سبحاني ـ هو كما يلي:
بعد طيّ المراحل الأربع المذكورة في الفقرة الماضية، يعزم الزوج أن يطلّق زوجه، ولكن لا يحقّ له إلا طلقة واحدة فقط، وبالكيفية التالية:
1- يحضـر شاهدان عادلان لمجلس الطلاق، باعتبار أن الطلاق فسخ عقد النكاح، فكما اشترط في جلسة عقد الزواج حضور شاهدين، فكذلك ينبغي في جلسة الطلاق حضور شاهدين، وفق قوله تعالى في النصّ الصـريح: [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ](الطلاق/٢). وهذا مذهب طائفة من الصحابة والتابعين، وبعض الفقهاء والمفسـرين، وعليه مذهب الشيعة الإمامية والزيدية، وكثير من الظاهرية.
2- وينبغي ألّا تكون الزوج في فترة الحيض حينذاك.
3- ولا أن يكون الزوج قد جامع زوجه في زمن الطهر ذاك..
4- فيقول الزوج بحضور الزوجين – بعد أن لم يفد ما مضـى من المحاولات -: أطلّق زوجي بشهادة هذين الشاهدين طلقة واحدة.
هذا ما يراه الشهيد، رغم أنه يرى أن الطلاق يقع بدون الشاهدين، ولكن غيابهما أمر مذموم، ومخالف لحكمة الزواج، ومقاصد الشارع. ولهذا يؤيّد – في هذا الأمر – مذهب الإماميْن داود الظاهري، وجعفر الصادق، اللذين اشترطا حضور شاهديْن([13])، صحيح أن بقية العلماء يرون الكراهة في عدم وجود الشاهديْن، ويذمّون من يقوم بالأمر دون حضورهما، ولكن سبحاني يرى أن الأمر لا يكتفي بمجرد الإشارة إلى الكراهة والذمّ([14]).
5- ثمّ بعد ذلك يرى أن المرأة – المطلقة تلك – تبقى بعد ذلك في بيتها إلى أن تكمل عدّتها، ولا تخرج إلى نهاية العدّة، ولا يمكن للرجل أن يخرجها، وفقاً لقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ](الطلاق/١). وفي نسبة بيت الزوجية إليها دون الزوج، كما في الآية، دلالة أيّ دلالة.
6- وإن أرادا – بعد ذلك – العودة إلى الحياة الزوجية فلهما ذلك، وإلا فيطلّقها الطلقة الثانية كالأولى.
7- وبعد مضـيّ مدّة العدّة، أمامهما طريقان فقط: إمّا أن يتراجعا كاملاً، ولا يبقى لهما فرصة نيّة الطلاق إلا مرّة واحدة، أو – إنْ لم يتراجعا – فيطلّقها الزوج الطلاق النهائي الثالث، ولكن بشـرط أن تكون المفارقة بالمعروف والإحسان.. فهما وصفان للطلاق الشـرعي المارّ بمراحله في القرآن الكريم.. وحول الخيار الأخير قال الله سبحانه تعالى: [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا](الطلاق/٢).
5 ـ حول رأي عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في إيقاع الطلاق الثلاث:
يرى العلامة سبحاني أن ما أفتى به الخليفة الراشد عمر – رضي الله عنه – في العام الثاني من خلافته، بإيقاع الطلاق الثلاث، كان اجتهاداً شخصياً منه، أمضاها كعقوبة تعزيرية، حيث إنه لما أحسّ أن بعض الناس يستغلّون الطلاق لإيذاء النساء، ويستعملون لفظ الثلاث فيه، اجتمع ببعض فقهاء الصحابة، وأبدى رأيه بإمضاء الطلاق الثلاث كعقوبة لأولئك، كي يكون ردعاً لعامّة الناس، فاستقرّ الرأي على ذلك([15]). ثم شاع ذلك الرأي، بعد ذلك، في المذاهب، تبعاً لعمر – رضي الله عنه -، باعتبار أنه لا يعمل بهواه، وظنّا بأنه قد وجد نصّاً أو سمع حديثاً. ولكن ذهب بعض المحقّقين – كابن تيمية، ومن معه – أن لفظ الثلاث في الطلاق بدعة، ولم يستعمل زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بل كان المتَّبَع ما صوّره القرآن من مراحل الطلاق وكيفيّته. وقال آخرون بأن لفظ الثلاث لغْو، ولكن مادام في نيّة الرجل التطليق، فيعتبر الثلاث واحداً. وهذا في نظر الشهيد سبحاني حدّ وسط بين القولين، وليس اجتهاد عمر – رضي الله عنه – ملزماً للمجتهدين بعده([16]).
هذا، ويخطِّئُ العلامة سبحاني – جملة وتفصيلاً – ما ابتدعه بعض الأمراء من الأمويين، لمّا أجبروا الناس على استعمال لفظ الطلاق لليمين أثناء أخذ البيعة منهم، إنْ صحّت الروايات المتعلّقة بتلك الحادثة.
قلت: الصحيح في موضوع الطلاق هذا هو ما أكّده شيخ الإسلام ابن تيمية من أن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمّة، رتّبها الحجّاج بن يوسف في أيمان البيعة([17])، ولكن الشهيد نسبه إلى عبد الملك بن مروان، وهذا ما لم أجده في كتب التاريخ.
[1] يبرر العلامة الراغب الأصفهاني لذلك بقوله: “أسماء الجماع كلها كنايات، لاستقباحهم ذكره، كاستقباحهم تعاطيه. ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه. قال تعالى: [وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ] النور/32، وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ] الأحزاب/٤٩. وغيرها من الآيات”. (الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص: 823)، وهو تبرير منطقي وعلمي، كما لاحظت.
[2] أحسن ما قيل في هذا المجال – من الناحية العلمية – من قبل الأخصائيين في مجال علم النفس والاجتماع من المعاصرين، ما سجله الجراح الفرنسي (إلكسيس كاريل) (1873ــ 1944ز) في كتابه الثمين المترجم إلى العربية تحت عنوان: (الإنسان ذلك المجهول)، ترجمة: شفيق أسعد فريد، طبع عدد طبعات، ينظر – كمثال – طبعة دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1396هـ/1976م.
[3] جلّ ما قاله الشهيد سبحاني – والذي نقلناه في هذه الفقرة – مستلّ من خمس ساعات من دروسه حول المسائل المتعلقة بالمرأة والعلاقة الزوجية.
[4] ينظر: ناصر سبحاني، النظام الاقتصادي في الإسلام، السليمانية، 2011م، ص: 208. وهو طباعة لدروسه الاقتصادية، التي سجّلها عام (1980م) في مسقط رأسه (پاوه) في (13) ساعة، وسنكتفي في الإشارة إليه: بالنظام الاقتصادي، في الحواشي التالية.
[5] ينظر: ناصر سبحاني، درس عقد الزواج . ودروسه حول المرأة وحقوقها، (5) ساعات.
[6] لذا خاطب الرسول الرجل الباحث عن الزوج بقوله: (فاظفر بذات الدين تربت يداك). (أخرجه البخاري في صحيحه، برقم: (5090)، ومسلم في كتاب الرضاع، برقم: (1466)، وفي مسند أحمد بعبارة: (.. فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك)، (مسند أحمد، مسند أبي سعيد الخدري، برقم: (11787)، وصحّحه ابن حبان (4037)، والحاكم (16112). كما خاطب أهل النساء بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، (أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب النكاح، باب (46)، برقم: (1967). وخاطب الرسول أولياء كلا الجنسين بقوله: (تخيّروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم)، (ابن ماجة في سننه، كتاب النكاح، برقم: (1968).
[7] ينظر: الراغب الأصفهاني، المفردات، ص: 860.
[8] ينظر: ناصر سبحاني، درس عقد الزواج، باللغة الكوردية، 2 ساعة.
[9] الطلاق لغة: التخلية والتسريح والإرسال. يقال للأسير المخلّى عنه: الطليق، وللرجل الذي يسترسل الكلام: طليق اللسان. ويقال: طلّق الناقّة، إذا حلّ قيدها وسـرّحها. الفراهيدي، العين، ص: (574)، والرازي، مختار الصحاح، ص: (396).
[10] ينظر للتفاصيل: ناصر سبحاني، كلمة حول الطلاق، (سنندج)، 1985م.
[11] ينظر لتفاصيل ذلك: عبد الرحمن الجزري، الفقه على المذاهب الأربعة، 4/286-292.
[12] لكل من هذه المراحل أحكام تفصيلية، ذكرها المفسرون في تفسير آيتي: (34) ولا(35) من سورة النساء، وآيات أخرى ذات صلة. وكذلك استنبط الفقهاء أحكاماً تفصيلية متعلّقة بجزئيات كل مرحلة، وكيفية تخطّيها. ينظر على سبيل المثال في التفاسير: تفسيري الطبري والقرطبي، وفي الفقه: كتاب المغني لابن قدامة، ونيل الأوطار للشوكاني، في أبواب الطلاق فيها.
[13] ينظر للتفاصيل: ابن حزم، المحلّى، ص: 1811، حيث يقول: “وكان من طلّق، ولم يُشهِد ذوي عدل.. متعدّياً لحدود الله”!. وكذلك ينظر: كاشف الغطاء، أصل الشيعة، القاهرة، 1377هـ/ 1957م، ص: 196. ويؤيّد ضـرورة الشهود من المعاصـرين الشيخ محمد الغزالي. ينظر كتابه: قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، ص: 184.
2 ينظر: ناصر سبحاني، توضيح بعض المسائل، درس باللغة الفارسية.
[15] قال ابن عباس: (كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم) (صحيح مسلم، رقم الحديث: 1472).
[16] ينظر: ناصر سبحاني، توضيح بعض المسائل، (درس باللغة الفارسية). ويتوافق مع رأي الشهيد العلامة الدكتور مصطفى الزلمي، ينظر كتابه: الطلاق مرتان في تفاسير القرآن، ص: 24، حيث يرى أن اجتهاد عمر (رضي الله عنه) مبني على السياسة الشرعية، وأن على المسلمين الرجوع إلى الأصل في القرآن والسنة، لأن الحكم يدور مع علّته الغائية.
[17] ينظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 35/290.
العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون