قصة واقعية/ لقاء تراجيدي.. حضن ينضح بالحياة!
عمر إسماعيل رحيم

في أحد الأزقّة المنسيّة من ذاكرة الوطن، كانت تسكن أمٌّ عجوزٌ هدّها الزمن، وسلب منها الانتظار نضارة العمر.. كانت أيّامها كلياليها، ثقيلةً، قاتمة، تفتقد فيها صوت فلذّة كبدها الذي كان يومًا يملأ البيت ضحكًا، ويمشـي في طرقات الحلم بخطى طالبٍ جامعيٍّ يظنّ أن مستقبله مرسوم فوق الأوراق والكتب، لا في ظلمة الزنازين.
في صباح يوم من أيام تموز ١٩٨٧ذات مساء صيفيّ طلع الابن من البيت يقصد مدينة أخری في رحلة ومهمة دعوية تنظيمية، ووعد الأمّ بالعودة في مساء اليوم التالي.
وعندما کانت الأمّ تنتظر عودة ابنها، وبين فينة وأخری، كانت تتطلع عبر نافذة إلی خارج البيت علی أمل أن يصل الابن، لکن فجأة وصلها خبر من إحدی نساء الجيران بأن ابنها قد تمّ اعتقاله من قبل جلاوزة النظام البعثي، حين کان راجعاً إلى مدينته، وکان قد تمّت مراقبة تحرکاته من قبل رجال الأمن.
دخلوا عليه كالعاصفة عندما کان يستقلّ الحافلة، اقتلعوه من بين رکاب الحافلة، وکان ذنبه فقط هو الانتماء إلى جماعة تؤمن بالإصلاح بالكلمة والفكرة، لا بالسلاح، وبالوعظ، لا بالعنف..
واختفى الابن..
منذ تلك اللحظة، تبدّل كل شيء في البيت..
غاب صوته عن المائدة، وصار مقعده شاغرًا كجرحٍ لا يندمل..
الأمّ لم تكن تبكي أمام الناس، كانت تبكي في الليل، خفية، حتى لا تنهار الأسـرة من بعدها.
كل يومٍ كانت تطرق بابًا، أو تسأل وسيطًا، أو تركض خلف إشاعة..
لكن أحدًا لم يكن يُخبرهم عن مصيره..
هل هو حيّ؟ هل تعرّض للتصفية؟ هل نُقل إلى معتقلٍ سـرّي؟
لا أحد يعلم.
أربعة أشهرٍ كاملة، مرّت كأنها أربعون عامًا.
تشقّقت روح الأمّ من الداخل، وكل نبضةٍ في قلبها كانت تقول: “ربّي، ردّ لي ولدي، أو خذني إليه.”
وذات يوم، سُمح لها أن تزور أحد جيرانهم المعتقلين، بعد وساطاتٍ شاقّة.
لم تكن تأمل كثيرًا، لكنها أرادت أن تسمع من الجار ربّما حرفًا عن ولدها.
دخلت ساحة السجن، والريح تعصف بثوبها الرماديّ، وخطاها تتعثّر بالضعف والتوجّس.
وفي اللحظة التي كانت فيها تبحث بعينيها عن الجار..
وقع ما لم يكن في الحسبان.
رأته..
هو..
ابنها..
كان يسير في الساحة ذاتها، رأسه منكّس، ووجهه شاحب، لكن… عينيه!
عينيه هما ذاتهما.. لطالما أمسكت رأسه بيديها يوم كان مريضًا وهو صغير، وغرقت في بحر عينيه طويلاً، ثم نامت بقربه طوال الليل.
نظرت إليه، وتوقف الزمن..
ارتجف جسدها، اتّسعت حدقتاها، ثم انطفأتا دفعةً واحدة..
وسقطت، مغشيًّا عليها..
لم يحتمل قلبها المفاجأة، ولا احتملت روحها صدمة اللقاء بعد طول الفقد، تهاوت أرضًا كغصنٍ يابس..
لم تصـرخ، لم تبكِ، بل سقطت دفعةً واحدة، كأن جسدها لم يكن سوى غلافٍ لقلبها، فلما رأى قلبها الابن، تهاوى الغلاف..
ركض الابن مذعورًا، كمن استيقظ من موتٍ داخليّ على طعنةٍ في القلب.
صرخ:
“أمي! أمي! لا تتركيني الآن!”
لكن الحُرّاس شدّوه بقسوة، ومنعوه حتى من لمسها،
كأن الحنين صار ممنوعًا، واللقاء جريمة.
كان يرتجف، يبكي، يُمزّق صوته بالنداء:
“دعوني ألمس يدها فقط! دعوني أطمئن أنها بخير!”
لكن أحدًا لم يستجب.
كان يرى روحه تسقط أمامه، ولا يستطيع أن يحملها.
كل شيء في داخله تمزّق، وشعر أنّه لو خُيّر، لاختار ألف جلدةٍ ولا هذه اللحظة.
كانت تلك اللحظة مختزلة لكل وجع الدنيا، للظلم، للقهر، للغربة داخل الوطن.
أمّا الأمّ، فقد نزفت كل ما تبقّى في قلبها من احتمال، وأدركت أن رؤيتها له، لم تكن حياة، بل صاعقة من الحياة..
ثم.. أفاقت الأمّ..
شيء دافئ كان يلامس خدّها..
أنفاسٌ تعرفها، نبضٌ لم يغب عنها يومًا..
فتحت عينيها ببطء، وإذا بها ترى وجهه.. وجه ابنها.
ابتسمت بدموعٍ صامتة، وأخذت تتحسّس وجهه بأناملها المرتجفة،
مرّت على آثار التعذيب في وجنتيه، على عظامه البارزة،
ثم قالت، بصوت مبحوح يخرج من قاع الروح:
“أنت..! لست حلمًا؟ قل لي أني لست في حلم؟”
فردّ، وهو يضمّها:
“أنا بين يديكِ يا أمي.. الله ردّني إليكِ لکي أراکي.”
بكت، وبكى.
ضحكت، وضحك.
وعاد كل شيء حيًّا..
في حضنها، صار السجن سماء، وصار القيد حنانًا، وصارت الحياة ممكنة.
في تلك اللحظة، لم يكن في السجن جدران ولا زنازين،
كان هناك فقط حضن..
حضن أمٍّ التقت بابنها بعد أن دفنها الحنين أربعين مرة.
لكن الساحة لم تكن خالية..
السجناء الآخرون، كانوا واقفين في صمتٍ مذهول،
منهم من بكى، ومنهم من أدار وجهه كي لا تفضحه دموعه،
رأوا في المشهد خلاصهم المؤجَّل،
رأوا فيه أمّهاتهم، وأرواحهم، وأملهم المسجون في غياهب الانتظار.
كان الحنان الذي انسكب بين الأمّ وابنها، يمسّهم كما يمسّ النار الهشيم.
قال أحدهم في داخله:
“لو متّ اليوم، يكفيني أني رأيت حضنًا يُعيد إنسانًا إلى الحياة.”
أمّا الحُرّاس،
فارتبك بعضهم،
جمّدت أصابعهم على البنادق،
واختلط عليهم الأمر:
هل يقمعون الحنين؟
هل يوقفون حضنًا؟
هل يُسكتون دمعة أمٍّ؟
قال أحدهم في نفسه:
“تُرى، هل أمّي ما زالت تدعو لي؟ هل تشتاق إليّ كما تشتاق هذه العجوز؟”
وأخفى عينيه خلف نظّارته، حتى لا يُفضح رعشته المفاجئة.
حتى أشدّهم قسوة، شعر أن شيئًا في داخله قد تشقّق.. أن هذه اللحظة، مهما حاول أن يتجاهلها، ستلاحقه طويلًا.
فالظلم، مهما طال، لا يستطيع أن ينتصر على حضن أمّ.
وهكذا..
ظلّت تلك اللحظة محفورة في ذاكرة السجن،
كأنها ومضة من رحمة الله في وادي الظلام.
لحظةٌ تساوي ألف يوم من العذاب،
حضنٌ وحيد،
لكنّه كافٍ ليعيد المعنى إلى الوجود كله.
العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون