عزة المسلم في ميزان التاريخ
بشار ناڤگوندی

كنت أسمع مراراً وتكراراً أثناء الجلوس في مجالس الذكر قضية ضعف المسلمين وهوان الأمّة، وتردّد على أسماعي كثيراً حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أوَمن قِلّةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت) (رواه أبو داود)(1) ، لكني لم أكن أتصوّر أبداً أنني سأرى الأمّة الإسلامية والمسلمين بهذا المستوى من الهوان والتشتت والضياع، ليصل الأمر إلى ارتفاع أصوات المرجفين والمنافقين لتطغى على كل الأصوات الأخرى.
إن العزة في الإسلام ليست مجرد شعورٍ نفسي، أو حالةٍ عابرة، بل هي قيمة راسخة، وصفة أصيلة من صفات المؤمن الحقّ، إنها العزّة التي لا تنبع من مالٍ ولا جاهٍ ولا نسب، بل من الإيمان الصادق بالله، والاتّباع الكامل لنهج رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وتأتي الآية القرآنية: [ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون](سورة المنافقون/ 8)، لتؤكد هذا المعنى الذي يفتقده الجبناء والمنافقون، فالمؤمن الصادق عزيزٌ بدينه، شامخٌ بإيمانه، لا يذلّ نفسه لمخلوق، ولا يخضع لهوى، ولا يساوم على مبادئه، لأنه يعلم أن العزة الحقيقية لا تُطلب إلا من الله، ولا تُنال إلا بالثبات على الحق.
في زمن تكاثرت فيه الفتن، وتزيّنت فيه طرق الانحراف، باتت العزة سلوكاً غائباً عن كثير من المسلمين، ممّا يتطلّب منّا استدعاء التاريخ، لمحاولة إحياء هذا المفهوم الجليل، وغرسه في القلوب والنفوس، لبناء جيل لا يعرف الذلّ، ولا يقبل الضيم، ولا ينزل أبداً على رأي الفسدة، ولا يعطي الدنيّة أبداً من دينه وعقيدته وعزّته.
لم ينتشر الإسلام بين الأمم إلا بقوّة المسلمين وعزّتهم، الذين سجّلوا أروع المشاهد التاريخية الخالدة في القوّة والتحدي ومواجهة الأعداء دون ضعف أو تردد.. فعندما طلب قائد الفرس (رستم) من قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص رجلاً ليكلّمه، ويعرف منه ما يريده المسلمون في بلاده، كان هدفه تحطيم نفسية ذلك المفاوض حتى يخضع له فيرجع إلى قومه بنفسية منكسرة مهزومة؛ فهي معركة نفسية خالصة قبل الصدام المسلح.. فاختار قائد جيش المسلمين الصحابي الجليل ربعي بن عامر(2) ، ليكون المفاوض الذي يرسله إلى ديوان رستم. فوصل الأخير بثياب بسيطة، فوق فرس قصير، ومعه سيفه الذي وضعه في خرقة، بينما قام رستم بتزيين مجلسه بنمارق من ذهب، وزرابيّ مرصّعة باللؤلؤ والياقوت، ولبسَ تاجاً من ذهب، ينتظر رسول المسلمين.. المشهد عبارة عن حرب نفسية، يحاول كل طرف كسر إرادة الآخر وسطوته.. فعندما وصل الصحابي ربعي بن عامر إلى ديوان رستم، نزل من فرسه، وربط فرسه بأحد الوسائد، ودخل.. الأمر الذي أدّى إلى إغاظة جنود رستم، فطلبوا منه أن يضع سلاحه قبل الدخول على قائدهم، إلا أن ربعي رفض ذلك، وقال: إنني جئتكم حينما دعوتموني، فإما تتركوني أدخل هكذا وإلا رجعت. ويسمع رستم قائد الفرس هذا الحوار، فينادي أن أذنوا له بالدخول (3). كان هذا الدرس الأول من الصحابي الجليل للعدو: أن الذي استدعيته للنقاش والتفاوض ليس سهلاً، ولم يأت إليك من باب الضعف، وإنما جاءك من باب القوّة، حيث حاول العدو أن يشعر المفاوض المسلم بالفارق الحضاري والعسكري بين الأمّتين: أمّة الفرس، التي تحكم المنطقة آلاف السنين، محاولاً بذلك هدم نفسية ربعي بن عامر القادم من الصحراء، وازدراءه، واحتقاره.. إلا أن جذر العقيدة بدّل الموازين.. فها هو العربي المسلم الذي ينتمي إلى قبائل عربية كانت متفرقة ومتحاربة، يحطّم هذه الأسطورة بعزّة نفسه، وقوّة موقفه، ورجاحة عقله، وتوازنه النفسي، وشجاعته.
ثم جاء الدرس الثاني، الذي كان أقوى وأشدّ وقعاً في نفس الخصم، عندما أقبل ربعي يتوكأ برمحه على النمارق داخل الديوان، ممزقاً عامتها، ليحطّم نفسياتهم، وليخضعوا هم لا هو.. إنها العقيدة الجديدة التي زرعت في نفوس أتباعه قوّة الإيمان وعزّة المسلم الذي لا يخاف في الله أحداً، خاصة في الميدان، حيث لا مجال للتراجع أو التردد.
ثم دار بينهما الحوار الشهير، حينما سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: بعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً، حتى نفضي إلى وعد الله.. حاول (رستم) مجاراة ربعي، ليستلين، ويميّع أمره، لكنه خسر في المعركة النفسية التي انتهت منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها المفاوض المسلم إلى باب ديوانه.. بعدها اجتمع رستم بوجهاء قومه، وقال لهم: هل رأيتم قطّ أرجح وأعظم عزّاً من كلام هذا الرجل؟ فكان من الطبيعي أن يتعجب هؤلاء من كلامه، نظراً للنشوة الحضارية التي يعيشونها، والغرور الذي يجعلهم لا يرون أحداً في الساحة سوى أنفسهم، فقالوا له: ألا ترى ثيابه، وهيئته؟ فقال رستم، الذي كان يتمتع ببعد نظر: ويلكم، انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة (4).
الموقف لا يزال يُدرّس كمثال راقٍ على الثقة والعزّة والاستعلاء بالإيمان لا بالكبرياء، وهذا الصحابي ينتمي إلى مدرسة عظيمة أسّسها معلّمها محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي قام ببناء الإنسان المسلم ليكون قائداً في كل مجالات الحياة، فلا مكان لليأس والضعف والانكسار أمام تحديات الحياة.. فها هي (غزوة الخندق) (بينما كان المسلمون محاصرين جوعى، وبينما كان النبي – عليه الصلاة والسلام – يربط بطنه بحجر من شدة الجوع، والأذى قد أحاط بالجميع، كانت النفوس لا ترضى بالدنيّة ولا بالقلّة، حيث يحفر النبي وأصحابه الخندق مخافة قريش وحلفائها، ولا يجد أحدهم لقمة يسدّ بها جوعه.. يرفع النبي رأسه ويقول:” الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني أرى قصورها الحمراء الساعة.. الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصـر قصـر المدائن الأبيض.. الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصـر أبواب صنعاء من مكاني(5).. وما زال منهجه التبشير لأصحابه، ثقةً بوعد الله، ولبناء نفوسهم على العزّة وعدم الانكسار أمام الشدائد والاستبشار بنصـر الله بعد أخذ الأسباب والإعداد بما أوتوا من قوّة، ويمتدّ هذا المنهج ليشمل الأمّة كلها، بكل أجيالها وأفرادها.
وكان قرار السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) 1029-1072 مواجهة جيش الروم البيزنطيين الضخم، أحد من القرارات المصيرية التي غيّرت وجه منطقة الأناضول إلى الأبد.. حيث جهّز الإمبراطور البيزنطي (أرمانوس)، في العام 1072م، جيشًا ضخمًا يتكوّن من مائتي ألف مقاتل من الروم والروس والكرج والأرمن والخزر والفرنجة والبلغاريين، وتحرّك بهم من (القسطنطينية)، عاصمة دولته، واتّجه إلى (ملاذكرد)، حيث يعسكر الجيش السلجوقي، الذي لا يتجاوز عشرين ألفًا. (6) كان فارق القوة هائلاً بين الطرفين، وأدرك (ألب أرسلان) صعوبة موقفه، إلا أنه لا بد من المواجهة بكل عزم وقوّة، فلا مجال للتراجع أمام القرارات المصيرية، خاصة بعد أن أساء إمبراطور الروم إلى مبعوث (ألب أرسلان)، الذي أرسله ليعرض عليه الصلح والهدنة، وتعامل معه بغرور وتكبّر، فكان لا بد من المواجهة بكل حزم، فقرّر الصدام مع الروم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.. وعندما دنت ساعة اللقاء في آخر ذي القعدة 463ه / اب 1071م، كانت لحظة الحقيقة، حقيقة انتصار قوّة الإيمان والعقيدة الصحيحة على الكبر والتعالي، مهما كان الفارق كبيراً بين الطرفين.. أن يكون قتالك جهاداً في سبيل الله لا تخاف العدو يوم الزحف، متمنياً إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، هذا المفهوم الذي نحتاجه في حياتنا كي نتمكن من الاستمرار في مواجهة الخصم الذي لا يكل ولا يمل في السعي للقضاء على هذه الأمّة وعقيدتها بشتى السبل والوسائل.
بعد أن صلّى الإمام أبو نصر البخاري بجيش المسلمين، الذي يضمّ في صفوفه الأتراك والأكراد والعرب، بكى السلطان (ألب أرسلان)، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلتُ فهذا كفني، ولم يختبئ في قلعته، أو وراء جنوده ودروعه، أو يطلب الحماية من غيره، وأنه لا قبل له بجيش الروم العرمرم، بل تقدّم صفوف جيشه، وأحسن التخطيط للمعركة، وأوقد الحماسة والحميّة في نفوس جنوده، حتى إذا بدأت المعركة أقدموا كالأسود الضواري تفتك بما يقابلها، وهاجموا أعداءهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحًا، وما هي إلا ساعة من نهار حتى تحقّق النصـر، وانقشع غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال، ووقع الإمبراطور البيزنطي أسيرًا في أيدي المسلمين، وسيق إلى معسكر السلطان.(7)
كان من نتائج هذه المعركة المفصلية أن فتحت أبواب الأناضول أمام المسلمين، ولم يتبق بيد الروم البيزنطيين سوى (القسطنطينية)، وبعض قصباتها.. هكذا تكون المواجهة، ففي اللحظات الحاسمة من المواجهة لا مكان للتردد والضعف، ولا وساطات أو مفاوضات بدون جدوى.. كل ما تحتاجه: قائد قوي مؤمن، وجنود أوفياء، وخوض المعركة بصدق مع العدو الذي لا يقيم لك وزناً، ولا يعترف بحقّك في الوجود والعيش على أرضك، وإلا ستكون النتيجة ما شهده أهل سمرقند على يد المغول، وقائدهم (جنكيزخان)، الذي بدأ هجومه الكاسح على الدولة الخوارزمية، والمدن والأقاليم الإسلامية، فاقتحمها الواحدة تلو الأخرى.. وعندما وصل إلى مدينة (سمرقند)، في العام 617ه-1220م، حاصرها لفترة طويلة، وحاول اقتحامها، فلم يقدر، بسبب المقاومة الشـرسة لأهل المدينة، وصمودهم بوجه قوات المغول.. وبعد حصار شديد للمدينة، ومعارك طاحنة بين الطرفين، استبسل فيها أهل المدينة في الدفاع عنها، أدرك (جنكيزخان) أنه لن يتمكن من احتلال المدينة بسهولة، فلجأ إلى تكثيف هجماته، والسيطرة على أطراف المدينة وأسوارها، وتمكن من اقتحام بعض نقاط الحصن المحيط بالمدينة، وكان جيش المسلمين قادراً على الصمود والدفاع لفترة طويلة، وبإمكانهم إلحاق أضـرار كبيرة بالمهاجمين، لولا أن قسماً منهم قرر اللجوء إلى الاستسلام، ومحاولة استرضاء العدو، ليسلموا من القتل، فقرّروا تسليم أنفسهم وأسلحتهم.. وافق قائد المغول، ووعدهم بالأمان، وأنهم سيكونون في صفوف جيش المغول.. فخرجوا إلى العدو مع عوائلهم وأمتعتهم، فأمر (جنكيزخان) بحلق شعورهم على عادة المغول، في إشارة إلى رضاه عنهم، وأنهم أصبحوا جزءاً من جيشه، خداعاً وتمويهاً.. غير أنه ما كاد أن يحلّ المساء حتّى قتلوا منهم حوالي ثلاثين ألفاً، فكان ذلك عاملاً في ضعف الفريق الثاني الذي بقي مقاتلاً داخل قلعة المدينة، والذي سقط بعد أيام بيد الجيش الغازي.(8)
ولم يكن مصير الخليفة العباسي المستعصم بالله أحسن من أهل سمرقند، بعدما صدّق ادّعاء المغول، وقائدهم هولاكو، الذي حاصـر مدينة بغداد، حاضرة الدولة العباسية، بجيوشه الجرارة التي اجتمعت على أسوارها، وهاجمها لأيام طويلة، فلم يتمكن من اقتحام سورها المنيع، فلجأ المغول إلى حيلهم المعهودة، فأرسلوا قاصداً إلى الخليفة مدّعين أنهم يريدون التفاوض معه للتوصّل إلى اتّفاق، إلا أنه عليه الخروج من بغداد مع وزرائه ووجهاء دولته لملاقاة (هولاكو) على طاولة المفاوضات، على بعد أميال خارج أسوار بغداد.. انخدع الخليفة بقائد المغول، لا سيّما أن هذا الأخير كان قد التقى مسبقاً بابن الخليفة وأكرمه، وأسمعه كلاماً جميلاً، فوثق به الأمير، ورجع إلى بغداد، وأخبرهم ما رأى.. فقام الخليفة بتكرار نفس الخطأ الذي وقع به قادة سمرقند أمام جنكيزخان، الذي هو جدّ هولاكو القائد الذي يحاصر بغداد.. فخرج إليهم مع 700 من قادة ووزراء وقضاة ووجهاء بغداد، غير مدرك أن هذا العدو لا يلتزم بأيّ عهود أو مواثيق، وأن الغدر هو ديدنه.. وحال وصول وفد الخليفة وموكبه إلى معسكر هولاكو، قام الأخير بقتلهم جميعاً، باستثناء الخليفة وأولاده، حيث حبسوا في خيمة لفترة، وأهانه هولاكو أشدّ الإهانة، ثم نقله أسيراً إلى قصـره.. وبعد أن كشف لهم عن أماكن كنوز بني العباس، استخرجها المغول، وقاموا بقتل الخليفة ركلاً بالأقدام(9)، بعد أن استباح المدينة، وقتل معظم سكانها، ودمّر كافة صـروحها الحضارية والمعمارية، واحرق أحياءها بمن فيها.
أمام هذا المشهد المؤلم والمرعب الذي نشـره المغول في كل بقاع الأرض الإسلامية، استقرّت أسطورة الجيش الذي لا يقهر في نفوس الناس، وأنه لا فائدة من مواجهتهم، فسقطت المدن الإسلامية المتبقيّة في الشام وجنوب شـرق الأناضول الواحدة تلو الأخرى بأيدي المغول، ومن هول ما رأى الناس من إجرام وبطش وفظائع هذا العدو، وصل اليأس في نفوس المسلمين إلى درجة أن بعضهم بات يجزم أن المغول هم يأجوج ومأجوج، وأن القيامة باتت على الأبواب.. وبات هذا الوحش يسرح ويمرح في بلاد المسلمين دون رادع، ولا يجرؤ أيّ حاكم أو أمير على مواجهته، فقدّم الأمراء الواحد تلو الآخر طقوس الطاعة والتسليم له، حتى باتت إمارات الشام وأجزاء من الأناضول كلها تحت أيديهم..
أمام هذا الرعب النفسي، والانكسار المعنوي الذي حلّ بالمسلمين، بعد سقوط بغداد والشام، كان لا بد من صفعة قوّية لهذا العدو تعيد التوازن إلى المنطقة، وتبني الثقة عند الناس في إمكانية المواجهة والانتصار، فكان المماليك في مصـر هم السدّ الأخير أمام هذا الزحف المتواصل للمغول، الذين كسر الله بهم شوكتهم.
استفاد قادة المماليك، وعلى رأسهم المظفّر سيف الدين قطز (657ه-658ه)(10) من التجارب السابقة.. ومن لا يستفيد من تجارب الآخرين، يكرّر نفس الأخطاء، ويشرب من نفس الكأس الذي شـربه من قبله.. وعندما اقتربت جيوش المغول من حدود مصر، دقّ ناقوس الخطر، وكان لا بد من موقف قوّي يكسر هذا العجز واليأس الذي دبّ في نفوس أبناء الأمّة، خصوصاً بعد أن وصل رسل قائد المغول (هولاكو) ومبعوثيه إلى مصر، حاملين رسائل تهديد ووعيد؛ مطالباً قادة مصـر من المماليك بالاستسلام وتسليم البلد إليه، وإلا فإن المصير الذي ينتظرهم سيكون مشابهاً لمصير المدن والممالك الأخرى.. كان أمام زعماء مصـر من المماليك خياران لا ثالث لهما، إمّا الاستسلام وتسليم كل شيء إلى العدو المعروف بنقض عهوده، أو المواجهة والصدام.. فاختاروا المواجهة والحرب.. ولكنهم استبقوا ذلك بخطوة حاسمة، أدّت إلى كسر هيبة العدوّ شوكته في نفوس أهل البلد، فقرّروا اتّخاذ موقف صارم وقوّي، وقتلوا رسل المغول الأربعة، وعلّقوا رؤوسهم في أربعة أماكن مختلفة داخل المدينة، وتمّ إعلان الجهاد ضد المغول في القاهرة، وكل ربوع مصـر.. وشدّد السلطان قطز على الولاة بالتأكيد على حضور كافة الجند، ومن تخلّف منهم يعاقب بالضـرب.. وحاول بعض الأمراء التملّص من المشاركة، وامتنعوا عن الالتحاق بقوافل المجاهدين، إلا أنهم في النهاية وافقوا وانضموا إلى الجيش الذي اكتمل الإعداد له.(11)
انطلق المسلمون حاملين راية الجهاد نحو الشام لملاقاة المغول الذين جمعوا جيوشهم بقيادة (كتبغا) المغولي، نائب هولاكو في الشام، استعداداً للقتال.. وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان 658ه/ 3 أيلول 1260م، التقى الجمعان في منطقة (عين جالوت)، وفي قلوب المسلمين وهم عظيم من التتار، وقد امتلأ الوادي، وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين.. واصطدم الطرفان، فاضطرب في البداية جيش المماليك، وانتفض طرف منه، فنزع الملك المظفر خوذته من رأسه، وألقاها على الأرض، وصـرخ بأعلى صوته (وا إسلاماه)، وحمل بنفسه ومن معه حملة صادقة، فأيّدهُ الله، وتمكّن من قتل (كتبغا)؛ مقدم التتار، وانهزم الباقون من فلول الجيش المغولي(12)، لتكون أوّل هزيمة تلحق بهذا العدو المتوحش الذي عاث في بلاد الإسلام فساداً وقتلاً لملايين البشر.. ولولا هزيمتهم على أرض الشام لاكتسحوا ما تبقى من بلاد المسلمين، ووصلوا إلى الأندلس، ومنها إلى أوروبا.
أرض الشام وترابها كانت وما زالت مقبرة للغزاة الذين جاءوها محتلين مغتصبين، وتشاء الأقدار أن تكون هذه البقعة المباركة هي الصخرة التي تتحطم عليها أحلامهم؛ فمن مجموع سبع حملات صليبية على الشام ومصر، انكسرت جيوش هؤلاء الغزاة على هذه الأرض المباركة، واضمحلت ممالكهم التي أقاموها على جثث الأبرياء المسلمين من أهل هذه البلاد.. هذه الأرض لم تكن أبداً مستقرّاً للمحتلين، حيث تلفظهم، ولو بعد حين.. فهذه (بيت المقدس)، التي بقيت في قبضة الصليبيين تسعين عاماً، قتل فيها عشـرات الآلاف من أهلها على يد الغزاة، ولكنها في النهاية تحرّرت على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، بعد أن قضى على معظم حصون الصليبيين وقلاعهم، حيث دخل القدس في ليلة الإسراء والمعراج(13)، في تأكيد أزلي على أن تراب هذه البلاد يأبى الذلة والخضوع للمحتل الغريب، وأن أبناءها هم الطائفة المنصورة، التي ستبقى على الحق ظاهرة..
عاد الصليبيون الجدد إلى الأرض التي بارك الله ما حولها، واحتلّوها، وأسّسوا دولتهم عليها، وشـرّدوا شعباً بالكامل من أرضه، وهم الآن يعملون على إبادة وتهجير القسم المتبقي منهم، ولكن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، حيث نشأ جيل التحرير على تراب هذه الأرض، طائفة مؤمنة متمسكة بعقيدتها، ذو عزة وقوة وصلابة تليق بهذه المرحلة المفصلية من تاريخ الأمّة التي نحتاج فيها إلى القوة والثبات والعزيمة الراسخة على النصر، بعيداً عن التردد والخذلان والتسويف ومجاراة العدو وعملاءه من ذوي السلطة خوفاً من البطش، وطمعاً في دنيا زائلة.. هذه الطائفة قائمة وظاهرة على الحق لا يلين لهم عضد، ولا يتهاونون مع الأعداء، طائفة استمدت قوتها وصلابتها من إيمان النبي، وعزيمته على النصر، ومن شجاعة ورباطة جأش الصحابي ربعي بن عامر وإخوانه المجاهدين، ومن حكمة وتخطيط (ألب أرسلان) في مواجهة العدو ومعالجة الاختلال في توازن القوة في ساحات القتال، ومن شدة وحزم سيف (قطز) في الرد على تهديدات ووعيد الغزاة، دون خوف أو تردّد، وصبر وطول نفس صلاح الدين في المواجهة والتحرير.. هكذا طائفة لن تهزم بإذن الله مهما أصابهم من أذى الحصار والجوع، وأذى الخذلان من القريب قبل البعيد.. هذا وعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى، حيث قال: (لا تزال طائفة من أمّتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضـرّهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس)، حديث صحيح.
التاريخ ليس قصصاً تروى للاستماع إليها، والاستمتاع بها، بل دورة متكرّرة وتجارب مماثلة، من لا يستفيد منها سيشرب من نفس الكأس الذي شـربه أسلافه، ومن اعتبر ظفر، فإما أن نكون أقوياء كأسلافنا العظماء، أو ضعفاء ومهزومين ومستسلمين للأمر الواقع.
الهوامش:
1-أبي داود، سليمان بن الأشعث، سنن أبو داود/ كتاب الملاحم (حديث رقم 4297)، تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1416ه-1996م، ط1، ج3، ص115.
2-ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد، الإصابة في تمييز الصحابة، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، ج1، ص194.
3-الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، اعتنى به: أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، عمان، الأردن، ص597.
4-المصدر نفسه، ص597.
5-ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، اعتنى به: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1410ه-1990م، ط3، ج3، ص171.
6 – ابن الأثير، عزالدين علي بن محمد الجزري، الكامل في التاريخ، اعتنى به: أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، عمان، الأردن، ص1477.
7 – المصدر نفسه، ص1478.
8- النرشخي، أبو بكر محمد بن جعفر، تاريخ بخارى، ترجمة وتحقيق: أمين بدوي الطرازي، دار المعارف، القاهرة، ص116.
9- ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، 1991م، ص201.
10- الذهبي، شمس الدين محمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402ه-1982م، ط2، ج23، ص199.
11- المقريزي، تقي الدين أبي العباس أحمد، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1418ه-1997م، ج1، ص515.
12- ابن تغري بردى، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تحقيق: نبيل محمد عبد العزيز أحمد، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1997م، ج7، ص80.
13- أبو خليل، شوقي، حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، دار الفكر، دمشق، 1425ه-2005، ط1، ص87.
العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون