النبيّ في قصائد جلال الدين الرومي

بدر الدین يوسف إسماعيل

مقدمة:

لا يرى جلال الدين الرومي في النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) مجرّد مبلِّغ للشـريعة، وهادٍ للأمّة، بل حقيقةً أزليةً، ومحور الخَلق كلّه.. فالنبيّ -في نظره – هو الإنسان الكامل الذي اتّصل اتصالاً تامّاً بـ «العقل الكلّي» و«الروح المطلق»، ولذلك اجتمعت فيه جميع كمالات الإنسان.

ويؤكّد الرومي في قصائده أنّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) حقيقةٌ حيّة خالدة، لا تنتهي بوفاة الجسد. فيقول:

مصطفى را وعده کرد الطافِ حق گر بمیری تو نمیرد این سبق

(ألطافُ الحقّ وعدت المصطفى أنّه إن متَّ جسداً، فلن تموت هذه السابقة الأزلية).

أي إنّ الحقيقة المحمدية حيّة باقية لا يعتريها الفناء.. ومن هنا يرى الرومي أنّ مقام النبي (صلى الله عليه وسلم) ممتدّ في كلّ لحظة من لحظات التاريخ، بل حتى قبل التاريخ.

وفي الدفتر السادس من المثنوي يصرّح بأنّ الحقيقة المحمدية متقدّمة على سائر الأنبياء:

مصطفی زین گفت که آدم و انبيا  خلف من باشند در زیر لوا

بهر این فرموده است آن ذو فنون        رمز نحن اخرون السابقون

گر بصورت من ز آدم زاده‌ام                من به معنی جدّ جد افتاده‌ام

(قال المصطفى: إنّ آدم، والأنبياء جميعاً، هم خلفاء لي، وتحت لوائي

ولهذا قال ذو الفنون: إنّني أنا المقصود بسرّ «نحن الآخرون السابقون»

وإن كنتُ في الصورة مولوداً من آدم، فأنا في المعنى جدّ الأجداد ومقدَّم عليهم).

النبيّ، ذروة الخلق:

يشير جلال الدين الرومي إلى الحديث القدسي: «لولاك لما خلقتُ الأفلاك»، بلغةٍ شاعرية، ويصوّر ذلك في إطار رمز العشق:

با محمد بود عشق پاک جفت   بهر عشق او را خدا لولاک گفت

(كان العشق الطاهر مقترناً بمحمد، ومن أجل هذا العشق قال الله: لولاك).

فالنبيّ (صلى الله عليه وسلم)، في نظر الرومي، هو العلّة الغائية للخلق؛ فلو لم يكن، لما كان للكون معنى. إنّ محمداً المصطفى هو الغاية والهدف الذي من أجله قام الوجود.

ويُتمّم الرومي هذا المعنى في أبيات أخرى:

زین سبب فرمود خلاق جهان    با حبیب خود نبی انس و جان

گر نبودی ذات پاکت خاک را    می‌نکردم خلق و نی افلاک را

(لهذا قال خالق العالم لحبيبه: نبيّ الإنس والجان… 

لو لم تكن ذاتك الطاهرة، لما خلقتُ التراب ولا الأفلاك).

وهكذا يصبح النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس فقط معلّم الأمّة، بل أساس الوجود، وذروة الخلق، الذي به اكتسب العالم معناَه، ولولاه لكان الكون صَدَفةً بلا جوهرة..

النبيّ مظهراً للكمال الإنساني :

حين يتحدّث جلال الدين الرومي عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لا يراه مجرّد «محور الخلق»، بل يعتبره أيضاً «مظهراً للكمال الإنساني». فجميع الأنبياء والأولياء في الحقيقة شعاعٌ من نوره، وكلّ ما يطلبونه في سلوكهم ومجاهدتهم قد بلغ تمامه في شخصه الشريف.

يقول الرومي في المثنوي مبيّناً مكانة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وفرادته بين سائر الأنبياء:

زان به احمد خطاب شد لولاک  که برای تو ساختیم افلاک

ور نبودی مراد صورت تو        نشدی آفریده یک سر مو

(ولهذا وُجّه الخطاب إلى أحمد: لولاك، فإنّا لأجلك خلقنا الأفلاك.

ولولا أنّ المراد صورتُك، لما خُلق في العالم مقدارُ ذرّة).

والنبي (صلى الله عليه وسلم)، من منظور الرومي، هو القدوة التي ينبغي للسالك أن يقتدي بها ليبلغ الكمال الإنساني.. ففي حادثة الهجرة، عندما آوى النبيّ إلى الغار مع أبي بكر، يقدّم الرومي هذا المشهد مثالاً على علاقة المريد بالمرشد؛ فكما تشبّث أبو بكر بالنبيّ بصدقٍ ووفاء، كذلك على الصوفيّ أن يتشبّث بالنبيّ، ويستمدّ منه العون.

النبيّ وحقيقة العشق([1]):

يرى جلال الدين الرومي النبيَّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) حقيقةً ممتزجةً بالعشق الإلهي، ومنذ البدء كان مَعينَ جميع العشّاق.. وهو يستند إلى الحديث: «كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد»، ليؤكّد أنّ الحقيقة المحمدية وُجدت قبل جميع المخلوقات في عالم العشق.

يقول في المثنوي:

با محمد بود عشق پاک جفت   بهر عشق او را خدا لولاک گفت

(كان العشق الطاهر مقروناً بمحمد، ومن أجل هذا العشق قال الله: لولاك)

وكذلك جاء:

زان به احمد خطاب شد لولاک  که برای تو ساختیم افلاک

(ولذلك وُجّه الخطاب إلى أحمد: لولاك، فإنّا لأجلك خلقنا الأفلاك).

وهذا يعني أنّ خلق الأفلاك كلّه كان على أساس العشق المحمديّ؛ فلو لم يكن، لما كانت أرضٌ ولا سماء. فالحقيقة المحمدية توأمُ العشق، ومن دونها لا يظهر العشق في الوجود.

وفي ديوان شمس يصرّح الرومي بقدَم العشق وأزليّته:

عشق از ازل است و تا ابد خواهد بود    جویندهٔ عشق بی‌عدد خواهد بود

(العشق من الأزل، وسيبقى إلى الأبد، وطالِبوه بلا عدد).

ومن هنا، يرى الرومي أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) هو القدوة لجميع السالكين؛ أوّل إنسانٍ أفنى نفسه كليّاً في حضرة العشق الإلهي. يقول في موضع آخر:

مصطفى را وعده کرد الطافِ حق گر بمیری تو نمیرد این سبق

(وعدَتْ ألطافُ الحقّ المصطفى إنّه حتّى إن متَّ جسداً، فلن تموت هذه السابقة الأزلية).

فهذا الوعد يدلّ على أنّ العشق المحمدي يتجاوز حدود الموت والحياة الجسدية، وهو حقيقة خالدة.. وهكذا، فالنبيّ (صلى الله عليه وسلم) في نظر الرومي ليس رسولاً فحسب، بل مَعين العاشقين، ومصدر العشق كلّه؛ النبع الذي يرتوي منه جميع سالكي طريق الحقّ.

معاناة النبيّ، وبُعده الإنساني:

مع أنّ جلال الدين الرومي يفيض بالثناء على النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) بوصفه «نور الخلق» و«حقيقة العشق»، إلّا أنّه لا يجعله مقيماً في السماء، بل يوجّه نظره أيضاً إلى الأرض، إلى المعاناة والآلام التي حملها النبيّ بصفته إنساناً. وهذه من خصائص نظرة الرومي: وصلُ النبيّ القدسي بالنبيّ الإنساني.

كان رسول الله حاملاً لثِقَل الوحي العظيم؛ ثِقَلٌ لم يكن في طاقة أيّ إنسانٍ سواه. ويشير الرومي أحياناً بحسـرةٍ وحزن إلى أنّ هذا المقام الرفيع ألقى على كاهله أعباءً جساماً. وينقل قول النبيّ (صلى الله عليه وسلم): «ما أُوذِي أحد مثل ما أُوذيت»، أي: ما تعرّض أحدٌ للأذى مثل ما تعرّضتُ له.

ومن هنا ينطق الشاعر أحياناً بكلمةٍ حسيرة: «ليتَ إله محمّد ما خلق محمّداً». وهذه العبارة – على ما فيها من مفارقة – تأكيدٌ على الثِقَل اللامتناهي الذي وُضع على عاتقه؛ إذ إنّ نسبته إلى «الساحة المطلقة»، أي إلى الحقيقة الإلهية، جعلت ثِقَل الوجود كلّه ينصبّ على روحه.

وفي الدفتر السادس من المثنوي يوضّح الرومي أنّ النبيّ، وإن كان «لولاک» وعلّة الخلق الغائية، فإنّ هذا المقام اقترن قبل كلّ شيء بمسؤوليةٍ وألمٍ لا يُحتملان. فالحقيقة المحمدية حقيقةٌ غامرة بالنور والرحمة، ولكنها في الوقت نفسه مغموسةٌ بالمعاناة ودموع القلب.

هذان البُعدان يمنحان صورةً أكمل للنبيّ في نظر الرومي: نبيٌّ في ذروة العشق والكمال، لكنه في الوقت نفسه إنسانٌ ذاق مرارة المحن، ورأى عداوة الأعداء، وحمل عبء الرسالة، وأحرق قلبه في كلّ لحظةٍ بلهيب الشفقة والحزن على أمّته.

ولهذا، فإنّ النبيّ في نظر الرومي هو «الإنسان الكامل»؛ لا بالمعنى الملائكي الخالي من العناء، بل بمعنى الإنسان الذي تجمّعت فيه كلّ أبعاد الوجود: من نورٍ وعشقٍ، إلى ألمٍ ومشقّة. وهذا الجمع بين الأضداد هو الذي يجعله النموذج الفريد للسالكين؛ إذ ينبغي للسالك أن يعلم أنّ طريق العشق ليس نوراً فحسب، بل هو نارٌ ومعاناة أيضاً.

النبي، قدوة السلوك ونموذج الإنسان العاشق:

يرى جلال الدين الرومي أنّ النبيّ محمّداً (صلى الله عليه وسلم) هو «رأس قافلة العشق وقائدها»؛ ليس مبلّغ الشـريعة فحسب، بل النموذج الكامل للإنسان الذي سلك طريق العشق الإلهي، وجعل الطريق مضيئاً للآخرين.

فالمعراج عند الرومي رمزٌ لهذا السلوك العاشق: سفرٌ من التراب إلى الأفلاك، ومن العقل إلى العشق. وفي هذا المسير، لا يستطيع جبريل – وهو رمز العقل الكلّي([2]) – أن يتجاوز حدّاً معيّناً، وما وراء ذلك لا يتأتى بلوغه إلّا بمقام العشق.  يقول الرومي في المثنوي:

چون گذشت احمد ز سدره و مرصدش    وز مقام جبرئیل و از حدش

گفت او را هین بپر اندر پیم     گفت رو رو من حریف تو نیم

باز گفت او را بیا ای پرده‌سوز   من به اوج خود نرفتستم هنوز

گفت بیرون زین حد ای خوش‌فر من     گر زنم پری بسوزد پر من

(حين تجاوز أحمد السِّدرة ومرصده، وتخطّى مقام جبريل وحدّه.

قال له جبریل: امضِ أنت في المسير، فإني لستُ نِدّك ولا رفيقك في هذا المقام.

قال له النبيّ: تعالَ أيها الكاشف للحجب، فأنا لم أبلغ بعدُ ذروة مقامي.

قال جبريل: يا صاحب الطلعة البهيّة، إن تجاوزتُ هذا الحدّ، احترقت أجنحتي).

في هذه الأبيات، يتّضح أنّ جبريل – أي العقل – يقف عند حدّ، بينما النبي (صلى الله عليه وسلم) يتقدّم بقوّة العشق ليدخل الخلوة مع الحقّ.

غير أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن سيّد العروج فحسب، بل ترك على الأرض شواهد من العشق والإنسانية. من ذلك قصّة حليمة المرضعة حين أضاعته وهو طفل، فواساها شيخٌ قائلاً: «إنّ حبيبك لا يضيع، بل العالم كلّه يفتّش عنه»؛ وهي إشارة يذكرها الرومي لتجذّر النبيّ في قلب الأمّة.

وكذلك قصّة الحنّانة، ذلك الجذع الذي كان النبي يتّكئ عليه في خطبه، فلمّا بُني له منبرٌ جديد وبعد عنه، أخذ الجذع يئنّ ويبكي، حتى ضمّه النبي (صلى الله عليه وسلم) فسكّن حنينه.. عند الرومي هذا دليل أنّ الجمادات نفسها تذوب شوقاً لفراقه.

وأيضاً قصّة الحصـى التي سبّحت في يديه، وقصّة الغار في الهجرة، حين كان مع أبي بكر، فامتلأت تلك اللحظة بنورٍ قدسيّ.. هذه الأحداث عند الرومي ليست وقائع تاريخية فحسب، بل رموزٌ لعلاقة الكون كلّه بالحقيقة المحمدية؛ الأشجار والحجارة، الحيوان والإنسان، جميعها تدور في فلك عشقه.

يقول الرومي في ديوان شمس:

بخت جوان یار ما دادن جان کار ما       قافله‌سالار ما فخر جهان مصطفاست

(حظّنا الشابّ هو حبيبنا، وفعلُنا أن نفدي بالأرواح؛ قائدُ قافلتنا هو فخرُ العالم المصطفى).

از مه او مه شکافت، دیدن او برنتافت    ماه چنان بخت یافت، او که کمینه گداست

(من نوره انشقّ القمر، ولم يحتمل النظرَ إليه، فنال القمر حظّاً عظيماً، وهو أدنى فقيرٍ في ملكوت الله).

هنا يظهر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) لا كقائد للأمّة فحسب، بل كقائدٍ لكلّ طالبي العشق؛ ذاك الذي انشقّ القمر في ضيائه، وامتلأ الكون كلّه من حضرته.

ومن ثمّ، فالنبيّ في نظر الرومي هو النموذج الكامل للإنسان الذي سلك طريق العشق وبلغ الحقيقة؛ هو مظهر الجمع بين العقل والعشق، والمرشد الذي يقود قافلة العاشقين من الأرض إلى السماء، حتى يبلغوا مقام القرب.

النبيّ، مرآة الطهارة ومعراج الحقيقة:

يتّفق جلال الدين الرومي مع الشعراء الكبار، كسعدي وغيره، فيما رُوي من حديثٍ نبويّ أنّ الورد الأحمر خُلق من عَرَق لطف المصطفى (صلى الله عليه وسلم). ولأنّ وجود النبيّ كلَّه كان بريئاً من أيّ دنسٍ ظاهري، وقد غسلت الملائكة قلبه وطهّرته بأيديها، صار طيّب الرائحة، ناقلاً لأنوار الله، جسداً بلا ظلّ، لأنّه نورٌ محض.

لقد هذّب محمّد (صلى الله عليه وسلم) غرائزه النفسانية حتى أعلن: أن «شيطاني أسلم»، ، أي إنّ نفسه الأمّارة قد خضعت وانقادت، ولم تعد تعصـي أمره. وهذا عند العارفين مثالٌ يُحتذى: فالسالك ينبغي أن يربّي قواه وغرائزه لتكون في خدمة الحقيقة الإلهية، وتشهد بأنّه عبدٌ لله خالص.

وإشارةُ القرآن إلى مشاهدات النبي في ليلة المعراج كانت دائماً موضوعاً رئيسياً للكتّاب والشعراء العارفين. ففي (سورة النجم) ورد أنّ المسافة بينه وبين ربّه في الأفق المبين كانت [قاب قوسين أو أدنى]. ومع ذلك لم تَزُغ عيناه عن نور الحقّ، ولم تلتفت إلى غيره: [ما زاغ البصـر وما طغى]. وهذا مقامٌ خاصّ بمن وصل إلى الحياة المطلقة في الحقّ، وتجرّد من كلّ الصور والأشكال، فاتّصل بالله وحده.

ويشير الرومي كذلك إلى (سورة عبس)، حيث عاتب الله نبيّه على موقفه مع الرجل الأعمى. وهذا يدلّ على أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذروة الكمال، يبقى إنساناً قد يُخطئ، وهذا البُعد الإنساني يجعله أقرب إلينا.

ويصف الرومي مقام النبيّ، باعتباره خاتم الأنبياء، في أبياتٍ من المثنوي:

ختم‌هایی که انبیا بگذاشتند     آن به دین احمدی برداشتند

قفل‌های ناگشاده مانده بود     از کف انا فتحنا برگشود

او شفیع است این جهان و آن جهان      این جهان زی دین و آنجا زی جنان

این جهان گوید که تو رهشان نما وآن جهان گوید که تو مهشان نما

(الخواتيم التي تركها الأنبياء، رفعت بدين أحمد.

الأقفال التي بقيت غير مفتوحة، فُتحت بكفّ “إنا فتحنا”

هو الشفيع في هذا العالم وفي العالم الآخر؛ هذا العالم بالدين، وذاك بالجنّان.

هذا العالم يقول: كن هاديهم، وذاك العالم يقول: كن قمرهم المنير).

وفي ديوان شمس يمدح الرومي النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قائلاً:

ای رحمة للعالمین بخشی ز دریای یقین     مر خاکیان را گوهر‌ی مر ماهیان را راحتی

(يا رحمةً للعالمين، تُعطي من بحر اليقين، للآدميين جوهرة، وللأسماك راحةً وسكينة)

فالنبيّ عند الرومي كسحابةٍ تستمدّ القوّة من بحر الله اللامتناهي، ثم تمطر رحمةً ويقيناً على جميع الخلائق.

وفي القرآن قوله تعالى: [وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى]. يفهم الرومي من هذا أنّ رمي النبي لم يكن فعله، بل فعل الله؛ لأنّ وجوده قد فني في وجود الحقّ.. ومن هنا تحدّث عن «سهمٍ بلا قوس» يأتي من عالم الغيب، علامةً على أنّ الحقيقة المحمدية بلغت ذروة مقام الفناء.

النبي ومعجزة القمر ونور محمد:

إحدى الحوادث الخارقة المتعلّقة بالنبيّ (صلى الله عليه وسلم) هي انشقاق القمر، الذي ورد في مطلع (سورة القمر)، وكان دائماً من أعظم معجزاته.

يقول مولانا في ديوان شمس:

مصطفی مه می‌شکافد نیم‌شب  ژاژ می‌خاید ز کینه بولهب

آن مسیحا مرده زنده می‌کند     وان جهود از خشم سبلت می‌کند

(المصطفى يشقّ القمر في منتصف الليل، وأبو لهب يمضغ الحقد كعادتِه.

ذاك المسيح يُحيي الموتى، وذاك اليهودي من شدّة الغضب يمزّق شواربه).

معجزة محمّد (صلى الله عليه وسلم) تُقارَن بمعجزة عيسـى – عليه السلام -، لكنّها تؤثّر في الكافرين أثراً معاكساً فتزيدهم غيظاً وغضباً. إنّ انشقاق القمر بإشارةٍ من إصبعه هو سعادة أبديّة كبرى؛ فلماذا يُخفي الإنسان جماله الداخلي، ويبقى كالجاهلين؟

يقول الرومي: مع ظهور النبي، لم ينشقّ القمر فحسب، بل انفجر الفرح في السماء والأرض. والعارف إذا اتّصل بالنور المحمّدي، أحسّ أنّ الأفلاك كلّها قد أشرقت بنور المصطفى.

وقد بلغ فكر «النور المحمدي» تمامَه في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وصار موضوع رسائل كثيرة عند الصوفيّة والمتكلّمين. فهذا النور من نور الحقّ، سابق على جميع الأنوار المخلوقة، سارٍ في كلّ الوجود، ولا يترك للظلمة موضعاً.

ويقول الرومي في ديوان شمس:

جامه سیه کرد کفر، نور محمد رسید      طبل بقا کوفتند، ملک مخلّد رسید

(لبس الكفر ثوب السواد، فجاء نور محمّد؛ ضُرِب طبل البقاء، فجاء الملك المخلّد).

كما اعتقد الصوفيّة الأوائل، فهذا النور هو الذي أشارت إليه (سورة الضحى)، والرومي يمجّد هذا النور بخيالات شعريّة، نورٌ يُضيء طريق السالكين، ويغمر الوجود بأسره.

ويقول: لو تجلّى هذا النور من فرعٍ واحد:

اگر حجاب بدرد محمد از یک شاخ       هزار راهب و قسیس بردرد زنار

(لو انكشف الحجاب من غصنٍ واحدٍ لمحمد، لقطع ألف راهبٍ وقسّيسٍ زنّاره).

جماله يغمر الدنيا كلّها، ونوره يُطهّر القلوب من الشهوات والأهواء. هذا النور يضـيء الأرواح، ويزيل الظلال، ويوحّد الألوان المختلفة، حتى تنتهي جميع الظلال إلى أن تُمحى في الشمس.

ومن منظور الرومي، النور المحمدي هو أصل كلّ عشق؛ فشوق الصوفي إلى الله ينبع من هذا النور الأزلي، وهو حقيقة جميع الأنبياء والأولياء. ولهذا يرى أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) هو تجسيد العشق الحقّ، وينادي العاشقين أن يتشبّثوا برداء أحمد، ليستمعوا أذان الصلاة في محراب العشق من قلب بلال، مؤذّنه الصادق.

النبيّ والإسراء والمعراج:

إنّ حادثة المعراج للنبي (صلى الله عليه وسلم) من أسمى التجارب العرفانية، وقد صوّرها جلال الدين الرومي بلغةٍ شاعرية ورمزية. يقول القرآن في مطلع (سورة الإسراء): [سُبحانَ الَّذی أسرى بِعبدِهِ لَیلاً]، ويرى الرومي أنّ هذه الرحلة الليلية رمزٌ كاملٌ للسلوك الروحي.

في هذا التصوير العرفاني، يستطيع جبريل أن يرافق النبيّ (صلى الله عليه وسلم) إلى حدٍّ معيّن، ولكن حين يبلغ مقام «قاب قوسين أو أدنى» يعجز عقلُ جبريل – وهو رمز العقل الكلّي – عن المواصلة.

يقول الرومي في المثنوي:

چون گذشت احمد ز سدره و مرصدش    وز مقام جبرئیل و از حدش

(حين تجاوز أحمد السِّدرة ومرصده، وتخطّى مقام جبريل وحدّه).

گفت او را هین بپر اندر پیم     گفت رو رو من حریف تو نیم

(قال له: امضِ في الطريق وطر، فأنا لستُ كفؤك ولا رفيقك في هذا المقام).

باز گفت او را بیا ای پرده‌سوز   من به اوج خود نرفتستم هنوز

(قال له النبي: تعالَ أيها الكاشف للحجب، فأنا لم أصل بعدُ إلى ذروة مقامي).

گفت بیرون زین حد ای خوش‌فر من     گر زنم پری بسوزد پر من

(قال جبريل: يا ذا الوجه البهيّ، إن تجاوزتُ هذا الحد لاحترقت أجنحتي).

في هذه الأبيات يتّضح أنّ العقل يهدي إلى حدودٍ معيّنة، لكن ما وراءها لا يُدرك إلّا بالعشق. فالنبي (صلى الله عليه وسلم)، قدوة المحبين، تجاوز هذا الحدّ وبلغ حضرة الحقّ بلا واسطة.

وفي ديوان شمس يعبّر الرومي عن هذا المعنى بشوقٍ عاطفي:

بخت جوان یار ما دادن جان کار ما       قافله‌سالار ما فخر جهان مصطفاست

(حظّنا الشابّ هو حبيبنا، عملُنا أن نفدي بالأرواح، قافلةُ مسيرنا يقودها المصطفى فخرُ العالم).

از مه او مه شکافت، دیدن او برنتافت    ماه چنان بخت یافت او که کمینه گداست

(من نوره انشقّ القمر، ولم يستطع تحمّل رؤيته، فنال القمر حظّاً عظيماً، وهو أدنى فقيرٍ في ملكوت الله).

في هذه الأبيات، يُقدَّم النبي (صلى الله عليه وسلم) على أنّه قافلةُ السالكين جميعاً؛ ذاك الذي انشقّ القمر بنوره، وامتلأ الوجود كله من رؤيته.

والمعراج في نظر الرومي هو رمز أرفع درجات السلوك، حيث يتوقّف العقل ويصعد العشق. إنّها الرحلة الليلية التي تُرشد السالكين إلى أنّ نهاية السير هي حضورٌ يتحقّق فيه قوله تعالى: [ما زاغ البصر وما طغى]..

النبي والأمّيّة (الاتصال بالعقل الكلّي) :

من الخصائص البارزة للنبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم)، التي أولاها جلال الدين الرومي اهتماماً خاصّاً: صفةُ «الأمّيّة». غير أنّ الرومي لا يفسّـرها بمعنى العجز عن القراءة والكتابة، بل بمعنى أنّ علمه وحكمته فطريّان ذاتيّان غير مكتسَبين.. فلو كتب النبيّ خطّاً على الورق، لتعلّم الناس منه وقلّدوه، ولكن ما من أحد يستطيع أن يكتب مثل خطّه الأزلي؛ إذ إنّ ما يتلقّاه الآخرون بالتعليم والتقليد، كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتلقّاه من الينبوع الأوّل، من الحقيقة المطلقة مباشرةً.

ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار النبيّ (صلى الله عليه وسلم) معادلاً لـ«العقل الكلّي». فالعقل الجزئي محتاج دائماً إلى تعليمٍ وتلقين، بينما العقل الكلّي مُعلِّم، لا يحتاج إلى غيره. والأنبياء والأولياء هم الذين وصلوا عقولهم الجزئية بالعقل الكلّي، وفنَوا فيه.

ويصف الرومي النبيَّ في المثنوي بأنّه ميزان الله في الأرض، يزن به كلّ خفيفٍ وثقيل، ويميّز به بين الحقّ والباطل. وهو كالأمّ الحنون التي تجعل المؤمنين نفساً واحدة، وهو كسفينة نوح؛ من ركبها نجا من غرق الدنيا.

أما القرآن في يد النبيّ، فهو كعصا موسى: ينبوعُ حياةٍ للمؤمنين، وأمّا للكافرين فيتحوّل إلى تنّينٍ عظيم يلتهمهم. وهكذا يصبح النبيّ (صلى الله عليه وسلم) جوهرة الوجود الفريدة، القادرة على أن تكون «كيمياء الإنسانية»، التي تحوّل النفوس الخام المظلمة إلى ذهب الحقيقة الخالص.

ويقول الرومي أيضاً، إشارةً إلى (سورة الكوثر): إنّ من شرب من نبع الكوثر المحمدي، التصق نورُه بنور النبيّ (صلى الله عليه وسلم)، وانعكس في صفاته.. وهؤلاء هم في الحقيقة أنصار الحقّ، الذين يحملون من شجرة أحمدية ثمرةً معهم، ويُدعَون في القيامة إلى الجنّة.

وعليه، فإنّ صفة الأمّيّة في نظر الرومي ليست نقصاً، بل كمال: إشارةٌ إلى أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان متّصلاً بالعقل الكلّي مباشرةً، ومعلّماً لجميع البشر والسالكين في طريق الحقّ.

النبي، المدائح النبويّة والتمجيد الشعري:

في «ديوان شمس تبريزي»، كما في المثنوي، يفيض جلال الدين الرومي مدحاً للنبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم)، في صيغة «النعت»، حيث يمتزج البُعد الديني بالوجد العاطفي العاشق.

يقول في غزلٍ مفعم بالشوق:

بخت جوان یار ما دادن جان کار ما       قافله‌سالار ما فخر جهان مصطفاست

(حظّنا الشابّ هو حبيبنا، عملُنا أن نفدي بالأرواح، قافلةُ مسيرنا يقودها المصطفى فخرُ العالم).

از مه او مه شکافت، دیدن او برنتافت    ماه چنان بخت یافت او که کمینه گداست

(من نوره انشقّ القمر، ولم يستطع تحمّل رؤيته، فنال القمر حظّاً عظيماً، وهو أدنى فقيرٍ في ملكوت الله).

هنا يَظهر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بصفته «أمير قافلة العشق وقائدها» و«فخر العالمين»، ذاك الذي انشقّ القمر في حضرته، ولم يستطع الكون أن يتحمّل عظمته.

وفي غزلٍ آخر بالعربية يمدحه الرومي بألفاظٍ تكاد تكون في ظاهرها خطاباً لمعشوقٍ أرضي، ولكنها في حقيقتها إشارة إلى المعشوق الإلهي:

هذا طبیبی، عند الدواء هذا حبیبی، عند اللواء

هذا لباسی، هذا کناسی هذا شرابی، هذا غذایی

هذا أنیسی، عند الفراق هذا خلاصی، عند البلاء

(هذا طبيبي عند الدواء، وهذا حبيبي عند اللواء يوم القيامة.

هذا لباسي وستري، وهذا كسائي، هذا شرابي وغذائي.

هذا أنيسي في الفراق، وهذا خلاصي عند البلاء والمِحنة).

هذه الخطابات العاطفية تكشف أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) في نظر الرومي ليس فقط رسول الشـريعة، بل هو أيضاً المعشوق الحقيقي: يُداوي القلوب، يؤدِّب الأرواح، ويكون دواءً لكلّ داء.

ومن هنا يتجلّى «النعت» عند الرومي لا كمجرّد مدح، بل كلحظةِ ذكرٍ ووجدٍ كامل، حيث يصبح النبي (صلى الله عليه وسلم) في آنٍ واحدٍ «الحبيب»، و«المرشد»، و«المعشوق». ولهذا السبب ظلّت غزلياته في وصف النبي تتلى عند الصوفيّة كنغمةٍ روحية، تُبكي وتُفرح في حلقات الذكر، وما زالت تُعرف إلى اليوم باسم “النعت الشريف”.

النبي و”رحمةٌ للعالمين”:

في الختام، يرى جلال الدين الرومي أنّ النبيّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) ليس رسولاً لأمّةٍ واحدة فحسب، بل هو رحمةٌ لجميع العوالم، كما جاء في القرآن الكريم: [وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين](الأنبياء: ١٠٧).

فالنبيّ عند الرومي عينٌ تتفجّر من بحر الله اللامتناهي؛ رحمته كالمطر تنزل على جميع المخلوقات، سواء كانوا بشراً أم حيوانات، مؤمنين أم كافرين.

ويصفه الرومي في شعره هكذا:

ای رحمة للعالمین، بخشی ز دریای یقین  مر خاکیان را گوهری، مر ماهیان را راحتی

(يا رحمةً للعالمين، تُعطي من بحر اليقين للبشر جوهرةً، وللأسماك راحةً وسكينة).

في هذه الصورة، النبيّ (صلى الله عليه وسلم) كسحابةٍ تستمدّ قوّتها من المحيط الإلهي، ثم تمطر جواهر اليقين والرحمة على العالم بأسره.

ويؤكّد الرومي دائماً أنّ النبيّ ليس مجرّد واسطة للوحي، بل هو أيضاً واسطة للعشق: المنبع للنور الذي استمدّ منه الأنبياء والأولياء، والذي سيبقى السالكون ينهلون منه إلى الأبد.

فالنبيّ (صلى الله عليه وسلم) في نظر الرومي هو «الرحمة المطلقة»؛ تلك الحقيقة التي يدور عليها الكون، ومنها ينبع العشق. ولهذا السبب يتكرّر ذكره في المثنوي وديوان شمس بصفاته: «نور الخلق»، و«أصل العشق»، و«ملجأ الإنسان الكامل».

وفي النهاية، يمثّل النبيّ في نظر مولانا تمامية البعدين: النور القدسي والإنسانية المجبولة على الألم؛ هذا الجمع بين الأضداد هو الذي يجعله القدوة الفريدة للسالكين والمعشوق الأزلي للعارفين.

الخاتمة:

لم يكن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) في نظر جلال الدين الرومي؛ مجرّد مبلّغٍ للشـريعة وهادٍ للأمّة، بل كان السـرّ الأساس للخلق، والحقيقة المطلقة للعشق. فهو «ذروة الخلق»؛ ذاك الذي لولاه لما وُجدت الأفلاك. في وجوده يتجلّى النور الإلهي بكماله؛ نورٌ هو علّة الوجود، ومنبع العشق، ومقياس الكمال الإنساني.

ويرى الرومي النبيّ في ثلاثة آفاق:

1. في الأفق الأزليّ: النور المحمديّ الذي سبق الخلق، وكلّ الأنبياء والأولياء شعاعٌ من شعاعاته.

2. في الأفق الإنساني: نبيٌّ عاش الآلام، ورأى العداوات، وعاش بين الناس، كالأمّ الحنون، والعقل الكلّي، وميزان الله على الأرض.

3. في الأفق العرفاني: معراجه رمز رحلة العاشق إلى مقام القرب؛ حيث يتوقّف العقل – حتى لو تمثّل في صورة جبريل – ولا يبقى إلّا العشق يمدّه بجناح الطيران.

إنّ محمّداً في المثنوي وديوان شمس هو مظهر الكمال الإنساني، وتجسيد العشق، وكيمياء الأرواح. هو شفيع الدنيا والآخرة؛ رحمةٌ للعالمين، وقائدُ قافلة الإنسانية، ومنبعُ كلّ جمال.

ويمدحه الرومي بلا حجاب: تارةً بأبياتٍ عربيةٍ حارّة، وتارةً بغزليّاتٍ ملتهبة، وتارةً بحكاياتٍ ورموزٍ يكون كلّ واحدٍ منها مثالاً للسّالكين في طريق العشق. فالنبيّ في نظره ليس معلّم الأمة فحسب، بل هو الحقيقة التي بها يكتسب الوجودُ كلَّه معناه.

ومن ثمّ، يظهر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في آثار الرومي خاتِم سلسلة النبوّة، وفي الوقت نفسه أوّل شعاعٍ للخلق؛ إنساناً متألّماً، وفي الوقت نفسه شمس الكمال؛ عقلاً كلّياً، وفي الوقت نفسه تجسيداً للعشق.. وكلّ سالكٍ يسير في هذا الطريق، لا بدّ أن يبلغ في النهاية إلى نوره، ويلتحق بردائه الأحمدي.


[1] – حين يستعمل جلال الدين الرومي مصطلح (العِشق) (ishq) ، فإنّه لا يقصد به المعنى العاطفي المتداول في الاستعمال اليومي، بل المعنى الاصطلاحي العرفاني ذي الجذور في التراث الصوفي الفارسي والعربي. لذلك، مسألة ترجمته إلى العربية تتطلب دقة..

فالعشق في لغة العرب هو الإفراط في المحبّة، حتّى يذوب العاشق في المعشوق.. وعند العرب القدماء، كانت كلمة الحب أكثر تداولًا، بينما العشق غالبًا ما ارتبط بالمبالغة أو بالشغف الجسدي.. ولهذا نجد بعض اللغويين أو الفقهاء يتحاشونه لأنه يوحي أحيانًا بالانفعال الجسدي.

ولكن (العشق) في اصطلاح المتصوفة، (ومنهم الرومي)، ليس مجرد حب بشـري، بل هو حب إلهي محض، يستهلك فيه السالك ذاته حتى يفنى في المحبوب (الله).. فالعشق عندهم هو أسمى من “المحبة”؛ إذ إن المحبة قد تحتمل درجات، أما العشق فهو أقصـى درجة، وذوبان كامل.. لهذا استعمل الرومي مصطلح العشق بكثافة، لأنه يوصل معنى الغليان والاحتراق الروحي، لا مجرد الميل أو الودّ.

فإذا ما ترجمنا “ʿishq” إلى “حب”، نفقد القوة الوجدانية والحرارة التي أرادها الرومي.. وإذا أبقيناها “عشق” في العربية، فهي مفهومة، لكن ينبغي أن يوضَّح للقارئ أن المقصود هو المعنى الصوفي السامي، لا الغرام الجسدي.

ويفضّل بعض الباحثين استعمال ثنائية: (العشق = الحب الروحي الكلي)، (المحبوب = الله أو الحقيقة الإلهية).. ولذا من الأفضل الإبقاء على مصطلح “العشق” – عند الترجمة – مع شـرح دلالته في مقدمة أو حاشية، لأنه مصطلح صوفي أصيل، وله حمولة خاصة في الأدب الفارسي والعربي. أما استبداله بـ”الحب” أو “المحبة”، فيفقد النص شيئًا من خصوصيته البلاغية.

[2] – يرى مولانا أنّ العقل على نوعين: العقل الجزئي الذي هو وسيلة لتدبير المعاش وطلب العلوم الظاهرة، والعقل الكلي الذي هو نور قدسي وموهبة إلهية يُظهر حقائق الأشياء بلا واسطة. فإذا اتّصل العقل الجزئي بالعقل الكلي تحرّر من الظنّ والوهم، وأوصل الإنسان إلى منبع المعرفة..

غير أنّ مولانا يرى أن للعقل ـ مهما سمت مرتبته وقدسيته ـ حدوداً يقف عندها؛ فعند مقام القرب الإلهي ولحظة الخلوة مع الحق، يعجز العقل الكلي عن المواصلة، ويحتاج السالك إلى جناحين آخرين هما العشق. ولتوضيح ذلك يستشهد مولانا بالإسراء والمعراج: إذ رافق جبريل، رمز العقل الكلي، النبيَّ ﷺ في عروجه، حتى بلغ حداً قال عنده: «لو تقدمت خطوة لاحترقت.» هناك يتوقف العقل، ولا يفتح الطريق إلى الأفق اللامتناهي إلا العشق.

العدد ١٩٣ ǀ خريف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثالثة والعشرون 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى