جيروم بأول يعترف: الاقتصاد الأمريكي يعاني من ركود تضخّمي
د. شوان زنگنه

نقلتْ منصةُ “إنفستينج الاقتصادية” جانباً من تصريحات رئيس البنك الفيدرالي الأمريكي، جيروم بأول، الذي قيَّمَ فيها المعاناةَ الأساسية للاقتصاد الأمريكي، فذكرت الآتي:
“صرّح رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بأن سوق العمل هو المحرّك الرئيسي لقرار خفض الفائدة الأخير، وهناك ظروف اقتصادية مليئة بالتحديات تنتظر الاقتصاد الأمريكي. وقال: المخاطرُ على المدى القريب للتضخم تميل إلى الجانب الصعودي، والمخاطرُ على التوظيف تميل إلى الجانب الهبوطي، وهو وضع يمثل تحدّيًا. إن المخاطر ثنائية الجانب تعني أنه لا يوجد مسار يخلو من المخاطر.
تتوافق الظروف التي وصفها باول في خطابه مع الركود التضخّمي وفق سي إن بي سي، وهو وضع يتباطأ فيه النمو ويكون التضخم مرتفعًا. ورغم أن الوضع الحالي أقل حدة بكثير مما واجهته الولايات المتحدة في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، إلا أنه مع ذلك شكّل تحديًا في السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي”. (www.investing.com،23/9/2025)
وأخيرا، اضطرَّ جيروم بأول للرضوخ إلى القبول والاعتراف بما يعانيه الاقتصاد الأمريكي من أزمة الركود التضخّمي التي أنكر وجودها، عنادًا، طيلة السنوات الماضية.
وقد أشرتُ إلى دخول أمريكا في حالة الركود التضخّمي، الذي أصرّ جيروم بأول على إنكاره آنذاك، في مقال لي بعنوان “العالم على أبواب الركود التضخّمي” وذلك بتاريخ 13/5/2022، إذ وصفتُ حالة الاقتصاد الأمريكي بعد جائحة كورونا، وبيّنتُ ملابسات حالة الركود التضخّمي التي عانت منها أمريكا في حينه، ولا تزال تعاني، وذكرتُ الآتي في مقالي:
“ تأخّرَ الفدرالي الأمريكي في اتخاذ الإجراءات اللازمة لكبح جماح التضخم، لأنه كان يعتقد أن هذا التضخّم مؤقّتٌ، وناجمٌ عن الطلب الحاصل نتيجة التعافي من جائحة كورونا، إلّا أنه تبيّن خلال هذه الفترة أن الفدرالي الأمريكي لم يكن مُوفَّقًا في تقديره، لذلك بدأَ من شهر آذار الماضي برفع سعر الفائدة، وتقليل حجم الكتلة النقدية في السوق، ولكن بوتيرة بطيئة، ويبدو أن هذه الوتيرة ليست كافية لتخفيض معدل التضخّم بالقدر المطلوب.
ويعود السبب في بُطْءِ إجراءات البنك الفدرالي إلى خشيته من تضرّر الأسواق والبورصات المحلية والعالمية، واقتصادات الدول وعملاتها نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي لامس مؤشّرُ سعرِه حاجز 105 نقطة، ناهيك عن تعرّض الشركات الأمريكية إلى خسائر ائتمانية نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة.
لكن الأهمّ من كل ذلك، هو أن إدارة الفيدرالي محصورة بين فكَّي الفائدةِ والتضخّمِ، فلا هي تستطيع رفع سعر الفائدة بالقدر الكافي لمعالجة التضخّم، ولا هي تستطيع، في نفس الوقت، تخفيض معدلات التضخّم، لأن الجزء الأكبر منها ناشئ عن أسباب خارجية، وعن مخلفات الصرعات السياسية والاقتصادية العالمية، التي تديرُ الجزءَ الأساسيَّ منها أمريكا نفسُها.
فالصين، وبحجة تصفير الوباء عندها، تتسبّب بقطع سلاسل الإمدادات، وتقليل المعروض من السلع، وبالتالي رفع أسعارها، ضاغطة بذلك على أمريكا، ومتسبّبة في عدم تمكّنها من تخفيض معدل التضخّم بالقدر الذي تتوقّعه، أو ترغب فيه، من جهة.. وروسيا، التي تردُّ على الحصار الغربي عليها، بتقنين الطاقة والغذاء، وبالتالي رفع أسعارها، واستمرارها في الغزو ومواجهة الغرب في أوكرانيا، من جهة أخرى.. كل ذلك يُعتبَرُ جوهرَ العوامل الخارجية التي أثّرتْ، وستؤثّر في كلف الإنتاج في أمريكا، مما يجعل انخفاضَ مؤشّرِ أسعار المُنتِجِين في أمريكا أمرًا في غاية الصعوبة على المدى المنظور، وهذا يعني انخفاضُ الإنتاج، وتراجعُ الناتج الإجمالي المحلي (النمو)، وارتفاعُ معدلات البطالة، وبالتالي، دخولُ البلاد في حالةٍ من الركود المُزمِنِ، وإذا أضفنا إلى هذه المشكلة الصعبة، مشكلةَ ارتفاع مؤشّر أسعار المُستهلِكِين (معدل التضخّم)، وانخفاضَ مشتريات الأُسَرِ، فإن أمريكا ستجدُ نفسَها حتمًا في مواجهة حالةٍ من الركودِ التضخّميِّ، وداخلِ حلقةٍ مُفرَغةٍ، فلا هي تَتجرَّأُ على معالجتها بكفاءةٍ، ولا هي قادرة على التعايش في ظلِّها، وذلك بسبب مسبِّباتها الخارجية، وطبيعة الصراع الجيوسياسي المُعقَّد.
والأشهرُ القادمةُ، ستكون المِحَكَّ، بالنسبة لأمريكا، وبالتالي بالنسبة للعالم، في مشكلة الركود التضخمي التي تجتاح أمريكا، ومن خلالها ستَتسرَّبُ إلى كل دول العالم، وستُعاني الأسواقُ والبورصاتُ العالمية من أزمات مُعقّدة، وستنخفضُ أسعارُ النفط، أما أسعارُ الذهب والفضة، فستنخفض قليلا، ولكنها ستحافظ على مستويات معقولة من الأسعار في المدى المنظور، لأنها ملاذاتٌ آمنة مُنخفِضةُ المَخاطِرِ، أما السّلعُ الأساسية، وبالأخصِّ الغذاءُ فإنها ستحافظ على أسعارها المرتفِعة، رغم الركود الذي يجتاح العالم.. وهذا هو ما نُسميّه “الركود التضخّمي”، “”stagflation، ويعني: ارتفاع أسعار السلع الأساسية، في ظلِّ ركودٍ اقتصادي في الأسواق وتراجعٍ في الإنتاج والنمو وارتفاعٍ في البطالة”.
واضحٌ مما سبق، أن جيروم بأول، والمجلس الاحتياطي الفيدرالي قد أخفقَ في تقديره لأزمة التضخّم وتأخّرَ في كبح جماحه، فدفعَ أمريكا والعالمَ إلى حالةٍ من الركودِ التضخّميِّ، بالتزامُنِ مع تفاقُمِ الأزمات الجيوسياسية.. ولا أعتقدُ أن يكون جيروم باول قادرًا على فكِّ عُنقِ أمريكا من رِبْقَةِ الركود التضخّمي الذي اضطرَّ إلى الاعتراف بوجوده أخيرًا.
لا بُدَّ للنظام المالي الأمريكي من إيجاد الحلول الكفيلة بمعالجة حالة الركود التضخّمي التي تعاني منها أمريكا، ومعها العالمُ أيضا، بعد أن يرحلَ جيروم بأول عن رئاسة الفيدرالي قريبا، رغم صعوبةِ المهمة، وتشابُكِ خيوطها، وإلّا فقد تَرقَى هذه المعضلةُ إلى أن تكون أحدَ أسباب حربٍ عالميةٍ كبيرةٍ، وهَجينةٍ، خلال السنوات القليلة القادمة.