العراق وسوريا على أعتاب التقسيم، الكونفدرالية حجر عثرة
شوان زنكنة -خبير سياسي

تتصارعُ القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، ضمن حربٍ هجينةٍ، استخدمتْ فيها كافة الأساليب والوسائل المتاحة، ومنها العسكرية، بهدف تحقيقِ مصالحها المتناقضة والمتشابكة، وترسيمِ حدودها، وضمانِ أمنها.
هذه الصراعاتُ، خلال عقودٍ من الزمن، تركتْ واقعًا خاصًّا في العراق وسوريا، تتجلّى فيه جملةُ حقائق، لا يختلفُ عليها اثنان.
ففي العراق نشهدُ الحقائقَ التالية:
1- نسيجٌ اجتماعيٌّ مُمزَّقٌ، عِرقيًّا ودينيًّا، بل والتمزّقُ الأكبرُ هو داخل العِرْقِ الواحد، والدِّينِ الواحد، والمذهبِ الواحد، ولكلِّ مُكوّنٍ من هذه المُكوّنات ولاؤه الخارجيُّ الخاصُّ به.
2- حكوماتٌ وسلطاتٌ فاشلةٌ حكمتِ البلاد، وبالأخصّ بعد الاحتلال الأمريكي، هدرتِ الأموالَ ولم تَبْنِ اقتصاداً مزدهراً، رغم الثروات الطائلة، وفرّقتْ بين أبناء الشعب، وساهمتْ في توسيعِ الشّرخ الاجتماعي، وتعميقِ حالةِ عدمِ الثقة بين مختلف الشرائح الشعبية.
3- الدستورُ العراقي، دستورٌ مُبهَمٌ، قابلٌ للعديد من التفسيرات المتناقِضة، كما أنه مُهمَلٌ، لا يُعارُ له اهتمامٌ، ويتمُّ اختراقُه باستمرار، حتى اصبح مُنْخُلًا من كثرة الثقوب التي فيه.
4- السيادةُ المفقودةُ والمسلوبةُ، جعلتِ الاتفاقَ الوطني أمراً مستحيلاً، والبرلمانَ عاطلاً، والحكومةَ مُسخَّرة لأجنداتٍ خارجية، على حساب المواطن العراقي.
5- اقتصادٌ رَيعيٌّ هشٌّ، تركَ في نفوس العراقيين الخوفَ الشديد على مستقبلهم، وعمّقَ فيها انعدامَ الثقة بالدولة والقائمين عليها.
6- هشاشةٌ عسكريةٌ وأمنيةٌ، وانفلاتُ السلاح، وجبروتُ الميليشيات المسلحة.. كل ذلك منعَ العراقَ من ممارسة سلطةِ فرضِ الأمن، ضمن القانون، كأحدِ مقوّماتِ وجوده كدولةٍ حرّةٍ، مستقِلّة، ذاتِ كيان.
7- نظامٌ فدراليٌّ شكليٌّ، وعلاقةٌ متوتِّرةٌ بين المركز والإقليم، وتفسيراتٌ متناقِضةٌ لمواد الدستور بخصوص سلطات الطرفَين، الأمرُ الذي سيدفعُ نحو الانفجار، إنْ عاجِلًا أو آجِلًا.
8- عدمُ فصلِ السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتَسْيِيسُها، وسلبُ سيادتِها.
في ظلِّ هذه الحقائق، نلاحظ، بجلاء، فقدانَ مُقوِّمات الدولة الموحَّدة في العراق، فلا شعبٌ موحَّدٌ، ولا دستورٌ واضحٌ، ولا دولةُ مؤسّساتٍ، ولا سلطة ٌأمنيةٌ مركزيةٌ، ولا سياسةٌ اقتصاديةٌ واضحةٌ، ولا سيادةٌ وطنيةٌ.. ثم نجدُ مَنْ يصدعُ رؤوسَنا بعراقٍ موحَّدٍ.
الجهودُ المبذولة لوحدة العراق، جهودٌ مهدورةٌ، تتعارضُ مع الواقع العراقي وحقائقِه، ومَنْ يكابرُ بهذا الاتجاه، إنما هو يسبحُ بعكس التيار.. الواقعُ لا يتحمّلُ عراقًا موحَّدًا، وهو سيتَفتَّتُ من دون أنْ تُفتِّتَهُ القوى الفاعلةُ في المنطقة، أو أنْ تُدرجَه ضمن ما يُسمّى بمخطّط الشرق الأوسط الجديد، أو مخطّطِ سايكس بيكو الجديد، وهو جاهزٌ، بطبيعة الحال، للتقسيم من دون الحاجة إلى تخطيطٍ، أو سايكسِ بيكو، أو ما شاكلَ ذلك.
وفي سوريا، نشهدُ الحقائقَ التالية:
1- حكوماتٌ دكتاتورية، مارستِ الظلمَ وسياساتِ “فَرّق تَسُد”، خلال عقود من الزمن، تسبّبتْ بفقدان الثقة بين المواطنين والسلطة، وبين المكونات العرقية والمذهبية أيضاً.
2- حكومةٌ مؤقّتةٌ حَالِيَّةٌ، فرضتْ نفسَها بقوة السلاح، خَلفيَّتُها مَعلومَةٌ، لا تَحظى بالثقة من الكثير من المكوّنات العرقية والمذهبية.
3- سلاحٌ مُنفلِتٌ، وجماعاتٌ مسلحةٌ غيرُ مُنضبِطةٍ، في ظلِّ سلطةٍ حكومية ضعيفة، لا تُغطّي إلّا قسماً محدوداً من سوريا.
4- لجنةُ صياغة دستورٍ مُؤقَّتٍ لا تمثّل إلا حكومةَ الشرع، ولا تَحظى بتأييد المكوّنات الشعبية.
5- فقدانُ سيادةٍ، وتواجدٌ عسكري أجنبي لعديد من الدول، وهجماتٌ عسكرية أجنبية دائمة.
6- اقتصادٌ مَحرومٌ من الموارد، وقائمٌ على المساعدات الأجنبية.
7- انعدامُ مظاهرِ المَأسَسَةِ، وعدمُ ظهورِ بوادرِها، أو الميلُ نحوها، فضعفُ المؤسسات وهَشاشتُها، وعدمُ قدرة السلطة على ترسيخها، يجعلُ ولاءَ الشرائح الشعبية للسلطة على المِحَكِّ، ويُوسِّعُ الهُوَّةَ بينهما.
8- كياناتٌ ذاتيةُ الإدارةِ، سواء كانت مَوجودةً قبل سقوط نظام الأسد، أو التي تَشكَّلتْ وتَعزَّزتْ بعد سقوطه، وانعدامُ مظاهرِ قُدرةِ حكومة الشرع على احتضانِها، ناهيك عن أنّ لِكلِّ كيانٍ من هذه الكيانات ولاؤُه الخارجيُّ الخاصُّ به.
9- فرضُ السلطة بالقوة على المكوّنات الشعبية المُتعدِّدةِ، ونتائجُه السلبيةُ على وحدةِ البلاد.
في ظلِّ هذه الحقائق، نلمسُ وبوضوحٍ فقدانَ مُقوِّماتِ دولةٍ مُوحَّدةٍ في سوريا، فالشعبُ مُتشرذِمٌ في كياناتٍ، والدستورُ المؤقّتُ تكتبُه حكومةُ الشرع مُنفرِدةً، والدولةُ بلا مؤسساتٍ، والسلطةُ الأمنية المركزية لا تَقوى على ضبط القوى المُنفلِتَةِ، وانعدامُ السياسة الاقتصادية وحرمانُها من الموارد، وفقدانُ السيادة الوطنية.. هذه الحقائقُ تجعلُ المحافظةَ على سوريا مُوحَّدةٍ أمرًا في غاية الصعوبة، سواء كانت هناك مُخطَّطاتُ تقسيمٍ، أم لم تَكُنْ، والجهودُ المبذولةُ للمحافظة على وحدة البلاد تَرتطِمُ بواقعٍ لا يَحُوزُ على أبسطِ مُقوِّماتِ الوحدة الوطنية، وهي تَعَسُّفٌ في غير مَحِلِّهِ، وستَتمخَّضُ عنها نتائجٌ سلبيةٌ تصبُّ في خانة التقسيم.
وحدة الأراضي العراقية والسورية لا تَتحقَّقُ بالقوة والتَّعَسُّفِ وفرضِ السلطة والإرادات، فعهدُ الدكتاتوريات قد ولّى دون رجعةٍ، وإنما تَتحقَّقُ بإسنادِ قيادةٍ مدنيةٍ رشيدةٍ، وصياغةِ دستورٍ وطنيٍّ واضحٍ قابلٍ للتنفيذ، ورأبِ الصَّدْعِ الاجتماعيِّ، وتعزيزِ السلطة الأمنية المركزية، وانهاءِ وجود السلاح المُنفلِت، وإعدادِ برنامجٍ اقتصاديٍّ رصينٍ.. وهذا ما لا نُشاهدُه على الأرض، وما لم تَتجَلَّ بوادرُه لحدّ الآن، بل نرى مَساعِيَ تَعسّفيةً تهدمُ مقوّمات الدولة الموحَّدة، وتدفعُ إلى حربٍ أهليةٍ، تؤدّي إلى التقسيم، شئنا أم أبينا.
النظامُ الكونفدراليُّ في العراق وسوريا، إذا تَمَّ اقتراحُه واتّفقَتْ بخصوصه القوى الفاعلةُ في المنطقة، سيكون، حتمًا، حَجَرَ عَثْرَةٍ أمامَ التقسيمِ، وسيكونُ صالحًا لتركيا، إذ سيَتسَنَّى لها بسطَ نفوذِها في الشمال العراقي والسوري، حسب “ميثاق مللي”، وستنعمُ بالاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي، وسيكونُ صالحًا للشعب العراقي والسوري، إذ يَنكفِئُ كلُّ مُكوّن على نفسِه، وينشغلُ بترتيبِ بيتِه، ومعالجةِ مشاكلِه، وسيكونُ صالحًا لدول الجوار، إذ يَتحقَّقُ الأمنُ والاستقرارُ الاقتصاديُّ، وتَتعزَّزُ العلاقاتُ والشراكاتُ الاستراتيجيةُ في المنطقة.