رحلة الآثاري والدبلوماسي البريطاني (هنري لايارد) إلى قلب كوردستان -دراسة تحليلية-

أ. د. فرست مرعي

رحلة الآثاري والدبلوماسي البريطاني (هنري لايارد) إلى قلب كوردستان -دراسة تحليلية-

أ. د. فرست مرعي

يعدّ (أوستن هنري لايارد) شخصية مثيرة للجدل، لأنه أول من أطلق تسمية (الآشوريين) على النساطرة (= أتباع كنيسة المشرق)، حيث لُقِّبَ بـ (أبي الآشوريات)، و(ابن نينوى). وقد قام (هنري لايارد) بعدّة زيارات الى كوردستان العثمانية، والعراق؛ ابتدأت الزيارة الأولى في أواخر شهر نوفمبر/ تشـرين الثاني عام 1845م، بحجّة البحث عن آثار العراق، وخاصة في العواصم الآشورية (نينوى) و(خرسباد) و(النمرود) وغيرها. وزار قلب كوردستان، وعرج في طريقه إلى مناطق المسيحيين النساطرة، الذين يُسَمَّونَ التياريين أحياناً (= منطقة هكاري)، وكان هو السبب في تسميتهم بـ (الآشوريين). وكان يُساعده في مهمته المسيحي الكلداني الموصلي المختص بالآثار (هرمز رسام) (1826–1911م)، حامل الجنسية البريطانية، والمُتهم بسـرقة وبيع الآثار الآشورية للإنكليز، وهو شقيق المترجم (عيسـى رسام)، الذي عمل مُترجماً مع رحَّالة آخرين سبقوا (لايارد) في زيارة كوردستان، والعراق، وخاصة الرحالة البريطاني (أرنست واليس بج) (1857 – 1934م). (ينظر: رحلات واليس بج إلى العراق، ترجمة: فؤاد جميل، ج2، ص261- 289، ملحق7؛ ونورا كوبي، الطريق إلى نينوى، ص402-403).

دعوى تهريب الآثار العراقية، في المحاكم البريطانية، بين هرمز رسام والرحالة أرنست واليس بج:

ولد (أوستن هنري لايارد Austen Henry Layard) سنة 1817م، لأبوين إنكليزيين، في أحد الفنادق الفرنسية في (باريس).. تنقّلت العائلة بين (سويسـرا) و(إيطاليا)، إلى أن عادت إلى (إنكلترا) سنة 1829م، فدخل (لايارد) مدرسة قرية (ريجموند) قرب لندن. وعمل في بداية حياته في مكتب خالـه المحامي (بنيامين)، ثم رافق صديقه (ميتيفورد) في رحلته إلى (الهند)، وأثناء مروره في العراق سنة 1840م، تَعرَّف على نائب القنصل البريطاني، ولم يكمل رحلته إلى الهند، حيث تَعيَّن موظفاً في مكتب العقيد الإنكليزي (تايلور) في بغداد. وقام بالتعاون مع الآثاري والقنصل الفرنسـي في الموصل (إميل بوتا) (1802–1870م)، الذي كان ينقِّب عن الآثار الآشورية في (نينوى). وفي سنة 1845م زار (نينوى) و(خورسباد) و(نمرود)، وغيرها، للتنقيب عن الآثار، يرافقه المختص بالآثار العراقي المسيحي الكلداني (هرمز رسام)، يسانده قنصل بريطانيا في العراق وعالم الآثار (هنري راولنصون) (1810–1895م)، الذي كان يملك معلومات واسعة في التاريخ واللغات، ويلقَّب (أبو المسماريات)، أو (أبو الخط المسماري)، وهو الذي ساعد (لايارد) في حلّ رموز وكتابات الآثار، وتحديد تواريخ الدولة الآشورية، وملوكها. كما قام (راولنصون) بمساعدة (لايارد) في إنشاء قسم الآشوريات، في المتحف البريطاني، لأول مرة، الذي كان قد أُنشئ سنة 1753م.

وشغل (لايارد) بعد عودته إلى (إنكلترا) عدة مناصب سياسية، منها عضو برلمان.. وتعيَّن في 11 شباط 1852م وكيل وزير للشؤون الخارجية. وشارك في (حرب القرم) بين روسيا وتركيا (1853–1856م). وكان له دور في (الهند) و(الحبشة). وعُيِّن سفيراً لبلاده في الدولة العثمانية سنة 1877م. وتوّفي في 5 تموز عام 1894م.(ينظر: موفق نيسكو، منقِّب الآثار هنري لايارد (أبو الآشوريين الجدد)، موقع صوت كوردستان، 7 يونيو/ حزيران عام2024م).

وقد اشتهر باكتشافه لآثار (النمرود) و(نينوى). وبعد عودته إلى (لندن) ألّف كتباً حول تقاليد وأعراف سكان تلك المناطق، وخاصة (الآشوريين- الكلدان) و(اليزيديين). وكان (أوستن هنري لايارد) هو الذي قام باكتشاف لوحة (آشور ناصـربال الثاني)، في منتصف القرن التاسع عشر، في موقع (كالح) القديم (المعروف الآن باسم نمرود).

ولمّا كانت مدينة الموصل حارّة جداً في فصل الصيف؛ لذا أراد (لايارد) البحث عن مكان بارد ومعتدل يقضـي فيه فصل الصيف، لذا تحرّك نحو الجبال الكوردية. ففي الحادي عشـر من شهر يوليو/تموز عام1850م، ترك (هنري لايارد) مدينة الموصل؛ مقرّ إقامته [بقصد البحث عن الآثار الآشورية]، قاصداً كوردستان العثمانية، حيث يقول: “… تركت الموصل إلى الجبال (= جبال كوردستان)، وكان هناك قسم من وسط كوردستان لم يزره الرحالة الأوروبيون. كانت المقاطعات التابعة للزَيباري من الاكراد، بين (رهواندوز) (= رواندوز) ووادي النساطرة  (= العشائر النسطورية في منطقة هكاري)”. واستهل رحلته بمنطقة (عقرة)، وذكر بأن عدد عوائلها حوالي (600) عائلة. واشتملت مقاطعة عقرة على حوالي 300 قرية وحامية، وهي تشكل واردات لا بأس بها لـ(باشالِق الموصل) (= ولاية الموصل). وفيها زار آثار قرية (كوندوك)، وفي (كوندوك) كانت 20 عائلة ما زالت على دينها النسطوري، مع أقلية من اليهود أيضاً… يقول: “وبينما كنت أتفحّص تلك المنحوتات (= آثار كوندك)، جاءني راهب نسطوري، كان برتبة شمّاس (شدياق)، وقد بدا رجلاً وقوراً حسن المظهر تتدلى لحيته البيضاء حتى صدره، ولقد قال لي بأن المنحوتة العليا تمثّل القديس يوحنا على حصانه، وهذا يعطي الكهف اسمه. أمّا السفلى، فهي تمثّل طقوساً كنسية لم يستطع تفسيرها بوضوح. رجعت معه إلى مسكنه، حيث جهّز إفطاراً دسماً، وأمضينا فترة حرارة النهار في رواق يطلّ على السهل. هناك عدد من القرى النسطورية من الكلدان أسفل تلك التلال، وعلى بعد ثلاثة أميال إلى شمال كوندوك (قرية كوندك الواقعة غرب عقرة)، كانت (شوش)، ووراءها (شيرمين) (= قرية شرمن)، وهي موطن (مار شمعون)؛ البطريرك النسطوري. وعلى مسافة قصيرة من (شيرمين)، نحو الشمال، يوجد وادي (باويان)  Bavian=)بافيان) الضيّق، مع منحوتاته الصخرية المميّزة (= منحوتات الملك الآشوري سنحاريب، في خنس). (ينظر: أوستن هنري لايارد، مكتشفات أطلال نينوى وبابل، مع رحلات إلى أرمينيا وكوردستان والصَحراء، ترجمة : شيرين إيبش، مراجعة وتحرير: أحمد إيبش، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة (المجمع الثقافي)، 1435هـ/ 2014م، ص458 – 460).

    ويمضـي (لايارد) قائلاً: “تمكّن أصدقائي في 17 يوليو/ تموز (عام1850م)، من السير إلى أعلى الجبال. وكنّا جميعاً نتوق إلى الطقس البارد، ومع شـروق الشمس اجتمعنا وغادرنا جنّتنا. كانت البلدة التي عبرناها تحتوي على بضع منازل حجرية متقنة الصنع، تقع الواحدة فوق الأخرى، وكان هناك مسجد وحمّام وقلعة خربة، كانت فيما مضـى حصناً لزعيم مستقل، كان يحمل لقب الباشا، ويفتخر – كقريبه في العمادية – بكونه من سلالة الخلفاء العباسيين؛ وكان آخرهم محمد سيّد، الذي كان سجيناً في الموصل. مررنا بطريق شديدة الانحدار، تصل حتى أعلى الجبل. ومن قمّتها تجول بعينيك فوق سهول (ناوكور) (= نافكور)، و(شيخان)، والبلاد المحيطة بالتل المنقسم حول (إربيل)، ومسارات الزاب والخازر. وعلى الجهة المقابلة واد عميق، يفصل تلال عقرة عن سلسلة ثانية أكثر ارتفاعاً (= جبال بيرس)”. (هنري لايارد، المصدر نفسه، ص461).

وبعد أن غادر (لايارد) عقرة، وبعد أن عبر منطقة الزيباري، التي كان يحكمها (نعمت آغا)، الذي كانت سلطته تصل إلى قبائل شيروان، يقول: “دخلنا الآن منطقة أشجار البلوط الصغيرة، وتوّقفنا بعد رحلة يوم قصير في بلدة (هشتاغ) ( Hashtgah) الكوردية الصغيرة، التي تحيط بها أشجار عملاقة، وترويها جداول عدة، وتقع في منطقة زيباري الكوردية، التي يحكمها بالوراثة أحد آخر الزعماء المتبقين. كان يمر عبر الوادي جدول واسع صافي المياه، وهو أحد فروع الزاب، يسمّيه الأكراد (دروشو Durusho) ، أو (بيرايشو Bairaisho)، الذي سـرنا على طول ضفته لمدة ساعة تقريباً”. وبخصوص هذا الفرع من الزاب يذكر (لايارد): “وصلني ثلاثة أسماء لهذا الوادي: حصاوة، حسن ميمة، ونهالة [=نهلة]، والاسم الأخير من رئيس الزيباري.. هناك صعوبة كبيرة في معرفة اسم شخص أو مكان من رجل كوردي، والرحّالون يقعون في أخطاء عديدة من جرّاء ذلك، فالاسم ينطق بطرق مختلفة، ويخضع لإضافات وحذف، ولو أنها كانت ذات معنى، لسهل علينا”. “ثم دخلنا شقّاً ضيّقاً مشجّراً بشجر البلوط، وكان هناك معبر شديد الانحدار بيننا وبين مقاطعة زيباري الرئيسية، ومن قمتها يبدو جدول (= نهر) الزاب، وهو يجري عبر الوادي الخصب، وتبدو وراءه جبال كوردستان العالية (= جبل شيرين، وما وراءه)، مع قممها الثلجية. نزلنا إلى المنطقة المنخفضة حتى قرية (بيريكبر اBirikapra) (= بيراكبره)، وهي مكان إقامة (مصطفى آغا)؛ الزعيم السابق لقبائل زيباري. أمّا الزعيم الحالي، فيدعى (نعمت آغا)، ويسكن في (حرين Heren) (= قرية هه رنى)، على بعد ميلين. ولقد كان مؤخّراً في الموصل، ليحصل على عباءة ترمز لتولّي منصبه من الباشا، وخلال زيارته حلّ ضيفاً عليّ. كانت قدراته وكفاءاته تضاهي الرجل الكوردي العادي، فكان يتكلم الفارسية بطلاقة، ويعرف العربية، وكان على معرفة بخارطة كوردستان، وعلمت منه خصائص هامة حول مقاطعات الجبال غير المعروفة”.

“ينتمي الأكراد إلى مذهب إسلامي متشدّد (= يقصد المذهب السنّي، الذي يعدّ متشدداً بالنسبة إلى الأوروبيين، قياساً بالمذاهب الإسلامية الأخرى، كالشيعة وغيرهم)، حيث تناول الآغا طعامه وشـرابه طوال الليل، وهو الآن ينام في النهار خلال فترة الصّوم. كان مستلقياً على سجادة ثمينة تحت الأشجار، وحوض الماء، خارج جدران قصـره الطيني الصغير، وقد ألقي عليه رداء مطرز بالحرير وخيوط الذهب، بينما وقف خادم ملوّحاً بمروحة فوق رأسه، ووقف آخر ليدلّك قدمه العارية. ولقد ألححت بعدم إيقاظه، وتابعنا مسيرنا لنجلس تحت الأشجار، إلا أن الاهتزاز بطبيعة الحال كان قد أيقظ الزعيم، فرحّب بي بسلام ودّي. ومع أنه كان ممتنعاً عن الطعام، فلم يهمل واجب الضيافة، وقد كان الإفطار الذي أحضـره لنا من مكان النساء؛ من لحم لذيذ، وأطباق متنوعة شهية، وحلويات رائعة، يظهر مهارة النساء الكورديات. كنت أحمل رسالة له من الباشا، تتعلّق بضـرائب جديدة، وهو موضوع كريه عادة؛ وتتضمن التبغ والقطن والفاكهة، ولقد دعي أكراد زيباري لـدفعها للمرة الأولى، كما أن الضـرائب على الأملاك قد ارتفعت من 25 إلى 60 ألف قرش (حوالي 550 جنيها)، إذ إن الحملات الناجحة الأخيرة التي قام بها الباب العالي ضد شيوخ (بوطان) (= بدرخان باشا، أمير إمارة بوتان)، والهكاري (= نور الله بك، أمير إمارة هكاري)، شجّعته على طلب المال من القبائل التي كانت مستقلّة برئاسة (نعمت آغا). ومع أن القوات التركية (= العثمانية) لم تدخل جبالهم، فإن الأكراد وجدوا أنه من الحكمة الانصياع للأمر، عوضاً عن التعرّض لخطر الاحتلال، أو الأسوأ من ذلك: التجنيد الإلزامي”. (هنري لايارد، المصدر السابق، ص461 – 462).

“كان هناك حوالي 50 عائلة كاثوليكية كلدانية قد ارتدّت عن النسطورية (= اعتنقت المذهب الكاثوليكي، بسبب البعثات الكاثوليكية البابوية)، في (حرين) (= هه رنى الزيبارية)، وعندهم كنيسة، وليس لهم أي مبرر للتذمّر من أسيادهم الأكراد، خاصة خلال فترة حكم الزعيم الحالي. امتدت سلطة (نعمت آغا) إلى (زيباري) و(شروان) و(گردي) و(بارادوست) (= برادوست) و(شمدينان)؛ من (عقره Akra)، وحتى الحدود الفارسية (=الإيرانية القاجارية آنذاك). وتحتل تلك المقاطعات قبائل كوردية مختلفة، ولكل قبيلة شيخها، إلا أنهم خضعوا جميعاً لآغا الزيباري، ودفعوا الجزية من خلاله إلى حاكم الموصل. ولقد تركني (نعمت آغا) تحت حماية ابن عمه (الملا آغا)، الذي أمر بمرافقتنا للحماية حتى تخوم پاشالق (= ولاية) الهكاري، الذي تحتله القوات التركية الآن. كان دليلنا رجلاً جبلياً طويلاً، يلبس ملابس ملونة فضفاضة، وعمامة (حمراء ضخمة) التفت حول قبعة مخروطية طويلة، وهذا يعطي سكان وسط کوردستان مظهراً قاسياً غير مألوف. وكان يصحبه ثلاثة من أتباعه مشياً، ذلك أن الممّرات الصخرية شديدة الانحدار في الجبال كانت صعبة السلوك حتى على الأحصنة، التي كان من النادر اقتناؤها إلا من الشيوخ؛ ولقد حملوا بنادقهم الطويلة على أكتافهم، وخناجر ضخمة في حزامهم”.

 ويظهر من النص المارّ الذكر وجود سلطة قوية لقبيلة الزيباري، ما بين مدينة عقرة وإلى منطقة شمدينان، فضلاً عن لبس البعض العمامة الحمراء في هذا التاريخ المبكر [منتصف القرن التاسع عشر]. (المصدر السابق، ص462 – 463).

“تركنا (حرين Heren) (هه رنى الزيبارية) في الصباح الباكر، يوم التاسع عشـر (= شهر تموز 1850م)، ووصلنا بعد فترة وجيزة إلى (الزاب)، فسـرنا مدة ساعتين على ضفافه إلى بقعة، حيث كان هناك طوف جاهز لحملنا عبر النهر. وكانت هناك قرى منتشـرة عبر الوادي على جانبي النهر، قد زرعت أراضيها بكثافة ملحوظة، ولم يسهل خوض الزاب في هذا المكان، فلقد جعلت الدوامات الشديدة، التي سبّبتها الصخور المغروزة في النهر، من عبوره مهمة صعبة حتى على الطوف، باستثناء وقت طوفانه في الربيع. واجهنا صعوبة في عبوره، وأجبرنا على تمضية الليل في قرية (ريزان) الصغيرة، قرب العبّارة، لأن أحد البغال المحمّلة قد حرن (= عاند)، ورفض السباحة في النهر، ولم نتمكن من إجباره إلا في فجر الصباح التالي (= العشـرين من شهر تموز)”. [قرية ريزان، كما هو معلوم، تقع شـرق بارزان، ومطلّة على نهري روكجوك والزاب، ولم يتطرّق الرحّالة إلى قرية (بارزان)، لأنها لم تكن واقعة في خط سيره، فضلاً عن ذلك أنها لم تكن مشهورة آنذاك في عام1850م، ولم تشتهر إلا بعد أن أخذ شيوخ بارزان الحاليّون الطريقة النقشبندية من شيوخ نهري، في تاريخ لاحق، وتزعّموا قيادة الحركة الكوردية في الجزء الغربي من كوردستان الجنوبية].  ينظر: (هنري لايارد، المصدر السابق، ص463؛ صديق الدملوجي، إمارة بهدينان الكوردية – إمارة العمادية ، ط2، دار ئاراس، 1999م، ص 85 – 91؛ مارتن فان بروينسن، الآغا والشيخ والدولة، ترجمة: أمجد حسين، بغداد – أربيل، مركز الدراسات العراقية، ج2، ص688 – 689؛ فرست مرعي، بارزان في المصادر التاريخية، جامعة زاخو، مركز للدراسات الكوردية، 2019م، ص177).

“دخلنا الآن نفس المسار، الذي ربّما سلكته كل القبائل الجبلية خلال فترة هجرتها المنتظمة منذ عصور.. فبالإضافة إلى سكان المقاطعات من الحضـر، كانت هناك قبائل كوردية من الرحّل تسمى (الكوجر)، الذين يعيشون على قطعانهم، وبما أنهم لا يمارسون الزراعة، فهم يعتمدون على مراعي آشور (= كوردستان) الخصبة، ويبدلّون مراعيهم خلال فصول السنة، فيصعدون تدريجياً من السهول التي يرويها دجلة والزاب، نحو القمم الشامخة في الصيف، ويعودون إلى الأراضي المنخفضة عندما يبدأ فصل الشتاء بالاقتراب. وقبائل الكوجر الرئيسية، الموجودة في هذا الجزء من كوردستان، هي (الهكاري)، الذين رأينا خيامهم خلال زيارتنا لقبيلة (طي) (= العربية)، في أوائل الربيع. وهم يشتهرون بأعمال السلب والنهب، إذ إنهم خلال هجرتهم السنوية يسطون على سكان المقاطعات من الحضـر، وبشكل خاص على المسيحيين. وبما أن لديهم قطعاناً كبيرة من الماشية، فتبدو الطرق التي يسلكونها أراض مطروقة مناسبة لحيوانات الحمل والجرّ.

وتنقسم البلاد ما وراء الزاب إلى عدد من السلاسل المتوازية من التلال (= الجبال) المشجّرة، تفصلها وهاد ضيّقة، وتنتشـر قرى صغيرة على الجبال هنا وهناك، وسط مدرّجات من المصاطب المزروعة بالقمح وأشجار الفاكهة. ويبدو المشهد جميلاً وبهيّاً عندما يتفتح الوادي الأخضـر العميق تحت أقدام المسافر، وتبدو جبال (رهواندوز) (= رواندوز)، المغطاة بالثلج، شامخة في السماء الزرقاء الصافية. كانت الليالي دافئة بعض الشـيء، بحيث تمكنّا من النوم في الهواء الطلق. أمّا حرارة النهار، فقد ألجأتنا إلى اللجوء إلى الظل. وكانت استراحتنا الأولى بعد أن تركنا الزاب: حدائق كوران، ونصبنا خيامنا في الليلة الأولى في قرية (باني) الصغيرة، على منحدر الجبل”. (المصدر نفسه، ص462 – 464).

“في الحادي والعشـرين من يوليو (= تموز) تركنا مقاطعة (زيباري) (= حالياً، ومنذ بداية القرن العشـرين: مقاطعة بارزان)، عابرين جبالاً عالية، ودخلنا إلى (شروان) (= منطقة عشيرة شيروان، وهي عشيرة كبيرة، لم تكن آنذاك تابعة للاتحاد البارزاني، والآن هي داخلة ضمن الاتحاد البارزاني)، حيث جاء زعيمها (ميران بيك) إلى لقائنا على رأس أتباعه المسلّحين، وقادنا إلى قرية (برسياه Bersiyah) الكبيرة، الواقعة تحت قمّة عالية تدعى (=جبل پیران Piran) ، حيث أقيمت حفلة على شـرفنا، ومن ثم استرحنا تحت شجرة لوز.. كان يمرّ عبر الوادي تحتنا رافد لنهر الزاب (= لقد أعطيت لي ثلاثة أسماء لهذا الغدير: آف شیراه، رودبار ككليك، وبراز گرد)، يقسّم مقاطعات (شروان) و(گردي).. وخلال فترة العصـر سـرنا مسيرة ثلاث ساعات على طول الجدول، عبر وديان مفتوحة، وشقوق ضيّقة، إلى أن وصلنا (هاروني) في مقاطعة بارادوست (= برادوست)، ومعظم تلك القرى في الجبال تحتوي على قلاع صغيرة من الطين، وفيها 4 أو 6 أبراج – وهي أماكن يلجأ إليها الشيوخ الصغار خلال فترة نزاعهم المتكرر وثار الدم – ولقد التقينا ببضع عائلات يهودية تجوب البلاد من قرية لأخرى، ورجالها يعملون صيّاغاً أو باعة متجولين، وترحّب بهم العائلات، حتى تلك الكوردية شديدة التعصب، لأنهم يعرضون حليّاً وأزياء جديدة للنساء. وهناك قرية (خاني رش) (= كاني ره ش) الواسعة، الواقعة على إحدى القمم المشـرفة على (هاروني)، وكانت غنيّة بالحدائق والبساتين. وهي مكان إقامة رئيس مقاطعة بارادوست، التي وصلناها عبر مرتقى سريع في ساعة ونصف”.(المصدر نفسه، ص464 – 465).

ويستطر السيد (لايارد) الحديث بالقول: “استقبلنا المير فيض الله بيك في غرفة فسيحة، تستند إلى دعائم خشبية، وتفتح في الجهة المقابلة للوادي، وتطلّ على منظر خلّاب. أمّا عمامة الزعيم، فكانت من الكشمير المخطّط بالأبيض والأحمر، وكانت ضخمة، وربما كانت أكبر غطاء رأس رأيناه في كوردستان. أمّا ملابسه، فكانت من الحرير المطرّز بعناية ودقّة. وما زاد في سواد عينيه، ذلك الكحل الذي وضعه فيهما. وكان محاطاً بحشد من الأتباع المسلحين بشكل جيد، الذين ارتدوا ملابس فاخرة كذلك. ولقد استقبلنا وكأنه ملك التلال. ومع أنه كان يدفع الجزية في السنين الماضيتين للعائدات التركية، حوالي 8 أكياس من النقد (35جنيهاً)، فإنه كان يتباهى باستقلاليته الكاملة. وقد خضع على مضض لإشـراف (آغا زيباري)، الذي وضعت قبائله تحت حمايته من قبل پاشا الموصل. ومع ذلك استقبل الملا آغا بالكثير من التحضـر، وقرأ رسائل نعمت پاشا (= آغا الزيبار)، التي حملتها إليه. وكأغلب شيوخ الجبل، كان يتكلّم الفارسية، وهي اللغة المعتمدة في كوردستان لكتابة التقارير والكتب، باستثناء القرآن، وبعض الكتب الدينية الأخرى، فهي بالعربية. أمّا اللهجة الكوردية، فهي فرع عن الفارسية، ولا يكتب بها إلا نادراً (= الصحيح أن اللغة الكوردية هي لغة تنتمي إلى عائلة اللغات الآرية – الإيرانية، مثلها مثل الفارسية وغيرها، وليست لهجة فارسية).. ألح عليّ المير لقضاء الليل ضيفاً عليه، إلا أنني بعد أن قاسمته الإفطار أكملت طريقي، حتى وصلت وقت الغروب حصن (بيگشني Beygishni) الصغير. وعبرنا في اليوم التالي جانب قمة (سيري رش  Ser-i-Resh) (سه رى ره ش)، عبر وادي (خاباتا) أو (خَبنايا Chapnaia) بالكلدانية”. (المصدر نفسه، ص464 – 465).

وغنيّ عن القول أن (لايارد) أصدر سنة 1849م كتابه (نينوى وبقاياها) (Nineveh and its  remains)، وحاز على شعبية واسعة في (إنكلترا)، وارتياح وتفاعل النساطرة (الآشوريون الجدد)، حيث ترجموه من اللغة البولندية سنة 1983م، بعنوان (البحث عن نينوى)، ركَّزوا فيه على ترجمة المقاطع والفقرات، التي تُظهر – حسب زعم لايارد – اعتداء الكورد بقيادة الأمير بدرخان باشا، والقيام بمجازر ضد النساطرة في منطقة هكاري، أثناء الصـراع بين الجانبين، الذي استمر عدة سنوات (1843م لغاية 1846م)؛ والتي كان لكتابات وتقارير (لايارد)، المارّة الذكر، أثر في هياج الرأي العام البريطاني على ما يسمّى بمجازر الكورد ضد النساطرة! والتي كانت السبب الرئيسـي في ضغط السفير البريطاني (ستراتفورد كانيننغ) على الدولة العثمانية، للضغط بدورها على إمارة بوتان الكوردية. وهو ما حصل فعلاً، وتمكّنت الدولة العثمانية لهذا السبب من إزالة إمارة بوتان من الوجود، بعد معارك طاحنة بين الكورد والجيش العثماني، في شهر تموز عام1847م، حيث استسلم الأمير بدرخان بك، وسلّم قلعة (آروخ)، بعد أن قاوم مدة ثمانية أشهر. وتمّ نفيه مع أخويه (مير سعد، ومير صالح)، وهيأة أرکانه، إلى (استانبول).

قائمة المصادر والمراجع

  1. أوستن هنري لايارد، مكتشفات أطلال نينوى وبابل مع رحلات إلى أرمينيا وكوردستان والصَحراء، ترجمة: شيرين إيبش، مراجعة وتحرير: أحمد إيبش، أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة (المجمع الثقافي)، 1435هـ/ 2014م.
  2. صديق الدملوجي، إمارة بهدينان الكردية – إمارة العمادية ، ط2، أربيل، دار ئاراس، 1999م.
  3. فرست مرعي، بارزان في المصادر التاريخية، جامعة زاخو، مركز للدراسات الكوردية، 2019م.
  4. نورا كوبي، الطريق إلى نينوى، ترجمة: سلسل محمد العاني، مراجعة: هادي الطائي، بغداد، دار المأمون للترجمة.
  5. مارتن فان بروينسن، الآغا والشيخ والدولة، ترجمة: أمجد حسين، بغداد – أربيل، مركز الدراسات العراقية.
  6. موفق نيسكو، مُنقِّب الآثار هنري لايارد (أبو الآشوريين الجدد)، موقع صوت كوردستان، 7 يونيو/ حزيران عام2024م.
  7. هنري لايارد، البحث عن نينوى ” مذابح الآشوريين في هكاري 1834 – 1846م”، ترجمة: ميخائيل عبدالله، ط2، السويد، دار سركون للنشر، 2005م.
  8. واليس بج، رحلات إلى العراق، ترجمة: فؤاد جميل، بغداد، دار الزمان، 1966م، ج1.

العدد ١٩٢ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون               

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى