من التوحّش إلى التوحيد: وجهان للقوّة في المثنوي لمولانا
بدر الدین يوسف إسماعيل

مقدمة:
المثنوي المعنوي لجلال الدين الرومي ليس مجرد نصٍّ صوفيٍّ صـرف، بل هو عملٌ غنيٌّ يمكن قراءته على مستوياتٍ عدّة: نفسيّة، أخلاقية، اجتماعية، وحتى سياسية. ففي سياق حكايات رمزية، يعرض مولانا رؤيته العميقة للوجود، والإنسان، وللعلاقة بين القوّة والحقيقة.
القوّة عند مولانـا ليست أمراً خارجياً فقط، بل هي بُنيةٌ داخلية وجودية: إمّا أن تكون وسيلةً للرقي الروحيّ والإنساني، أو أن تصبح أداةً للسقوط والخراب.
في هذه المقالة، نسلّط الضوء على حكايتين من المثنوي: الأولى حكاية الأسد والذئب والثعلب، وهي تمثّل بنية القوّة السلطوية القائمة على الهيمنة والخداع. والثانية: حكاية السالك والشيخ، وهي تمثيلٌ للمسار الروحيّ القائم على محو الأنا والاتّحاد بالحقّ. ومن خلال المقارنة بين الحكايتين، نكتشف رؤيتين متباينتين لمولانا حول: السلطة، الذات، المجتمع، والإنسان.
السلطة كغلبة وهمجية؛ حكاية الأسد والذئب والثعلب:
سـرد الحكاية:
في هذه القصة، يمثّل الأسد سلطان الغابة، ويخدمه الذئب والثعلب. يصطادون معاً ثلاثة فرائس: بقرة، ماعزاً، وأرنباً. الأسد يأمر الـذئب أن يوزّعها بينهم. فيتظاهر الذئب بالإنصاف والعدل، ويُعطي البقرة للأسد، والماعز لنفسه، والأرنب للثعلب. لكن الأسد يثور غضباً، ويهاجم الذئب ويمزّقه إرباً.
في الجولة الثانية، يطلب الأسد من الثعلب أن يوزّع الصيد. الثعلب، وقد تعلّم من مصير الذئب، يعطي كلّ شيء للأسد، ويحتفظ لنفسه بالصمت. يعجب الأسد بذلك، ويمنحه الرضى والمكانة.
التحليل النفسي والروحي:
الأسد هنا رمزٌ لـ(النفس الأمّارة)، التي لا ترى إلا ذاتها، ولا تحتمل وجود الآخر؛ أيّ صوتٍ أو قرارٍ خارج إرادتها يُعدّ تهديداً، حتى عدالة الذئب – الظاهرة – لا تُقبل، لأنّ مجرّد وجود (آخر) يعني نفي السيادة المطلقة للنفس.
الذئب يمثل العقل الحسابيّ الأنانيّ، الذي يسعى لمصلحته دون فهم عمق القوّة الحاكمة. أمّا الثعلب، فيمثّل العقل الخبيث الانتهازي، الذي ينجو بالمكر والتملّق.
من منظور مولانا، كِلا النوعين من العقل ناقص: الذئب يُقتل لأنه صادق، والثعلب يُكرَّم لأنه خاضع ومتملّق.
القراءة الاجتماعية:
ينتقد مولانا، من خلال هذه القصة، البُنى السياسية والاجتماعية القائمة على الاستبداد، الخوف، والتزلّف. في مثل هذه الأنظمة، تُقتل الأخلاق، ويُهمَّش العقل، ويُكافَأ الخداع. إنها مجتمعات تُنتج التملّق والخضوع، لا الإبداع والنمو.
القسم الثاني: السلطة كإرشاد وتربية؛ حكاية السالك والشيخ:
سـرد الحكاية:
يأتي (سالكٌ) إلى باب (شيخٍ) يطلب منه المعرفة والحقيقة. يطرق الباب، فيسأله الشيخ من الداخل: من الطارق؟، فيُجيب: أنا. فيردّ عليه الشيخ: “اذهب، فليس في هذا البيت مكانٌ للأنا”.
يمضـي السالك سنواتٍ في المجاهدة والتهذيب حتى يتطهّر من نفسه. ثم يعود بعد حين، ويطرق الباب. يسأله الشيخ مجدداً: من الطارق؟، فيُجيب: أنت. هنا، يفتح الشيخ الباب، ويقول له: “ادخل، فقد أصبحت أنا أنت وأنت أنا”.
التحليل الروحي والوجودي:
جوهر القصة هو مفهوم (الأنا). في المرة الأولى، يطرق السالك الباب وهو مشغولٌ بذاته، أي إنّه لا يزال أسيرَ أنانيّته. لذلك، يُغلَقُ الباب في وجهه. أمّا في المرّة الثانية، فقد ذابَت الأنا، ففتحَ له الشيخ الباب.
هذا تصويرٌ عميقٌ لمبدأ “الفناء في الشيخ”، الذي يؤدي إلى “الفناء في الله”، وهي ذروة التجربة الصوفية عند مولانا. القوة هنا ليست في فرض الإرادة، بل في محوها، في الذوبان في الحقيقة.
القراءة التربوية والاجتماعية:
الشيخ في هذه القصة ليس متسلّطاً، بل مرّبٍ ومُرشد. قوّته ليست في السيطرة، بل في التحويل والتهذيب. العلاقة بينه وبين السالك علاقة تنمية، وليست علاقة خضوع. هذا هو (المجتمع الروحيّ) الذي يتصوّره مولانا: مجتمع يقوده المربّون، لا المستبدّون.
التحلیل المقارن والاستنتاج:
لا يقدّم مولانا في هاتين القصتين مجرد دروسٍ أخلاقية، بل يكشف عن رؤيتين متضادّتين للسلطة والوجود:
• السلطة الأولى، في حكاية الأسد، مظهرها الخارجي الهيمنة، لكن جوهرها الضعف والفراغ الروحي.
• السلطة الثانية، في حكاية الشيخ، مظهرها التواضع، لكن جوهرها القوّة الحقيقية التي تصنع الإنسان، وتُوصله إلى الحق.
بهذا، يبيّن لنا مولانا أن السلطة ليست بالضـرورة مذمومة، لكن شكلها، ونيّتها، وأدواتها، هي التي تحدّد إن كانت تُحيي الإنسان، أو تُميت روحه.
من (أنا) و(نحن) إلى (هو)، هذه رحلة تبدأ من الطفولة الروحية والجهل، وتمرّ عبر الصـراع والتجربة، وتنتهي بالتحرّر والاتّحاد مع المطلق. الرومي يرينا أن الطريق نحو الكمال لا يُعبَّد بالخضوع للسلطة، بل بالحبّ والمعرفة والحرية. وحده الإنسان الحرّ العاشق، السالك، هو الذي يستطيع أن يتجاوز (نفسه)، ويبلغ (المحبوب).
الفرق الجوهري في التسليم: اضطرار الثعلب، واختيار السالك:
من الفروق الجوهرية والعميقة بين القصتين في المثنوي، هو في طبيعة (تسليم الإرادة). ففي الظاهر، نرى أن كلّاً من الثعلب أمام الأسد، والسالك أمام الشيخ، قد تنازل عن إرادته وخضع. لكن حقيقة هذا التسليم في كل منهما تختلف جذرياً.
الثعلب: التسليم خوفاً واضطراراً:
علب، بعد أن رأى ما جرى للذئب الذي حاول أن يقسّم الغنيمة بالعدل، أدرك أن البقاء في مملكة الأسد لا يتحقّق بالعقل أو الصدق، بل بالخضوع الكامل والتملّق. وهكذا، قدّم كل الغنائم للأسد، لا حبّاً فيه، بل خوفاً على حياته. هذا التسليم كان مفروضاً من الخارج، لا نابِعاً من داخل الروح أو القلب. لقد باع إرادته من أجل البقاء، لا من أجل الحقيقة.
السالك: تسليم عن حبّ وبصيرة:
أمّا السالك، فهو بعد سنوات من المجاهدة والرياضة الروحية، يصل إلى مرتبة من الإدراك العميق لحقيقة النفس والحياة، ويرى – بعين البصيرة – أن الإرادة الحقيقية ليست تلك التي تتشبّث بالذات، بل تلك التي تذوب في إرادة الحقّ. يسلّم إرادته لا ليتجنّب الموت، بل لأنه أدرك أن لا كمال للإنسان إلا بالفناء في المحبوب. فتسليمه ليس ضعفاً، بل ثمرة قوّة داخلية ناضجة، وليس إجباراً، بل قرار حرّ ينبع من الوعي. هذا التسليم حرية، لا عبودية؛ وصال، لا خضوع.
بهذا، يقدّم لنا مولانا عبر القصتين نوعين من التسليم: تسليم العبيد أمام السيف، وتسليم العارفين أمام النور. الأول اضطرار، والثاني اختيار. الأول مهانة، والثاني كرامة.
العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون