مفاهيم يجب أن تصحح (4).. خطؤنا في ممارسة السياسة

سالم بابه شيخ عبد الله

 لما كانت الأحزاب الإسلامية ذات طابع ديني وعاطفي، وهي مقيّدة – إلى حدّ بعيد – بالفكرة التي اجتمعت عليها، ولا تريد الخروج عنها، أو إدخال التعديلات عليها، ولا تريد أن تضيف على الفكرة أفكاراً وحلولاً جديدة؛ فإنها بذلك تكون قد ابتعدت عن الواقعية ومواكبة العصـر في كل النواحي، ابتعاداً عزلها عن الواقع والناس، فضلاً عن مواقع القرار، وصناعة القرار، كما ابتعدت عن مجاراة الأحزاب الأخرى غير الدينية!

 فأساس المشكلة هو أن العقلية الموروثة لـدى المسلمين ذات نمط تاريخي تقليدي وتقديسـي، لا تتسم بالحرية والمرونة والإبداع، لا في مجال التجديد في الفقه والشـريعة، ولا في مجال الفكر والسياسة، وهي لا تبحث عن فلسفات وثقافات وأفكار جديدة حتى تسير عليها، فلا تبتعد عن الدين ابتعاداً مذموماً؛ في ممارستها للسياسة، وتكون على كفاءة في مجاراة العصـر والسياسات الموجودة حولها، في آن واحد.

 فالواقعية شيء لا ينال بالادّعاء والإعلان، إنما الواقعية تنال بالحرية والمرونة في الفكر والحركة، وكذلك تنال بدراسة الأوضاع الداخلية والخارجية، من قبل المختصين في كافة المجالات، دراسة واسعة وموضوعية، وذات قدرة على التنبؤ في الحاضر والمستقبل، وتخطط حسب هذه الدراسات والتنبؤات.

 إن على الحركات والأحزاب الإسلامية الخروج من النمط الفكري القديم والتقليدي المذهبي، إذا رامت التقدم والمضـي بنجاح نحو الهدف الذي تسعى إليه؛ فإن كانت هذه الحركات والأحزاب لا تستطيع الإبداع في الفكر، ولا هي قادرة على خلق فلسفات خاصة بها، تعزّزها معنوياً ومادياً، فهي بالأحرى لا تستطيع تقديم الحلول لمشاكلها الداخلية أيضاً، ولا تستطيع إبقاء الناس حولها لمدة طويلة من الزمن؛ فكيف بمقدورها – آنذاك – تقديم الحلول للواقع، وللمشاكل الموجودة من حولها؛ فوجودها – عندئذ – يكون عبئاً على المسلمين، وعلى العاملين، وقد يشكّل وجودها ضرراً ومفسدة على الإسلام والمسلمين.

 فالتجديد في مجال الفكر والحركة والسياسة أمر ضروري لنجاح هذه الحركات في عملها ومشـروعها، فالمسلمون – أو الإسلاميون، بتعبير آخر – يخافون من كلمة التجديد، وربما ظنّ بعضهم أن التجديد معناه التغيير والرفض والخروج عن الدين، وهو مع هذا يظنّ بأن ما هو عليه هو الحق، وعلى الواقع والناس تقبّله هو وفكره، وما جاء هو به!

 فأيّ فشل، وأيّ سقوط، أو عدم انسجام مع الواقع، يلقي بتبعاته على الواقع، وعلى عاتق الناس، ويتهمهم بأنهم لم يقبلوا بمشـروعه، ولم ينصاعوا إلى أمره، وربما لجأ إلى التفسيق والتبديع والتكفير أحياناً لتبرير موقفه، أو فشله!

 نعم، المسلمون لا يستطيعون التجديد في أيّ مجال إذا لم يقوموا بالتجديد في الفقه والفكر وطريقة البحث.. ولا نقول بأن نخلق أصولاً وقواعد من عند أنفسنا، لكني أرى بأن القرآن الكريم هو منهج الله تعالى المتكامل لكل زمان ومكان، المنسجم تماماً مع الواقع ومع الناس ومع الأفراد، وفيه من المواد الفلسفية العالية الشـيء الكثير، مما يمدّنا بأفكار عظيمة ومهمة للإقدام ولحل المشاكل، ويمكن تنزيله على الواقع، وعلى الناس، بكل سهولة ويسـر، إذا ما حرّرناه عن القيود الفقهية والتراثية، التي هي بمثابة تفسير للمنهج لا أكثر، وقد يخطئ التفسير!

 كما وأنا على يقين بأن علم أصول الفقه والقواعد الفقهية وعلم الجدل، فيها من القدرة والإمكانات والأدوات للتجديد ما يؤهّل المسلمين للتجديد، ويمكّنهم ويعطيهم القدرة على ذلك.

 فعلى سبيل المثال – حتى تتضح الفكرة -: أن غير المسلمين كفار، فالفقه وما فيه من القيود في مجال المعاملة مع الكفار، يجعل المسلمين غير قادرين على التعامل بدون تشنج أو صدام.. لكن القرآن الكريم لم يسمّ غير المسلمين على عمومهم كفاراً، وحتى الكفّار نجد أن القرآن الكريم قسّمهم إلى عدّة تقسيمات، ولم يمنع المسلمين عن معاملتهم ومعاشرتهم بجملتهم. قال الله تعالى فيهم: [لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] (الممتحنة: ٨).

 وفي بعض الأفكار، لدى طوائف من المسلمين، أن غير المسلمين من الناس هم كفّار بالأصل، وقاموا بتقسيم الناس حسب معتقداتهم بما لم ينزّل الله تعالى به سلطاناً، والأدهى من ذلك ربط القتل والمحاربة والجهاد بهذه المسألة، وتجويز الغدر بهم، أو قتلهم، أو القول بحليّة دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ فكيف تستطيع مثل هذه الجماعات أن تقدّم دعوة وسياسة مستقيمة ومنسجمة ومقبولة؟!

 ومن أين جاء مصطلح كافر الأصل، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: (كل مولود يولد على الفطرة)، وهذا الحديث موافق تماماً، ومفسـّر لقول الله تعالى: [فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗا فِطرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيهَا لَا تَبدِيلَ لِخَلقِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعلَمُونَ] (الروم: ٣٠).

 وبعضهم يرى بأن كثيراً من المسلمين مرتدّون ومشـركون، ويطلق الأحكام الفقهية عليهم على هواه وبجرأة كبيرة، ويعطّل الدعوة ووسائلها كلياً، ولا يترك مجالاً للحوار والاتصال والاحتكاك الذي أمر الله تعالى به حتى مع المجتمع الجاهلي: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا](النساء: ١٤٠).

 فالله سبحانه أمر بترك مجالستهم أثناء كفرهم واستهزائهم بآيات الله، والعودة إلى مجالستهم عندما يغيّروا الموضوع، ويخوضوا في حديث آخر، وذلك لسببين:

 السبب الأول: أنهم في حالة كفرهم واستهزائهم غير مستوعبين، ولا هم باحثون عن الحق والحقيقة، لغلبة طبع الغفلة والأنفة والفكاهة والاستهزاء والمرح، وحتى الغضب أحياناً، عليهم، ففي هذه الحالة لا يستوعبون الكلام، ولا يجدي المنطق معهم شيئاً.

 السبب الثاني: ترك مجلسهم ليس فراراً لعدم الحجّة أو لضعف الموقف، بل حتى لا يأتي المسلم بردّة فعل تشين الإسلام، فتحسب على الدين وعلى المسلمين، لأن المسلم إنسان له عواطف وانفعالات، ففي حالة عدم السيطرة على الانفعالات والعواطف، ربما يأتي بردّة فعل تعاكس جوهر الدعوة وجوهر الدين، فيفسد أكثر مما يصلح.

 فكيف تستطيع هذه الجماعات المتشددة والسطحية النجاح في مجال السياسة في هذا العصـر الذي لا توازن للقوى فيه، بل كيف تصارع هذا الزخم من الأفكار والفلسفات التي تحكم العالم في السياسة والاقتصاد، وكيف يكتب لها البقاء طويلاً في الساحة وهي شبه خامدة على عروشها؟!

 ونحن لسنا بصدد الرد على هذه النظرة، وهذا التصوّر الخاطئ، وإنما ذكرناها مثالاً على ما نريد بيانه وطرحه، فالتجديد الذي ننشده إنما هو التجديد فيما ليس فيه نص محكم وقاطع، وكذلك التحرّر من التفسيرات التراثية التي تشكّل عبئاً على الدعوة والحركة والسياسة والتعامل والانسجام، ففي المسائل الفقهية جملة مسائل لا يمكن الدفاع عنها، لأسباب؛ منها: أنها تفسيرات للنصوص، ثانياً: أصبح العالم متحضـراً، وارتقى في المعارف والمفاهيم والقوانين، كمسألة الرق والجواري، كما طرحت في الفقه، لا كما هي في القرآن.

 فالتراث الإسلامي كنز عظيم، وثروة هائلة من الفكر ومن المعارف، لا ينكرها إلا مكابر أو بليد، ولكن هذا لا يعني بأن التراث الفكري والفقهي – وهي اجتهادات قام بها أصحابها في زمانهم – كلها حق وصواب، ونحن نعلم جيداً تدخّل الخلفاء والسلطة في تصنيع الفتاوى وإصدار الأحكام، وتأثيرهم على شيوخ السلطة في شرعنة ما يريدون، كما وأن التعصب المذهبي أيضاً كان له دور مهم في إصدار الأحكام وإصدار الفتاوى. وكما هو معلوم لدى كل من له رؤية وفهم أن التراث عبارة عن اختلافات كثيرة في أي مسألة من مسائل الفقه والشـريعة، مما يعني أولاً أن النص غير قاطع في هذا الموضوع وهذا المجال، وهذا يجعلنا أحراراً من القيودات التراثية، ونحن أيضاً نستطيع محاولة فهم هذه النصوص حسب الأصول والقواعد المعتبرة في الإسلام. ثانياً: نفهم من اختلافهم أن التراث عبارة عن محاولات بشرية لفهم النصوص، مما يعني أن هناك مجالاً واسعاً للاجتهاد وللفكر والبحث والاستقراء والاستدلال، ويعني أيضاً أن التراث لا قدسية له، وهذا أيضاً يجعلنا نراجع أفكارنا ومشـروعاتنا، ونجتهد أيضاً كما اجتهدوا، فالقدسية للنص لا للتفسير، وللثوابت لا للمتغيرات.

 على الأحزاب الإسلامية العاملة في مجال الدعوة والسياسة، أو أحدهما، توسعة دائرة ثقافتها، لتمكنها من قراءة الأوضاع وقراءة المستجدات، ولا تقع في الفخاخ المنصوبة لها، أو تمنع من استغلالها واستعمالها وهي لا تعلم في أحسن الحالات؛ ففي مجال السياسة لا تكفي المعارف الدينية فقط، ولا الألفاظ الدينية المستعملة، ولا التحية الخاصة بالمسلمين فيما بينهم، بل ينبغي عليها أن تنشئ مؤسسات ولجان ومكاتب قوية ومتينة وأمينة لجمع المعلومات وللدراسات والبحوث، وتصنع كوادر حسب مهارتهم وكفاءتهم وتوجيههم، وتعدّهم لمهام خاصة في وقتها أو عند الحاجة، فالاتكال المذموم عندهم اليوم أشبه باتكال فقراء الدراويش، وهم مع هذا يرجون نتائج هي أكبر من إمكانياتهم!

 وهناك أمران يجب التفرقة بينهما، وهما: المثاليات الدينية، والأفكار؛ فالمثاليات الدينية نستطيع أن نأخذ منها المبادئ الثابتة، ولا مجال لنا في تغييرها، لأنها من وضع الشـريعة، ومن مبادئها. أما الأفكار، فمن الممكن أن نأخذ منها مبادئ مؤقتة أو مرحلية، لكن هذه المبادئ غير ثابتة، لأن الفكرة لها أجلها، لها إيجابياتها وسلبياتها، ولها نقاط قوة، كما لها نقاط الضعف، أو هي غير مكتملة، أو هي بحاجة إلى عامل، وهذا العامل ربما لا يتواجد، أو غير موجود، أو كان موجوداً فيما مضـى وانتهى. والسؤال هنا: إذا أخذنا المبادئ من الأفكار، كيف لنا أن نقيم سياسة دائمة وثابتة عليها؟!

 فالمثاليات الدينية؛ كالتوحيد والإيمان والأخوة الإيمانية والعدل والصدق والأمانة والإخلاص والعبادات والمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة وغير ذلك. أما الأفكار؛ كفكرة إعادة الخلافة، أو الفكرة الجهادية، أو العمل المسلح في أجواء لا تستدعي السلاح أو

المواجهة، أو فكرة إحياء السنن، أو الأفكار التي تلعب على مسائل صغيرة، كمحاربة البدع، وإثارة المسائل الشرعية الخلافية، من عقيدة أو فقه.

 فعلى الجماعات الإسلامية تجاوز هذه الأفكار، والدعوة إلى الدائرة الأوسع دوماً، والخروج من الدوائر الصغيرة التي تحجّم اهتماماتها، وتعيقها عن التقدم والتأثير في الواقع، لكنها – مع الأسف – لا تزال تلزم نفسها بدوائر صغيرة لا تسع الآخرين، إلا فئة معينة، هي التي بلورتهم الفكرة التي اجتمعوا عليها.

 فالجماعة الناجحة هي التي تقدر على جمع الناس على المثاليات الدينية لا على الأفكار، وتستطيع توجيههم وإرشادهم، وتقتل الخلافيات بهذه المثاليات، حتى ولو غيرت من أفكارها فلن تؤثر عليها، لأنها لم تخرج من المثاليات أو الثوابت الدينية الأساسية، فهي تتعامل مع أفرادها على المثاليات، وتستخدم الأفكار كوسيلة في الواقع لنجاح العمل والدعوة والسياسة.

وللحديث بقية…

العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى