في ظلال الانتخابات التشريعية
عمار وجيه

عام ٢٠١٠ كنا في (أنقرة) مدعوين لحضور المؤتمر القطري الثالث لحزب العدالة والتنمية التركي، وكان مؤتمراً كبيراً، وكان خطاب أردوغان فيه – بأمانة – فوق الرائع.
وفي استراحة الظهيرة، دعينا لتناول القهوة، وهناك سلّمنا على أردوغان، وسألته شخصياً: ما رأيكم دولة الرئيس حول استمرار مشاركتنا في العملية السياسية؟ قال: استمروا، ولو حافظتم على مسمّار، ممكن أن تبنوا عليه في المستقبل. فالتواجد في العملية السياسية يعني أنك موجود.
واستعراضاً لتاريخ العملية السياسية بعد الاحتلال، فقد كان للحركة الإسلامية الإخوانية؛ ممثلةً بالحزب الإسلامي الشـريك في جبهة التوافق العراقية، الوجود الأكبر والأهم في التمثيل العربي السني. وبهذا الوجود حصدنا ٤٤ مقعداً، فضلاً عن ١١ مقعداً، حصدها شـريكنا (السابق) صالح المطلگ.
وفي ٢٠٠٩ تحديداً وقعت حوادث مهمة غيّرت مجرى العملية السياسية، فقد ظهر (علاوي) بديلاً عن (التوافق)، بعد أن استنزفت طاقة تلك الجبهة السنية في الصـراع الطائفي المصنّع أمريكياً، والمستثمر إيرانياً. وسقط من الحزب الإسلامي، ومؤيديه القريبين، ٢٦٥٠ شهيداً، بينما وصل عدد الشهداء من جمهوره ١٠٠ ألف بل ويزيدون.
في تلك الفترة، سعى الخليج جاهداً لتفتيت (التوافق)، وهذا ما صـرّحوا به أمامنا بلا خجل، وحصل الآتي:
١. ترميز (علّاوي) بديلاً عن (التوافق)، واتّهام (التوافق) أنها منخرطة في اللعبة الطائفية، وذلك محض كذب، فرجال التوافق دافعوا عن مساجدنا رجولةً، وقاتلوا الإرهاب الذي استهدف جميع العراقيين.
٢. استثمار الخلاف بين الأستاذ الهاشمي، وبين الحزب، لجرّ الهاشمي إلى (القائمة العراقية)، وكذا جرّ العيساوي والنجيفي والمطلك. ولم يبق في (التوافق) سوى المرابطين.
٣. وظّف الخليج الإعلام العلماني لدعم القائمة العراقية بقوّة، وكان للبزّاز دور مهم، فهو العرّاب للقائمة. ولا ننكر ان كثيراً من الإسلاميين بلعوا الطعم، وانساقوا لتلك الخدعة.
٤. أغلق الخليج أبوابه بالكامل على الإسلاميين، ولم يعد يقابل أحداً من رموزهم؛ لا المرحوم عدنان الدليمي، ولا غيره.
٥. حصدت العراقية ٩١ مقعداً، ثم فشلت في الحصول على رئاسة الوزراء، بالرغم من موافقة التحالف الشيعي الغريم للمالكي على التحالف مع العراقية. وعاد المالكي “كالأسد” ليكون رئيس وزراء لدورة ثانية. ولم يكن يعلم أن أمريكا قد خططت لإسقاطه بـ(داعش)، وقد ضـربت ثلاثة عصافير بحجر في غضون سبع سنوات؛ أنهكت السنّة، وأزالت رمزية المالكي، وحجّمت مشروع الدولة الكوردية.
٦. في أثناء تواجد (داعش)، حاول الحراك الشعبي “العفوي” أن يعيد رمزية الإسلاميين، وبالطبع من دون استشارة قادة التوافق، بل كانت قلباً وقالباً ثورة سنّية شعبية تلقائية، قادها مشايخ، وباركها بعض السياسيين.
لكن النتيجة كانت أن الجمهور السني رفضهم، نتيجة الخوف بل الرعب من العودة إلى مربع العنف. ولئن كان التهجير قبل (داعش) نوعياً، فإن التهجير بعد (داعش) كان كمّياً، فقد نزحت أربع محافظات بشكل لا يصدق؛ الأنبار، نينوى، صلاح الدين، ديالى، بل وجزء من كركوك، واكتظت كوردستان وتركيا بهم.
٧. وفي ظل غياب مشـروع وطني حقيقي، مبني على تنظير سياسي واقعي، بقي السنّة يتأرجحون بين أيديولوجيتين عريقتين أسستا منذ الأربعينات؛ الإخوان والبعث.
٨. ظهر رموز سياسيون جدد لا تنظير لهم، ولا حل لديهم سوى شتم الخصوم، ومنهم أولئك الذين يسودون الساحة السنية اليوم. ومنذ ٢٠٠٣ وإلى يومنا هذا لا يوجد مشـروع سياسي سني واضح، ولن يكون، ما دام السياسيون زاهدين بالمفكرين والنخب والمرأة والشباب، وليسوا سوى طغمة تتربع على عرش الفساد، وتستقوي بالخطاب القبلي وخطاب التهويل من الخصوم، مع وجود استثناءات قليلة جداً من السياسيين الجيدين.
٩. اليوم فقد سنّة العراق هويتهم الإسلامية والوطنية بالكامل، وصاروا يتخبطون باحثين عن مصباح في غرفة مظلمة.
الحل:
١. أن يتبنى العرب السنّة المشـروع الإسلامي الوطني، الذي يتلخّص بأن نلتزم قيم الإسلام حقيقةً، وأهمّها الكرامة والحرية والعدالة، وأن نتحالف مع جميع السياسيين الذين يعملون بجد لإنهاء الفوضى والفساد والانحلال والتبعية الغربية والشرقية.
٢. نحن نتعامل مع الشـرق والغرب؛ فإيران لها امتداد فكري في العراق، والغرب مهيمن فعلاً، وله مصالح كبرى يحميها، كي لا تتغوّل الصين وغير الصين. لكن أن ننبطح لهذا وذاك، فتلك ليست واقعية، بل استسلام وإذعان كامل. والعمل السياسي في حقيقته جهاد بمعنى الكلمة. ونحتاج إلى السياسي المرن صاحب القضية. وقضيتنا ليست عراقية وحسب، بل عراقية إسلامية.
٣. لماذا المشروع الإسلامي؟ وهل سيقصي الأقليات؟
الجواب: إن نسبة المسلمين في العراق، بحسب مراكز الدراسات: ٩٨٪. والإسلام هو خير من حافظ على الأقليات. ففي زمن الدولة العثمانية لم تهجّر الأقليات. بل هجّر اليهود في زمن النفوذ البريطاني، وهجّر المسيحيون والإيزيديون في زمن النفوذ الأمريكي.
٤. ولمن يسأل: أيّ إسلام نريد؟ السنيّ أم الشيعي؟ نقول بواقعية: إن الشيعة اليوم مبسوطة أيديهم بالكامل في العراق، والسنة لا أثر لهم. وليس من مصلحة العراق ذلك، فقوّة السنّة قوّة العراق. وأن تكون المحافظات السنية قوية، فإن ذلك سيكون لصالح البلد كلّه. أما (السنة- فوبيا)، فهراء. فالسنّة بشـر كباقي البشر، وهم يحبّون دينهم ووطنهم، وكل الظلم أتى من أجندات صنعت في الخارج. وقد شهد العراقيون حالة الاستقرار والانضباط بعد خروج (داعش)، وما التنمية في الأنبار ونينوى إلا دليل على ذلك.
٥. ما أثر الإسلام؟ أولاً هو دين الله، وغايتنا في الحياة (في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة)، وهو وعاء القيم، وهو أعرافنا وتقاليد أجدادنا، وهو الدافع للتنمية، وهو الذي يحقّق التكافل الاجتماعي.
٦. هل هناك فرصة لعودة التشدّد؟ ذلك منوط بقيامنا بواجبنا. فمتى ما يسمح للنخب أن تعمل، ويفسح مجال للشباب أن ينتج، تتراجع فرص عودة التشدّد. فالمتشدد لا يعمل في بيئة صحية يحكمها القانون.
٧. هل نعمل بلا حماية دولية؟ لا طبعاً، لكن فرق كبير بين أن تعطي أمريكا شيئاً بثمن، وبين أن تفتح لها خزائن بلدك بالكامل، وهي التي تمنّ عليك، وتقطر لك بالقطّارة.
٨. هل سننجو من نفوذ إيران؟ نعم، بالتأكيد، حين تشعر إيران أن العراق صار سوراً يمنع استهدافها من الغرب. ولن يكون ذلك السور إلا بعد أن يعود العراق قوياً. نحن لا علاقة لنا باختيارات الشعب الإيراني: هل يريد أن تبقى ولاية الفقيه أم لا؟ لكن يعنينا جداً أن يستقلّ العراق.
سيقال إنها أحلام.. نعم، لكن هل تولد الحقائق إلا من الأحلام؟
العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون