التعويل على المخيلة مصدراً لليقين!

إسماعيل طه شاهين

 السياسة هي هكذا، من يكون على رأس هرم السلطة ويمتلك النفوذ، هو من يقرّر مكانة غيره، ومسمّاه، والنعت الذي يجده مناسباً له، وما على الغير سوى الاختيار بين الصورة التي يرسمها لنفسه، والصورة التي يقرّرها الحاكم ويرتضيها له.. في السياسة؛ التي أحاطت بنا من كل الجوانب، واقع الحال يشهد بأن القوة فوق كل اعتبار!

في حالة الكورد في (سوريا)، يظهر وکأنهم – فرادی وجماعات – اختاروا حالياً موقف المتفرّج لكل من يعادي سلطة (دمشق)، التي هي الأخرى لا تبدي سياسة واضحة إزاء مطالب الكورد، وتحاول – من خلال هذا التريث – كسب الوقت ربّما..

على ما يبدو إن لم يغيّر الطرفان من موقفهم هذا، فهم – على حد سواء – سيدفعون من راحتهم ما يقضّ مضجعهم، إنْ عاجلاً أو آجلاً..

الانجرار – من باب المعاداة – خلف كل ناعق، وإنْ كان متحسـّراً على النظام السابق ربّما، سيكلّف الكورد خسـراناً في قابل الأيام، لكونهم يتعاملون مع السياسة الدولية بمنطق لا يوازي تسارع الأحداث. وتريّث الحكومة السورية الحالية، وعدم تعجيلها بأخذ ما يلزم ويصبّ في مصلحة الداخل السوري غير المستقر، سيكلّفها الكثير من الصداع والصـراع السياسي.

المطلوب من الكورد في الظروف الحالية – خصوصاً بعد أن حشـرت تركيا أنفها في كل مفاصل الدولة السورية كداعم، وجعلت من نفسها بمثابة الوصي – أن يحترفوا اللعبة السياسة، بدلاً من احتراف المعارضة؛ وهم في كل الأحوال لن يخسـروا سوى قيودهم السابقة، التي كانت تستكثر عليهم منح الجنسية السورية والمواطنة من الدرجة الأولى.. وعلى الحكومة السورية عدم العول على ما مضـى بحقّ الكورد، فواقع المنطقة في تغيّر متسارع، وورقة الكورد الحالية تختلف عن سابقتها في ظلّ الأنظمة المتعاقبة على حكم سوريا.

في إطار السياسة، نحن مرغمون أحياناً أن نقول لزوج أرملة والدنا: (بابا).. نعم، فالشـرع – كما تشهد الأحداث- براغماتيكي بامتياز، والكورد بالمقابل اختاروا الدوران في عجلة المناوئة والمعارضة؛ بدافع عواطفهم القومية، أو حتى الحزبية الضيقة – حسب ما أظن -، وهذا وحده لا يكفي عندما تكون (تركيا) – التي تستكثر على الكورد حكماً ذاتياً، أو فدرالية من نوع ما – لاعباً ذو نفوذ مشهود له في المنطقة.

لا يخفى على كل مراقب بأن (تركيا) لا تسمح – وفق حساباتها، ومقابل أيّ ثمن، مهما غلا – أن يكون للكورد في سوريا الغد دوراً يعكّر صفو حدودها المتاخمة لحدود الدولة السورية. نعم، فإن بإمكان قدرتها العسكرية الداعمة لسلطة حكومة سوريا الحالية، وبمقدورها – ربّما – وعن طريق نفَسَها الطويل كدولة ذات إمكانات هائلة، وبحكم قوتها العسكرية، ومكانتها الدولية، تضييق الخناق على الكورد، وخصوصاً بعد أن جاهر الرئيس الأمريكي (ترامب) في أكثر من مناسبة بأنه فخور ومعجب بشخصية أردوغان، الذي يعتلي قمة الهرم في تركيا. وهذا يعني بأن أردوغان ليس بالسهولة التي يصوّرها الفيسبوكيون الكورد، وليس باستطاعة شتائمهم وسبابهم النيل والانتقاص من قدراته العسكرية قيد شعرة!!

يجب أن نعي ككورد، بأن الواقع أقوى مما نتصوّر، وهو ليس بتلك البساطة والسطحية التي يصوّرها لنا الخيال، ونحن بدورنا جعلنا صورته تلك، التي رسمتها لنا مخيلتنا، مصدراً للثقة. جميعنا نرى ما فرضه الواقع على (حزب العمال)، بعد أن راجع مسيرته، وحلّ نفسه، استجابة لحكم الظروف التي لا ترحم الضعفاء، ووجد من الخير أن يغير استراتيجيته من النضال العسكري إلى النضال السياسي المدني. كل هذا بعد أن وجد بأن الزمن قد تجاوزه من ناحية الخطاب والعدة والعتاد، ولم يعد بإمكانه تحقيق تلك الأحلام الوردية التي صيغت من قبل شاعرية البروج العاجية.

هذا درس بليغ لكل الذين يستسهلون الوقوف بوجه سلطة دولة كتركيا، مدعومة عالمياً، بحجة الدفاع عن نفسها في وجه أيّ تهديد، ولها الحق في حماية حدودها المرسومة، والمعترف بها وفق المواثيق والمعاهدات الدولية، والمدججة في الوقت نفسه بأحدث الأسلحة العسكرية الحديثة، تلك المواثيق والمعاهدات التي تقلب دوماً للضعفاء ومهضومي الحقوق من ضحايا الظلم والاضطهاد، ظهر المجن.

شئنا أم أبينا، لقد تغيّرت الأحوال والظروف المحيطة بمن كانوا يعولون من قبل على الثورة وحرب الأنصار.. ما يلاحظ في عالم المسيرات (الدرونات)، وأنظمة الدفاع الذكية، والتقنية العسكرية المتقدمة، لم يعد بإمكان بندقية الثوري لوحدها تغيير المعادلة، بعيداً عن النضال المدني. فالظروف الدولية الحالية تستوجب أن يرافق فوهة البندقية نضال مدني يوازيه قوة وإمكانية، ويجبر – في الوقت نفسه – السلطة الحاكمة على الرضوخ للمطالب المشروعة تحت قبّة البرلمان، لا بسيف ميدان المعركة.

يشهد الله، قلت الكثير من باب قلبي على بني جلدتي، لا من باب المرافعة لصالح الشيطان، ومع ذلك أقرّ وأعترف بأني لست أكثر من مواطن كوردي بسيط، يرى الأمور بمنظاره الذي لا عهد له بالسياسة وخطوطها الملتوية والمتعرجة الدقيقة، وهذا ما يشفع له الكثير من الأخطاء التي لا تستبعد.. ولننتظر أهل الدار (الكورد في سوریا)، فهم أدرى بشعاب دارهم.

العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى