الأفكار تلد.. وتنجب النصر للأمة

بقلم: المهندسة هاوين أنور - بنت الكورد

إن الفكر الإسلامي عبر تاريخه كان ولا يزال الرافد الأهم لصناعة التغيير. وفي هذا المقال محاولة لرصد جدلية الفكر والعمل، وتسليط الضوء على أهمية النظريات المنبثقة من معاناة التجربة، في صياغة حاضـر الأمة، واستشـراف مستقبلها. أضعه بين يدي القارئ الكريم، راجية أن يكون لبنةً إضافية في بناء الوعي والعمل الصادق، لأولئك الذين يؤمنون أن للأفكار بناتًا يواصلن المسيرة، ويبعثن الأمل من رماد الألم.

 في هذا العالم الموبوء بالتسارع، والتغيّرات، والماراثون السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يظل الفكر الإسلامي أحد المصادر الحيوية التي تقدم للإنسانية حلولًا رشيدة. ويأخذ هذا الفكر في تطوّره، التجارب الماضية والتحديات المعاصـرة، بعين الاعتبار، مسلّطًا الضوء على أهمية التجديد، والاستفادة من الدروس المستخلصة من الأحداث التاريخية والحاضـرة، ممّا يسهم في بلورة استراتيجيات عملية تحقّق أهداف الأمة الإسلامية في مختلف المجالات.         

 إن نشـر المفاهيم التي ترتكز على أسس الصوابية المستمدة من ديننا الحنيف، يعدّ من الأمور الأساسية في مسيرة الفكر الإسلامي. فقد كان الإسلام – على مرّ العصور – مصدرًا رئيسيًا للتوجيه، وضمانًا للتفاعل الواعي مع تطوّرات الأحداث، ومع الواقع بكل جوانبه، والمستقبل، تهيئة لإمداده بكل عوامل القوّة ورواسخ البناء الحضاري.

 ومن هنا، تبرز ضـرورة رصد التجارب العملية، ومتابعة الدراسات الفكرية المهتمة بتحليل الحركات التاريخية، ومواكبة التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر في واقعنا المعاصـر.

 تتجلى أهمية النظريات الفكرية في كونها تفتح الطريق أمام العمل الجاد المبني على أسس متينة، فالنجاح لا يتحقق دون تفاعل حيّ بين النظريات وتجارب الواقع. فالعمل الدعوي والجهادي – على سبيل المثال – يعتمد على اجتهاد فكري رصين مرتكز على أصوله الشـرعية، واستنباط واعٍ لمناهج المواجهة والتغيير في ظل الوقائع المتشابكة. ولولا هذه الرؤى المستنيرة، لوقعنا في فوضى العمل وضياع البوصلة. ولا شك أن كل تجربة عملية تحمل في طيّاتها دروسًا وعبرًا غنيّة وكنوزَ معرفة يجب استثمارها، إذ إن المضـيّ قدمًا في طريق الإصلاح والتغيير لا يكون إلا بتصحيح المسار في ضوء التجربة والتاريخ، وتبنّي الاستراتيجيات الفاعلة التي تدفع بنا نحو المستقبل بخطى واثقة.

إن النظريات الصادقة ليست مجرد أفكار نظرية، بل خارطة طريق حيّة، تنبع من فهم عميق لمفاهيم الدين، واستيعاب دقيق للواقع.

لقد علّمنا تاريخنا الإسلامي أن الاستمرار في تجديد الفكر، وتطوير الأساليب والوسائل، أمر جوهري؛ فكل مرحلة من مراحل الأمة تقتضـي منّا أن نكون أكثر مرونة وابتكارًا في التعامل مع المتغيّرات المتسارعة، وإلا تفاقمت الخسائر، وتراكمت الخيبات. إن استنباط التكتيكات الحديثة التي تتواءم مع المستجدات الطارئة، يمثّل حبل النجاة للحركات الفكرية والإصلاحية، ويضمن لها الاستمرار والعطاء في زمن المتغيّرات المزلزلة.

ومع ذلك، ينبغي أن ندرك أن النجاح في تحقيق الرؤى الفكرية ليس أمرًا مضمونًا دائمًا، فكم من فكر سامٍ اصطدم بواقع قاسٍ، وكم من مشـروع إصلاحي أعاقته تحديّات الواقع السياسي أو الاجتماعي، فخلقت فجوةً بين النظرية وبين التطبيق. لكن رغم هذه الصعوبات، يظل الأمل حاضرًا، ويظل الإصرار على التعلّم والتطوّر والإبداع واجبًا، لا يسقط مع قسوة الظروف. إن من يقتدي بالمجاهدين الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الله، منهم من يُعدّ قدوة في الفكر والعمل معًا؛ وبالطبع فإنه لا يُطلب من كل فرد أن يكون نموذجًا مكتمل الأركان، بل يكفي أن يحمل كل واحد منّا قبسًا من ذلك النور المبارك، ويؤدّي مهمته بإخلاص وجدية.

المهم أن نستمر في العمل والتطوير، وألا نركن إلى العجز أو الاستسلام. إنه واجبنا أن نسدّ الثغرات، كما سدّ الصدّيق – رضي الله عنه – أجحرة الغار بنفسه ليحمي نبيّنا محمدًا – عليه الصلاة والسلام -، ولو كلفه ذلك الألم والمعاناة. هكذا يجب أن نعالج الفجوات والأخطاء، رغم المشقة والمعاناة، بين فكر ينير القلوب ومفاصل الطرق، وعمل دؤوب لا يعرف الكلل أو الملل. وكلٌّ ميسر لما خُلق له.

*     *     *

الفكرةُ ابنةُ الألم، كما قال (نيتشه)، ولكنها عندنا نحن المسلمين هي؛ ابنةُ الإيمان أيضًا، وربيبَةُ الوجدان، ورفيقةُ الطريق في ميدان الصـراع الطويل.. ولأنها كذلك، فإنها تَلدُ، وتُرضِع، وتُربّي… وتُمجّد أحيانًا، وتُصلب أحيانًا أخرى.

في عالمٍ مأزوم، محكومٍ بصـراعاتٍ وجودية، لا مكان فيه للعابرين، تظلُّ الكلمة فكرةً أولى، تُشعل حبرًا، أو تُوقد نارًا.

ولأن الكلمة وُلدت قبل الرصاصة، ثم رافقتها، فلا تزال سلاحًا يهابُه العدوّ، وتضيق به صدور المتربصين، ويُقصـى صاحبُها من مداراتهم، لأن الفكرة في أصلها تمثّلُ مشـروعًا، والمشـروعُ حلمٌ يسير نحو الواقع.

ومن رحم الفكر الحرّ، تتولّد الكلمات؛ لا كأبجدياتٍ مكرورة، بل كنبضٍ حارّ يُشبه البيان الأول للثورة..

فما كتبه سيد قطب مثلًا، لم يكن (خواطر سجين)، بل (مشـروع يقظة) أرعبَ الكهنة والطغاة، لأنه يحمل فكرًا حقيقيًا يُحرّك القلوب والعقول.

وقد لخّص الشهيد سيد قطب تلك الحقيقة العميقة بقوله:

“كلماتُنا ستبقى ميتةً لا حراكَ فيها، هامدةً، أعراسًا من الشموع، فإذا متنا من أجلها، انتفضت وعاشت بين الأحياء. كلُّ كلمةٍ قد عاشت، كانت قد اقتاتت قلب إنسانٍ حيّ، فعاشت بين الأحياء. والأحياء لا يتبنون الأموات.”

هكذا تُولد الكلمات من حرارة الفكرة وصدق العقيدة، وتُبعث من دماء أهلها، لا من محابر الترف والزيف.

ولأن الأفكار الحقيقية لا تموت.. فإنها تتناسل.

يتحوّل النصُّ من لحظة تجلٍّ فردية إلى قضية أمّة، ومن موقف وجداني إلى قناعة عقلية، ثم خطة تغيير.

ولذلك لا نستهين أبدًا بما تكتبه القلوب إذا خلصت، ولا ما تهتف به الضمائر إذا صحّت، فالكلمات الحيّة لا تبقى في الرفوف، بل تذهب إلى الميادين، تلبس درعها وتمضـي مجاهدة حتى الشهادة أو النصر المبين.

كم من فكرةٍ وُلدت في عقل امرأةٍ تؤمن، فأنجبت جيلًا من الأحرار؟

كم من مقالةٍ كُتبت تحت قصف القنابل، فتحوّلت إلى شعار ثوري، ثم إلى عنوان مرحلة؟

إننا أحيانًا لا نكتب لنعبّر، بل نكتب لنُجنّد، لنُحفّز، لنُنير..

نكتب كما يُقاتل المجاهد، لا فرق بين بندقيةٍ نظيفة وقلمٍ نظيف، فكلتاهما تحمل نداء الحقّ، وتشقّ جدار العتمة عن وجود الإنسان.

ولهذا.. ليست الفكرة فقط بنت العقل، بل بنت المعاناة.

من لم يذق ألم الأمّة، ومن لم يكتوِ بجراح (فلسطين)، ومن لم يَخنقه الغاز في (حلب)، أو يُرْعبُه الـدفنُ تحت الأنقاض في (غزة).. من لم يدقّ قلبه لرؤية أمّ شهيدٍ تُقبّل رأس ابنها المُقطّع وتقول (الحمد لله)، فلن يفهم لماذا نكتب، ولماذا نتعب، ولماذا نُصـرّ على ألّا نُباع ولا نُشترى؟!

إنها أفكارٌ خُلقت من دماء، ونمت من دموع، وصيغت من براكين الروح، لا من زخارف البلاغة.

وفي ممالك الأحرار، لا تُصنع القلاع بالحجارة، بل تُبنى بالأفكار.

فكل فكرةٍ نزيهة، نابعةٍ من وعيٍ حرّ، ووجدانٍ مؤمن.. هي جنديٌّ في معركة التحرير، وحجرُ زاويةٍ في مشروع النهضة.

وإن كنا نُريد للأمّة فجرًا، فلنبدأ من حيث تولد الفكرة: من عمق الألم، من صدق الإيمان، ومن شجاعة السؤال.

وفي هذا العالم الموبوء بالتسارع والتحوّلات، حيث تختلط المفاهيم، وتتصارع الاتجاهات، وتتلاحق الأزمات في ماراثون سياسي واقتصادي واجتماعي، يظلّ الفكر الإسلامي بمثابة البوصلة التي تُعيد الإنسان إلى نقطة الوعي، وتُقوِّم سلوكه، وتُرشِّد حركته في دروب الحياة.

إنه فكر لا يولـد في فراغ، بل تَتتالى بناته على مرّ العصور؛ تولد الفكرة، ثم تنجب فكرةً أخرى، فتتوالى الولادات من رحم المعاناة والتأمّل والقراءة العميقة للواقع، متكئةً على إرثٍ إيماني متين، ومستندة إلى التوجيه الرباني، لا إلى شطط الهوى، ولا غواية الفلسفات المنحرفة.

الفكر الإسلامي المتجدد ليس تنظيرًا جامدًا، بل هو طاقة حية، تدمج التجربة بالاجتهاد، وتُفعّل النص في ساحات الواقع، دون أن تنزلق إلى براثن التسييس أو التميّع أو التحجّر.

هو فكر يقرأ الأحداث من خلال عدسة الوحي، ويُشخّص العلل بمبضع العقل الراشد، ويُقترح الحلول بروح المسؤولية وأدب التوكل.

لقد أنجبت التجارب الدعوية والجهادية عبر القرون بنات فكر هي سيّدة الأفكار، سدّدت العمل، ووجّهت الحراك، ومنعت التشتت.. فكرٌ أثمر حركات تجديدية، ومشاريع نهضوية، ومقاومات حرّة لم ترضَ بالهوان.

ولم تكن هذه الإنجازات لتتحقق لولا عقول أبت أن تتعطل، وقلوب امتلأت بحبّ الله، ونفوس تجرّدت للهداية، وأرواح قدّمت أغلى ما تملك؛ حتى صارت تسكن المعتقلات، وتقاوم في ساحات الوغى، وتكتب تحت ظلال السجون والدموع.

كلُّ فكرةٍ صادقة لا بد أن تمرّ بمخاضٍ عسير، تمامًا كمولودٍ جديد، تتعرض فيه لصـراعات الواقع، وتقلبات السياسة، ولضغوط المجتمعات الغافلة أو المقهورة. لكن الصدق والإخلاص والربانية، يجعلها تصمد وتثمر وتلهم.

فهل نتصوّر اليوم عملًا دعويًا جادًا، بلا فكر ناضج يقوده؟

القيادة الحقيقية في ميادين الإصلاح والدعوة والجهاد لا تُبنى بالمصادفة، بل تولد من رحم التربية، وتتغذّى من بحور العلم الشـرعي، ومن فقه الواقع، ومن إدراكٍ عميق لسنن الله في التاريخ والمجتمعات.

الداعية المجاهد ليس من يُلقي الخطب فحسب، بل من ينام على وسائد كتبه، ويهجر فراشه الوثير ليصحو قبل الفجر على ضجيج رؤاه وهموم أمّته.

من يُدير اللقاءات مع العوام بجاذبية الإخلاص، فيحيلها إلى رحلات في ذات الإنسان الباحث عن الحقيقة، ويصنع التغيير باللين والعلم والصبر والشفقة، هو القائد الذي يتحرّك بتواضع في الأسواق، ويقاتل في الثغور، ويصبر في الزنازين، ويضـيء القلوب بمعاني القرآن والسنة.

*     *     *

الفكر القائد، حين يتحول إلى مشـروعٍ حيّ، يصبح هو الفارق بين الحياة والانقراض، بين الخلود والزوال.

فلا يُمكن لأمّة أن ترتقي دون إبداعٍ فكريّ يقود النهضة، ولا نهضة بدون خيال خلّاق، يتجاوز الحواجز، ويبدع حلولًا غير مألوفة.

ومن يُغلق عقله أمام الخيال المنتج، ويرضى بعقله عبدًا للإعلام الكاذب، يَبقَ في مؤخرة الأمم..

فيا لها من معادلة مستحيلة: شعوبٌ تمجّد الماضي لكنها تجمد فيه، تُحبّ المجاهدين وتخذلهم، تُعجب بالتضحيات لكنها لا تصنعها، تتغنّى بالحق ولكن تصمت في حضـرة الظلم.

إننا في خضمّ معركة وجودية، لا مجرد نقاشات فكرية.

الإعلام العالمي اليوم – بِماله ِ وسحره وتقنياته – لم يترك مجالًا للتفكير الحر.

لقد جعل الإنسان أشبه بكائنٍ متقافزٍ خلف رغيف، أو متسلّقٍ على سلمٍ مهترئ، حتى غدونا مسوخًا تتقافز على رؤية (موزة)، وتتعامى عن انتهاك المحارم، فلا تبالي.

إنّها (صناعة القردة والخنازير) الحديثة، حين يتسلل الإعلام إلى وجداننا، لا ليوقظ وعينا، بل ليصنع لنا وعيًا مزيفًا.

وما لم نَعُدْ إلى منابع القرآن ونواضر السيرة، ونضبط الفكر بميزان الوحي، ونترك هراء الإعلام – إلا ما كان فيه ما يحيينا – فإننا لن نخرج من تيه الانبهار والارتباك والعدمية.

إن الإسلام لا تنقصه مفاهيم الحرية، بل هو الذي خلقنا أحرارًا، وشـرع لنا منهجًا يُحكّم الله فينا، كي نبقى أعزاء لا أتباعًا لنزوات البشر.

أما الفكر الوضعي، فهو الذي يُنتج الاستعباد الحديث. وهل بعد قول الله: [أأنتم أعلم أم الله]، من قول؟!

نحن بحاجة إلى فكرٍ يعيد ترتيب الأولويات، يفضح الإعلام المضلّل، ويعرّي مشاريع التغريب، ويُحسن فهم السنن الكونية والتاريخية، ويوقظ طاقات الأمّة من سباتها.

نحتاج إلى فكرٍ يعيد سلطة الحق إلى مقامها، ويُصلح الإنسان، قبل أن ينهار البنيان.

فكرٌ لا يُنتج المواعظ فحسب، بل يهب الحياة.

إن الفكرة التي لا تُنجِب فعلًا، تموت.

وإن الأمّة التي لا تُنجب بنات فكر متجدّد، تذوي وتموت أيضًا.

فلنكن نحن من يلد هذا الفكر.

ولنكن بناته العاملات، لا العاطلات..

العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى