نصائح ابن الجوزي للعالم والمتعلم (صيدي من صيد الخاطر) (2)

د. دحام إبراهيم الهسنياني

المثابرة على طلب العلم بجدّ:

تميّزت طفولة ابن الجوزي – رحمه الله – بجده واجتهاده في تحصيل العلم، مع ما وهبه الله تعالى من حبّ للعلم، وما توافر له من أسبابه. كما عرف عنه فضل الله عليه بتحبيبه العلم منذ صغره، فنمَّى هذه النعمة وصقلها بالقراءة والاطلاع.

يقول رحمه الله: “فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطّلاع على الكتب التي قد تخلّفت من المصنّفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم، وعلوّ هممهم، ما يشحذ خاطره، ويحرّك عزيمته للجدّ. وما يخلو كتاب من فائدة.

وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همّة عالية، فيقتدي بها المبتدي، ولا صاحب ورع، فيستفيد منه الزاهد.

فاللهَ اللهَ، وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم، وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال:

فاتني أن أرى الديار بطرفي                    فلعلّي أرى الديار بسمعي

وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأنّي وقعت على كنز.

ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية([1])، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلّد.. وكتب أبي محمد بن محمد بن الخشاب([2]) وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه.

ولو قلت: إني طالعت عشـرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصـرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب”([3]).

حقيقة زهد العلماء:

إذا تأمّلت حال العلماء المخلصين.. تجد أنّهم متحابّون في الله I، متناصحون فيما بينهم، متواصلون، يثني بعضهم على بعض، ولا يرى أحدهم على غيره فضلاً، يُقيل بعضهم عثرة بعض، ويدعون بالخير فيما بينهم، لا يتحاسدون، ولا يتباغضون، ولا يتدابرون، بل إخوان. لذا أعطى عمر بن الخطاب t الأخوّة قدرها، وأوصى بها، فإذا به يقول: (إذا رزقكم الله U مودّة امرئ مسلم، فتشبَّثوا بها)، فكان t يذكر الرجل من إخوانه بالليل، فيقول: (يا طولها من ليلة)، فإذا صلّى المكتوبة غدا إليه، فإذا التقيا عانقه. وكان عبد الله بن مسعود t إذا خرج إلى أصحابه قال: (أنتم جلاء حزني). وورث جيل التابعين هذه التركة الثمينة، وذاقوا طعمها، فعدَّها الحسن البصـري من حلاوة العيش، ولم يرها في مطعم شهيّ، أو مرقد دفيّ. قال رحمه الله: (لم يبق من العيش إلاّ ثلاث: أخ لك تصيب من عشرته خيراً، فإن زغت عن الطريق قوَّمك، وكفاف من عيش ليس لأحد عليك فيه تبعة، وصلاة في جُمَع، تُكفى سهوها، وتستوجب أجرها).

وفي هذا يقول ابن الجوزي البغدادي: “تأمّلت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأه من حبّ الدنيا، فإن علماء الآخرة يتوادّون ولا يتحاسدون، كما قال الله تعالى: )وَلاَ يَجدُون في صُدُورِهِمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا( (الحشر: 9). وقال تعالى: )والّذِيْنَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فيِ قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمنُوا( (الحشر: 10). وقد كان أبو الدرداء: يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه.

وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: (أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر).

والأمر الفارق بين الفئتين: أن علماء الدنيا، ينظرون إلى الرياسة فيها، ويحبّون كثرة الجمع والثناء. وعلماء الآخرة، بمعزل من إيثار ذلك، وقد كانوا يتخوّفونه، ويرحمون من بلي به.

وكان النخعي: لا يستند إلى سارية. وقال علقمة: أكره أن يوطأ عقبي. وكان بعضهم: إذا جلس إليه أكثر من أربعة، قام عنهم. وكانوا يتدافعون الفتوى، ويحبّون الخمول، مثَلُ القوم، كمثل راكب البحر، وقد خبّ، فعنده شغل إلى أن يوقن بالنجاة.

وإنما كان بعضهم يدعو لبعض، ويستفيد منه، لأنهم ركب تصاحبوا فتوادّوا، فالأيام والليالي مراحلهم إلى سفر الجنّة”([4]).

من يرد الله به خيراً، يفقّهه في الدين:

إن ثمرة الفقه التي يقصدها ابن الجوزي البغدادي هي: حصيلة أو مجموع الأحكام الشـرعية التي يحتاجها المسلم في حياته العامة والخاصة، بعد أن جعل أصله الفهم الصحيح لعلم العقيدة.

يقول رحمه الله: “أعظم دليل على فضيلة الشـيء النظر إلى ثمرته. ومن تأمّل ثمرة الفقه، علم أنه أفضل العلوم. فإن أرباب المذاهب فاقوا على الخلائق أبداً، وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أو باللغة. واعتبر هذا بأهل زماننا، فإنّك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة، فيستغني، ويعرف حكم الله في الحوادث، ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء.

وكم رأينا مبرّزاً في علم القرآن، أو في الحديث، أو في التفسير، أو في اللغة، لا يعرف -مع الشيخوخة – معظم أحكام الشـرع، وربّما جهل عمل ما ينويه في صلاته. على أنه ينبغي للفقيه ألاّ يكون أجنبيّاً عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهاً، بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفّر على الفقه، فإنه عزّ الدنيا والآخرة”([5]).

المنهج التعليمي الإلزامي:

لم يحدّد ابن الجوزي السنّ المناسبة لبداية تعليم هذا المنهج، ولكنه ذكر أن أوّل ما ينبغي تعليمه للطفل هو حفظ القرآن الكريم، ولا يقصد أن يحفظ القرآن كلّه، لأنّه يدرك تمامًا أن قدرات الطفل لا تسمح بذلك، وإنما يتمّ حفظه على أجزاء. وقد حثّ ابن الجوزي على حفظ القرآن الكريم، لأن الطفل لديه القدرة على الحفظ الذي يثبت في ذاكرته، ومع حفظ القرآن الكريم، لا بدّ من فهم معانيه، وتفسير آياته، بما يتناسب مع نمو الطفل، ودرجة إدراكه واستيعابه هذه المعاني. ومن خلال الحفظ والتفسير، يرسخ في عقله وقلبه، ويختلط باللحم والدم، الذي يدعو للتطبيق الواعي.

يقول رحمه الله: “وأوّل ما ينبغي أن يكلّف: حفظُ القرآن متقناً، فإنه يثبت، ويختلط باللحم والدم… فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً، لا يخفى عليه بذلك منه شيء. وإن صحّ له قراءة القراءات السبعة، وأشياء من النحو وكتب اللغة. وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل؛ كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث؛ كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك”([6]).

المقومات الروحية للعالم:

تعلّم العلم من أجل القربات، وأفضل الطاعات، فيجب على الإنسان أن يخلصه لله، وأن يخلص نيّته لله في طلبه للعلم، ويقصد به وجه الله والدار الآخرة؛ فيتعلّم العلم من أجل أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره، من أجل أن يعبد الله على بصيرة، يتعلّمه طاعة لله، وابتغاء مرضاته، وتعبّداً له؛ لأن تعلّم العلم من أفضل القربات، وأجلّ الطاعات.

وفي هذا يقول ابن الجوزي البغدادي – رحمه الله -: “العالم لا بدّ أن يخلص في علمه، ونشـر تعليمه لوجه الله تعالى، حتى ينال الأجر والثواب، لقوله (صلى الله عليه وسلم) (من تعلّمَ علمًا ممّا يبتغى به وجهُ الله، لا يتعلّمهُ إلاّ ليصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرفَ الجنةِ يومَ القيامةِ)([7]).. هو [العالم] الذي يراعي حدود الله، وهي ما فرض عليه، وأُلزم به، والذي يحسن القصد، ويكون عمله وقوله خالصًا لله، ولا يريد به الخلق، ولا تعظيمهم له”([8]).

 موقف العالم من جمع المال:

إذا طالعتَ كتابَ (سِيَر أعلام النبلاء) – على سبيل المثال -، وتفرّست أحوال العلماء التجار المترجَمين فيه؛ فلا بد أن تستوقفك مئات المعلومات والأخبار العجيبة عن مشاهير من أهل المعرفة جمعوا بين العلم والتجارة، وهي ليست تجارة محدودة للتكفّف عن السؤال، بل تجارات هائلة الحجم تتوخّى توليد أرباح عظيمة.. فأحد هؤلاء العلماء “لم يكن في الدنيا أيسـر منه من التجّار”! وعندما توفي خلّف ثلاثمئة ألف دينار. وفي كتاب (الأنساب) للسمعاني ترجماتٌ لمئات العلماء المنسوبين إلى مِهَنِهم وصنائعهم، وإفادةٌ بوجود من صنّف مبكراً خلال القرن الثالث الهجري في سِيَر العلماء العاملين في هذه المهن. وفي كتاب (الصُّنّاع من الفقهاء والمحدِّثين) للهروي، أورد فيه من العلماء الذين تعاطوا تجارة العطور وحدها، جماعة كثيرة قريباً من خمسين نفْساً.

يقول ابن الجوزي في ذلك: “ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضُمّ إلى العلم، حِيز الكمال. وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بدّ منه. وقلّ الصبر، فدخلوا مداخل شانتهم، وإنْ تأوّلوا فيها، إلاّ أن غيرها كان أحسن لهم.

ينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب، ليفضل على غيره، ولا يفضل غيره عليه. وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم”([9]).

مقوّمات الإفتاء:

من مقوّمات الإفتاء عند ابن الجوزي اجتناب الفتوى دون علم، فعلى العالم أن يتأكّد من صحة معلوماته ودقّتها قبل أن يفتي، وإذا لم يعرف الإجابة، فعليه أن يقول: لا أدري، حتّى يتأكّد من الإجابة، لأن هذا أسلم من الوقوع في وزر الفتوى.

يقول رحمه الله: “إذا صحّ قصد العالم، استراح من كلف التكلّف، فإن كثيرًا من العلماء يأنفون من قول لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس، لئلا يقال: جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين ممّا قالوا، وهذا نهاية الخذلان.. ثم يُقدم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها، وقد كان السلف يتدافعونها”([10]).

تخصيص طالب العلم وقتاً للكسب:

يرى ابن الجوزي أن انشغال طالب العلم بتحصيل العلم، ينبغي ألا ينسيه كسب معيشته ورزق أهله، حتى لا يعرّضهم للسؤال. ولنا وقفة في نصيحة ابن الجوزي لطالب العلم بالاكتساب؛ فإنه لم يوص الحُكّام والأغنياء بتخصيص منح دراسية لطلاب العلم، بدلًا من الاشتغال بالكسب الذي يكون على حساب طلب العلم وتقدّم العلوم. ولعلّه لم يوص الحكّام والأغنياء بذلك، حتّى لا يعتمد عليهم طالب العلم في معيشته، فيفتن بالدنيا وزينتها، بحجّة طلب العلم. لذلك يقول ابن الجوزي: “فعليك – يا طالب العلم – بالاجتهاد في جمع المال، للغنى عن الناس، فإنه يجمع لـك دينك… فما رأينا في الأغلب منافقًا في التديّن والتزهّد والتخشّع، ولا آفة طرأت على عالم، إلاّ بحبّ الدنيا، وغالـب ذلك الفقر. فإن كان له مال يكفيه، ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل الشـره، خارج عن حيِّز العلماء.. وينبغي له بالتلطّف أن يجعل جزءًا من زمانه مصـروفًا إلى توفير الاكتساب والتجارة، مستنيبًا فيها، غير مباشر لها، مع التدبير في العيش الممتنع من الإسراف والتبذير”([11]).

 الإلمام من كل علم بطرف:

وحتى يكون الفقيه متمكّنًا من علمه، يجب أن تكون لديه القدرة على الفهم الدقيق، ثم الاستنباط، ثم الترجيح، ولا بدّ أن يتزوّد من بعض العلوم بالقدر الذي يحتاجه ويساعده في التمكّن من علمه. فعبارة ابن الجوزي البغدادي “جميع العلوم”، تدلّ على جميع العلوم الموجودة في عصـره، والتي يحتاجها الفقيه في التمكّن من علمه.. يقول رحمه الله: “الشاب المبتدئ في طلب العلم، ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفًا، ويجعل علم الفقه الأهمّ، ولا يقصـر في معرفة النقل، فبه تبين سير الكاملين. وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو، فقد شُحذت شفرة لسانه على أجود مسنِّ.

وقد علم قصـر العمر وكثرة العلم، فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا لا يخفى عليه بذلك منه شيء، وإن صحّ له قراءة القراءات السبعة، وأشياء من النحو وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث، من حيث النقل؛ كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث؛ كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك… ولينظر في التواريخ، ليعرف ما لا يستغنى عنه؛ كنسب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأقاربه، وأزواجه، وما جرى له. ثم ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانّه؛ كتفسير آية، وحديث، وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.

ويكفيه من النظر في الأصول([12]) ما يستدلّ به على وجود الصانع، فإذا أثبته بالدليل، وعرف ما يجوز عليه ممّا لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل، وعلم وجوب القبول منهم؛ فقد احتوى على المقصود من علم الأصول.

فإن اتّسع الزمان للتزيد من العلم، فليكن من الفقه، فإنه الأنفع.

وللفقيه أن يطالع من كل فنّ طرفًا؛ من تاريخ، وحديث، ولغة، وغير ذلك، فإن الفقيه يحتاج إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهماً”([13]).

مزج كل علم بالرقائق، يحقّق السكينة الإيمانية:

وحتّى يحصل المتعلّم على فائدة العلم، ومتعة النفس، التي تدفعه للعمل بما تعلّم، لا بدّ من الإلمام بالرقائق، والاقتداء بالصالحين في سلوكهم، حتّى يمزج العلم المجرّد المقتصـر على الأحكام، بالرقائق، والأحاديث التي تخاطب العاطفة والوجدان، فتنفعل بها النفس البشرية، وتحفزّها للعمل بها.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: “رأيت الاشتغال بالفقه، وسماع الحديث، لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلاّ أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين. فأمّا مجرد العلم بالحلال والحرام، فليس له كبير عمل في رقّة القلب؛ وإنما ترقّ القلوب بذكر رقائق الأحاديث، وأخبار السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها.

وما أخبرتك بهذا إلاّ بعد معالجة وذوق، لأني وجدت جمهور المحدّثين، وطلاب الحديث، همّة أحدهم في الحديث العالي، وتكثير الأجزاء. وجمهور الفقهاء في علوم الجدل، وما يغالب به الخصم. وكيف يرقّ القلب مع هذه الأشياء؟.

وقد كان جماعة من السلف يقصدون البعد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه: هديه، وسمته.

فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا، ليكون سبباً لرقّة قلبك”([14]).

كيف يخطّط العالم مراحل حياته:

ولم يكتفِ ابن الجوزي بكتابة هذه الرسالة التربوية، بل حثّ على أهميّة التأليف، ودوره في توجيه المتعلّمين. وليس معنى هذا أن جميع الناس مدعوون للكتابة والتأليف، بل من تتوافر فيه صفات خاصة، حتّى يفيد بعلمه الناس.. يقول رحمه الله: “رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة. لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلّمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصـى ما خلقوا بعد. ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين، أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم. فينبغي للعالم أن يتوفّر على التصانيف، إنْ وفّق للتصنيف المفيد، فإنه ليس كل من صنّف صنّف.

وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يطلع الله عليها من شاء من عباده، ويوفّقه لكشفها، فيجمع ما فرّق، أو يرتّب ما شتّت، أو يشـرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد.

وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر، لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره كلال([15]) الحواس”([16]).

 قدرات الشيخ العقلية، التي ينبغي استغلالها في التصنيف والتعليم:

الذي يبدو من رأي ابن الجوزي البغدادي أنه وجّه الإنسان إلى كيفية اغتنام العمر في طلب العلم والاشتغال بالتأليف، لا سيّما إذا فاته ذلك في أوّل العمر. فإذا جاوز السبعين، جعل الغالـب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل. وهذا لا يعني ترك التزوّد، والاستعداد للرحيل، قبل هذه السن، لأن المؤمن يتهيّأ للرحيل في كل وقت، لأنه لا يعلم متى يحين أجله، ولكن زيادة الاستعداد في هذه السنّ أوجب.

يقول رحمه الله: “فأما إذا قلّت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أوّل عمره ضعيف الطلب، فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخّر التصانيف إلى تمام خمسين سنة. ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم، إلى رأس الستين، ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم، ويسمع الحديث، والعلم، ويعلّل التصانيف، إلى أن يقع مهمّ، إلى رأس السبعين. فإذا جاوز السبعين، جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيّؤ للرحيل. فيوفّر نفسه على نفسه إلاّ من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه، فذلك أشـرف العُدَد للآخرة، ولتكن همّته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك زلّاته، فإن اختُطف في خلال ما ذكرنا، فنيّة المؤمن خير من عمله. وإنْ بلغ إلى هذه المنازل، فقد بيّنا ما يصلح لكل منزل”([17]).

كل شخص شغله الله بفنّ:

يرى ابن الجوزي أن كل فرد في المجتمع لا بدّ أن يكون له دور، ولا بدّ أن يقوم بعمل يختلف به عن الآخرين، كي يعمل هذا المجتمع بطريقة متوازنة. وهذه هي نظرته – رحمه الله – حول توزيع الأعمال، حيث تنطلق الوظيفة من وجود نظام أو نسق يتكوّن من مجموعة من الأجزاء، يكون لكل جزء فيها وظيفة يؤدّيها من أجل بقاء واستمرار البناء الكلي.

يقول رحمه الله: “سبحان من شغل كل شخص بفنّ، لتنام العيون في الدنيا. فأمّا في العلوم، فحبّبَ إلى هذا القرآن، وإلى هذا الحديث، وإلى هذا النحو، إذ لولا ذلك، ما حفظت العلوم. وألهم هذا المتعيّش أن يكون خبّازًا، وهذا أن يكون هرّاسًا([18])، وهذا أن ينقل الشوك من الصحراء، وهذا أن ينقّي البثار، ليلتئم أمر الخلق. ولو ألهم أكثر الناس أن يكونوا خبّازين مثلًا، بات الخبز وهلك! أو هرّاسين، جفّت الهرايس! بل يلهم هذا وذاك بقدر، لينتظم أمر الدنيا وأمر الآخرة.

ويندر من الخلق من يلهمه الكمال، وطلب الأفضل، والجمع بين العلوم والأعمال، ومعاملات القلوب. وتتفاوت أرباب هذه الحالة”([19]).

مشارب أهل العلم:

وهنا لنا وقفة في تركيز ابن الجوزي على تعليم العلوم الإسلامية، واعتبارها الوحيدة المؤدّية لمرضاة الله I، مع أن جميع العلوم الأُخرى غير الدينية؛ كالفيزياء والهندسة وغيرها، تؤدّي إلى مرضاة الله تعالى، إذا نوى الإنسان ذلك. وبسبب هذا الفهم الخاطئ تعثّرت الأُمّة الإِسلامية. واعتمدت اعتمادًا كاملًا على الدول الغربية في معطيات الحضارة الحديثة، وأصبحت عاجزةً عن مواكبة هذه التقنية الحديثة، بسبب جهل أبنائها، وحصـر تعليمهم في العلوم الشـرعية فقط، وتنفيرهم من العلوم الدنيوية الأُخرى..

يقول رحمه الله: “قد ثبت بالدليل شـرف العلم وفضله، إلاّ أن طلّاب العلم افترقوا، فكل تدعوه نفسه إلى شيء. فمنهم من أذهب عمره في القراءات، وذاك تفريط في العلم، لأنّه إنّما ينبغي أن يعتمد على المشهور منها، لا على الشاذ. وما أقبح القارئ، يُسأل عن مسألة الفقه، وهو لا يدري. وليس ما شغله عن ذلك، إلاّ كثرة الطرق في روايات القراءات.

ومنهم من يتشاغل بالنحو وعلله فحسب، ومنهم من يتشاغل باللغة فحسب، ومنهم من يكتب الحديث، ويكثر، ولا ينظر في فهم ما كتب. وقد رأينا في مشايخنا المحدّثين من كان يُسأل عن مسألة في الصلاة، فلا يدري ما يقول. وكذلك القرّاء، وكذلك أهل اللغة والنحو.

وإنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً، ثم يهتم بالفقه. ثم ينظر في مقصود العلوم، وهو المعاملة لله تعالى، والمعرفة به، والحبّ له.

وينبغي لطالب العلم أن يصحّح قصده، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال. وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب، فلا يخلو كتاب من فائدة. وليجعل همّته للحفظ، ولا ينظر ولا يكتب إلاّ وقت التعب من الحفظ.          وليحذر صحبة السلطان، ولينظر في منهاج الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والصحابة، والتابعين، وليجتهد في رياضة نفسه، والعمل بعلمه، ومن تولّاه الحق وفقه”([20]).

ما أجمل هذه النصائح من ابن الجوزي – رحمه الله -، فإن مجالس العلماء والمؤمنين لم تعرف إلاّ زيادة الإيمان لها هدفاً، وكان ابن رواحة يأخذ بيد أبي الدرداء، رضي الله عنهما، ويقول: (تعال نؤمن ساعة)، فيتذاكران أمر الإيمان، ويتعرّفان على مسالك التوبة، ويتآمران بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. وكان عمر بن عبد العزيز يأمر أبا بكر بن عمرو بن حزم – رحمهما الله – بالجلوس للتعليم، ويقول له: (ولتجلسوا، حتّى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سـرًّا). وجعل أحمد بن أبي الحواري الدمشقي المجالسة دواء قسوة القلب، فقال: (إذا رأيت من قلبك قسوة، فجالس الذاكرين، وأصحب الزاهدين). فمجالس المؤمن عزيزة، ولا ينبغي أن يجلس إلا بنيّة أن يؤمن ساعة ثم يقوم، متداولاً آية أو حديثاً أو وصية حكيم من صالح المؤمنين، وليس من حقّه أن يميل بالجالسين معه إلى نقد اجتهادات قادته، بما يهاب أن يذكره لهم صـريحاً”([21]).

الهمّة العالية عند العالم:

طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة، بل إلى كل علم وصناعة ورئاسة، بحيث يكون رأساً في ذلك مقتدى به فيه، يحتاج أن يكون شجاعا ًمقداماً، حاكماً على وهمه، غير مقهور تحت سلطان تخيّله، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه، عاشقاً لما توجّه إليه، عارفاً بطريق الوصول إليه، والطرق القواطع عنه، مقدام الهمّة، ثابت الجأش، لا يثـنيه عن مطلوبه لوم لائم، ولا عذل عاذل، كثير السكون، دائم الفكر، غير مائل مع لذّة المدح، ولا ألم الذمّ، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته، لا تستـنفره المعارضات، شعاره الصبر، وراحته التعب. يقول ابن الجوزي رحمه الله: “كانت همم القدماء من العلماء عليّة، تدلّ عليها تصانيفهم، التي هي زبدة أعمارهم.ألا إن أكثر تصانيفهم دثرت، لأن همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصـرات، ولا ينشطون للمطولات.ثم اقتصـروا على ما يدرسون به من بعضها، فدثرت الكتب، ولم تنسخ”([22]). ماذا نقول إذاً في عصـرٍ قد اجتمع فيه إلى ضعفِ الهِمَم، وخَوَر العزائم، سَيْلٌ هادر من المُلْهِيات والمشغلات عن القراءة، بل عن العلم جملةً!


([1]) المدرسة الكبرى التي أنشأها الوزير نظام الملك الحسن بن علي الطوسي ببغداد، وبدأ التدريس فيها سنة “459هـ”.

([2]) عبد الله بن أحمد الخشاب (492-567هـ): الشَّيْخُ، الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، المُحَدِّثُ، إِمَامُ النَّحْوِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ أَحْمَدَ بنِ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ نَصْرٍ البَغْدَادِيُّ، ابْنُ الخَشَّابِ، مَنْ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ فِي العَرَبِيَّةِ، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّهُ بَلَغَ رُتْبَةَ أَبِي عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ.. قَالَ السَّمْعَانِيُّ: هُوَ شَابّ كَامِل فَاضِل، لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّة بِالأَدب وَاللُّغَة وَالنَّحْو وَالحَدِيْث، يَقْرَأُ الحَدِيْث قِرَاءة حَسَنَة صَحِيْحَة سـرِيعَة مَفْهُوْمَة، سَمِعَ الكَثِيْر، وَحصَّل الأُصُوْل مِنْ أَيِّ وَجهٍ، كَانَ يَضنُّ بِهَا. سَمِعْتُ بقِرَاءتِه كَثِيْراً، وَكَانَ يُدِيْم القِرَاءة طُول النَّهَارِ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ. (سير أعلام النبلاء: 20/528).

([3]) صيد الخاطر: 13.

([4]) صيد الخاطر: 31.

([5]) صيد الخاطر: 177.

([6]) صيد الخاطر: 184.

([7]) رواه أبو داود في (كتاب العلم) باب: في طلب العلم لغير الله I، رقم (3664)، وابن ماجه في (كتاب العلم) باب: الانتفاع بالعلم والعمل به، رقم (252)، والإمام أحمد في مسنده: 2/338، والحاكم في المستدرك في (كتاب العلم) باب: مذمة تعلّم علم الدين لغرض الدنيا: 1/85، وقال: هذا حديث صحيح سنده ثقات، رواته على شـرط الشيخين ولم يخرّجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص.

([8]) صيد الخاطر: 434.

([9]) صيد الخاطر: 174.

([10]) صيد الخاطر: 481.

([11]) صيد الخاطر: 190.

([12]) يريد علم أصول الدين، وهو التوحيد، لا علم أصول الفقه.

([13]) صيد الخاطر: 451.

([14]) صيد الخاطر: 229.

([15]) الكلال: التعب والوهن.

([16]) صيد الخاطر: 242.

([17]) صيد الخاطر: 242.

([18]) الهرّاس: صانع الهريسة. والهرس: أصلٌ صحيح يدلُّ على دَقٍّ وهَزْمٍ في الشَّيء. وهَرَسْت الشّيءَ: دقَقْتُه. ومنه الهَرِيسة. والمِهْراسُ: حجرٌ منقورٌ، لعلّهُ يُدَقُّ فيه الشيء، وربَّما كان مستطيلاً يُتوَضَّأُ منه. والهَرْس: الثَّوب الخَلَق، وهذا على معنى التَّشبيه، كأنّه قد هُرِس. والمَهارِيس: الإبلُ الشِّداد تَهرُسُ الشيءَ عند الأكل. والهَرِسُ: الأسدُ الشَّديد، كأنّه يَهرُسُ ما لَقِي. (لسان العرب: 6/46).

([19]) صيد الخاطر: 310.

([20]) صيد الخاطر: 323.

([21]) العوائق، محمد أحمد الراشد: 107

([22]) صيد الخاطر: 453.

العدد ١٩٢ ǀ صيف ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى