المرحلة الثالثة للجمهورية التركية، وحلُّ حزب العمال الكوردستاني
شوان زنكنة - خبير سياسي

أعلنَ حزبُ العمال الكوردستاني عن حلِّ نفسه، ونزعِ سلاحِه، قبل أيام؛ وتعليقًا على هذا الإعلان، صرّحَ (دولت باهجلي)؛ رئيس حزب الحركة القومية، تصريحًا بالغ الأهمية والحساسية، واصفًا المرحلةَ الحالية التي تمرُّ بها تركيا، ومستقبلَها، ومعتبرًا هذا الإعلان خطوة تاريخية ستتركُ آثارًا كبيرة، كما وتوجَّهَ بالشكر للرئيس أردوغان على تحويل هدف (تركيا بلا إرهاب)، إلى سياسة دولة.
ففي مَعرِضِ وصفهِ للمرحلة الحالية التي تمرُّ بها تركيا، ذكر (باهجلي) ما يلي: “نظامُ الحكم الرئاسي يمثّل المرحلةَ الثالثة للجمهورية، وحلُّ التنظيم الإرهابي هو أولُ أهداف القرن الجديد التي تحقّقت”.
يَعتبرُ (باهجلي)، في تصريحه هذا، أن النظام الرئاسي في تركيا، الذي جرى الاستفتاء عليه في نيسان 2017م، والذي تحقّقَ بعد انتخابات حزيران 2018م الرئاسية، هو رمزُ مرحلة الجمهورية الثالثة، وهذا يعني أن النظام الرئاسي، في منظوره، امتداد لمرحلتي الجمهورية الأولى والثانية.
فقد بدأت المرحلةُ الأولى للجمهورية مع الانقلاب العسكري الذي أطاح بعدنان مندرس في 27 أيار 1960م، من قبل مجموعة من القادة العسكريين أبرزهم (آلب أصلان توركيش)، الذي أذاعَ بيانَ الانقلاب، والذي أسّسَ فيما بعد حزبَ الحركة القومية، وقادَ التيارَ القومي التركي.
أما المرحلةُ الثانية للجمهورية، فقد بدأت عام 1991م، حينما ظهرت بوادرُ الدولة العميقة من خلال تَوغُّلِ العسكرِ داخل أركان الدولة وتَوسُّعِ نفوذه، والذي كان يقودُه التيارُ القومي التركي.
والمرحلةُ الحالية، الثالثةُ للجمهورية، تتَّصفُ بارتكاز رئاسة الجمهورية على الدولة العميقة، المُتمثِّلةِ بالتيار القومي التركي، وقائدِه (دولت باهجلي).
القاسمُ المشترك في المراحل الثلاثة هذه، هو وجودُ دولة قومية عميقة متناغِمة مع الغرب ومنسِّقة معه في داخل تركيا، وعموم الشرق الأوسط، وهو، في الوقت نفسه، العاملُ الأساسي في حلِّ المسألة الكوردية، وفق ما جرى ويجري من أحداثٍ في الشرق الأوسط، وبالأخص بعد أحداث (غزّة).. وقد أشارَ إلى ذلك (دولت باهجلي) حينما قال: “وحلُّ التنظيم الإرهابي هو أولُ أهداف القرن الجديد التي تحقّقت”، وهذه إشارة واضحة منه أنّ هدفَ الجمهورية الثالثة هو تحقيقُ التحالف الكوردي التركي، وقد تحقّقَ بالفعل.
تعاملَ (دولت باهجلي) مع عملية السلام التركي-الكوردي، بذهنية (رجل دولة)، وتحمّلَ مسؤوليتَها وفق متطلبات المرحلة الثالثة للجمهورية التركية، واعتبرَها خطوةً تاريخية لها آثارٌ كبيرة، ومِن ثَمَّ شكرَ الرئيسَ أردوغان على تحويل هدف (تركيا بلا إرهاب) إلى سياسة دولة، إذ كان أردوغان يتجنّبُ التعاطيَ الإيجابي مع مبادرة باهجلي للسلام، لأنه تعاملَ مع المسألة بمنظورٍ سياسي، فهو يخشى من مشاركة التيار السياسي الكوردي في سلطته مستقبلًا، وظهرَ وكأنّه على خلافٍ مع باهجلي في العملية السلمية، والحقيقةُ هي أنّ منطلقَ الرجلَينِ كان مختلفًا، ولم تكن هي الاختلاف في قناعتيهما، ويبدو أن أردوغان، وفي آخر اجتماع له مع دولت باهجلي في منزله، قبل أيام، قد رَضخَ لمتطلبات المرحلة الثالثة للجمهورية التركية، وتوافقَ مع أحداث الشرق الأوسط التي تتَّجهُ نحو بروز كيانٍ كوردي متحالِفٍ مع حكومة ائتلافية تركية تبسطُ نفوذَها على شمال العراق وشمال شرق سوريا.
ومن المُؤمَّل أنْ يُنفّذَ الرئيسُ أردوغان الخطواتِ الحكوميةَ التي تتطلّبها المرحلة القادمة، لإنجاح عملية السلام، سواء المتعلِّقة بالإجراءات الداخلية، أو بترتيبات التسوية والتفاهم مع القوى الفاعلة في المنطقة.
وكانت أمريكا قد خطَتِ الخطوةَ الأولى في عمليةِ نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني، والمباشرةِ بدعم السلام والنشاط السياسي الكوردي في تركيا، بعد أنْ قامت بتسليم (عبد الله أوجلان) إلى تركيا، في شباط عام 1999م، على أملِ بدءِ صفحةٍ جديدة في ظلّ المرحلة الثانية من الجمهورية.
ولأسبابٍ داخلية وخارجية، تأخّرتْ عمليةُ السلام حتى عام 2009م، إذ بدأتْ فيه محادثاتُ (أوسلو) للسلام بين قيادة حزب العمال الكوردستاني في أوروبا ومسؤولين أمنيين أتراك، ضمن حكومة أردوغان، التي كانت عمليةُ السلام هذه من أهم المهمات المُوكَلةِ إليها؛ ثم تعثّرتْ هذه العمليةُ عام 2015م، ولأسبابٍ داخلية وخارجية، إلّا أنّ الانقلابَ العسكري الذي قادتْه جماعةُ (فتح الله غولن)، وفَشلَهُ بجهودِ التيار القومي التركي، بالأخص، قد دفعَ أردوغان وحكومتُه إلى الوقوع في حضن التيار القومي التركي.
ومع تَحوُّلِ النظام البرلماني التركي إلى النظام الرئاسي، وترسيخِ التيار القومي التركي، بقيادة (دولت باهجلي) قواعدَ الدولة العميقة، وبدءِ المرحلة الثالثة للجمهورية التركية، تهيأت الأجواءُ لتصميم عمليةِ سلامٍ جديدة، يقودُها التيارُ القومي التركي، فتمّتْ صياغةُ عمليةِ سلامٍ جديدة، من خلال محادثاتٍ جرتْ منذ حوالي سنتين، بين (أوجلان) وقياداتِ حزب العمال الكوردستاني، من جهةٍ، والمؤسساتِ المعنية في حكومة أردوغان، من جهةٍ أخرى، وبجهود القوى الغربية الفاعلة في المنطقة، وتكلَّلت الصياغةُ ببشرى قرار حزب العمال الكوردستاني بحلِّ نفسه، ونزع سلاحه، وسيشهدُ العالم وضعًا جديداً في تركيا والشرق الأوسط، يناطُ فيه للكرد دورًا فاعلًا، في مستقبل كلٍّ من تركيا والعراق وسوريا وإسرائيل.
وستَتأَسَّسُ علاقةٌ كوردية تركية متينة، كما ذكرتُ وكتبتُ مراراً، ومنذ سنوات، وفقَ مقولةِ (دولت باهجلي) الأخيرة التي قال فيها: “الأتراك والأكراد كانوا وسيبقون دائماً معاً، ولا يمكن لأي خيانة داخلية أو خارجية أنْ تمسَّ وحدتَهم. اليوم انتصرَ السلامُ والأخوةُ”.