سياسة الرمال المتحركة والحافات الصلدة

المهندسة هاوين أنور (بنت الكورد)

في مقطع مرئي يحمل عنوان “كيفية الخروج من الرمال المتحركة”، يظهر شابٌ مولعٌ بالصحراء، يسلك دروب المغامرة، ويقع في فخ الرمال المتحركة. لم تكن محاولاته الأولى للخلاص ناجحة، إذ واجه الطين المتحرّك بعشوائية وجهل، وغاص أكثر، وكلما حاول النهوض عموديًا، زاد الخطر عليه، وازدادت الرمال ابتلاعاً له، وتحولت إلى شرك مرعب.

لكنه في لحظة وعي، غيّر استراتيجيته؛ استند إلى الحافة الصلبة المحيطة، ومدّ جسده أفقياً، موزّعًا ثقله، متجنبًا الحركات الفجائية، مسيطرًا على خوفه، مستثمرًا طاقته كلها في النجاة. هكذا خرج سالمًا، لأنّه عرف طبيعة الخطر، وأتقن فنّ التعامل معه.
هذا المشهد، رغم بساطته، يلخّص حالنا بدقة؛ فالرمال المتحرّكة ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل رمز صارخ لواقعنا السياسي والفكري والاجتماعي، تلك السياسات المتقلّبة، الهشّة، المهتزّة، هي رمالنا المعاصرة، التي تغرق فيها شعوبنا يومًا بعد يوم، دون وعي، دون تخطيط، ودون إدراك لحجم الخطر الذي يبتلعنا ببطء.
أمّتنا – التي فقدت التماسك الداخلي، وتقطّعت أوصالها بين مذاهب وأعراق وولاءات ضيقة – تشبه من يسير فوق رمال مهزوزة، لا تمتلك – بعدُ – مشروع نهوض حقيقي، ولا رؤية جامعة تتخطّى التفتيت المتعمّد الذي تمارسه أنظمة الاستلاب والتبعية. وما أكثر الذين يغرسون عصيّهم في دوالايب حركة هذه الأمّة، متهيّئين لتثبيت وجودهم أو انتزاع مكاسب، فإذا بهم يغرقون ويغرقون من حولهم، لأنهم لم يُحسنوا الفهم، ولم يُحسنوا التقدير.
في المقابل، يبرز الأمل من الحافات الصلبة، من الثوابت التي لم تهتز رغم العواصف. وهنا تشرق رمزية البيت المقدّس؛ إنه ليس مجرد موضع على خارطة، بل معلم الأمّة الأبدي، ومركز الثقل الروحي والسياسي والتاريخي الذي لم يفقد صلابته، ولم تنل من رمزيته محاولات التشويه، ولا حملات الطمس.
(القدس) ليست للفلسطينيين فقط، ولا حبّها مجرد عاطفة وطنية محلية، إنها أمانة إلهية، وقضية جامعة، تمثّل المعيار الفاصل بين أمّة حيّة وأخرى مستسلمة.. إننا لا نحبّ القدس لأنها أرض، بل لأنها وعد، وعهد، وميثاق، وجسر يصل الخلق بالخالق.
العصا التي يجب أن نستند إليها ليست أدوات سياسة متهالكة، ولا شعارات جوفاء، بل عصا العقيدة، والوحدة، والتضحية، والشهادة.. عصاً تعني أن نعيد توجيه البوصلة إلى حيث القضية الأمّ؛ قضية تحرير بيت المقدس، لا باعتبارها معركة حدود، بل باعتبارها معركة تحرير الإنسان من كل أصنام الطغيان؛ من طغيان الهوى، والأنانية، والمصلحة، إلى طغيان الأنظمة، والأحزاب، والولاءات الزائفة.
القدس ليست خيارًا من ضمن خيارات، بل قدر الأمّة، ومركز عزّتها، من أجلها تُبذل الأرواح، وتُسكب الدماء، ويُعاد ترتيب الأولويات، وتُستنهض الهمم، وتُوحّد الجهود.
وإذا أردنا حقًا أن نخرج من رمال الهزائم المتلاحقة، فعلينا أن نعيد بناء رؤيتنا الجمعية، وننطلق من حافّة صلبة واحدة، ناظرين إلى أفق الله، لا إلى عمق الحفرة.
إن تحرير بيت المقدس ليس هدفًا سياسيًا فحسب، بل فريضة وجودية، وكرامة إنسانية، ورسالة نهضوية شاملة. بها تستعيد الأمة هويتها، وتسترد مكانتها، وتؤدّي دورها في إحياء القيم في عالم تائه.
فلنجعلها قضيتنا الكبرى، ولنوحّد لأجلها النوايا والصفوف. ففي حبّ الأقصى، وصدق السعي لتحريره، يكمن سرّ خلاصنا كأمّة، وسرّ انعتاق الإنسان من كل قيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى