صيدي من صيد الخاطر (1) فضل الدعوة وواجب الدعاة في كتاب “صيد الخاطر” لابن الجوزي البغدادي
د. دحام إبراهيم الهسنياني

لقد أنجبت الأُمةُ الإسلامية – خلال تاريخها الطويل – الكثيرَ من العلماء الأفذاذ الذين كان لهم دور كبير في استخلاص العديد من الأسس والمبادئ التي تقوم عليها التربية الإسلامية من خلال دراستهم تعاليم القرآن الكريم وسُنة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن خلال تطبيقهم مناهج الفكر الإسلامي في التربية.
وقد تمكن هؤلاء العلماء الأعلام من تسجيل آرائهم التربوية والدعوية والتوجيهية في كتاباتهم، وترجموها في سلوكياتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، فكانت أعمالهم خير برهان على أصالة التربية الإسلامية وتكاملها. لهذا، فنحن بحاجة إلى دراسة التراث التربوي لأولئك العلماء المربين، للاستفادة من تراثهم ولتأصيلالتربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر، لأنها خير وسيلة لتسير الأمّةُ على نهجها، ولإنقاذ أبنائها من ضياع الشخصية، ومن الانحرافات التي نشاهدها في الشباب.
لهذا، إذا جاز لأُمّة أن تتعثر في وضع أسس تربوية تنشئ عليها أبناءها، أو تضطرب في البحث عن أهداف تربوية تحمي أجيالها من الزلل، فإنه لا يغتفر لأمّتنا الإِسلامية أن تتجرع غصص الحيرة في هذا السبيل. لأن أمتن الأُسس التربوية، وأرفع أهداف التربية والتعليم، موجودة بين أيدينا، متمثّلة بعقيدة هذه الأُمّة، وقواعد هذا الدين وتوجيهاته وتعليماته التي أنعم الله بها علينا([1]).
ومن هؤلاء العلماء: الإمام جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي، المتوفى سنة 597هـ، والذي صنّف أكثر من أربعمائة مؤلّف ما بين مطبوع ومخطوط، وتبحر في العلوم كلّها، وكتب في معظم فنون عصـره، ناظرًا إلى العلم -كغيره من علماء المسلمين- كوحدة ثقافية معرفية مترابطة دون فصل أو تجزئة، وذلك من خلال فهمه الإسلام الذي يقيم التخصّص في دائرة الشمول والتكامل، فلا يجعله منفصلًا انفصالًا يذهب به إلى الاستعلاء أو التفرّد، حتى لا يفقد المسلمُ روحَ الوحدة، ولا يفقد الفكرُ الإِسلامي طابعَ الترابط الجامع بين القيم والعناصر.
إن الفن الذي أحبّه ابن الجوزي هو الوعظ والإرشاد، فأعدّ له العدة من علوم الشـريعة واللغة والأدب والتاريخ، فحفظ الكثير من الأحاديث والرقائق والأخبار والحكايات والأشعار، مع إحاطة تامة بأحوال عصـره وشؤون مجتمعه، وأحوال الناس خاصّتهم وعامّتهم، وعندما استوت له أدواته، وهو بعد في مقتبل العمر، أقبل يعقد مجالس الوعظ، وكان أوّلها في جامع المنصور في بغداد سنة “527هـ”.
ويعدّ كتاب: “صيد الخاطر في التخلِّي من الأمراض النفسيَّة والتحلِّي بالآداب الشـرعيَّة والأخلاقِ المَرْضِيَّةِ“، من أنفس المؤلفات التي خطّها علماء القرن السادس الهجري، وأحد أهم روائع ابن الجوزي، ومن الكتب المتجددة الأهمية والمكانة على مرّ الأيام، وله تأثير على فكر القارئ بأسلوب سلس. جاء هذا الكتاب على شكل فصول كثيرة ممتعة، لا يملّ القارئ منها، وذلك لامتياز الفصول بالإيجاز وعدم الإطالة، وأسلوب الكاتب المشوّق، والمواضيع التي تناولها، وذلك أنه يحكي في طياته تجربة عالم بارع وعامل زاهد وواعظ بليغ، سلخ ما يزيد من نصف قرن من عمره في الدرس والبحث والتأليف، وقرأ جبالاً من الكتب والمصنّفات، وعاشر عدداً غير قليل من طلاب العلم والعلماء والزهاد والخلفاء والوزراء، وعرف أحوالهم، واستبطن خفاياهم، فكانت كلماته ومواعظه وفوائده ووصاياه نتيجة لتجربة صقلها مرُّ الأيام والسنين.
لقد قام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي بعمل تربوي كبير في كتابه (صيد الخاطر)، حيث تناول أهم الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفلسفية في مجتمعه، وعبّر عنها من خلال دراستها وتحليلها، والتركيز على إيجابياتها وسلبياتها، بهدف معالجتها بعد مناقشتها وتداولها. وكان في هذا بانياً على خبرته العميقة كإمام لعصـره، وواعظ ناجح على امتداد حياته. وعندما تقرأ هذا الكتاب تشعر أنك جاوزت الزمان والمكان، وأنك تعيش مع المؤلّف خلجات نفسه، ونبضات قلبه، وخواطر عقله، وأحوال عصره، وطبقات مجتمعه.
علوّ الهمة عند الداعية، علامة كمال العقل:
قيمة كل امرئ ما يحسن، وقيمة كل امرئ ما يطلب، فهذه همّته ومطلبه وقصده، وإنما كان الأمر كذلك لأن الهمّة طليعة الأعمال ومقدمتها.. وبقدر ما تتعنّى، تنال ما تتمنى.. قال أحد الصالحين: (همّتك فاحفظها؛ فإن الهمّة مقدمة الأشياء؛ فمن صلحت همّته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من العمل)، فإن الهمّة نصف المروءة، وعلامة كمال العقل ورجحانه، علوّ همّة صاحبه.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: (من علامة كمال العقل: علوّ الهمة! والراضي بالدون دنيء!
ولم أر في عيوب الناس عيباً… كنقص القادرين على التَّمامِ)([2]).
الوقت هو الحياة في قاموس الدعاة:
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته. فلا يضيع منه لحظة في غير قربة.فنقل عن عامر بن عبد قيس([3]) أن رجلاً قال له: كلمني. فقال له: أمسك الشمس([4]).. وقال ابن ثابت البناني([5]): ذهبت ألقّن أبي، فقال: يا بني، دعني، فإني في وردي السادس. ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلّي، فقيل له. فقال: الآن تطوى صحيفتي.. فإذا علم الإنسان – وإن بالغ في الجد – بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، فإن كان له شيء من الدنيا، وقف وقفًا، وغرس غرسًا، وأجرى نهرًا، ويسعى في تحصيل ذرّية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له، أو أن يصنّف كتابًا في العلم؛ فإن تصنيف العالم ولده المخلّد([6])، وأن يكون عاملًا بالخير، عالمًا فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به؛ فذلك الذي لم يمت.. قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أحياءُ”([7]).
اختيار الداعية الموضوع المناسب في الوعظ:
إن للوعظ والإرشاد وتعليم الناس، آدابًا ينبغي مراعاتها في أثناء إعداد الدرس وإلقائه، وهذه الآداب أخذت من آداب القُصّاص والمذكّرين، وهي تقريبًا آداب العلماء نفسها. ويقضـي ذلك بأن على المعلّم تعليم المتعلّمين آداب التعلّم، وآداب المعاشرة الاجتماعية، والتأدّب مع الأساتذة والإداريين، ومنها: اختيار الموضوع المناسب! فينبغي للعالم أن يختار الموضوع الذي يتناسب والحاضرين، ويبدأ بالأمور المهمّة، ثم الأقلّ أهمّية، مع ربطها بواقعهم ومشكلاتهم الحياتية.
يقول ابن الجوزي – رحمه الله-: (كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين، إلاّ الإشفاق عليك.. وقال أبو يزيد -رحمة الله عليه([8]): “ما زلت أسوق نفسـي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتها وهي تضحك)… فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقاد ببيت من الشعر. وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ؛ ليجمع مطالبهم، لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الجواب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ، قدر الملح في الطعام، ثم يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق”([9]).
لا بد للداعية مزج كل علم بالرقائق عند دعوته، لتتحقق السكينة الإيمانية:
وحتى يحصل المتعلّم على فائدة العلم، ومتعة النفس، التي تدفعه للعمل بما تعلّم، لا بدّ من الإلمام بالرقائق، والاقتداء بالصالحين في سلوكهم، حتى يمزج العلم المجرد المقتصـر على الأحكام، بالرقائق، والأحاديث التي تخاطب العاطفة والوجدان، فتنفعل بها النفس البشرية، وتحفّزها للعمل بها.
يقول ابن الجوزي – رحمه الله -: “رأيت الاشتغال بالفقه، وسماع الحديث، لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلاّ أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين. فأمّا مجرّد العلم بالحلال والحرام، فليس له كبير عمل في رقّة القلب.. وإنما ترقّ القلوب بذكر رقائق الأحاديث، وأخبار السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها.. وما أخبرتك بهذا إلاّ بعد معالجة وذوق.. لأني وجدت جمهور المحدّثين، وطلاب الحديث، همّة أحدهم في الحديث العالي، وتكثير الأجزاء.. وجمهور الفقهاء في علوم الجدل، وما يغالب به الخصم.. وكيف يرقّ القلب مع هذه الأشياء؟! وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه: هديه، وسمته.. فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا، ليكون سبباً لرقّة قلبك”([10]).
الوصف بحالة الشجعان بـسبب (الدعوة إلى الله):
الدعوة إلى الله I من أجلّ الأفعال، وأعظم الأعمال التي يؤدّيها المسلم في دنياه، ويحتسبها لأخراه، ويضعها في ميزان حسناته، بل هي من الهموم التي تقعده وتقيمه، ويفكّر فيها ليل نهار، يبحث عن نوافذ للأمل، ومخرج من الضيق، فالدعاة إلى الله يقومون بمهمة بالغة الشأن، عظيمة الأهمية. فالدعاة على الحقيقة هم الشموع، التي تحترق لتضـيء للناس طريق الهدى والحق والضياء، وهم وعي الأمة المستنير، وفكر الأمّة الحرّ، وهم قلب الأمة النابض، وأطباء القلوب المريضة، والنفوس الجريحة، بل هم قادة سفينة النجاة في وسط الرياح الهوجاء، والأمواج المتلاطمة.
يقول ابن الجوزي – رحمه الله -: “الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس.. وهي حالة حسنة، إذا لم تمنع من خير من جماعة، واتّباع جنازة، وعيادة مريض، إلا أنها حالة الجبناء.. فأمّا الشجعان، فهم يتعلّمون ويعلّمون.. وهذه مقامات الأنبياء؛ عليهم السلام”([11]).
هكذا كان ابن الجوزي يحمل هذا القلب الكبير، ويصيح بأهل بغداد: خذوا مكانكم في صفوف دعوة الإسلام… وهكذا استمرت كلمات الواعين في كل جيل، لا يسوّغون لأحد أن يعتزل ويقعد عن الدعوة إلى الله، ولو أكثر العبادة! وانظر كيف يقارن بين الشجعان الذين يخالطون الناس لدعوتهم وتربيتهم، ويصبرون على أذيّتهم، وبين المتخاذلين المعتزلين القاعدين عن الدعوة إلى الله تعالى.
لذة السعادة عند الدعاة في العلم والدعوة والعبادة:
يبيّن ابن الجوزي ما لقيه من الشدائد في مرحلة طلب العلم، ليجعل من نفسه قدوة للدارسين والعازفين عن الدرس، على حد سواء، فيزداد الدارس عزماً وقوّة على مشاقه، وتتحفّز نفوس المتخاذلين إلى تدارك ما فات، دون أن تقف المصاعب عقبة في طريقهم.
يقول ابن الجوزي – رحمه الله -: “ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو.. كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسـى، فلا أقدر على أكلها إلاّ عند الماء.. فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همّتي لا ترى إلاّ لذة تحصيل العلم.. فأثمر ذلك عندي أني عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصـرت في معرفة طريقه كابن أجود.. وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدرى بالعلم، حتى أنني أذكر في زمان الصبوة، ووقت الغلمة والعزبة، قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلاّ ما أثمر عندي العلم من خوف الله تعالى”([12]).
“ولولا خطايا لا يخلو منها البشـر، لقد كنت أخاف على نفسـي من العجب،
غير أنه تعالى صانني، وعلّمني، وأطلعني من أسرار العلم معرفته، وإيثار الخلوة به، حتى أنه لو حضر معي معروف وبشر لرأيتهما زحمة.
ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط، حتى رأيت أقلّ الناس خيراً مني.
وتارة يوقظني لقيام الليل ولذّة مناجاته، وتارة يحرمني ذلك، مع سلامة بدني.
ولولا بشارة العلم بأن هذا نوع تهذيب وتأديب، لخرجت إمّا إلى العجب عند العمل، وإمّا إلى اليأس عند البطالة. لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه، وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه. لأني رأيت أنه قد ربّاني منذ كنت طفلاً، فإن أبي مات وأنا لا أعقل، والأمّ لم تلتفت إليّ، فركز في طبعي حب العلم، وما زال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى قوّم أمري.. وكم قد قصدني عدو فصدّه عني. وإذ رأيته قد نصـرني وبصـرني ودافع عني ووهب لي، قوى رجائي في المستقبل، بما قد رأيت في الماضي.. ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس.. وكم سالت عين متجبّر بوعظي، لم تكن تسيل.. ويحق لمن تلمّح هذا الإنعام، أن يرجو التمام.. وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي”([13]).
وتميّزت مجالس ابن الجوزي الوعظية بكثرة عدد حاضريه، لذلك انطلق يكتب ويعظ في جميع ميادين المعرفة؛ فقد فاق أقرانه في الوعظ، وتفرّد فيه، حتى أطلق عليه: (واعظ الآفاق)، وجمعت مجالسه كل الطبقات الاجتماعية؛ من “الخليفة، والوزير، وصاحب المخزن، وكبار العلماء”، وكان أسلوبه مؤثراً، فإذا وعظ اختلس القلوب، وتشققت النفوس، دون الجيوب([14]).
يقول – رحمه الله -: “ولقد جلست يوماً، فرأيت حولي أكثر من عشـرة آلاف، ما فيهم إلاّ من قد رقّ قلبه، أو دمعت عينه.. فقلت لنفسـي: كيف بك إن نجوا وهلكتِ، فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي، إن قضيت عليّ بالعذاب غداً، فلا تعلمهم بعذابي، صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقولوا: عذّب من دلّ عليه.
إلهي قد قيل لنبيّك (صلى الله عليه وسلم): اقتل ابن أبيّ المنافق، فقال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)([15]). إلهي، فاحفظ حسن عقائدهم فيّ بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك. حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي.
لا تبر عوداً أنت ريّشته… حاشا لباني الجود أن ينقضا([16])
لا تعطش الزرع الذي نبته… بصوب إنعامك قد روضا([17])..”([18]).
رحم الله واعظ العراق والآفاق ابن الجوزي، تاب على يديه أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يديه أكثر من مائتي نفس، ومع كل هذا يخاف أن لا يقبل الله تعالى منه عمله، أو يعذّبه وهم يرونه، فيقولون: “عذّب من دلّ عليه”. وكان يقول – رحمه الله – في مناجاته: “إلهي لا تعذب لساناً يُخبر عنك، ولا عينًا تنظر إلى علوم تدلّ عليك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك؛ فبعزتك لا تدخلني النار”.
تفاوت الخلق في الهمم والآمال والغايات:
ولا يخفى على اللبيب العاقل أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همّته إليه، فمن كان عالي الهمة، شريف النفس، نزع إلى المعالي، ومن كان ممّن جذبته الدنيا إليها، وكبّلته بحبّها، نزع إلى ما يزيده حبّاً فيها، وتعلّقاً بها، والبون بين الفريقين شاسع.. والجامع بين النوازع المختلفة بطريقة محكمة، هو الذي يملي على التاريخ ما يكتبه، وهو الذي يجعله الله I ملجأ للناس وملاذاً لهم حال الخَطْب المُدْلهمّ والحادث الجَلل، وهو الذي إن عاش كان رمزاً، وإن مات صار حديثاً للأجيال.. أما من جدّ واجتهد في جانب أو جانبين من الفضائل، واقتصر على ذلك، فهو في حال حسنة، لكنها مفضولة.
يقول ابن الجوزي – رحمه الله-: “ما ابتلي الإنسان قطّ بأعظم من علوّ همّته؛ فإن من علت همّته يختار المعالي؛ وربما لا يساعده الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب.. وإني أعطيت من علو الهمّة طرفاً؛ فأنا به في عذاب، ولا أقول: ليته لم يكن؛ فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل.. ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فتأمّلتها؛ فإذا بها في فنّ واحد؛ ولا يبالون بالنقص فيما هو أهمّ، قال الرضي([19]):
ولكل جسم في النحول بلية… وبلاء جسمي من تفاوت همّتي
ونظرت إلى علو همّتي؛ فرأيتها عجباً، وذلك أنني أروم([20]) من العلم ما أتيقّن أني لا أصل إليه، لأنني أحبّ نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فن! هذا أمر يعجز العمر عن بعضه.
فإن عرض لي ذو همّة في فنّ قد بلغ منتهاه؛ رأيته ناقصاً في غيره؛ فلا أعد همّته تامة؛ مثل المحدّث فاته الفقه؛ والفقيه فاته علم الحديث؛ فلا أرى الرضى بنقصان من العلوم، إلاّ حادثاً عن نقصه الهمّة“([21]).
وما أصدق تصوير إمام تركيا (بديع الزمان سعيد النورسي) – رحمه الله – لهذه الحقيقة، حين يقول: “إن هذه المدنية السفيهة، المصيّرة للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلها ويتـناجون بالإثم وما لا يعني، بالجرائد صباحاً ومساء، غلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجاب الغفلة، بحيث لا يخرق إلا بصـرف همّة عظيمة). (المثنوي العربي النوري: 240). فكن خفيف النوم – أيها الداعية المسلم – لتحصل لك هذه الهمّة العظيمة. وانته من رقدة الغفلة، فــالـعـمـر قليـل. واطّرح سوف وحتى، فهما داء دخيل.
وفي موضع آخر يقول ابن الجوزي: “ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر الحافي، وزهادة معروف الكرخي([22])، وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق، ومعاشرتهم، بعيد”.
ثم إني أروم الغنى عن الخلق، وأستشـرف الإفضال عليهم! والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وقبول المنن([23]) ممّا تأباه الهمّة العالية.
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخَلَفان([24]) نائبين عني بعد التلف! وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات! وفي ذلك امتناع من جهة قلّة المال، ثم لو حصل، فرق جمع الهمة.
وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعوّد للترّفه والتلطّف!
وفي قلّة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد.
فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همّته الدنيا، وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب، ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي؟!
فوا قلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع؛ مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف، وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم!
ووا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة؛ مع ملاقاة الناس وتعليمهم!
ويا كدر الورع؛ مع طلب ما لا بد منه للعائلة!
غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي.
لأن علوّ الهمة تطلب المعالي المقرّبة إلى الحق تعالى.
وربما كانت الحيرة في الطلب، غليلاً إلى المقصود.
وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة.
وإن بلغ همّي مراده… وإلا فـــ(نيّة المؤمن أبلغ من عمله)([25])...“([26]).
الهمّة العالية والإرادة القوية عند الدعاة:
يقول الأستاذ الراشد – رحمه الله -: “كان بعض السلف الصالح يقول: (يا له من دين، لو أن له رجالاً)، الرجال الذين هم بمستوى هذا الإسلام في شموله.. وهذا الواحد المتأسّف إنما كان في عصـر السلف، أي إنه كان يرى أمامه جحافل فقهاء الفروع، وجحافل الزهاد، لكنهم لم يكونوا ليملأوا نظره.. كان يريد آخرين، الفقه والزهد من صفاتهم، لكن يذهبون إلى مرحلة أبعد.. يريدهم دعاة، همّهم هداية الخلق، وإنفاذ حكم الله، والإنكار على من يحكم الناس بهواه، وهي مرحلة لا يبلغها إلاّ من أوتي من أخلاق الرجولة مقدارًا، ويأنف من كان رجلاً أن يقف دونها، مهادناً ومصالحًا، أو مكتفياً بالتوريات، وذلك لمّا قيل لأحد فحول الرجال: (لنا حويجة) – تصغير حاجة -، أي: جئناك تقضيها لنا، فأبى وقال: (اطلبوا لها رجيلاً)، فالرجيل تشبع نفسه بعمل اليسير.. أما هو فهمّته عالية، فقد رصد نفسه لضخام الأعمال، ويأنف من صغارها.. وإن هذه الدعوة والله لهي شأن الرجال حقاً، الذين يضمّ سربهم كل مقدام.. أما أهل الحذر والهلع من الصدام وعقباته، فليس فيهم إلاّ رويجل”([27]).
يقول ابن الجوزي – رحمه الله -: “خلقت لي همّة عالية تطلب الغايات.. بلغت السنّ وما بلغت ما أمّلت، فأخذت أسأل تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال.. فأنكرت عليّ العادات، وقالت: ما جرت عادة بما تطلب. فقلت: إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات.. وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: (اطلبوا لها رجيلاً).. وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا ترزؤك([28])، فقال: هلا طلبتم لها سفاسف الناس؟! فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا، فلم لا نطمع في فضل كريم قادر؟”([29]).
استخدام الدعاة أسلوب التربية بالقدوة في دعوتهم:
يقول ابن الجوزي – رحمه الله-: “عليكم بالكتاب والسُّنّة ترشدوا.. وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه([30]): )أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ((الأنعام: 90).. ومن أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضا، فليفكر في أحوال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. فإنه لمّا تكاملت معرفته بالخالق – جلّ وعلا -، رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصـرّف في مملوكه، ورآه حكيمًا لا يصنع شيئًا عبثًا، فسلَّم تسليم مملوك لحكيم، فكانت العجائب تجري عليه، ولا يوجد منه تغيّر، ولا من الطبع تأفّف.. ومن تأمّل خصائص الرسول (صلى الله عليه وسلم) رأى كاملًا في العلم والعمل، فبه يكون الاقتداء، وهو الحجة على الخلق”([31]).
هكذا ينبغي للعالم أن يكون قدوة لغيره، وأن يترفّع عن الأعراض الدنيوية، ويجعل همّه في تعلّم العلم وتعليمه، وأن يجعل قدوته الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في سلوكه وخلقه وعلمه، وفى كل ما يتعلّق بحياته العامة والخاصة، لقول الله I: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( (الأحزاب: 21)([32]) .
([1]) آراء ابن الجوزي التربوية.
([3]) هو: عامر بن عبد قيس، القدوة الولي، أحد التابعين العبّاد الزهاد، البصـري، روى عن عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي رضي الله عنهما، وروى عنه الحسن البصـري وابن سيرين، ولما حضـرته الوفاة قال: (والله ما أبكي حرصاً على الدنيا، ولا جزعاً من الموت، ولكن لبعد سفري وقلّة زادي، وما آسى على شيء إلا على قيام الشتاء وظمأ الهواجر). توفي رحمه الله في زمن معاوية. (انظر: سير أعلام النبلاء: 5/66).
([4]) يعني: أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلّمك، فإن الزمن متحرّك دائب المضـي، لا يعود بعد مروره، فخسارته خسارة لا يمكن تعويضها واستدراكها، لأن لكل وقت ما يملؤه من العمل.. ويكفي تقويماً للوقت والزمن، أن الفقهاء قد قرّروا أن الأجل في البيع يقابل بشـيء من الثمن، وفي هذا تثمين للوقت، وتقدير للزمن أيما تقدير، فقد قوّموا الزمن بالمال.
([5]) ثابت البُنَانِي: الإمام القدوة، تابعي ومُحدّث ثقة، من أئمة العلم والعمل. سكن البصـرة. روى له الجماعة. كان يقرأ القرآن في كل يوم وليلة، ويصوم الدهر. صحب أنس بن مالك t أربعين سنة. مات سنة127ه، وهو ابن 86 سنة. من أقواله المشهورة: (ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل). (تهذيب الكمال، المزي: 4/342).
([8]) أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان البسطامِي، من أوائل المتصوّفين المسلمين، لُقب بـ(سلطان العارفين)، قضـى حياته في (بسْطام) مسقط رأسه، منعزلاً في مسجده، ومع ذلك فقد كان يقدّم الدروس لزوّاره. تتلمذ على يد شقيق البلخي، وذي النون المصـري، ويحيى بن معاذ الرازي، روى عن إسماعيل السدي، وجعفر الصادق، وذكر ابن الجوزي أنّ له ثلاثة أحاديث. توفّي سنة 261هـ بِبسْطَامَ. (تاريخ الإسلام: 20/75، سير أعلام النبلاء: 13/89).
([12]) لقد أثمر العلم عند ابن الجوزي خشية الله I، فكان ذلك حاجزاً له عن المحارم، دافعاً له إلى الطاعات.
([14]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي البغدادي: 2/485.
([15]) رواه البخاري في صحيحه في (المناقب)، باب ما نهى عن دعوة الجاهلية، رقم (4624)، ومسلم، كتاب (البر والصلة والآداب)، باب: نصر الأخ ظالما أو مظلوما، رقم (2584).
([16]) ريش السهم: جعل له ريشًا، وهو آخر مراحل صنع السهم وتحضيره. والبري يكون قبل الترييش. والمقصود: لا تنقض شيئًا بدأته. (لسان العرب: 6/308).
([17]) “الصوب”: هو نزول المطر. والنازل صَوبٌ، و”روّض النبت”: أصبح روضةً غناء. (معجم مقاييس اللغة: 3/317).
([19]) الشـريف محمد بن طاهر الحسيني، أبو الحسن “359-406هـ”، أشعر الطالبيين، وأرقّ الشعراء غزلاً. له ديوان شعر كبير، وهو مؤلف كتاب (نهج البلاغة)، المنسوب إلى سيدنا علي t، ولم أجد البيت في ديوانه.
([22]) معروف بن فيروز الكرخي، أحد الرموز الكبار في بغداد، علم الزهّاد، بركة العصـر، أبو محفوظ البغدادي. كان أبواه نصـرانيين ثم أسلما، واشتهر بزهده وورعه وتقواه، وكان كثير العطاء والتسامح، يغشاه الصالحون، ويتبرك بلقائه العارفون، وله مواعظ جميلة وكلام رائق معجب، وكان كثير الكرامات، توفي سنة 200هــ، رحمه الله تعالى. (تاريخ بغداد: 15/263، وسير أعلام النبلاء: 9/339).
([25]) رواه البهيقي في شعب الإيمان: 5/343، ولفظ: (نية المؤمن خير من عمله)، رواه الطبراني في المعجم الكبير: 6/185، رقم (5942)، وأبو نعيم في الحلية: 3/255، والديلمي: 4/286، رقم (6843)، والخطيب في التاريخ: 9/237، قال الهيثمي 1/109: فيه حاتم بن عباد بن دينار، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
([28]) لا ترزؤك: لا تكلفك ما تنكب به.
([30]) وذلك حتى يقتدي المسلم بالرسول (صلى الله عليه وسلم)
([32]) هذه المباحث مستلة من كتابي: (صيدي من صيد الخاطر)، والذي سيطبع قريباً إن شاء الله تعالى.
العدد ١٩٠ ǀ ربيع ٢٠٢٥ ǀ السنة الثانية والعشرون