الآمرين بالقسط من الناس
المهندسة هاوين أنور عبد الله (بنت الكورد)

بارك الله قلب امرئٍ يضمّه صدره، قد أُشرِب السلامة، وامتلأ بمحبة الله، فما يلبث أن يقف على محطّات العابرين، يغرس في مداخلها أزاهير الكرم والجود والعطاء، ويفيض على سالكيها بالرّواء..
* بورك من جعل تجارته مع الله، يطرح في أسواق الحياة بضاعةً من الحق والعدل والقسط والأخلاق الراقية، حيثما استطاع، وحيثما قُدّر له.
* طوبى لمن وهب للناس أثمن ما في الوجود الإنساني، ولم يرتقب في ذلك ثمنًا ولا جزاءً، إذ تكفيه رحمة الله أجرًا، ينتظرها في دنياه وأخراه..
* ورضي الله عمّن أدرك أنه محمّلٌ بأمانةٍ أُلقيت على كاهله، فوعاها ورعاها، ووفّاها حقّها، سعيًا لنيل الجزاء الأوفى، والثواب الأبقى..
قال الله تعالى:
[إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] (الأحزاب: 72).* رسالة الإنسان في الوجود:
* إنه لا زمان ولا مكان في حياة البشـر بلا دِين، وما خُلقنا إلا لنعبد الله، أوفياءَ للأمانة التي أُنيطت بنا، موقنين بأننا لم نُخلق في هذه الأرض عبثًا، بل لأجل مهمّةٍ جسيمة، لخّصها الله في آية، ثم بيّن كيفيّة أدائها في أخرى:
1- قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ](الذاريات: 56- 58).
2- وقال عز وجل: [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ](الأنعام: 162).
* و(محيانا) هو هذه الحياة التي تُعدّ الأمـانة الكبرى، فهي الأعوام التي نقضيها على هذه الأرض، وينبغي أن تُستغلّ في إعمار النفس والكون، فلا دِين بلا أمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، حتى لو سُدّت الآذان، واستُغشيت الثياب، وتنكّر الناس لنور الحق، وأبوا أن يبصروه..
* ومن سنن الحياة أن يكون للحق أعداءٌ، ففي كل عصـرٍ ومصـرٍ، هنالك من يتجاهل الدعوة إلى الخير، ومن يتأذّى من صوت الناصحين، ومنهم من يُقابلهم بالتهكّم والغلظة، رغم علمه أنهم لا يطلبون أجرًا ولا جزاءً، إنما يضيئون لـه معالم الطريق، ويبسطون له الحجة، عساه يهتدي ويعود.. لكنه يُؤثر المكابرة، ويرفض أن يُبصـر العاقبة، فيقاوم كل كلمةٍ توقظه من غفلته، ولو علم أيّ ظلماتٍ يسير إليها، لرَأَف بنفسه قبل فوات الأوان!
* الأمر بالعدل فريضةٌ لا تقبل التفريط:
* أولئك الـذين يأمرون بالقسط من الناس، عليهم أن يوقنوا أن الله كلّفهم بالإصلاح والتوجيه والأخذ بأيدي الغافلين، حتى ولو ضاقت صدورهم بهم، ولو كرهوا سماع صوت الحق!
* إن للدعاة قلوبًا رحيمة، وصدورًا واسعةً، يصبرون على صدود الناس، ويعودون إليهم بالموعظة تلو الموعظة، والنصيحة إثر النصيحة، عسـى أن تلين القلوب، وتتنبّه العقول، ويوقن المعاندون أن وراءهم يومًا تُقرع فيه نواقيس الندم، حيث لا رجوع ولا مفرّ!
* وكثيرًا ما يكون الحوار بين آمرٍ بالمعروف وناهٍ عن المنكر، وبين من يعكس الأمر فيأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، فلا بد حينئذٍ من احترام عقول المستمعين لكلا الجانبين عند تحاورهما أو جدالهما؛ بتعزيز كلمة الحق، وعدم السكوت بذريعة أن:
“من تدخّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يُرضيه”، بـل الواجب هو التدخل الحكيم، والدفاع عن المبادئ، ودفع الشبهات بالحجج الساطعة، فإننا لا نحيا لأنفسنا فقط، بل نحيا شهداء للحق في هذه الدنيا..
قال الله تعالى: [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ](الأعراف: 164).
* بين دعاة الحق وجند الباطل:
* اليوم، ونحن في عصرٍ موبوءٍ بالظلم، نرى الأرض وقد تحوّلت إلى ميدان صراعٍ بين حفنةٍ قليلة من أهل الحق، وجحافلَ جرّارة من جند الباطل، الذين يروّجون للفساد والإفساد، حتّى بات الظلم والطغيان مدرسةً عالمية، تُدرَّس فيها فنون الخراب وهدم القيم، ليتسيّد حزب الشيطان، ويسوق الناس إلى قيعان جهنم!
قال النبي (صلى الله عليه وسلم):
*”وَالَّذِي نَفْسِـي بِيَده، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ” (رواه الترمذي).
* لقد انشغل الناس بزخرف الدنيا، ونسوا حرث الآخرة، فكانت الخسارة الفادحة، وكان الإفلاس الروحي والفكري الذي جعل الحياة بوارًا وكسادًا وخسرانًا.
* فما أبهى أن نعود إلى مولانا الحق، ليُجمّلنا بنوره، ويطهّر أبصارنا من قبح الغفلة، ويمنحنا سعادة الإيمان الصافي، الذي لا يبتذله المستغلّون باسم الدين، ولا يشوبه الزيف والمتاجرة..
* إنها دعوة الأنبياء والصالحين، دعوةٌ هي طوق النجاة، وحبل الخلاص.. من حملها فقد أدرك النور، ومن تنكّر لها، فما أصبره على النار.
(اللهم اجعلنا من أهل الحق، وثبتنا عليه حتى نلقاك، غير مبدلين ولا مغيّرين).. آمين.