نظرية المسؤولية في التفكير الفلسفي القانوني وحق الضحايا في التعويض

الدكتور علي رسول الربيعي*

يعد الفاعل مسؤولاً أخلاقياً، (ومن ثَمَّ يكون عرضة للثناء، أو اللوم، أو المكافأة، أو العقوبة)، إلى الحد الذي يكون فيه فاعلاً طوعياً. ولكي يكون المرء فاعلاً طوعياً يجب أن يكون قادراً على القيام بخلاف ذلك الفعل الذي قام به. كما يتوقف جواب بعض الأسئلة المتعلقة بالعقاب على الإجابات التي نحصل عليها من نظرية المسؤولية. فعلى سبيل المثال، يعتمد تصنيف المجرم كمستحق للعقوبة، على فعل يشكل خطأً ضاراً بشكل مسؤول، ومتوقفاً على مدى ارتكابه الفعل (أو فشله في ارتكابه، أو محاولة ارتكابه، بحسب الحال)، والأهم أن فعله كان عن علم عمداً وطوعاً. وهكذا تستدعي نظرية المسؤولية مراعاة مجموعة من المطالب؛ وهي:

أولاً: أن يكون لنظرية المسؤولية غرض، بأن تكون – مثلاً – جزءاً من أسس توضيح نظرية العقاب. وهذا هو الهدف من علاجنا للمسؤولية، فبدون هدف (غاية)، ستبدو تحليلاتنا عديمة الجدوى.

ثانياً: أن تنصّ نظرية المسؤولية وتدافع عن الشـروط التي بموجبها يُحاسب الفاعل، ويعاقب عن أفعاله. حيث تخدم عند القيام بذلك وظيفة تأسيسية لتبرير العقاب.

ثالثاً: أن تميّز نظرية المسؤولية بين الاستخدامات والمعاني المختلفة لـ(المسؤولية)، حتى لا تخلط بين هذه الاستخدامات والمعاني.

رابعاً: أن تحترم نظرية المسؤولية التمييز بين المسؤولية الأخلاقية والقانونية، وأن توفق بين ما يرقى إلى المسؤولية الأخلاقية، وما يرقى إلى المسؤولية القانونية مع بعضهما البعض، في كثير من النواحي. ومع ذلك، هناك حالات يكون فيها المجرمون، مسؤولون قانوناً عن أفعال، لا يكونون مسؤولين عنها أخلاقياً.

ولا يقف الأمر عند حالات من المسؤولية القانونية لا ترقى إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية فحسب، بل هناك حالات يكون فيها المرء مسؤولاً أخلاقياً عن شيء يرفض القانون أن يشـرّع قانونًا لا يسمح به. ومن الأمثلة على ذلك تصنيفات السلوك الذي يندرج تحت عبارة “يجب أن يكون هناك قانون”، لكن لا يوجد قانون يحظر مثل هذا السلوك! فربما يجادل المرء بأن التدخين في الأماكن العامة؛ يجب أن يصبح غير قانوني، لأنه يضـر بالآخرين بشكل خاطئ من خلال إضعاف مصلحتهم المشـروعة في التمتع بصحة جيدة، فيتحمّل المُدخنون في هذه الحالة المسؤولية القانونية عن أخطائهم. ومع ذلك، وكما هو الحال حالياً في بعض الدول العربية، فإن التدخين محظور فقط في مناطق معينة. ومن ثَمَّ هناك حالات من المسؤولية القانونية لا تضاف إلى المسؤولية الأخلاقية. ويمكن القول إن هناك حالات للمسؤولية الأخلاقية لا يدعمها القانون، علاوة على ذلك هناك حالات تتعارض فيها الأخلاق والقانون.

الاستخدامات المختلفة للمسؤولية، أو سياقات المسؤولية:

يعرف قاموس بلاكس‎ للقانون (Black’s Law Dictionary) المسؤولية على أنها: “مسؤولية اللياقة العقلية للشخص للإجابة أمام المحكمة عن أفعاله”. والمسؤولية هي “صفة أو حالة الالتزام القانوني أو المساءلة قانوناً؛ والمسؤولية القانونية تجاه شخص آخر أو تجاه المجتمع، قابلة للتنفيذ عن طريق الانتصاف المدني أو العقوبة الجنائية”. يتم التقاط معظم جوانب المسؤولية هذه في الاستخدام العادي، حيث تستخدم “المسؤولية”، وما يرتبط بها، للإشارة إلى مجموعة متنوعة من الأشياء. ورغم ذلك، تستخدم في بعض الأحيان للإشارة إلى الالتزامات أو الواجبات التي تقع على عاتق المرء، مثل نطق عبارة “هو غير مسؤول”، أو “لا يمكن الوثوق بك، لأنك لست مسؤولاً”.

علاوة على ذلك، هناك الاستخدام السببي للمسؤولية، فأنا مسؤول عن نتيجة الاستخدام السببي، إذا كان الفعل الذي ارتكبته نتيجة لما فعلته، أو فشلت في فعله، أو حاولت القيام به، أو إذا كان ما فعلته، أو فشلت في القيام به، أو حاولت القيام به؛ هو سبب مساهم في تلك النتيجة.

وغالباً ما نحدد ونبحث عن المسؤولية السببية للأحداث أو الأشخاص، وإن القول: بأني مسؤول عن نتيجة معينة في الاستخدام السببي، يشكل “إسنادًا مباشرًا للسببية”. وعندما أقول إني مسؤول عن نتيجة، فإني أعني أن ثقل الأسباب يدعم الادعاء بأني سأكون عرضة للعقاب؛ لتسببي في تلك النتيجة.

مطالب النظرية المعيارية في فلسفة العقاب:

أوّل المطالب هو أن تقدم نظرية العقاب تعريفًا لـ (العقوبة)؛ لتجنّب الالتباس المفاهيمي، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى الاعتراف بمختلف معاني (العقوبة)؛ من مجرد السجن، إلى المعاملة القاسية جسدياً، إلى آخر وسائل التعامل مع المجرمين، حيث يشكل كل منها عقاباً مناسباً.

ثانياً: أن تراعي نظرية العقاب التمييز بين تبرير مؤسسة العقاب، وتبرير أشكال معينة من العقوبة. لأن ما يبرّر الأول قد لا يبرّر الأخير. فعلى سبيل المثال، قد يكون الأمر مبرراً أخلاقياً لمعاقبة المجرمين، ولكن بالنسبة للأشكال المحدّدة للعقوبة المتاحة لقضايا جنائية محدّدة، أي يجب أن تحدد العقوبة لكل قضية بطريقة مبرّرة.

ثالثاً: أن‏ تهتم نظرية العقاب بالعدالة الإصلاحية، بوصف ذلك هدفها الأساس، والتحذير من أن تضع في اعتباراتها غير العدالة الإصلاحية، بمعنى تجاوز أو تحييد مفهوم الانتقام.

رابعاً: أن تحدد نظرية العقاب الشـروط التي يمكن بموجبها اعتبار الشخص مستحقاً لما يُعاقب عليه قانونياً. فمن الضـروري أن نفهم الشروط التي يجب معاقبة الفاعل طبقاً لها، إلى الحدِّ الذي يحققها.

خامساً: أن تكون نظرية العقاب قابلة للتطبيق في نظام قانوني عادل إلى حدٍّ معقول، وهذا يستبعد إمكانية أن تُسن عقوبة عادلة من قبل الحراس الذين يتولون إنفاذ القانون. لأنه كما يشير الأمر الثالث، فإن نظرية العقوبة مطلوبة بقدر ما تتعلّق بالعدالة الإصلاحية. لذا فإن الإجراءات القانونية الواجبة؛ هي الموازنة المعقولة والعادلة للأدلّة في القضايا التي ينظر فيها القاضي.

سادساً: المطلوب أن توضح نظرية العقاب ما هي العقوبات المناسبة للجرائم المختلفة. فالمبادئ هنا تكون بمثابة أساس لإصدار الأحكام على المجرمين. (ما يقابل مبدأ الشـرعية الجنائية في القانون، حيث يجب التنصيص على نوع العقوبة وتحديدها).

إذن، يجب أن تتضمن النظرية المعيارية للعقاب تحديد “مفهوم الجريمة” على أنها تلك التي يجب المعاقبة عليها. يفترض مثل هذا المفهوم للجريمة تصوّراً لأهداف ومضمون القانون الجنائي المناسبين. ويفترض مثل هذا المفهوم للقانون الجنائي تصوّراً لدور الدولة ووظائفها المناسبة، وعلاقتها بمواطنيها. ويجب أن يشمل هذا المفهوم للدولة مفهوماً للمجتمع، والعلاقة بين الدولة والمجتمع أيضاً.

معنى المسؤولية الجماعية وشروطها:

المسؤولية الجماعية نوع من المسؤوليات القانونية، يتم إسنادها إلى الفاعلين كمجموعة. ومن ثَمَّ، فإن المسؤولية الجماعية – كشكل من أشكال المسؤولية -‏ توزّع الفعل الإجرامي، لأن المسؤولية الجنائية تتطلّب عادة سلوكا خاطئاً،‏ ولكن لا يمكننا تقديم قائمة كاملة بالشـروط الضـرورية والكافية لتحميل جماعة ما المسؤولية عن أخطاء بعض أعضائها. ولكن ربما يمكننا ذكر بعض الشروط الضرورية للمسؤولية الجماعية، وفق المحددات الآتية:

(1) إن الجماعة قامت بالشـيء الضارّ المعني، أو على الأقل أن عملها أو امتناعها أو محاولتها قدمت مساهمة سببية جوهرية فيه (أي إنها مسؤولة عن النتيجة الضارّة بالمعنى السببي).

)2) إن الجماعة فاعل متعمد فيما يتعلّق بتلك النتيجة،‏ أو امتناعها أو محاولتها؛ ناجم عن رغباتها ومعتقداتها.

(3) إن هذا التكتل أو الجماعة هو “فاعل طوعي” فيما يتعلّق بهذه النتيجة. (شرط الإرادة).

(4) إن هذا التكتل هو “فاعل عارف” بتلك النتيجة. (شرط العلم).

(5)  يجب أن يكون السلوك سبباً للخطأ بطريقة ما (أي إنه مسؤول عن النتيجة الضارة بمعنى يستحق اللوم).

(6) وعليه، إذا كانت النتيجة الضارّة هي خطأ الجماعة حقاً، فيجب أن توجد علاقة سببية بين الجانب الخاطئ من سلوكها والنتيجة.

ويمكن القول ابتداءً إن كل تكتل من البشـر؛ يكون قادراً على التصرُّف، كمجموعة، وعن قصد، وعن علم، بحيث يكون مخطئاً، ويتصـرف بقصد إجرامي كافٍ، فهو فاعل يجب أن يعاقب على فعله. أمّا التجمعات التي لا تستطيع التصـرُّف على هذا النحو، أي تلك التي تفتقر إلى القدرة على القيام بذلك؛ فهي تجمعاتٌ عشوائية تفتقر إلى بنى صنع القرار اللازمة للفعل المسؤول، أو الامتناع، أو محاولة الفعل.

نحن نتحدّث عن مفهوم المسؤولية الجماعية التي تحترم الشـرط القانوني المتمثل في الفعل أو السلوك الذي يشكل أحد العناصر المكوّنة للجريمة. وأن جزءاً ممّا نعنيه على الأقل هو أنّ هؤلاء الأشخاص يتصـرّفون غائياً، أي لغرض أو هدف معين. إذن، تستلزم المسؤولية الجماعية الفعل الجماعي، والذي يستلزم بدوره التزاماً مشتركاً، أي التزام الأشخاص بفعل شيء ما كجماعة.

فهناك فعل جماعي، إذا كان أعضاء جماعة معينة ملتزمين بشكلٍ مشترك بالسعي لتحقيق هدفٍ معين كهيئة، وفي ضوء هذا الالتزام المشترك؛ فإن الأعضاء ذوي الصلة (ورُبّما ليس كلهم) يتصـرّفون بنجاح من أجل الوصول إلى الهدف المعني. حيث يعمل هذا التفسير الغائي للفعل الجماعي؛ لوصف نوع الالتزام المطلوب لهذا الفعل. لكن الاعتراف بأنه ليس كل أعضاء الجماعة بحاجة لأن يكونوا جزءاً من عملية الالتزام، يثير صعوبات فيما يتعلّق بالمسؤولية الأخلاقية الجماعية.

فليس بالضـرورة أن يستحق كل عضو في الجماعة المعنيّة اللوم. فعندما يتعلّق الأمر بمعاقبة مثل هذه المجموعة، ستكون معاقبتها كجماعة بمثابة ظلم، ما لم يستوفِ كل عضو من أعضائها شروط المسؤولية على انفراد.

وخلافاً لذلك؛ فإن العقوبة ستكون انتهاكاً لمفهوم العقاب القائل بأنه يجب معاقبة المذنب فقط، أو ما يطلق عليه في القانون الجزائي قاعدة “العقوبة شخصية”.

فإذا كنتُ مواطناً نشطاً، وصوتاً في نظام ديمقراطي، على سبيل المثال، فهذا لا يجعلني بالضـرورة مسؤولاً بأيّ معنى عمّا تقوم به القيادة السياسية التي أنتخبها، لأني حتى لو كنت مواطناً أقوم بواجبي، فربما أكون قد خدعت بشأن الأفعال التي خطّط لها المرشحون، أو أن القيادة التي شاركتُ في انتخابها قد تفعل الفعل الخطأ، فتقوم – على سبيل المثال – بتقديم المساعدة العسكرية إلى بلدٍ آخر. فهل يجب أنْ أتحمّل المسؤولية بصفتي مجرّد عضوٍ في البلد الذي ارتكب الخطأ؟

علاوة على ذلك، فإذا كان ثمة هجوم مسلح يستهدف بلدي مبرّراً أخلاقياً، فمن غير البديهي أن أصبح هدفاً‏ مبرّراً لهذا الهجوم، لأنّني اعترضت على تورّط بلدي في مثل هذه الأمور على وجه التحديد، والتي أدّت إلى الهجوم المسلح. فالمفروض أن أكون محصّناً أخلاقياً من تدابير الانتقام السياسي هذه. ومن ثَمَّ، فإن فكرة المسؤولية الجماعية؛ هي إشكالية من حيث يبدو أنها تعني المسؤولية الأخلاقية للأبرياء فيما يتعلّق بالعدالة الجزائية.

ثمّ إننا كأفراد نميل إلى أن نكون أعضاء في مجموعات متعدّدة في وقتٍ واحد. فقد لا أكون مسؤولاً عن ارتكاب خطأ جماعي كعضوٍ في جماعة معيّنة، وقد أكون مسؤولاً عن مخالفة، بصفتي عضواً في جماعة أخرى. علاوة على ذلك، قد أكون مسؤولاً بصفتي عضواً في جماعة أو أكثر أيضاً. وبينما أنا مسؤول، فأكون جديراً بالثناء كعضوٍ في جماعة أخرى. وقد تختلف درجة مسؤوليتي في كل حالة.

لذا، هنالك طيف من المسؤولية داخل الجماعات، وفيما بينها. فمن الخطأ الاعتقاد، لمجرّد أني عضوٌ في جماعة؛ أن أكون مسؤولاً بشكل جماعي عمّا تفعله هذه الجماعة بشكلٍ خاطئ، انطلاقاً من الافتراض بأني لدي دور في جماعةٍ ما، أو أني عضو فيها. وعليه، إن ما ينطبق على الكلّ (الجماعي)، لا ينطبق بالضّرورة على أجزائه.

إنّ الجماعة مسؤولة، من الناحية المعيارية. عن المخالفات إلى الحدِّ الذي يكون فيه كل فرد من أعضائها مسؤولاً بصفته الشخصية. يراعي هذا التفسير الاختلافات، ودرجات المسؤولية بين أعضاء المجموعة. في المقابل، يمكن أن يستوعب الرأي القائل؛ بأنّ العنف السياسي المبرّر أخلاقياً ضد الولايات المتحدة – على سبيل المثال -، يجب ألّا يستهدف الأبرياء، أكثر من أولئك المسؤولين بشكل مباشر عمّا يبرّر الردَّ العنيف.

على الرّغم من ذلِك، لا يمكن الجزم بالقولِ إنّ أفضل طريقة لاتِّخاذ قرارٍ بشأن مسؤولية الجماعات؛ هي اعتماد معايير المسؤولية الفردية بشأنها. فقد نحتاج إلى تحليل مسؤولية الجماعات وفقاً للشـروط الخاصة بها. وعلاوة على ذلك، رُبّما لا يمكننا الاستدلال من أحكام مطلقة؛ مثل “الجماعة ج فعلت” أو “الجماعة ج مسؤولة عن س”، كمبرّر إلى الأحكام المتعلّقة بالمسؤولية الفردية. فلا شيء يتبع منطقياً الانتقال من الأحكام حول الكيانات الجماعية، إلى ما فعله أيّ من أعضاء هذه الجماعة، أو مسؤولية أي منهم.

لذا، علينا أن نتعرّف على “البنية الداخلية للجماعة”، وعن أدوار أعضائها وأنشطتها، لتعيين المسؤولية للأفراد عمّا تفعله الجماعات. إذا كان من المنطقي القول إنّ الجماعة “كان يجب أن تكون على علم” حتى يمكن تحميلها المسؤولية، فرُبّما ينبغي أنْ نستنتج مباشرة ما يعنيه هذا بالنسبة للجماعات، دون الالتفات لتحليل ما يعنيه أن نقول عن الأفراد الذين كان ينبغي أن يعرفوا، ثمّ نطبّق ذلك على الجماعة. وأنه لكي تكون الجماعة مسؤولة لا بُدَّ أن نفترض أنه “كان بإمكان الجماعة أن تفعل شيئاً غير ذلك الذي قامت به”. لكن إثبات هذا قد يكون مختلفاً تماماً بالنسبة للمجموعات، عنه بالنسبة للأفراد، كما أن ما يجب التفكير فيه بشأن نيّة المجموعة، أمر مُعقّد وصعب. فقد تكون نيّة الجماعة مختلفة تماماً عن النيّة الشخصية، ولكن مع ذلك قد يكون من المنطقي تماماً التحدُّث عن قيام جماعة عن قصد بشيء ما، أو لديها نيّة للقيام بشيء ما.

لكن الجدير بالملاحظة؛ هو الاعتراض المفترض الذي يشكّك في أن تكون المسؤولية شيئاً مختلفاً تماماً بالنسبة للجماعات عنها بالنسبة للأفراد. وذلك فيما يخصّ توافق المعايير؛ من قبيل “كان يجب أن تعرف”، كان من الممكن أن تفعل شيئاً غير ذلك، و”القيام بشـيء عن قصد”، مع التحليل الجماعي الأساسي للمعرفة الجماعية، والطوعية والقصد، على التوالي. ومن ثَمَّ، فمن المضلل، إن لم يكن خطأ، القول بأن المسؤولية الجماعية والفردية يجب تحليلهما على نحوٍ مختلف.

فعلى الرّغم من أن أنواع الفعل الجماعي يشمل “نشاطاً تعاونيّاً مشتركاً”؛ فإنه يشمل ما لا يقل عن طرفين، إلا أن ما يهمني في هذا السياق؛ هو ما إذا كان من المبرّر إسناد الفعل المتعمّد إلى جماعات من النوع الأكبر عددياً، مثل الدول والمجتمعات، بحيث يمكن اعتبارهم قادرين على الوفاء بمتطلبات النية (القصدية) الجنائية للمسؤولية القانونية. فإذا كان لا يمكن إسناد الفعل المتعمّد إلى مثل هذه التكتلات، فليس من المناسب إسناد المسؤولية إليهم.

   إذا كان لدى التكتّل الجماعي إجراءات معينة لاتخاذ القرار المحدّد وَفْق قواعد، ومُوجّه نحو هدفٍ معيّن، فيمكن القول إنّ لديه القدرة على القيام بالأفعال، أو الامتناع عن القيام بها، أو محاولة القيام بها، حسب الحالة. ولكن هناك اختلاف بين القيام بالأفعال وبين التصـرُّف عن قصد، فلكي يتم تفسير أفعال التكتّل بشكل معقول على أنها أفعال، لا بُدَّ أنْ يتصـرَّف هذا التكتّل عن قصدٍ بالضّرورة. لذلك، إذا حدث الفعل وَفْق نظام قواعد التكتّل، وبقرار من قبل ممثليه الرسميين، وإذا كان هذا القرار؛ هو إجراء ناتج عن رغبات ومعتقدات هذا التكتّل، فقد يقال إن هذا التكتّل؛ قد تصـرّف (كفاعل) عن قصد. علاوة على ذلك، إذا كان ميزان العقل يدعم تحميل هذا التكتّل مسؤولية العقوبات؛ نتيجة الفعل أو الامتناع أو المحاولة، فإن ذلك يبرّر إسناد المسؤولية إليه.

وفي تصوّري، يجب أن تكون مسؤولية الجماعات متوافقة مع الادّعاء القائل بأن الجماعات يمكنها القيام بالأفعال. فيمكن القول مثلاً: إنّ “الجماعات فاعل أخلاقي”، بوصف الفاعل الأخلاقي كياناً يمكن أنْ ينسب إليه الفعل المقصود، ويكون محتوى فعل الفرد أخلاقياً. فيمكن أن تكون بعض الجماعات المحدّدة؛ أي التكتلات، مثل الدول والشـركات التي تتمتّع بقدرة اتخاذ قرارات محكومة بقواعد، فاعلاً متعمّداً.

ولكن قد يقال إنّ الجماعات لا تتصـرَّف عمداً، وذلك لسببين: أوّلاً؛‏ لأنها لا تتصـرّف عن قصدٍ، كما يفعل الأفراد، في كثير من الأحيان. وبدلاً من ذلك يعمل الأفراد المكوّنون للجماعة نيابة عنها. والسبب الثاني؛ هو أنّه من الممكن اختزال إسناد الفعل الجماعي إلى الفعل الفردي بما يتوافق مع أنظمة القواعد المعترف بها، دون فقدان المعنى المعرفي. إن هذا النوع من التفكير، يقود المرء إلى تبنّي صيغة فردية من المسؤولية، طالما كان تنسيب الفعل إلى جماعة يعتبر قضيةً إشكالية.

وهكذا، يبدو جليّاً أنّ الجماعاتِ لا تقوم بالفعل عن قصد؛ لأنها لا تعمل وَفْق نظامٍ مُعترَف به من القواعد. وعليه، فإنّ الحشود في أعمال الشغب يقال إنّها تتصـرَّف بحكم تصـرّفات أعضائها، ومن ثَمَّ، يقوم أعضاء الجماعة في أعمال الشغب عادةً بأفعالهم المدمّرة بوصفهم “أعضاء في الجماعة”، دون التصـرّف “نيابة عنها”. لذلك نحن هنا نتعامل مع جماعاتٍ بدون بنية (أي دون تقسيم المهام والأنشطة)، وهنا تكمُن الصّعوبة، حيث إن المشاغبين والجماعات (مثل الحشود)؛ تفتقر إلى الأهداف والمصالح المشتركة، على الرغم من أن أعضائها كأفراد يمكن أن يكون لهم بالفعل أهداف ومصالح. فالمشاغبون والحشود عبارة عن تجمّعات، ومجاميع فضفاضة من الأفراد، ولا يظهر أنها مصنّفة بطريقة معقولة لإسناد الفعل المتعمّد.

ولكن يمكن لبعض الأنواع الأخرى من الجماعات (أي تلك التي تنتمي إلى نوع من التكتّل) أن تتصـرّف عن قصد؛ كالدول والشركات، ولكن ليس كفاعل أوّل (أصلي)؛ بل إنهم فاعلون ثانويّون، لأن الفاعل الأول هو الشخص الذي لديه القدرة على التصـرُّف بمفرده، وعن قصد. أمّا الفاعل الثانوي؛ فهو الشّخصُ الذي يعمل من أجل آخر، وَفْقاً لنظامِ القواعد القانونية أو الأخلاقية، مع توافر القصد. وهنا ينبغي أن يكون لدى الفاعل الثانوي القدرة على القيام بالفعل وَفْقاً لمعتقداته ورغباته، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن بعض التكتّلات؛ مثل الشـركات، تتصـرَّف عن قصدٍ من خلال هياكل صنع القرارات الداخلية الخاصّة بها، فهذه الهياكلُ؛ هي لوائح رسمية تتعلّق بالطّريقة التي يجب أن تعمل بها الشركة.

لكن قد يأتي الرد على هذا؛ بأنّه لا شكّ في أنّ الدول والشـركات (وغيرها من التجمعات عالية التنظيم) غالباً ما تتصـرَّف (بدون نية)، وَفْقاً للقواعد الرسميّة لأنظمتها الخاصّة. بل لا يتضح أن السلوك الناتج عن اتخاذ مثل هذا القرار؛ هو نتيجة قصديّة للتكتّلات نفسها، أو ما إذا كان نتيجة قصد بعض صناع القرار من ذوي النفوذ القوي في تلك التجمعات.

وهكذا، يبدو أن هناك على الأقل موقفين مُتشكِّكين بشأن الاتجاه القائل؛ بأنّ الجماعاتِ هي “فاعل مسؤول” من الناحية المعيارية: الأوّل؛ هو غموض النية الموجودة في أنشطة التكتّل، ما إذا كانت هي قصد التكتّل نفسه. الثاني؛ من الصّعب فهم كيفية فصل طوعية التكتّل عن طوعية بعض صانعي القرار الأقوياء فيه. ومن ثَمَّ، فإنّ الجماعاتِ ليست فاعلاً عارفاً بوضوح، على الأقل بمعنى أنها مؤهّلة لتكون كفاعلٍ يتصرَّف عن علم.

إذن، هناك مشكلة تتعلّق بالموثوقية الاجتماعية للمعرفة، وهذه مشكلة تتعلّق بخصائص المعرفة الجماعية. ولهذا السبب” أنا أزعم أنّ التكتّلات لا تعمل عادة كفاعلين عارفين، ومع ذلك فإنّ هذا لا ينفي الوضع المعرفي المحتمل لبعض التكتّلات.

باختصار، لا يعني ذلك أنه لا توجد جماعة تفي بشكل قطعي بشـروط المسؤولية الجماعية، فبعض الجماعات تعمل من خلال القيادات السياسية والتجارية والتعليمية؛ كمثل أولئك الذين يتخذون القرارات – في كثير من الأحيان – كجماعة. فعلى سبيل المثال، يتخذ قضاة المحاكم القرارات، كما يفعل أعضاء البرلمانات، ومجالس إدارة الشـركات، ومجالس الجامعات، وأعضاء هيئة التدريس، وغيرهم، يتخذ كل منهم قرارات يبدو أنها تجعل أعضائها أكثر أو أقل مسؤولية عن نتائج مثل هذه القرارات. ومع ذلك، لا يمكن الجزم فيما إذا كانت المجموعات الأكبر، كمواطني الدولة ككل، مسؤولين عمّا يفعله ممثلوها المنتخبون. فأحد الأسباب التي تجعل مسؤوليتهم موضع شك؛ هو أن المواطنين غالباً ما يجهلون العديد من التفاصيل المهمّة للسياسات والأنشطة الخارجية والمحلية المختلفة التي تمارَس باسمهم، ممّا يجعل من الصّعب للغاية؛ اعتبار أنّ المواطنين يدعمون حكومتهم عن علم،‏ أو حتى عمداً.

تعويض الضحايا، آلية عقابية أم تصحيح للعدالة؟

إنّ قيمة التعويضات؛ تكمُن في أنّها تعمل على حماية حقوق أولئك الذين عانوا وسيعانون على أيدي الظالمين، فبالتّعويض يكون للجبر والإلزام وظيفة تعبيرية معقّدة تشبه الوظائف التعبيرية للعقاب.

إنّ التّعويضاتِ؛ مثل العقوبة، تنكر الانتهاكات والأفعال الضارّة المرتكبة، وتُذكّر أنّ المذنبين ليس لهم الحق في ارتكاب مثل هذه الأخطاء. علاوة على ذلك، فإنّها – مثل العقاب – تقول – علناً – إنّ مثل هذه الأفعال الوحشية الضارّة لا تمثل أسمى أهداف المجتمع وتطلعاته العليا.

 تُمنح التّعويضات في المجتمعات الديمقراطية باسم الشعب ضِدَّ مثل هذه الانتهاكات، وتسعى التعويضات – مع التمسّك بالمعايير الحقيقية للقانون في مواجهة الانتهاكات والإخفاقات السابقة للنظام السياسي/ القانوني – في تحقيق العدالة الحقيقية. وتهدف التعويضات، مثل العقوبة، إلى فصل مجتمع عادل عن تاريخه الفاسد، وإعفائه من شروره التاريخية. ويمكن للتعويضات أنْ تعبّر عن التعاطف والإحسان والقلق، وبالإضافة إلى ذلك؛ هي الاعتراف بالانتهاكات والأخطاء التي حصلت في الماضي بأنّها نوع من “سداد ديون”، وتصحيح التوازن الأخلاقي، لإعادة الوضع الراهن إلى ما كان عليه قبل الذنب.

وبشكلٍ أكثر عمومية؛ تتمثل الوظيفة التعبيريّة للتعويضات في الإعلان عن المسؤولية الخاصّة للمجتمع – أو المنظومة السياسية، أو السلطة – فيما يتعلّق بالأفعال الظالمة والضارّة التي ارتكبها على مجموعة معيّنة.

 إنّه تقديم اعتذار غير مشـروط، ولا لبس فيه، إلى خلفاء المظلومين، دون قرينة المغفرة أو الرّحمة، والاعتراف علانية بالخطأ الأخلاقي للفعل وخطورته.

تعمل التعويضات – أيضاً – كتذكير بانتهاك الحقوق، حتّى لا تتكرّر، وترسل رسالة إلى الجميع مفادها أن العدالة والإنصاف على رأس الأولويات. إذن، فإنّ قيمة التعويضات في مجتمع عادل إلى حدٍّ معقول؛ هي حماية حقوق الأبرياء واحترامها.

وتعني حماية حقوق الأبرياء ضمناً المزيد من القيم الأعمق للتعويضات، إذ تعزّز احترام الذات، واحترام الآخرين، وتقدير الذات.

إن نتيجة عدم احترام المجتمع للحقِّ في التعويضات، أو في قيامه بذلك بشكلٍ متقطّع أو متقلّب، هو تراكم الشعور بالظلم والاستياء المبرّر، وانعدام الثقة بين ضحايا الاضطهاد الأبرياء، وأولئك الذين استفادوا من الاضطهاد.

* باحث وأكاديمي عراقي، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من (جامعة كينكز كولج/ جامعة إبيردين) في إنكلترا، وهو باحث مختص في الفلسفة والفكر السياسي المعاصر في جامعة إبيردين. ونشـرت له العديد من الكتابات والمقالات في الصحف والمجلات العربية.

مجلة الحوار ǁ العدد 190 ǀ السنة الثانية والعشرون ǀ شتاء 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى