القرآنيون ومنهج الهدم الخفي

د. سعد سعيد الديوەݘي

كثرت التيارات الفكرية والسياسية التي عملت على هدم الإسلام باسمه، ومن داخله؛ قديماً وحديثاً. فقد شكّل هذا الدين طفرة نوعية في الفكر الديني عموماً، وخصوصاً في مجال التوحيد، فظهرت حركات الزنادقة والباطنية والبهائية والقاديانية، ولكن أن يرتبط عنوان حركةٍ بأقدس ما في الإسلام، ألا وهو القرآن الكريم، واتخاذه كمرجع للاختلاف، فذلك أمر بمنتهى الغرابة، لأنه يخلط الأمور ظاهرياً على أنها مسار نحو فكر جديد ومستنير، وهو في الحقيقة يرمي إلى خراب فكري باطني؛ ظاهره الرحمة، ومن قبله العذاب، وتخريباً لأسس الدين لا يضاهيه أي تخريب آخر.

ومن هذه الحركات أو التيارات ما يطلق عليه بتيار أو حركة (القرآنيين)!.. وكما يقول الأستاذ عمرو الشاعر فإن هذه الطائفة تدعي أنها حركة إصلاحيه تجديدية، تسعى لإصلاح ما أفسده الدهر، وهو شأن معظم الحركات المناوئة لأسس الدين الإسلامي.

وأفراد هذه الحركة لا يجمعهم رابط إلا رفض السنة، والتبرؤ من التراث والتاريخ والحضارة الإسلامية، على أساس أن القرآن كاف لوحده في مسيرة الأمة، وهو تدليس ما بعده تدليس، والتبرؤ من التاريخ، أو الاستخفاف به، يجرّد كل أمة من هويتها التي تتميز بها عن باقي الأمم.

وهؤلاء النفر أشاعوا أن تعاليم الإسلام تعرّضت لمؤامرة بعد وفاه الرسول ﷺ، من قبل المسلمين أنفسهم، وهكذا ضاع الدين – حسب رأيهم – ولم يبق منه إلا اسمه، والمصحف الشـريف، بدون تحريف، وفي هذا لم يأتوا بشـيء جديد، فقد قالتها فرق غالية من قبلهم.

وعليه، يجب الاعتماد على القرآن في كل شيء، ورفض السنة والتاريخ، وفي هذا المنحى ليسوا على رأي واحد.

وفي هذا الخضم يعتمدون على آيات مجتزأة تناسب ما يرمون إليه، وهو نهج شائع عند كل التيارات المشابهة، فيستندون مثلا للآية:

﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(العنكبوت: ٥١).

ومع رفض القرآني للسنة، فهو يدّعي بأنه يؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج إلى بيت الله الحرام. وإذا علمنا أن معظم تفاصيل هذه العبادات مذكورة في السنة الشـريفة، وفي سيرة الرسول ﷺ، فإنهم – أي القرآنيون – يقعون في تناقضات لا نهاية لها، وإلا كيف – مثلاً – يقيمون الصلاة، ويعرفون أوقاتها، وعدد ركعاتها، وهي غير مذكورة في القرآن الكريم؟!

ولهذه الحركة جذور في الديانة اليهودية، فهنالك حركة باسم القراءين ظهرت حوالي (775م)، وهم يتمسكون بأسفار العهد القديم، ولا يعترفون بأحكام الربانيين وما جاء في التلمود، التي يتمسك بها الفريسيون مع التوراة، واعتبروا الفريسيين كفاراً.

وينقسم القرآنيون إلى صنفين: التواتريون، و القرآنيون المجردون. والصنف الأول – كما يقول الأستاذ الشاعر – يرفضون السنة القولية، ويأخذون بالسنة العملية في الصلاة فقط، ويرفضون التفصيلات الواردة في الزكاة، وبعض مناسك الحج، بدعوى أنها وثنيات تسللت إلى التطبيق البشري، كما فعل القرامطة من قبل.

أما الصنف الثاني (المجردون)، فيرفضون كل ما عدا القرآن، ويفسـرون القرآن بدون الرجوع لأسباب النزول، أو للسياق التاريخي له، أي في كونه مكيّاً أو مدنيّاً، ويرمون بالشـرك والضلال كل من يخالفهم حتى من القرآنيين التواتريين، ويتمسكون بظاهر من القول بأن تترك كل شيء عدا كتاب الله، فهو الأصل وفيه الاتفاق.

ولذلك، فصلاتهم وزكاتهم وحجّهم وصومهم غير ما اعتاد عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة، ومع هذا يصرّون وحدهم بأنهم على الطريق الصحيح.

والغريب أن القرآنيين يرفضون هذه التسمية، ويقولون بأنهم أهل الإسلام الصحيح، وأن مخالفيهم أطلقوا عليهم هذه التسمية حسداً وعدواناً من عند أنفسهم!

وهؤلاء النفر – كما ذكرنا – يؤمنون بأن الدين الإسلامي تعرّض لمؤامرة كبرى من التحريف والتشويه من خلال السنة النبوية، كما يقول بذلك بعض فرق الباطنية، وأن التاريخ الإسلامي مجموعة من الروايات المزوّرة، ولم يبق أي أثر صحيح له!.

والمدقّق لتاريخ ظهور هذه الحركة، وزمانها ومكانها، يلاحظ تقارباً واضحاً مع ظهور الحركة القاديانية (الأحمدية) في شبه القارة الهندية، في أواسط القرن التاسع عشـر، أيام الاستعمار البريطاني، حتى أن أحد كبار رجال هذه الطائفة، المسمى أحمد خان بن محمد متقي خان، المولود عام 1817م، قال بأنه لا يوجد في القرآن ما يدل صراحة على أن المسيح ولد من غير أب، وهو مشابه لمبدأ مؤسّس القاديانية (غلام أحمد مرتضـى)، الذي ادّعى بأنه المسيح المنتظر الذي ينتظره المسلمون آخر الزمان، وأن محمداً ﷺ ليس آخر الأنبياء، وأن الحج يجب أن يكون إلى (قاديان) وليس إلى (مكة)، وأن الجهاد ضد الإنجليز مرفوض، وكذلك استهزأ بعض القرآنيين للتصدي لعدوان إسرائيل، لأنها الأقوى!.

لقد وضع القرآنيون كتاب الله وسنة رسوله في وضع تصادم وتضاد، وهو أمر مفتعل، أكثر من أن يكون خطأ منهجياً في التفكير؛ لأن ثمة عناصر ترابط وتكامل بين القرآن والسنة الصحيحة، وهي شريعة واحدة.

 ومما يشيعونه في أدبياتهم أن القرآن الكريم يكفي لحل جميع المشاكل الاختلافية بين الفرق الإسلامية، متناسين أن الاختلافات في التفاسير القرآنية كثيرة جداً، وخصوصاً بما يتعلق بأحداث تواريخ الأمم الغابرة، وأن كثيراً من الإسرائيليات دخلت بسبب التفاسير الظنية، وهذا أمر واقع، وأن كثيراً من التفاسير تعود لأحداث وقعت أثناء السيرة النبوية، ومع ذلك هنالك اختلافات حولها، بسبب منهج فهم النصوص القرآنية،  مثلما جاء عن حديث الإفك في (سورة النور)، وما جاء في (سورة عبس)، وكان سبب نزولها أن الرسول ﷺ كره أن يقطع عبد الله بن أم مكتوم – وكان أعمى – حديثه مع أشراف قريش، الذين كان يحاول إقناعهم وهدايتهم إلى الإسلام، فكان الرسول ﷺ كلّما رآه يقول له “أهلاً بالذي عاتبني فيه ربي”.

وحججهم في رفض السنّة والسيرة حجج واهية، وهم يدّعون أنها نقلت شفاهاً، ونقلت بالمعنى، وأن هنالك فاصلاً زمنياً بين المحدثين وعلماء الحديث، وهي أمور كلها قد تمت دراستها، ولا زالت الدراسات مستمرة في تأكيد مصداقية كثير من الأحاديث، مما لا ينتقص من مجمل السنة كلها كمصدر لا يمكن الاستغناء عنه، علماً أن الاختلاف الذي لا يؤدّي إلى الخلاف أو التكفير، أمر مقبول، وهو من حيوية الدين.

وكذلك يدّعون عدم وجود دليل قرآني على حجية السنّة، وهو طرح في منتهى الغرابة والسذاجة، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشـر: ٧)، كذلك فقد مهّد القرآن الطريق نحو مناهج للمسلمين من خلال اتّباع الرسول ﷺ، ومنها مسألة الشورى، ففيها تأكيد أن بعض أفعال الرسول وآرائه تخضع للأخذ والرد مع أصحابه، ثم تسـري في المجتمع الإسلامي من بعده كقواعد من السنّة جاءت في القرآن، يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران: 159)، و﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾(الشورى: 38).

ويتعلّق القرآنيون بالقرآن حسبما يفسـرونه – وما أبعدهم عنه – ببعض المبادئ المثيرة للسخرية، حيث يقول السيد الشاعر بأنهم يقولون بأنه يجب أن يكون نظام الإرث قرآنياً، فالمسلم يرث من الكافر، والكافر يرث من المسلم، لأن الله تعالى يقول: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(النساء: 11)، ولم يقل يوصيكم الله في أولادكم المسلمين!، وهو مبدأ يدعو للغثيان قبل كل شيء، ويدّعون أنه من قواعد نهجهم.

لقد استغل بعض دعاتهم تعصّب بعض المسلمين لكتب الصحاح؛ كالبخاري ومسلم، فكفّروا كل من درس متون الأحاديث ومصداقيتها، أو وضعها موضع دراسات جادة جديدة، لمحاولة الانتقاص من مجمل السنة النبوية، وهي حركه موجودة مع الأسف وواقعة، خصوصاً بين الشباب، ومَن ثقافتهم الدينية دون المطلوب، والذين يركضون وراء كل أمر جديد باسم الحداثة والتغيير، وهذه المسألة (أي دراسة السنة) يجب أن يقوم بها من له إلمام بالسيرة وأسباب النزول ومعاني اللغة العربية… إلخ، ولا تؤخذ كباب للانتقاص من مجمل السنة والسيرة النبوية.

ولهذا، فهم يتهمون السلف باتخاذ القرآن مهجوراً، من خلال الإيغال بالتأويلات البعيدة عن المنهج القرآني، وإطالة الجدال بالناسخ والمنسوخ، والاختلاف في أمور فرعية من السنة لا تقدم ولا تؤخر، وهو اتهام غير صحيح إلا عند بعض أدعياء علماء الحديث.

 وهذه الطائفة لا تزال فاعلة، وخصوصاً في (مصـر)، حتى أن أحد كبرائهم (المدعو: أحمد صبحي منصور)، يقول عن حديث: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) (البخاري/مسلم)، بأنه حديث كاذب ملعون، وأن حديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (مسلم)، بأنه سبب للتطرف، وهو ما ذكره السيد الشاعر في كتابه عن هذه الطائفة، وهذا يدل على أنهم لا يناقشون الأمور بعلميه وروية، بل يلجأون للانتقاص والبذاءة.

 وأخيراً، نريد أن نؤكد – وبإيجاز – بأن التخلّي عن السنّة النبوية، وإهمال السيرة الشـريفة بكافة جوانبها، هي عملية هدم صريح ومقصود، من خلال إشاعة ما يسمّى التمسّك الظاهري بالقرآن الكريم، والعملية أساسها تعبيد الطرق أمام الضلال من خلال لبس الأقنعة المزورة.

مجلة الحوار ǁ العدد 190 ǀ السنة الثانية والعشرون ǀ شتاء 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى