الاختلاف حول صحة إمامة المتغلب وتحقيق نصوص طاعة ولي الأمر (من كنوز قلائد الجمان شرح اللؤلؤ والمرجان) (القسم الثالث)
صالح شيخو الهسنياني

آراء المذاهب في عزل الحاكم الجائر، أو الخروج عليه:
1. موقف الحنفية: المنصوص عليه في كتب الحنفية أنه إذا قلد إنسان الإمامة حال كونه عدلاً، ثم جار في الحكم، وفسق بذلك أو غيره، فإنه لا ينعزل، ولكن يستحق العزل، إن لم يستلزم عزله فتنة، ويجب أن يدعى له بالصلاح ونحوه، ولا يجب الخروج عليه. كذا نقل الحنفية عن أبي حنيفة، وكلمتهم قاطبة متفقة في توجيهه، على أن وجهه: هو أن بعض الصحابة (رض) صلوا خلف أئمة الجور، وقبلوا الولاية عنهم. وهذا عندهم للضرورة، وخشية الفتنة([1]).
ودليل ذلك موقف أبي حنيفة من ثورة زيد على الأمويين سنة (121هـ/739م)، فقد كان يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمّى بالإمام والخليفة([2]).
2. موقف المالكية: مذهب فقهاء المالكية هو شرعية الخروج على الأئمة الظلمة، بل إن ابن حزم يدرج الإمام مالكاً ضمن من يرى وجوب الخروج على الظلمة، ويظهر ذلك من تعريفهم البغي على أنه مخالفة الإمام العدل، سواء أكان الأول أو الخارج عليه، فإن لم يكونا عدلين، فأمسك عنهما، إلَّا أن تراد بنفسك أو مالك، أو ظلم المسلمين، وعلى حد تعبيره: دعه؛ ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما([3]).
3. موقف الشافعية: للشافعية في مسألة الخروج رأيان، يقف النووي على رأس الفريق الأول القائلين بحرمة الخروج، ويقابله الجويني على رأس الفريق الآخر القائل بجوازه، فقد ذكر أنه إذا ظهر ظلم الإمام وغشمه، ولم يرعو لزواجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه، ولو بشهر السلاح ونصب الحروب([4]).
4. موقف الحنابلة: لم يعرف عن الإمام أحمد أنه قام بمحاولة خروج، أو آزر الخارجين، وإن كان في بعض أقواله ما يوحي بأنه لا ينظر بعين الارتياح إلى السلاطين الموجودين في زمنه، ولكن هذا شيء والقول بالخروج شيء آخر، ويظهر أنه كان يرى رأي الحسن البصري من أن صلاح الرعية يؤدي لا محالة إلى صلاح الراعي، وأن الحاكم مظهر من مظاهر الشعب، ولذلك وجه جهوده لإحياء السنة، وحث الناس على القيام به([5]).
وعليه أغلب فقهاء المذهب اتقاءً للفتنة، وحفاظاً على الجماعة، وإن كانت هناك بعض إشارات إلى جواز الخروج، فابن تيمية – رحمه الله – يعرض لقوله تعالى: [وَأَنزَلنَا ٱلحَدِيدَ فِيهِ بَأس شَدِيد وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلغَيبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز] (الحديد: 25)، فيقول: “فمن عَدَل عن الكتاب، قُوِّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف. وقد روي عن جابر بن عبد الله، قال: أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن نضرب بهذا – يعني السيف- من عدل عن هذا، يعني المصحف”([6]).
5. موقف الظاهرية: لعل أكثر فقهاء أهل السنة وضوحاً في مسألة الخروج، هم أهل الظاهر، فقد ذكر ابن حزم أنه إن قام على الإمام الفاسق من هو أعدل منه، وجب أن يقاتل مع القائم، لأنه تغيير منكر([7]).
6. موقف المعتزلة، والخوارج، والزيدية، وكثير من المرجئة: الخروج واجب إذا أمكننا أن نقيم الحق، ونزيل أهل البغي بالسيف، عملاً بقوله تعالى: [لَا يَنَالُ عَهدِي ٱلظَّٰلِمِينَ] (البقرة: 124)، وقوله: [وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلبِرِّ وَٱلتَّقوَىٰ] (المائدة: 2)، وقوله: [فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمرِ ٱللَّهِ] (الحجرات: 9)([8]).
الرأي الثالث- مراعاة المصالح والمفاسد عند خلع الحاكم، أو الخروج عليه:
1. مراعاة غلق منافذ الفتن:
قال الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله -: “التمرد على الحاكم فريضة إذا أمر بمعصية، فكيف بالتمرد على رجل من سوقة الناس منح نفسه، أو منحه أشياعه سلطاناً موهوماً! على أن من الإنصاف لتعاليم الإسلام – ونحن بصدد الكلام عن تغيير الحكام – أن نذكر القاعدة القائلة: إذا كان تغيير المنكر يؤدي إلى مفسدة أعظم، فالإبقاء عليه أولى، وذلك مصداق قوله تعالى: [وَٱتَّقُواْ فِتنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُم خَآصَّةٗ وَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلعِقَابِ] (الأنفال: 25). والواقع أن الزلازل التي تتبع إسقاط الحكومات قسراً، بعيدة المدى. ومن ثم لم يرض الإسلام أن يشهر السيف في وجه حاكم إلَّا أمام ضرورات ملجئة؛ أبانها هو، ولم يترك بيانها لتقدير أحد. بل إنه حبب إلى المؤمن التضحية ببعض حقوقه الخاصة إشاعة للاستقرار في أنحاء البلاد، وإغلاقاً لمنافذ الفتن”([9]).
وقال الحافظ ابن حجر: “ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الْجَوْر أنه إن قُدِر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وَجَب، وإلَّا فالواجب الصبر. وعن بعضهم: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، فإن أَحدث جوراً بعد أن كان عدلاً، اختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح: المنع، إلَّا أن يكفر، فيجب الخروج عليه”([10]).
وقال ابن النحاس الدمشقي([11]): “ليس لأحد الإنكار على السلطان باليد، ولا أن يشهر عليه سلاحاً، أو يجمع عليه أعواناً، لأن ذلك تحريكاً للفتن، وتهييجاً للشر، وإذهاباً لهيبة السلطان من قلوب الرعية، وربما أدى ذلك إلى تجريهم على الخروج عليه، وتخريب البلاد، وغير ذلك مما لا يخفى”([12]).
وقال السيد نوح: “بل حتى الكفر البواح لا يكون معه خروج إلَّا إذا أمنت الفتنة، وتوفرت القدرات والإمكانات، وهذا لا يمنع أن ننكر عليهم باللسان وبالقلب”([13]).
2. مبادئ حدود الطاعة:
استنبط الأستاذ محمد أسد – رحمه الله – مبادئ أربعة بيَّن فيها حدود الطاعة، وحالة جواز الثورة على الحكم. وهي([14]):
أولاً: إن للأمير؛ الذي يمثل الحكومة الشرعية في الدولة، حق الطاعة من المواطنين جميعاً، بغضّ النظر عن أن فريقاً أو أفراداً منهم قد لا يحبونه، أو لا يرضون – أحياناً – عن سياسته في إدارة شؤون الدولة.
ثانياً: إذا ما أقدمت الحكومة على إصدار قوانين أو أوامر تتضمن معصية صريحة بالمعنى الشرعي، فإنه لا سمع ولا طاعة على المواطنين بالنسبة لهذه القوانين والأوامر.
ثالثاً: إذا ما وقفت الحكومة موقفاً تتحدى به تحدياً صريحاً متعمّداً نصوص القرآن، فإن هذا الموقف يعتبر (كُفْرًا بَوَاحًا)، الأمر الذي يستوجب نزع السلطة من يدها، وإسقاطها.
رابعاً: إن نزع السلطة هذا من يد الحكومة، في غير حالة إعلان الكفر صراحة، يجب ألا يتم عن طريق ثورة مسلحة من جانب أقلية من المجتمع؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد حذّرنا من اللجوء لهذه الوسيلة، فقال: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنّا)([15])، وقال: (مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ، فَلَيْسَ مِنَّا)([16]) والمراد بذلك البغاة: وهم فئة من الناس خارجة عن طاعة الإمام([17]).
قال الزحيلي: “ومن المقرر فقهاً أن السلطة التي تملك التعيين، تملك حقّ العزل. وهذا يعني أن أهل الشورى يقترحون العزل ببراهين واضحة، ثم تقوم أكثرية الأمة – بواسطة استفتاء مثلاً – بالتصويت على عزل الإمام من منصبه.
ويرى بعض الكتّاب الجدد ضرورة عرض النزاع القائم بين أهل الشورى والإمام، على هيئة تحكيم عليا محايدة مختصة بشؤون الدستور، مكوّنة من نوابغ القضاة، وأقطاب القانون الإسلامي في الدولة، منعاً من تفاقم الأزمة التي لا تحلّ إلَّا بذلك.
وتأمر هذه المحكمة بإجراء استفتاء عام على خلع الإمام، لمخالفته قصداً نصوص الشريعة. فإن منع الإمام من اللجوء إلى الاستفتاء، كان لها الحقّ بإعلان عزله، وأن الأمة في حلّ من بيعته”([18]).
الرأي الرابع: جمع القوى لإزاحته:
للأمة أن تقاتل من يغتصب منها السلطة، كما لها أن تترك قتاله. ولكن في حال ما إذا تركت قتال المغتصِب للسلطة، ننظر:
– فإن بايعت الأمة هذا المغتصب عن رضا واختيار، زالت حالة الاغتصاب، وجرت الأمور بشكلها الطبيعي.
– وإذا لم تبايع الأمة مغتصِب السلطة، فههنا حالتان:
الحالة الأولى: هي رفض الأمة أن تقاتل المغتصب، مع قدرتها على ذلك، فإن الأمة – في هذه الحالة – تقع في الإثم بعد ثلاثة أيام من استيلاء المغتصب على السلطة، لأن الحكم الشرعي هو أنه لا يجوز أن تبقى الأمة أكثر من ثلاثة أيام وليس في عنقها بيعة لإمام، ما دامت قادرة على ذلك. ودليل هذا الحكم هو الإجماع.
وأما الحالة الثانية: وهي أن ترفض الأمة قتال المغتصِب لأنها تعجز عن ذلك، ففي هذه الحالة يجب على الأمة أن تسير في جمع القوى التي تمكنها من قتال المغتصِب، وإزاحته، ما دامت لا تريد الرضا به ومبايعته([19]).
توقّعان ما بعد الخروج:
1. توقّع تدخّل خارجي:
وفي ذلك قال المستشار علي جريشة منبهاًعلى خطورة أمر الخروج المسلح: “لا شك أننا إزاء أمر خطير، قد يطيح بالنظام كلّه، وقد يترتب عليه تدّخل اعداء الإسلام، فيحتلون أراضيه، أو جزءاً من أراضيه، إذا رأوا أن المسلمين بأسهم بينهم شديد.
من أجل ذلك، وإذ كان الخروج حفاظاً على ضرورة الدين بإقامة الشرعية، فإن الضرورة تقدّر بقدرها، ويكون استعمال الخروج تماماً كما يكون استعمال مبضع الجراح. وكما لا يسمح لأي إنسان أن يباشر عملية جراحية في جسم إنسان، حتى لا يؤدّي الأمر إلى إنهاء حياته بدلاً من إنقاذ جسمه ببتر جزء منه، كذلك لا ينبغي لأيّ إنسان أن يباشر عملية الخروج، لما قد يترتب عليها من إنهاء حياة الأمّة والدولة جميعاً”([20]).
2. توقع مجيء مستبد آخر أشدّ وأفتك:
قال المستشار عبد الرزاق السنهوري: الإمام الذي عيّنه البغاةُ يصبح خليفةً بالقهر والاستيلاء والغصب، وقد أجاز الفقهاء ذلك للضرورة فقط، ولكن خلافته ناقصة أو فاسدة، وتسري عليه أحكام الخلافة غير الصحيحة([21]).
وقال أيضاً: الثورة على الخلافة الفاسدة جائزة، بل واجبة، إذا توّفر شرطان:
أولهما: أن يعتقد القائمون بها أن لديهم أسباباً جدية تمكّنهم من النجاح.
وثانيهما: أن يكون الغرض الحقيقي هو إقامة نظام الخلافة الصحيحة، أمّا إذا كان الهدف فرض حكم فاسد يقوم على الكذب، كما كان دأب الذين قامت الثورة عليهم، فإن الإسلام لا مصلحة له في أن يحلّ غاصب مستبد محلّ آخر مثله([22]).
وفي حال الخروج على الإمام، تتولى جماعة أهل الحل والعقد عملية الخروج، وآنذاك فإن على المسلمين جميعاً طاعتهم، باعتبار سقوط طاعة الإمام، وباعتبارهم بهذه المثابة (أولي الأمر) الذين نصّ الله تعالى على وجوب طاعتهم([23]).
([1]) – حاشية ابن عابدين: (1/549).
([2]) – الكشاف للزمخشري: (1/184).
([3]) – الطرق السلمية في تغيير الحاكم الفاسد: (ص54)؛ ينظر: الشرح الكبير: (4/299)؛ وشرح خليل لخرشي: (8/60).
([4]) – الطرق السلمية في تغيير الحاكم الفاسد: (ص54)، ينظر: شرح المقاصد للتفتازاني: (2/272).
([5]) – الطرق السلمية في تغيير الحاكم الفاسد: (ص55).
([6]) – السياسة الشرعية: (ص37)، دار المعرفة.
([8]) – الفقه الإسلامي: (8/6196).
([9]) – الفساد السياسي: (ص67).
([11]) – ابن النَّحَّاس (ت: 814هـ /1411م): أحمد بن إبراهيم بن محمد، أبو زكريا، محيي الدين الدمشقيّ ثم الدمياطيّ، المعروف بابن النحاس: فرضي، رياضي، هندسي، فاضل، مجاهد، من فقهاء الشافعية. ولد في دمشق، ورحل أيام تيمورلنك إلى مصر، ولازم المرابطة والجهاد بثغر دمياط، وقتل شهيداً في معركة مع الفرنج. من تآليفه: مشارع الأسواق إلى مصارع العشاق، مثير الغرام إلى دار السلام، تنبيه الغافلين في معرفة الكبائر والصغائر، بيان المغنم في الورد الأعظم، وحاشية على شرح تجريد الكلام. أعلام الزركلي: (1/87)؛ معجم المؤلفين: (1/142).
([12]) – تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين: (ص60)، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 1407هـ/1987م.
([13]) – آفات على الطريق: (ص38)، آفة الاستعجال.
([14]) – منهاج الإسلام في الحكم: (ص144).
([15]) – اللؤلؤ والمرجان، حديث: (رقم: 63و 64).
([16]) – صحيح مسلم: (1/98؛ رقم: 99).
([17]) – منهاج الإسلام في الحكم: (ص144).
([18]) – الفقه الإسلامي: (8/6195).
([19]) – هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية: (ص195).
([20]) – أركان الشريعة الإسلامية حدودها وآثارها: (ص105)، مكتبة وهبة – القاهرة، ط2، 1407هـ/1987م.
([21]) – فقه الخلافة وتطورها: (ص217).
([22]) – فقه الخلافة وتطورها: (ص225).
([23]) – علي جريشة، م، س: (ص105).
مجلة الحوار ǁ العدد 190 ǀ السنة الثانية والعشرون ǀ شتاء 2024