مفاهيم ينبغي أن تصحح (القسم الثاني)
سالم بابه شيخ عبد الله

خطأنا في محاولتنا لتطبيق الإسلام الفقهي
إن الإسلام كدين، قبل كل شيء، يحاول إنقاذ الإنسان من الخطر المحدق به من كل الجوانب، وإنقاذه مما يفسده من الأفكار والتصوّرات البالية والتقاليد والعادات والسلوكيات والأخلاقيات السيئة، وكذلك الأعمال الدنيئة، والمعاملات الغادرة بينه وبين غيره، وما إلى ذلك، بل بالمعنى الشامل والأدق: الدين الإسلامي يخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، ويحرّره من أنواع العبودية كافة – التي تدخل بطبيعتها حياة الإنسان، وتؤثر فيه سلباً، وتفسده – من طريق عبوديته لله تعالى وحده.
ويجب على الدعاة والعلماء أن يركّزوا على هذه النقطة، وهي الاهتمام بالإنسان لإخراجه من الظلمات إلى النور، وتربيته على الصبر والاحتمال، حتى يحتمل مواجهة الحياة وصعوباتها ومشاكلها، ويستطيع السيطرة على نفسه أمام ملذاتها وشهواتها حتى لا ينزلق، ويتمكن بإيمانه من مواجهة الصراع الموجود في الحياة بين الخير والشر.
هذا ما يحتاج إليه الإنسان بالدرجة الأولى، لا الأحكام، وإنما وضعت الأحكام في العبادات، حتى لا تكون العبادات اعتباطية وفوضوية على غير هدى، أو تؤدى حسب الأهواء، أو حسب ما تقتضيه النظرة البشـرية، أو الشخصية. ومن ناحية أخرى، فإن التعامل الإنساني، والروابط بين الناس بعضهم مع بعض، يحتاج إلى إيجاد أحكام تنظم لهم العلاقات، وترسم لهم الحدود، وعقوبات للردع وعدم الاعتداء والتجاوز على الحقوق والخصوصيات.
فهذه هي الأسباب التي استدعت وضع الأحكام، والالتزام بها، وإنما يتحصل صلاح الإنسان بالإيمان والعمل الصالح فقط، وأمّا العبادات فقد وضعت لتقوية رابطة الإيمان، إذ الإيمان علاقة متينة يكوّنها الإنسان بينه وبين ربه عن طريق إيمانه واستسلامه له، والعبادات وسائل لتقوية هذا الإيمان، ومواد استمراريتها وديموميتها.
نعم، إن مفهوم العمل الصالح شامل، فهو يشمل العمل الصالح، ويشمل العبادات، ويشمل تطبيق العبد لأوامر الله تعالى وأحكامه المنصوبة في الشـريعة؛ سواء كانت بقصد التنظيم، أو بقصد المعالجة، أو بقصد الردع والتخويف، أو كانت بقصد الابتلاء والامتحان. كما ويشمل العمل الدعوي والجماعي والسياسي أيضاً، إذا كان من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، ونشـر الدين، ونصرة المسلمين، والذبّ عنهم. فالعمل الصالح مفهوم شامل يندرج تحته كل أنواع الحسنات وأفعال الخير ووجوه البر، لكن الذي نريد قوله هنا: لماذا طغت الدعوة إلى تطبيق الأحكام الشـرعية على المجالات الأخرى في دعوتنا للناس، والتعامل معهم؟
هنا علينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً، ما دمنا أخذنا على أنفسنا أن نتحرى في أفعالنا وعباداتنا الأخذ بالسنة النبوية الشـريفة، والسؤال يقول: لماذا استمر الأسلوب القرآني أكثر من ثلاثة عشـر عاماً وهو يركز على بناء الإيمان والشخصية القرآنية للإنسان، والتحرر من الجهل والأنانية الجالبة للإنسان التعاسة والتعب وضنك العيش؟! ولماذا استمر هذا الأسلوب الخطابي الرباني بعد المرحلة المكية، ومع نزول آيات الأحكام، إلى أن انقطع الوحي؟!
ثم هناك عدة أسئلة أخرى تطرح نفسها، وهي: لماذا نزلت الأحكام في العهد المدني، هل طرأ التغيير في جوهر القرآن ومقاصده؟! أم هل كانت دعوة القرآن إلى الإيمان من أجل الأحكام، ومن أجل أن يطبقها الناس؟! أم أن التغيّرات التي طرأت على حياة المسلمين، احتاجت أو استدعت نزول تلك الأحكام؟!
الجواب – كما هو واضح – أن الأحكام، في باب المعاملات، هي تنظيم الشـرع الإسلامي للحياة، وأما في العبادات، فإنما هي بيّنت النوعية والكمية والكيفية من العبادات ليس إلا، حتى يكون المسلمون في أمرهم على هدى مستقيم، ولا يتشتتون في أمور دينهم، ولا يقع الاختلاف المذموم بينهم. ومن جهة أخرى، إن العقل البشـري، والجهد البشـري، لا يستطيع التوصل إلى وضع العبادات، وتقديرها، فهي من الشأن الإلهي، أو هي توقيفية.
إذن، فليس من الصحيح التصوّر بأن المرحلة المكية، والأسلوب القرآني الخاص، والخطاب الرباني آنذاك، في تلك المرحلة، لبناء الإيمان، كانت بمثابة السلّم للوصول إلى وضع الشريعة والأحكام في الإسلام!
ولأننا تصوّرنا هذا التصوّر، فإننا نرى أن الإيمان قد تراجع لدينا تدريجياً، وأصبحنا بعيدين عن المفاهيم الجوهرية للإيمان وللدين، ولذا قيّمنا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوله: (بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، أو لنقل بأن غالب المسلمين في عصـرنا لا يفهمون جوهر الدين، وإنما داروا حول القشر، ولم يطلبوا اللب الذي من أجله أنزل القرآن، وأرسل من أجله الرسول الكريم محمد ﷺ!
لقد انطبعنا، خلال قرائتنا ودراستنا لكتب الفقه ومصادر الشريعة، على مرّ العصور، بالطابع الاجتهادي، والنظرة الخاصة بالفقهاء والمجتهدين، فظننا بأن الدين هو هذا الذي رسمه العلماء ودوّنوه لنا في كتب الفقه الإسلامي، وبذلنا الجهد ونحن نريد أن ننزّل ما في بطون هذه الكتب على الواقع، مع أننا نتعامل مع إنسان فارغ من الإيمان الذي يساعده في نهوضه ونموه كعبد لله تعالى. لذا، فإن غالب الناس في العالم الإسلامي تعلموا الدين عن طريق التقليد، لذا ترى العنصـرية، أو الانتماء الميت، أو الالتزام البارد، موجود عندهم، لأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، الإيمان الذي يريده الله تعالى، لا الأحكام الفقهية في كتب الفقه، أو الإسلام المرسوم لنا في كتب الفقه. فالناس يحتاجون إلى الإيمان، وإحسان بعضهم مع بعض، لا الشكليات والرسوم. نعم، الأحكام الشـرعية ضرورية، لكن إذا لزم الأمر، أو احتيج إليها، أي يجب بيانها بحسب حاجة العبد إلى معرفتها، أما أن يكون تطبيق الأحكام الشـرعية أسمى غايتنا وأمانينا، فهذا خطأ كبير.
الناس في كل العصور يحتاجون إلى من يربطهم بالله تعالى، ويربطهم باليوم الآخر، كما يحتاجون إلى المثال الحي للإنسان المؤمن التقي الصالح، أو لنقل يحتاجون إلى القدوة الحسنة، التي تسعى أمام ناظرهم، وتعيش بين ظهرانيهم، وتتعايش معهم، وتختلط بهم بالرفق والشفقة والصلاح والإحسان، وبذل المعروف لهم. وأما نحن الآن، في عصـرنا هذا، فإن من يفترض بهم أن يكونوا القدوة للناس، فإنهم لا يختلفون معهم في كثير من الأشياء، فنحن الذين نعدّ أنفسنا حملة الدين، وحماة الشـريعة، بعيدون عن عامة الناس، يميّزنا عنهم أنه يوجد معنا بعض العلوم والمعارف في التراث الإسلامي والفقهي، وبعض السمات، لكننا لسنا لهم قدوة، ولسنا لهم بمثل عليا، كما وأننا لا نحتك بهم، ولا نعاشرهم، ولا نختلط بهم كما ينبغي، بل بالعكس وضعنا جداراً منيعاً بيننا وبينهم، وخلقنا صراعاً فكرياً ومذهبياً وسياسياً في كثير من الأحيان معهم؛ تارة نكفّرهم، وتارة نجهّلهم، وتارة أخرى نفسّقهم، وهم بالتالي يرفضوننا، ويعرضون عنا، وهذا أيضاً بسبب نظرتنا للدين على أنه هو تطبيق الإسلام الفقهي، وإنزال ما في الكتب الفقهية، وما يوجد عند المذاهب الفقهية على الواقع، دون التركيز على أساسيات الدين ومبادئه، وكذلك التجديد في الفقه والفتوى.
ولعل بعض الناس لا يختلف معنا في أن طبيعة عمل الفقهاء والأصوليين، ونظرتهم للشـريعة وأصولها وجزئياتها، قد أثّرت على رؤيتنا لفهم الدين، وانتقلت هذه النظرة الاستدلالية والاستنباطية والاجتهادية إلينا، وطغت على كل الجوانب الأخرى في الدين. وإذا كان العلماء لا يلامون على ذلك، لأن هذه هي طبيعة عملهم في مجال الاستدلال والاستنباط والاجتهاد في النصوص المظنونة، أو في النوزال والقضايا التي سكت الشـرع عنها، بل هم مأجورون على ذلك عند الله تعالى، فإن المشكلة فينا نحن، لأننا نقلنا أسلوبهم ونظرتهم للشـريعة وأحكامها من مجالها الخاص إلى الواقع، وخاطبنا الناس بلغتهم وأسلوبهم الاجتهادي والبياني، وجعلنا هذه النظرة الفقهية وكأنها هي الدين، فأبعدنا أنفسنا، وكذلك الناس، عن الجوهر الحقيقي للدين.
فإصلاح الإنسان بمخاطبته بلغة الفقه، وأن هذا حلال وهذا حرام، وهذا جائز وذاك غير جائز، ونشـر اختلاف العلماء في المسائل الفقهية بين العوام، والتعامل معهم على أساس اتخاذ أسلوب الفقهاء والمجتهدين نمطاً للدعوة بينهم، لا يكون مجدياً، ولا يتوصل به إلى نتائج كبيرة. إن الاهتمام بتزكية الأنفس وحسن التعامل مع الناس على أساس المبادئ الإسلامية في الخلُق والتعايش، ليس في دائرة اهتماماتنا اليوم، بل غايتنا الوقوف عند حدّ المعرفة الفقهية. بالرغم من أن الكثير من العلماء المجتهدين في الماضي كانوا يهتمون بالرقائق والزهديات والوعظ وتزكية النفس، بل ولهم مؤلفات في هذه المجالات، ويوصفون بالصلاح والتقوى عندما يترجم لهم، مما يعني أن أحدهم كان يميّز بين عمله كمجتهد وعالم ومفتٍ، وبين إصلاح نفسه، وغيره، كمربّ وعالم رباني. مثلاً هذا هو الإمام الغزالي، المتبحر في علم الكلام وأصول الفقه والفقه، وله ما له – في الوقت ذاته – من المؤلفات العظيمة في مجال تزكية النفس والتربية. وهذا أيضا ابن الجوزي العالم الفقيه المحدث، مع ذلك فهو إمام الواعظين بلا منازعة.
هذا الأسلوب المنفّر الذي يتمتع به الكثير منا، هو أحد الأسباب التي لها الدور الكبير في تراجع الدعوة وركودها وانطفاء نورها، فالناس بطبيعة الجبلة الإنسانية لا يحبون من يكثر في مخاطبتهم لهم بـ [افعل ولا تفعل، هذا حرام، هذا غير جائز، وهذا كبيرة من الكبائر، وهذا فسق وإثم].
والأدهى والأمرّ إطلاق أحكام التكفير والتفسيق على الناس وأفرادهم، فأطلقنا أحكامنا الظالمة، والمتسمة بالغلو، على الناس. فماذا ينتج هذا الأسلوب الجاف والقاسي برأيكم؟ هل ينتج إنساناً مسالماً على الأقل؟ لا بل ينتج إنساناً معارضاً، إن لم نقل معادياً.
وأريد أن أشير بهذا الصدد إلى قوله ﷺ: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه). وللأسف، فقد فهم من هذا الحديث خلاف ما جاء من أجله، فالحديث يوجّه إلى استعمال الطاقة في دفع الفساد والضـرر عن العباد بالعمل، وليس باللجوء إلى الضـرب واستعمال العنف، إذ إن كلمة (اليد) في هذا الحديث كناية عن العمل، كما في قوله ﷺ: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)، أي: عمله. فالحديث يقول: غيّروا المنكر بعملكم، أي: انظروا إلى الأسباب وراء المنكر وأزيلوها، حتى لا يقع الشخص الذي أتى المنكر في المنكر ثانية، هذا هو المقصود من الحديث.
فكم من زانٍ حكمنا عليه بأقسـى الأحكام، وطعنّا فيه ولعناه بأقصى ما يوجد من الطعن واللعن، ولم نحاول إصلاحه! وكم من سارق، وكم من شارب للخمر، وكم من مسـيء، وكم من جاهل، وكم، وكم.. فصـرنا سبباً لابتعادهم أكثر عن الدين، بدل هدايتهم وجذبهم إلى حضن المساجد، وإلحاقهم بعباد الله تعالى، ولم نحاول حل مشكلاتهم، التي هي سبب ارتكابهم المحرمات.
أصبح المجتمع الإسلامي مجتمعاً ظالماً بكل طبقاته ومكوناته، فقط يطلقون الحكم والأحكام، يؤدون دور القاضي أو المتفرج، لا يهمهم مدّ يد العون لأهل الجهل والمعاصي والذنوب، ومع هذا الظلم كيف تصلح العباد؟! وكيف تنجح الدعوة؟! وللأسف الشديد يوجد كثير من الناس يحسبون أنفسهم دعاة وهم منفرين متنطعين جريئين في إطلاقهم للأحكام حسب أهوائهم، أو حسب رؤيتهم الضيقة للدين وللشـريعة على الناس، وعلى من يخالفهم. فالنصح هنا هو: اتركوا هذا الأسلوب العقيم، عالجوا الأمور بالعمل، وببذل الجهد، بدلاً عن الكلام، قدموا التضحيات بدلاً عن إطلاق الأحكام على الناس، كأنكم قضاة الله على الأرض، والموقعين عن رب العالمين، ورحمة الله تعالى على القائل: (نحن دعاة ، لا قضاة).
فعملنا، ودعوتنا، وجهادنا، هو من أجل إحياء الضمير الإنساني؛ عملنا من أجل إيجاد التكافل الاجتماعي في المجتمع، عملنا ودعوتنا لتحقيق العدالة الاجتماعية، عملنا من أجل نشـر الدين وتقوية مبادئه عند المسلمين، عملنا من أجل صناعة الإنسان، حتى يرى الأمور على حقيقتها، عملنا من أجل توعية الإنسان، ودفعه للسير إلى الأمام في كل نواحي الحياة، وقبل كل شيء مساعدته في تكوين علاقة مباركة بينه وبين الله تعالى، حتى يكون في حياته مباركاً ومستقيماً.
لذا، أكثروا من التذكير بالله تعالى، أكثروا من التذكير بالآخرة، أكثروا من ذكر الأمم التي أهلكها الله تعالى بذنوبها، قدّموا الأجمل، والأنفس، قدّموا التضحيات، أروا الناس التفاني من أجلهم، قدّموا الحب والمحبة، أروهم شفقتكم عليهم، فإنكم بذلك تقدّمون لأنفسكم بين يدي الله تعالى يوم القيامة خيراً كثيراً ، وأجراً كبيراً ، وترون بركة في دعوتكم في الدنيا .