يقظة الوعي وصحوة الضمير
د. سامي محمود إبراهيم الجبوري
رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب/ جامعة الموصل
في حضـرة النسيان سيمحو الزمن آثار أقدامنا على الأرض. ترى من سيخبر الأبدية أننا لعبنا ها هنا وضحكنا ها هناك. سيختزل الزمن تلك المسافة المضيئة بين الولادة والموت، حتى أن شمسنا ستغرب في عين / ح م ء ة، تحرق عند شفقها الكلمات، وعند غسقها تصمت الحروف، ولا يبقى الإنسان عاقلاً بجنسه، ولا ناطقاً بنوعه، إذ سيهيم أمام مشهد عين الحقيقة. فلا حيلة لنا، ونحن نترقب صيرورتنا المجهولة أمام هذا الغياب الذي يؤرقنا كل يوم، لا حيلة لنا إلا أن نلوذ برب العزة.
فيا رب جنات تضم شتاتنا يوماً، وننسى ما بدنيانا عبر
تلك هي قمة المعاناة الكامنة في السـردية الإنسانية ونحن على خشبة مسـرح الحياة ننتظر سنوات وسنوات ليلفنا قطار الغياب. فنحن كما الجنود في رقعة الشطرنج نتقدم خطوة خطوة نحو تلك الحقيقة. كل ذلك في امتحان عسير اسمه الحياة، وأسئلة صعبة جداً، ومراوغة لا تقبل الانكشاف ولا الظهور، وأصعب من تلك الأسئلة أجوبتها التي يشترط فيها معاناة الواقع بعسر وكبد.
سيبقى الإنسان يردد سؤال وجوده الكبير والمحير: من أنا في هذا الكون الواسع المستمر في الاتساع [وإنا لموسعون].. من أنا في هذه الأكوان العملاقة، وثقوبها السوداء، التي يحار فيها الزمن ويتلاشى. فما عمر البشـرية، مع كرتهم الأرضية، إلا عشـر ثانية، بالقياس إلى زمن الكون المعلوم بحدود مساحة ضئيلة من فضاء السماء الأولى، والتي تقدر بـ ١٥ مليار سنة.
فمسيرة وعي الإنسان قصيرة وفقيرة لا تكاد تذكر بالقياس إلى الوعي الكوني الغامض والمعقد على طول سبع سموات تمدها سبعة أبحر لا ينفد عطاؤها. فحياتنا تشكيلة ظلال مزدوجة، عكستها أشعة نور الوجود، وفي مكانها تتبعثر صور الأيام. هي رحلة مثيرة للتعجب، مليئة باستعادة الأحلام، وتأمل القادم. ونحن فيها نثير شفقة اللغة في إحساسنا بالمعنى، والشعور بالعيش، نقلب المجهول على ظلال الحقيقة، في رغبات طفولية بريئة، نترك عندها شيئاً من أنفسنا في المكان الذي تركناه. يحملنا إليه صوت الحنين الموجع إلى ذلك الزمان الذي احتل مكاناً في حياتنا، واندثر في صفحات الغياب. لكن تبقى هواجس الآخرة في هجرتنا إلى الله، تتسع وتتكشف بعدها حجب الحياة. وهذا مقام روحي بليغ، وتجربة وجدانية غزيرة، عبر عنها الغزالي بقوله:
قد كان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
وهذا ما جعله يكسر مغزل الحياة، ويترك هواها، قائلاً:
غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد لغزلي نساجاً، فكسرت مغزلي
وبعد أن هجر هوى الدنيا، عرف نفسه، قائلاً:
تركت هوى ليلى وسعدى وعدت إلى تصحيح أول منزل
فالقطرة التي تدرك نفسها، تنقلب رحمة على الأرض، وفي البحر لؤلؤاً، وفي السماء نجماً لامعاً يسبح مع الخلائق .
فعلى كتاب عمرنا، وقسمات جبيننا، رسالة أمل، خطها قلم القدر. رسالة في أهم فصولها تصوير دقيق لحقيقة الإنسان وهو يكابد سنين العمر. رسالة تسـرد وبعمق أحداث وذاكرة الجسد. وهذا قريب من مشهد دروب عشب الريف، وهي تجف في نهاية الربيع على آثار أقدام المارة، فلا يبقى إلا الأثر. فهي ماضية بحكم القدر، لكن تبقى الذكريات طقساً مرهقاً من طقوسنا اليومية لتلك الأزمان التي انطفأت مرة واحدة دون رجعة.. هكذا في هدوء صاخب، وعلى حين غفلة، ذهبت، لكن صداها يتردد في آذاننا ولن يزول. ضجيج غامض كان يوماً ما حاضراً.
فالشوق مر، إن ذكرنا غائباً عنا، وفقد الراحلين لنا أمرّ
فالحياة برمتها لا تساوي الماضي، ولا تساوي الآن الحاضر، بل هي تسير حتماً نحو الما بعد/ المستقبل/ القادم/ تلك العبارة التي يستهلكها الخطباء، فالما بعد هو المهم، وهو القصد .
لكن لا شيء يرضي الأنا الفارغة المستهلكة في عالم اليوم.
حتى مجرد خروجنا لنزهة يحتاج شروطاً وقواعد وأتكيتاً مقرفاً غارقاً في مسلمات المظهر. أورثتنا المدنية المعاصرة عقلاً مخروباً، وضميراً معتلاً، وفكراً مختلاً، وإرادة فقيرة .
لذلك لم يعد هذا العالم جميلاً كما كان.