في عبقرية الفشل

بكر أبو بكر* – فلسطين

 كتب المفكر العروبي الكبير الشهيد خالد الحسن (1928-1994م)، عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح، كتابًا هامًا تحت عنوان (عبقرية الفشل)، عام 1987، وكانت مقدمته الصاخبة والمفاجئة كالآتي:

“في جلسة حوار سياسي فكري مع صديق ديغولي فرنسـي تجاوز الستين من عمره، تطرّق البحث بيننا إلى عوامل التفكك والعجز في القيادات، وبالتالي في حركتها النضالية؛ سياسية كانت أو اقتصادية أو إعلامية… إلخ، وأثناء الحديث توقّف صديقي عن الكلام برهة، ثم قال سأروي لك القصة التالية:

عندما استلم (ديغول)[1] رئاسة الجمهورية الخامسة، كانت الشبهات تحوم حول أحد كبار الموظفين في قصـر الرئاسة بأنه يعمل لمصلحة دولة كبرى، وقد عجزت كل الأجهزة المختصة في الوصول إلى دليل مادي واحد لتحويل التهمة من شك إلى قضية مادية. وفي النهاية رُفع الأمرُ إلى (ديغول)، حيث قام باستدعاء الموظف المشتبه به إلى مكتبه. وحال دخوله، استثمر الرئيس ديغول عنصـر المفاجأة، وهيبته الرئاسية، ليطرح على الموظف بشكل مباشر وصـريح السؤال التالي: منذ متى وأنت تعمل لمصلحة دولة (…)؟ فأجابه الموظف برد فعل سـريع: منذ عشر سنوات!

واستمر الحوار كما يلي:

ديغول: كيف تتلقى التعليمات؟

الموظف: لا أتلقى تعليمات.

ديغول: كيف تُرسل تقاريرك؟

الموظف: لا أرسل أية تقارير.

ديغول: كيف يتم الاتصال بك، إذن؟

الموظف: لا يوجد أي اتصال.

ديغول: كيف تعمل إذن لصالح دولة (…)؟

الموظف: إن مهمتي تنحصـر من خلال موقعي، بأن أختار دائمًا أسوأ الموجودين من حيث الفهم والاختصاص إلى عضوية اللجان التي تبحث المواضيع المطلوب دراستها، وتقديم التوصيات بشأنها، لتكون التوصيات أبعد ما تكون عن الصواب. وقد قمتُ بهذه المهمة منذ ذلك الوقت إلى الآن!

عندما سمعتُ هذه القصة أحسست بقشعريرة هائلة تسيرُ في جسمي في كافة الاتجاهات، وكدتُ أفقد توازني في الحديث مع صديقي الديغولي، بعد أن مثلت أمامي صورة الأعداد الهائلة من الرجال الذين يحتلون مواقع ليسوا في مستواها، ومع أن أحدا منهم ليس عميلًا لدولة كبرى أو صُغرى، ولكن النتيجة واحدة، هي الفشل في الأعمال والممارسات!

ولكن الخلاف النوعي بين الحالتين: أن الموظف الفرنسـي كان عميلًا بإرادته لدولة أجنبية، أما عندنا فإننا نمارس ذلك تبرعًا، وطواعية، وبلا وعي.

وهنا أحسستُ بعمق الألم الذي يعانيه كل أولئك الذين ينادون بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بعد أن وعى هؤلاء الظاهرة الممتدة في وطننا العربي، التي تعطى فيها الأولوية للولاء الشخصي، بدلًا من الولاء الوطني والقومي، وإلى حُسن الحديث في المديح والإعجاب، بدلًا من الكفاءة وشجاعة إبداء الرأي.. ورحم الله من قال: صديقك من أصدقك، لا من صدّقك[2].

وفي خضم هذه المشاعر التي انتابتني، تساءلت: هل نمتلك عبقرية خاصة اسمها عبقرية الفشل؟”

-انتهت المقدمة.

وفي إطلالة سـريعة فقط على الصفحات الأولى من الفصل الأول، من فصول ثلاثة بالكتاب، لتشويق من يرغب بالقراءة والفهم والتعلم، يكتب  (أبو السعيد) عن العداء الأمريكي (حتى النخاع) – كما أسماه- للأمّة العربية، والمصالح العربية، والشعب الفلسطيني ونضاله: إنه العداء الأمريكي المستند لقيَمه المصلحية الرأسمالية الخاصة، بعيدًا عن أية قيم أخلاقية مهما كانت، فهو يفتخر – كان ومازال – بعقلية (الكاوبوي) والسـرقة والقتل والكذب، ويدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، ويتعامل بالمقاييس المزدوجة المتناقضة تجاه القضايا المتماثلة(ص22).

إنه الرأسمالي صاحب شهوة السيطرة على العالم، منذ الحرب العالمية الثانية – على الأقل-، الذي سعي لتركيع أوروبا والسيطرة عليها، وضمّها تحت جناحيه (ص28).

وفي منطقتنا يهدف الأمريكي لإفقاد العرب قدرتهم السياسية، وتعطيل التنمية، وقدرة السوق، في (عربدة أمريكية).

 وبعد شـرح هام مدعّم بالأمثلة والأدلة، يتساءل قائلًا: “من غير المفهوم إطلاقًا، حتى بمفهوم الضعيف، الصمت على هذه العربدة الأمريكية والإهانات…..”(ص16).

ثم يعدّد لاحقًا الأمثلة على السلوك الأمريكي المهين ضد أصدقائها! ليؤكد بعدها “أن الحملة الأمريكية الرسمية والإعلامية لا تزال مستمرة، ومليئة بالحقد والتحريض العدواني للرأي العام الأمريكي والأوروبي والغربي على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، بشكل هستيري، بعيدًا عن كل أنواع المنطق أو التبرير…” (ص24).

ونحن اليوم في العام 2024، فهل رأينا انزياحًا أمريكيًا، ولو بمقدار عقلة أصبع، عن تحريضها وعدوانيتها الهستيرية ضدنا بأي شكل من الأشكال؟!

وفي حديث الأخ خالد الحسن (أبو السعيد) عن مبرّر عدم الرد العربي على العربدة الأمريكية المتواصلة الكثيرة آنذاك، يقول (ص25): إن “الإرادة هي التي تحوّل الإمكانات – ذاكرًا قدرات الأمة الهائلة، ولكن غير المستخدمة – إلى قدرات فاعلة على الساحة الدولية”.

وعندما يتطرّق لبعض الأمثلة عن السطوة الأمريكية، أثناء لقاءاته مع المسؤولين الغربيين، يفاجئه أحدهم، وهو محامٍ أمريكي شهير، بقوله (ص28):

“إنكم تعتقدون أن أمريكا دولة رأسمالية، وهذا خطأ كبير، لأن أمريكا هي الرأسمالية ذاتها: أما أوروبا واليابان واستراليا ونيوزلندا، فهي فقط دول رأسمالية، نصف مجتمعها يقوم على المساعدات الخيرية (أمور الضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين والمرضى).

 ثم قال: لذلك، فإنكم تتعاملون مع الخدم، كأنكم في أوروبا ولستم في أمريكا.

قلت: كيف؟ ومن هم الخدم، ومن هم السادة أو الملوك؟

قال: الخدم هم رئيس الدولة، ومجلس الشيوخ، والكونغرس، والصحافة، والجامعات… إلخ. أما السادة أو الملوك، فهم ملوك رأس المال الصناعي والزراعي والبنكي، الذين ينفذ الخدم سياساتهم.

ثم أضاف: لذلك عليكم أن تدخلوا حلبة الملوك، فإذا أصبح لكم فيها وجود، كما هو للحركة الصهيونية، تبدأ عملية نجاحكم في الولايات المتحدة الأمريكية”.

هذه كانت بعص نفحات مثيرة من المقدمة، والبدايات، للكتاب الثمين. إنه في كتابه هذا من ثلاثة فصول، يعرض للعداء الأمريكي الهستيري للأمة العربية جمعاء، والقضية الفلسطينية، ودور الإرادة، وكيفية الرد، ثم يطرح الخيارات المفتوحة أمام منظمة التحرير الفلسطينية، وصولًا للفصل الثالث، حيث يعنونه: (غياب القرار القيادي يُسقط شـرعية استمرار القيادة).

وقد نعود في مرحلة أخرى لتبيان مفاصل هامة من كتابه الثمين من 208 صفحة، وهو الذي أنزلناه في موقع أكاديمية فتح الفكرية على تلغرام، والله الموفق.

 * رئيس أكاديمية فتح الفكرية


[1]  يرجع الكثير من الفرنسيين الفضل إلى الجنرال ديغول (1890-1970م) في استقلال بلادهم من الجيوش النازية أثناء الحرب العالمية الثانية إذ لم يتوقف وهو في لندن من إطلاق الشعارات التي كانت تلهب قلوب الفرنسيين وتدفعهم إلى المقاومة، ومن أشهر نداءاتة «أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة لكننا لم نخسر الحرب. وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نير الاحتلال الجاثم على صدره». وهو أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة، وعرف بمناوراته الاستعمارية تجاه الجزائر، منها مشروع قسنطينة، القوة الثالثة، الجزائر جزائرية، مشروع فصل الصحراء الجزائرية.

[2]  صديقك من صدقك لا من صدّقك تنسب أحيانا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: “الطمأنينة إلى كل أحد قبل اﻹختبار عجز”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى